فصل: تفسير الآيات رقم (58- 61)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 61‏]‏

‏{‏ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ رفع بالابتداء والإشارة به إلى ما تقدم من الأنباء، و‏{‏نتلوه عليك‏}‏ خبر ابتداء وقوله ‏{‏من الآيات‏}‏ لبيان الجنس، ويجوز ان تكون للتبعيض، ويصح أن يكون ‏{‏نتلوه عليك‏}‏ حالاً ويكون الخبر في قوله من ‏{‏الآيات‏}‏ وعلى قول الكوفيين يكون قوله ‏{‏نتلوه‏}‏ صلة لذلك، على حد قولهم في بيت ابن مفرغ الحميري‏:‏

وهذا تحملين طليق *** ويكون الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏من الآيات‏}‏، وقول البصريين في البيت أن تحملين حال التقدير، وهذا محمولاً، و‏{‏نتلوه‏}‏ معناه نسرده، و‏{‏من الآيات‏}‏ ظاهره آيات القرآن، ويحتمل أن يريد بقوله ‏{‏من الآيات‏}‏ من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا، وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ، ولست ممن أصحب أهل الكتاب، فالمعنى أنها آيات لنبوتك، وهذا الاحتمال إنما يتمكن مع كون ‏{‏نتلوه‏}‏ حالاً، و‏{‏الذكر‏}‏ ما ينزل من عند الله، و‏{‏الحكيم‏}‏ يجوز أن يتأول بمعنى المحكم، فهو فعيل بمعنى مفعول، ويصح أن يتأول بمعنى مصرح بالحكمة، فيكون بناء اسم الفاعل، قال ابن عباس، ‏{‏الذكر‏}‏ القرآن، و‏{‏الحكيم‏}‏ الذي قد كمل في حكمته‏.‏

وذكر ابن عباس وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم، قالوا سبب نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى‏}‏ الآية أن وفد نصارى نجران جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، وقالوا بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد، فقال النبي عليه السلام، وما يضر ذلك عيسى، أجل هو عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقالوا فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به‏؟‏ وخرجوا من عند النبي فأنزل الله عليه هذه الآية‏.‏ قوله تعالى ‏{‏إن مثل‏}‏ عبر عنه بعض الناس، بأن صفة عيسى وقرنوا ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الجنة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏ قالوا‏:‏ معناه صفة الجنة‏.‏

قال الإمام أبو محمد‏:‏ وهذا عندي ضعف في فهم معنى الكلام وإنما المعنى‏:‏ «أن المثل» الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل، وكذلك مثل الجنة عبارة عن المتصور منها، وفي هذه الآية صحة القياس، أي إذا تصوروا أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى عليه السلام والكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كمثل‏}‏ اسم على ما ذكرناه من المعنى وقوله ‏{‏عند الله‏}‏ عبارة عن الحق في نفسه، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم، وقوله‏:‏ ‏{‏خلقه من تراب‏}‏ تفسير لمثل آدم، الذي ينبغي أن يتصور، والمثل والمثال بمعنى واحد، ولا يجوز أن يكون ‏{‏خلقه‏}‏ صلة لآدم ولا حالاً منه، قال الزجاج‏:‏ إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها بل هو كلام مقطوع منه، مضمنه تفسر المثل، قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم قال‏}‏ ترتيب للأخبار لمحمد عليه السلام، المعنى خلقه من تراب ثم كان من أمره في الأزل أن قاله له ‏{‏كن‏}‏ وقت كذا، وعلى مذهب أبي علي الفارسي، في أن القول مجازي، مثل وقال قطني، وأن هذه الآية عبارة عن التكوين، ف ‏{‏ثم‏}‏ على بابها في ترتيب الأمرين المذكورين، وقراءة الجمهور «فيكونُ»، بالرفع على معنى فهو يكون، وقرأ ابن عامر «فيكونَ» بالنصب، وهي قراءة ضعيفة الوجه، وقد تقدم توجيهها آنفاً في مخاطبة مريم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحق من ربك‏}‏، رفع على الابتداء وخبره فيما يتعلق به، قوله ‏{‏من ربك‏}‏، أو الحق ذلك، أو ما قلناه لك، ويجوز أن يكون خبر ابتداء، تقديره هذا الحق و‏{‏الممترين‏}‏ هم الشاكون، والمرية الشك، ونهي النبي عليه السلام في عبارة اقتضت ذم الممترين، وهذا يدل على ان المراد بالامتراء غيره، ولو قيل‏:‏ فلا تكن ممترياً لكانت هذه الدلالة أقل، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي عليه السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن حاجك فيه‏}‏ معناه جادلك ونازعك الحجة، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ يحتمل أن يعود على ‏{‏عيسى‏}‏، ويحتمل أن يعود على ‏{‏الحق‏}‏، والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة من أمر عيسى وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل تعالوا‏}‏ الآية، استدعاء المباهلة و‏{‏تعالوا‏}‏ تفاعلوا من العلو، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك و‏{‏نبتهل‏}‏ معناه نلتعن، ويقال عليهم بهلة الله معنى اللعنة، والابتهال‏:‏ الجد في الدعاء بالبهلة‏.‏

وروي في قصص هذه الآية‏:‏ أنها نزلت بسبب محاجة نصارى نجران في عيسى عليه السلام وقولهم هو الله، وكانوا يكثرون الجدال وقد روى عبد الله بن الحارث بن جزء السوائي عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني لشدة ما كانوا يمارون فلما قرأ النبي عليه السلام الآية دعاهم إلى ذلك، فروى الشعبي وغيره، أنهم وعدوه بالغد أن يلاعنوه فانطلقوا إلى السيد والعاقب فتابعاهم على أن يلاعنوا فانطلقوا إلى رجل آخر منهم عاقل فذكروا له ما صنعوا فذمهم وقال لهم‏:‏ إن كان نبياً ثم دعا عليكم هلكتم، وإن كان ملكاً فظهر لم يبق عليكم، قالوا فكيف نصنع وقد واعدناه‏؟‏ قال‏:‏ إذا غدوتم فدعاكم إلى ذلك فاستعيذوا بالله من ذلك فعسى أن يعفيكم فلما كان الغد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً حسيناً آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، فدعاهم إلى الميعاد، فقالوا‏:‏ نعوذ بالله فأعادوا التعوذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء»، قالوا‏:‏ لا طاقة لنا بحرب العرب ولكنا نؤدي الجزية قال‏:‏ فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفاً في رجب وألفاً في صفر وطلبوا منه رجلاً آميناً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال عليه السلام‏:‏ «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة»، وروى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم قالوا‏:‏ دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو رأيهم فقالوا‏:‏ يا عبد المسيح ما ترى‏؟‏ فقال‏:‏ يا معشر النصارى، والله لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال إن فعلتم، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه، فأتوا النبي عليه السلام، فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال وقالوا له‏:‏ ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى، وروى السدي وغيره أن النبي عليه السلام جاء هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين ودعاهم فأبوا وجزعوا وقال لهم أحبارهم‏:‏ إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فصالحوا النبي عليه السلام على ثمانين ألف درهم في العام فما عجزت عنه الدراهم ففي العروض، الحلة بأربعين وعلى أن عليهم ثلاثاً وثلاثين درعاً وثلاثة وثلاثين بعيراً وأربعاً وثلاثين فرساً عارية كل سنة ورسول الله ضامن ذلك حتى يؤديها إليهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو لاعنوا لاستؤصلوا من جديد الأرض، وقال أيضاً لو فعلوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً، وروى علباء بن احمر اليشكري قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود‏:‏ ويحكم، أليس عهدكم بالأمس بإخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير‏؟‏ فلا تلاعنوا فانتهوا، وفي هذه القصة اختلافات للرواة وعبارات تجري كلها في معنى ما ذكرناه لكنا قصدنا الإيجاز وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة محمد شاهد عظيم على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، وما روي من ذلك خير مما روى الشعبي من تقسيم ذلك الرجل العاقل فيهم أمر محمد بأنه إما نبي وإما ملك لأن هذا نظر دنياوي وما روى الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا سائر الكفرة وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم، ودعاء النساء والأنبياء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما يخصه، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏هذا‏}‏ خبر من الله تعالى جزم مؤكد فصل به بين المختصمين، والإشارة ب ‏{‏هذا‏}‏ هي إلى ما تقدم في أمر عيسى عليه السلام، قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد وغيرهم‏:‏ و‏{‏القصص‏}‏ معناه الأخبار، تقول‏:‏ قص يقص، قصاً وقصصاً، إذا تتبع الأمر يخبر به شيئاً بعد شيء، قال قوم‏:‏ هو مأخوذ من قص الأثر، وقوله ‏{‏لهو‏}‏ يحتمل أن يكون فصلاً ويحتمل أن يكون ابتداء، و‏{‏من‏}‏ قوله ‏{‏من إله‏}‏ مؤكدة بعد النفي، وهي التي يتم الكلام دونها لكنها تعطي معنى التأكيد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله عليم بالمفسدين‏}‏ وعيد‏.‏

واختلف المفسرون من المراد بقوله‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا‏}‏ فقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن رسول الله عليه السلام دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم، وقاله الربيع وابن جريج، وقال‏:‏ محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ نزلت الآية في وفد نجران، وقاله السدي، وقال ابن زيد‏:‏ لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة، دعوا إلى أيسر من ذلك وهي «الكلمة السواء» والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران، لكن لفظ ‏{‏أهل الكتاب‏}‏ يعمهم وسواهم من النصارى واليهود، فدعى النبي عليه السلام بعد ذلك يهود المدينة بالآية، وكذلك كتب بها إلى هرقل عظيم الروم، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس «إلى كَلِمة» بفتح الكاف وكسر اللام، وروى أبو السمال‏:‏ «كَلْمة» بفتح الكاف وسكون اللام، وروي عنه أنه قرأ «كِلْمة» بكسر الكاف وسكون اللام، وذلك على إلقاء حركة اللام على الكاف كما قالوا في كبد، كبد بكسر الكاف وسكون الباء، و«الكلمة» هنا عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها، وهي ما فسره بعد ذلك بقوله ‏{‏ألا نعبد‏}‏ الآية وهذا كما تسمي العرب القصيدة كلمة، وجمهور المفسرين على أن الكلمة هي ما فسر بعد، وقال أبو العالية‏:‏ «الكلمة السواء»، لا إله إلا الله‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ نعت للكلمة، قال قتادة والربيع وغيرهما‏:‏ معناه إلى كلمة عدل، فهذا معنى «السواء»، وفي مصحف عبد الله بن مسعود‏:‏ «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم»، كما فسر قتادة والربيع، وقال بعض المفسرين‏:‏ معناه إلى كلمة قصد‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وهذا قريب في المعنى من الأول، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها، والذي أقوله في لفظة ‏{‏سواء‏}‏ انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون، صغيرهم وكبيرهم، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه، ف ‏{‏سواء‏}‏ على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر‏:‏ هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه‏.‏

والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل، وعلى هذا الحد جاءت لفظة ‏{‏سواء‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانبذ إليهم على سواء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏ على بعض التأويلات، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حراً مقاسماً لك في عيشك، لكنت قد دعوته إلى السواء، الذي هو استواء الحال على ما فسرته، واللفظ على كل تأويل فيها معنى العدل، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال، وهو عندي حسن، لأن النفوس تألفه، والله الموفق للصواب برحمته‏.‏

وقوله ‏{‏ألا نعبد‏}‏ يحتمل أن يكون في موضع خفض بمعنى، إلى ‏{‏ألا نعبد‏}‏، فذلك على البدل من ‏{‏كلمة‏}‏ ويحتمل أن يكون في موضع رفع بمعنى، هي ‏{‏ألا نعبد‏}‏ وما ذكره المهدوي وغيره من أن تكون مفسرة إلى غير ذلك من الجائزات التي يلزم عنها رفع ‏{‏نعبد‏}‏ إكثار منهم فاختصرته، واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتب، أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية، وعبادتهم لهم على ذلك، كعزير وعيسى ابن مريم، وبهذا فسر عكرمة، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم، ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعاً، وبهذا فسر ابن جريج، فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله وأن يكون الممتثل ما قاله الله تعالى على لسان نبيه عليه السلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون‏}‏ أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

اختلف المفسرون فيمن نلزت هذه الآية، فقال ابن عباس‏:‏ اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند النبي عليه السلام فتنازعوا عنده فقالت الأحبار‏:‏ ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى، ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فأنزل الله الآية، وقال السدي وقتادة‏:‏ وحكى الطبري عن مجاهد وقتادة أيضاً‏:‏ أنهما قالا نزلت الآية بسبب دعوى اليهود أنه منهم وأنه مات يهودياً، وجعل هذا القول تحت ترجمة مفردة له، والصحيح أن جميع المتأولين إنما نحوا منحى واحداً، وأن الآية في اليهود والنصارى، وألفاظ الآية تعطي ذلك فكيف يدافع أحد الفريقين عن ذلك‏؟‏ وهذه الآية مبينة فساد هذه الدعاوى، التي لا تشبه لقيام الدليل القاطع على فسادها، لأنهم ادعوا لإبراهيم الخليل نحلاً لم تحدث في الأرض، ولا وجدت إلا بعد موته بمدة طويلة، ولما كان الدليل عقلياً قال الله تعالى لهم موبخاً ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏‏؟‏

واختلف القراء في قوله ‏{‏ها أنتم‏}‏ في المد والهمز وتركه، فقرأ ابن كثير، «هأنتم»، في وزن هعنتم، وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» استفهاماً بلا همز، وقرأ الباقون، «ها أنتم» ممدواً مهموزاً، ولم يختلفوا في مد ‏{‏هؤلاء‏}‏ وأولاء، فوجه قراءة ابن كثير، أنه أبدل من همزة الاستفهام الهاء، أراد «أأنتم»، ووجه قراءة نافع وأبي عمرو أحد أمرين، يجوز أن تكون «ها» التي للتنبيه دخلت على «أنتم»، ويكون التنبيه داخلاً على الجملة، كما دخل على قولهم هلم وكما دخلت- يا- التي للتنبيه في قوله ألا يا اسجدوا، وفي قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

يَا قَاتَلَ صِبياناً تجيءُ بِهِمْ *** أمُّ الهُنَيِّدِ مِنْ زَنْدٍ لها وَاري

وقول الآخر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِم *** والصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ مِنْ جَارِ

وخففت الهمزة من «أنتم» ولم تحقق بعد الألف، كما قالوا في هباءة هباة، ويجوز أن تكون الهاء في ‏{‏هأنتم‏}‏ بدلاً من همزة الاستفهام، كوجه قراءة ابن كثير، وتكون الألف هي التي تدخل بين الهمزتين، لتفصل بينهما، ووجه قراءة الباقين «ها أنتم» مهموز ممدود يحتمل الوجهين اللذين في قراءة نافع وأبي عمرو، وحققوا الهمزة التي بعد الألف، ولم يخففوها كما خففها أبو عمرو ونافع، ومن لم ير إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين كما يراه أبو عمرو، فينبغي أن تكون «ها» في قوله للتنبيه ولا تكون بدلاً من همزة الاستفهام، وأما ‏{‏هؤلاء‏}‏ ففيه لغتان، المد والقصر، وقد جمعهما بيت الأعشى في بعض الروايات‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏‏.‏

هؤلا ثُمَّ هؤلاءِ قَدِ اعْطيتَ *** نِعالاً مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ

وأما إعراب ‏{‏ها أنتم هؤلاء‏}‏ فابتداء وخبر، و‏{‏حاججتم‏}‏ في موضع الحال لا يستغنى عنها، وهي بمنزلة قوله تعالى‏:‏

‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ ويحتمل أن يكون ‏{‏هؤلاء‏}‏ بدلاً أو صفة ويكون الخبر ‏{‏حاججتم‏}‏ وعلى مذهب الكوفيين ‏{‏حاججتم‏}‏، صلة لأولاء والخبر في قوله‏:‏ ‏{‏فلم تحاجون‏}‏ ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيما لكم به علم‏}‏ أي على زعمكم، وإنما المعنى فيما تشبه فيه دعواكم، ويكون الدليل العقلي لا يرد عليكم وفسر الطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبائهم مما أيقنوه وثبت عندهم صحته‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وذهب عنه رحمه الله أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان هنالك على حقيقته، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

أخبر الله تعالى في هذه الآية، عن حقيقة أمر إبراهيم، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة، نفى نفس الملل وقرر الحالة الحسنة، ثم نفى نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك، وهذا كما تقول‏:‏ ما أخذت لك مالاً بل حفظته، وما كنت سارقاً، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ‏.‏

ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكداً أن أولى الناس بإبراهيم الخليل عليه السلام هم القوم الذين اتبعوه على ملته الحنيفية‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وهنا يدخل كل ما اتبع الحنيفية في الفترات ‏{‏وهذا النبي‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بعث بالحنيفية السمحة، ‏{‏والنبي‏}‏ في الإعراب نعت أو عطف بيان، أبو بدل، وفي كونه بدلاً نظر، ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء على ما يجب دون المحرفين المبدلين، ثم أخبر أن الله تعالى ‏{‏ولي المؤمنين‏}‏، وعداً منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة، و«الحنيف» مأخوذ من الحنف، وهو الاستقامة وقيل هو الميل، ومنه قيل للمائل الرجل أحنف، فالحنيف من الاستقامة معناه المستقيم، ومن الميل معناه المائل عن معوج الأديان إلى طريق الحق، واختلفت عبارة المفسرين عن لفظة الحنيف، حتى قال بعضهم‏:‏ الحنيف الحاج، وكلها عبارة عن الحنف بإجراء منه كالحج وغيره، وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر عن أبيه، أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود، فسأله عن دينه، وقال له‏:‏ إني أريد أن أكون على دينكم، فقال اليهودي‏:‏ إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد‏:‏ ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا‏؟‏ قال‏:‏ ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً، قال وما الحنيف‏؟‏ قال دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وكان لا يعبد إلا الله، فخرج من عند فلقي عالماً من النصارى، فقاوله بمثل مقاولة اليهودي، إلا أن النصراني قال‏:‏ بنصيبك من لعنة الله، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم فلم يزل رافعاً يديه إلى الله، وقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، ورى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم قرأ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

أخبر الله تعالى عن طائفة أنها تود وتشتهي أن تضل المسلمين، أي تتلفهم عن دينهم وتجعلهم في ضلال ثم فسر الطائفة بقوله‏:‏ ‏{‏من أهل الكتاب‏}‏ فتحتمل ‏{‏من‏}‏ أن تكون للتبعيض، وتكون الطائفة الرؤساء والأحبار الذين يسكن الناس إلى قولهم، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب، وقال الطبري‏:‏ ‏{‏يضلونكم‏}‏ معناه يهلكونكم، واستشهد ببيت جرير‏.‏

كنْتَ القَذَى في موج أَخْضَرَ مُزْبدٍ *** قذف الأتيُّ بِهِ فَضَلَّ ضلالا

وقول النابغة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ *** وهذا تفسير غير خاص باللفظة وإنما اطرد له هذا الضلال في الآية وفي البيتين اقترن به هلاك، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يضلون إلا أنفسهم‏}‏ إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون، ثم أعلم أنهم لا يشعرون أنهم لا يصلون إلى إضلالكم‏.‏

ثم وقفهم تعالى موبخاً لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ قل لهم يا محمد، لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آية القرآن‏؟‏ وأنتم تشهدون أن أمره وصفة محمد الذي هو الآتي به في كتابكم، قال هذا المعنى قتادة وابن جريج والسدي، وتحتمل الآية أن يريد «بالآيات» ما ظهر على يدي محمد عليه السلام من تعجيز العرب والإعلام بالغيوب وتكلم الجماعات وغير ذلك و‏{‏تشهدون‏}‏ على هذا يكون بمعنى تحضرون وتعاينون، والتأويل الأول أقوى لأنه روي أن أهل الكتاب كانوا قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم يخبرون بصفة النبي الخارج وحاله، فلما ظهر كفروا به حسداً، فإخبارهم المتقدم لظهوره هو الشهادة التي وقفوا عليها، قال مكي‏:‏ وقيل إن هذه الآيات عني بها قريظة والنضير وبنو قينقاع ونصارى نجران‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تلبسون الحق‏}‏ معناه تخلطون، تقول لبست الأمر بفتح الباء بمعنى خلطته، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ وتقول‏:‏ لبست الثوب بكسر الباء، قال ابن زيد‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏ الذي لبسوه هو التوراة المنزلة، و«الباطل» الذي لبسوه به هو ما كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى التوراة، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏ إسلامهم بكرة، و«الباطل» كفرهم عشية، والآية نزلت في قول عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف، تعالو نؤمن بما أنزل على محمد وجه النهار، ونكفر آخره، عسى أن نلبس على المسلمين أمرهم، وقال قتادة وابن جريج‏:‏ ‏{‏لم تلبسون الحق بالباطل‏}‏ معناه لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ فكأن هذا المعنى لم تبقون على هذه الأديان وتوجدونها‏؟‏ فيكون في ذلك لبس على الناس أجمعين، وقال بعض المفسرين‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏ الذي لبسوه قولهم‏:‏ محمد نبي مرسل، و«الباطل» الذي لبسوه به قول أحبارهم‏:‏ لكن ليس إلينا بل ملة موسى مؤبدة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏}‏ يريد شأن محمد صلى الله عليه وسلم، كذلك قال الربيع وابن جريج وقتادة وغيرهم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ توقيف على العناد ظاهر، قال أبو إسحاق الزجّاج‏:‏ ولو قيل وتكتموا الحق لجاز على قولك، لم تجمعون ذا وذا، على أن تكتموا في موضع نصب على الصرف في قول الكافرين، وبإضمار «أن»، في قول أصحابنا، قال أبو علي‏:‏ الصرف ها هنا يقبح، وكذلك إضمار «أن»، لأن ‏{‏تكتمون‏}‏، معطوف على موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم‏:‏ أتأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة قولك أتقوم فأقوم والعطف على الموجب مقرر وليس بمستقيم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب إلا في ضرورة شعر كما روي‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

وألحقُّ بالحِجَازِ فاسْتَرِيحَا *** وقد قال سيبويه في قولك‏:‏ أسرت حتى تدخل المدينة‏؟‏ لا يجوز إلا النصب في تدخل، لأن السير مستفهم عنه غير موجب، وإذا قلت‏:‏ أيهم سار حتى يدخلها‏؟‏ رفعت، لأن السير موجب والاسفهام إنما وقع عن غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 77‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ‏}‏

أخبر تعالى في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع، قال الحسن‏:‏ قالت ذلك يهود خيبر ليهود المدينة، قال قتادة وأبو مالك والسدي وغيرهم‏:‏ قال بعض الأحبار لنظهر الإيمان لمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار، فسيقول المسلمون عند ذلك‏:‏ ما بال هؤلاء كانوا معنا ثم انصرفوا عنا‏؟‏ ما ذلك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر فيشكون، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد عليه السلام‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ ولما كانت الأحبار يظن بهم العلم وجودة النظر والاطلاع على الكتاب القديم، طمعوا أن تنخدع العرب بهذه النزعة ففعلوا ذلك، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة، فقالوا‏:‏ يا محمد أنت هو الموصوف في كتابنا، ولكن أمهلنا إلىلعشي حتى ننظر في أمرنا، ثم رجعوا بالعشي، فقالوا‏:‏ قد نظرنا ولست به ‏{‏وجه‏}‏ على هذا التأويل منصوب بقوله ‏{‏آمنوا‏}‏ والمعنى أظهروا الإيمان في ‏{‏وجه النهار‏}‏، والضمير في قوله ‏{‏آخره‏}‏ عائد على ‏{‏النهار‏}‏، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهم‏:‏ نزلت الآية، لأن اليهود ذهبت إلى المكر بالمؤمنين، فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم رجعوا آخر النهار، فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنهم بدت لهم منه ضلالة، بعد أن كانوا اتبعوه‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا القول قريب من القول الأول، وقال جماعة من المفسرين‏:‏ نزلت هذه الآية في أمر القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح إلى الشام، كما كان يصلي، ثم حولت القبلة، فصلى الظهر، وقيل العصر إلى مكة، فقالت الأحبار لتبّاعهم وللعرب‏:‏ آمنوا بالذي أنزل في أول النهار واكفروا بهذه القبلة الأخيرة‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ والعامل في قوله ‏{‏وجه النهار‏}‏ على هذا التأويل قوله‏:‏ ‏{‏أنزل‏}‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏آخره‏}‏ يحتمل أن يعود على ‏{‏النهار‏}‏ أو يعود على «الذي أنزل»، و‏{‏يرجعون‏}‏ في هذا التأويل، معناه عن مكة إلى قبلتنا التي هي الشام كذلك قال قائل هذا التأويل، ‏{‏وجه النهار‏}‏ أوله الذي يواجه منه، تشبيهاً بوجه الإنسان، وكذلك تقول‏:‏ صدرالنهار وغرة العام والشهر، ومنه قول النبي عليه السلام أقتلته في غرة الإسلام‏؟‏ ومن هذا قول الربيع بن زياد العبسي‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

من كان مسروراً بِمَقْتَل مالِكٍ *** فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ

يَجِدِ النِّساءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ *** قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبلُّجِ الأَسْحَارِ

يقول هذا في مالك بن زهير بن جذيمة العبسي وكانوا قد أخذوا بثأره، وكان القتيل عندهم لا يناح عليه ولا يندب إلا بعد أخر ثأره، فالمعنى من سره مصابنا فيه فلينظر إلى ما يدله على أنّا قد أدركنا ثأره، فيكمد لذلك ويغتم، ومن استعارة الوجه قولهم‏:‏ فعلت كذا على وجه الدهر، أي في القديم‏.‏

وذكر الله تعالى عن هذه الطائفة من أهل الكتاب، أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ ولا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول هو من كلام الطائفة، واختلف الناس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم‏}‏، فقال مجاهد وغيره من أهل التأويل‏.‏ الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ اعتراض بين الكلامين‏.‏

قال القاضي‏:‏ والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني‏:‏ أحدها‏:‏ ولا تصدقوا تصديقاً صحيحاً وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم كراهة أو مخافة أو حذاراً أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم، وحذراً أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر، مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون التقدير، أن لا يؤتى فحذفت- لا- لدلالة الكلام، ويحتمل الكلام أن يكون معناه، ولا تصدقوا وتؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وجاء بمثله وعاضداً له، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم، ‏{‏أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏، بمعنى‏:‏ إلا أن يحاجوكم، كما تقول‏:‏ أنا لا أتركك أو تقتضيني حقي، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم على اعتقاد منهم أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل، ويحتمل الكلام أن يكون معناه‏:‏ ولا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته، إذ قد علمتم صحتها، إلا لليهود الذين هم منكم، و‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏، صفة لحال محمد فالمعنى، تستروا بإقراركم، ان قد أوتي أحد مثل ما أوتيتم، أو فإنهم يعنون العرب يحاجوكم بالإقرار عند ربكم، قال أبو علي و‏{‏تؤمنوا‏}‏ تعدى بالباء المقدرة في قوله ‏{‏أن يؤتى‏}‏ كما تعدى أول الآية في قوله، ‏{‏بالذي أنزل‏}‏ واللام في قوله، ‏{‏لمن اتبع‏}‏، لا يسهل أن تعلق ب ‏{‏تؤمنوا‏}‏، وأنت قد أوصلته بالباء فتعلق بالفعل جارين، كما لا يستقيم أن تعديه إلى مفعولين أذا كان لا يتعدى إلا إلى واحد، وإنما يحمل أمر هذه اللام على المعنى، والمعنى‏:‏ لاتقروا بأن الله يؤتي أحداً مثل ما أوتيتم إلا لمن، فهذا كما تقول‏:‏ أقررت لزيد بألف فتكون اللام متعلقة بالمعنى ولا تكون زائدة على حد

‏{‏إن كنتم للرؤيا تعبرون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 43‏]‏ ولا تتعلق على حد المفعول، قال أبو علي‏:‏ وقد تعدى «آمن» باللام في قوله ‏{‏فما آمن لموسى إلا ذرية‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ وقوله ‏{‏آمنتم له‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 49‏]‏ وقوله ‏{‏يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏ واحد، إنما دخل في هذا الكلام بسبب النفي الواقع في أوله، قوله‏:‏ ‏{‏لا تؤمنوا‏}‏ كما دخلت- من- في قوله ‏{‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏ فكما دخلت- من- في صلة أن ينزل، لأنه مفعول النفي اللاحق لأول الكلام، فكذلك دخل ‏{‏أحد‏}‏ في صلة- أن- في قوله ‏{‏أن يؤتى أحد‏}‏ لدخلو النفي في أول الكلام‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا لأن أحداً الذي فيه الشياع، لا يجيء في واجب من الكلام، لأنه لا يفيد معنى، وقرأ ابن كثير وحده بين السبعة «آن يؤتى» بالمد على جهة الاستفهام الذي هو تقرير، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة، إلا الاعتراض الذي هو‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ فإنه لا يختلف أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل ‏{‏أن يؤتى‏}‏ على ما قبله من الفعل، لأن الاستفهام قاطع، فيجوز أن تكون- أن- في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون به أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام ويكون ‏{‏يحاجوكم‏}‏ على هذا معطوفاً على ‏{‏أن يؤتى‏}‏ قال أبو علي‏:‏ ويجوز أن يكون موضع- أن- منصوباً، فيكون المعنى‏:‏ أتشيعون أو أتذكرون ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏‏؟‏ ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم ‏{‏أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 76‏]‏ فعلى كل الوجهين معنى الآية، توبيخ من الأحبار للأتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث، ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ في تأويل نصب أن أي أو تريدون أن يحاجوكم‏.‏ قال أبو علي‏:‏ و‏{‏أحد‏}‏ على قراءة ابن كثير هو الذي يدل على الكثرة، وقد منع الاستفهام القاطع من أن يشفع لدخوله النفي الذي في أول الكلام، فلم يبق إلا أن يقدر أن أحداً الذي في قولك، أحد وعشرون وهو يقع في الإيجاب لأنه بمعنى واحد، وجمع ضميره في قوله ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ حملاً على المعنى، إذ لأحد لامراد بمثل النبوة اتباع، فهو في معنى الكثرة، قال أبو علي‏:‏ وهذا موضع ينبغي أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن تدل على الكثرة‏.‏

قال القاضي‏:‏ إلا أن أحداً في مثل النبوة يدل عليها من حيث يقتضي الاتباع، وقرأ الأعمش، وشعيب بن أبي حمزة- «إن يؤتى»- بكسر الهمزة بمعنى، لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة وهذه القراءة يحتمل بمعنى فليحاجوكم، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي، ويحتمل أن تكون بمعنى، إلا أن يحاجوكم، وهذا على تجويز أن تؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له، فهذا ترتيب التفسير والقراءات على قول من قال‏:‏ الكلام كله من قول الطائفة‏.‏

وقال السدي وغيره‏:‏ الكلام كله من قوله ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏، إلى آخر الآية هو مما أمر به محمد عليه السلام أن يقوله لأمته، وحكى الزجّاج وغيره أن المعنى‏:‏ قل إن الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وحكي عن بعض النحويين أن المعنى‏:‏ أن لا يؤتى أحداً، وحذفت-لا- لأن في الكلام دليلاً عليها، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي أن لا تضلوا، وحكي عن أبي العباس المبرد‏:‏ لا تحذف لا، وإنما المعنى كراهة أن تضلوا، وكذلك هنا كراهة «أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم»، أي ممن خالف دين الإسلام، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ وتبعد من هذا القول قراءة ابن كثير بالاسفتهام والمد، وتحمل عليه قراءة الأعمش وابن أبي حمزة- إن يؤتى-، بكسر الألف، كأنه عليه السلام يخبر أمته أن الله لا يعطي أحداً ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمة محمد عليه السلام لكونها وسطاً ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ على هذه المعاني التي ترتبت في قول السدي، تحتمل معنيين أحدهما «أو فليحاجوكم عند ربكم»، يعني اليهود، فالمعنى لم يعط أحد مثل حظكم وإلا فليحاجوكم من ادعى سوى ذلك، والمعنى الثاني‏:‏ أن يكون قوله، ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ بمعنى التقرير والإزراء باليهود، كأنه قال‏:‏ أو هل لهم أن يحاجوكم أو يخاصموكم فيما وهبكم الله وفضلكم به‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هدى الله‏}‏ على جميع ما تقدم خبران‏.‏

وقال قتادة والربيع‏:‏ الكلام من قوله ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ إلى آخر الآية، هو مما أمر به محمد عليه السلام أن يقوله للطائفة التي قالت ‏{‏لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ وتتفق مع هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد، وتقدير الخبر المحذوف ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏، حسدتم وكفرتم، ويكون قوله ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ محمولاً على المعنى، كأنه قال‏:‏ أتحسدون أو تكفرون لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏؟‏ ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ على ما أوتوه فإنه يغلبونكم بالحجة، وأما على قراءة غير ابن كثير بغير المد، فيحتمل أن يكون بمعنى التقرير بغير حرف استفهام، وذلك هو الظاهر من لفظ قتادة فإنه قال‏:‏ يقول لما أنزل الله كتاباً مثل كتابكم وبعث نبياً مثل نبيكم حسدتموهم على ذلك، ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏أن يؤتى‏}‏ بدلاً من قوله ‏{‏هدى الله‏}‏ ويكون المعنى‏:‏ قل إن الهدى هدى الله، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن، ويكون قوله ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ بمعنى، أو فليحاجوكم، فإنه يغلبونكم، ويحتمل قوله، ‏{‏أن يؤتى‏}‏ خبر- «إن» ويكون قوله ‏{‏هدى الله‏}‏ بدلاً من الهدى، وهذا في المعنى قريب من الذي قبله، وقال ابن جريج، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يؤتى‏}‏ هو من قول محمد صلى الله عليه وسلم لليهود، وتم الكلام في قوله ‏{‏أوتيتم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ متصل بقول الطائفة ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ ومنه، وهذا القول يفسر معانيه ما تقدم في قول غيره من التقسيم والله المستعان‏.‏

وقرا ابن مسعود‏:‏ «أن يحاجوكم» بدل ‏{‏أو‏}‏، وهذه القراءة تلتئم مع بعض المعاني التي تقدمت ولا تلتئم مع بعضها، وقوله ‏{‏عند ربكم‏}‏ يجيء في بعض المعاني على معنى عند ربكم في الآخرة، ويجيء في بعضها على معنى عند كتب ربكم، والعلم الذي جعل في العباد، فأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً، وكأن المعنى أو يحاجوكم عند الحق، وقرأ الحسن «إن يؤتى» أحد بكسر الهمزة والتاء، على إسناد الفعل إلى ‏{‏أحد‏}‏، والمعنى‏:‏ أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وأظهر ما في القراءة أن يكون خطاباً من محمد عليه السلام لأمته، والمفعول محذوف تقديره إن يؤتي أحد أحداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأَمْنَهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمَا‏}‏

في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الفضل بيد الله‏}‏ إلى قوله ‏{‏العظيم‏}‏، تكذيب لليهود في قولهم‏:‏ نبوءة موسى مؤبدة، ولن يؤتي الله أحداً مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف، وسائر ما في الآية من لفظة ‏{‏واسع‏}‏ وغير ذلك قد تقدم نظيره‏.‏

ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم قسمان في الأمانة، ومقصد الآية ذم الخونة منهم، والتفنيد لرأيهم وكذبهم على الله، في استحلالهم أموال العرب، وفي قراءة أبي بن كعب «تيمنه» بتاء وياء في الحرفين وكذلك-تيمنا- في يوسف، قال أبو عمرو الداني‏:‏ وهي لغة تميم‏.‏

قال القاضي‏:‏ وما أراها إلا لغة قرشية، وهي كسر نون الجماعة كنستعين، وألف المتكلم كقول ابن عمر، لا إخاله، وتاء المخاطب كهذه الآية ولا يكسرون الياء في الغائب وبها قرأ أبي بن كعب في «تيمنا» وابن مسعود والأشهب العقيلي وابن وثاب، وقد تقدم القول في «القنطار» في صدر السورة وقرأ جمهور الناس، «يؤدهِ إليك» بكسر الهاء التي هي ضمير القنطار، وكذلك في الأخرى التي هي ضمير «الدينار»، واتفق أبو عمرو وحمزة وعاصم والأعمش على إسكان الهاء، وكذلك كل ما أشبهه في القرآن، نحو

‏{‏نصله جهنم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ و‏{‏نؤته‏}‏ ‏{‏نوله‏}‏ إلا حرفاً حكي عن أبي عمرو أنه كسره، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فألقه إليهم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 28‏]‏ قال أبو إسحاق‏:‏ وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل، وأما أبو عمرو فأرأه كان يختلس الكسرة فغلط عليه، كما غلط عليه في بارئكم، وقد حكى عنه سيبويه، وهو ضابط لمثل هذا‏:‏ أنه يكسر كسراً خفيفاً، و«القنطار» في هذه الآية‏:‏ مثال للمال الكثير يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل، وأما «الدينار» فيحتمل أن يكون كذلك، مثالاً لما قل، ويحتمل أن يريد طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد، ولم يعن لذكر الخائنين في أقل إذ هم طغام حثالة، وقرأ جمهور الناس «دُمت» بضم الدال، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن السلمي وابن أبي ليلى والفياض بن غزوان وغيرهم‏:‏ «دِمت ودِمتم»، بكسر الدال في جميع القرآن، قال أبو إسحاق‏:‏ من قوله‏:‏ «دمت»، تدام، نمت، تنام، وهي لغة، ودام معناه ثبت على حال ما، والتدويم على الشيء الاستدارة حول الشي ومنه قول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

والشمس حَيرَىَ لهَا في الْجوَّ تَدْوِيمْ *** والدوام، الدوار يأخذ في رأس الإنسان، فيرى الأشياء تدور له، وتدويم الطائر في السماء، هو ثبوته إذا صفّ واستدار والماء الدائم وغيره هو الذي كأنه يستدير حول مركزه، وقوله ‏{‏قائماً‏}‏ يحتمل معنيين قال الزجّاج وقتادة ومجاهد‏:‏ معناه قائماً على اقتضاء دينك‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحكام، فعلى هذا التأويل، لا تراعى هيئة هذا الدائم بل اللفظة من قيام المرء على أشغاله، أي اجتهاده فيها، وقال السدي وغيره‏:‏ ‏{‏قائماً‏}‏ في هذه الآية معناه‏:‏ قائماً على رأسه، على الهيئة المعروفة، وتلك نهاية الحفز، لأن معنى ذلك أنه في صدر شغل آخر، يريد أن يستقبله، وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء وانتزعوا من الآيات جواز السجن، لأن الذي يقوم عليه غريمه فهو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن، وهذه الآية وما بعدها نزلت فيما روي، بسبب أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب، فلما أسلم أولئك العرب قالت لهم اليهود‏:‏ نحن لا نؤدي إليكم شيئاً حين فارقتم دينكم الذي كنتم عليه، فنزلت الآية في ذلك وروي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام من أسلم من العرب بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية حامية من ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر»‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِى الأَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏

الإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى كونهم لا يؤدون الأمانة في دينار فما فوقه، على أحد التأويلين، والضمير في، ‏{‏قالوا‏}‏، يعني به لفيف بني إسرائيل، لأنهم كانوا يقولون‏:‏ نحن أهل الكتاب، والعرب أميون أصحاب أوثان، فأموالهم لنا حلال متى قدرنا على شيء منها لا حجة علينا في ذلك ولا سبيل لمعترض وناقد إلينا في ذلك، و«الأميون» القوم الذين لا يكتبون لأنهم لا يحسنون الكتابة، وقد مر في سورة البقرة اشتقاق اللفظ واستعارة السبيل، هنا في الحجة هو على نحو قول حميد بن ثور‏:‏

وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة *** من السرح موجود عليَّ طريق

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك ما عليهم من سبيل‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏ هو من هذا المعنى، وهو كثير في القرآن وكلام العرب، وروي أن رجلاً قال لابن عباس‏:‏ إنا نمر في الغزو بأموال أهل الذمة فنأخذ منها الشاة والدجاجة ونحوها قال‏:‏ وتقولون ماذا‏؟‏ قال نقول‏:‏ ليس علينا بأس، فقال ابن عباس‏:‏ هذا كما قال أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏ ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على الله تعالى في غير ما شيء، وهم علماء بمواضع الصدق لو قصدوها، ومن أخطر ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم، هذا قول جماعة من المتأولين، وروي عن السدي وابن جريج وغيرهما‏:‏ أن طائفة من أهل الكتاب ادعت أن في التوراة إحلال الله لهم أموال الأميين كذباً منها وهي عالمة بكذبها في ذلك قالا‏:‏ والإشارة بهذه الآية إلى ذلك الكذب المخصوص في هذا الفصل‏.‏

ثم رد الله تعالى في صدر قولهم، ليس علينا بقوله ‏{‏بلى‏}‏ أي عليهم سبيل وحجة وتبعة، ثم أخبر على جهة الشرط أن ‏{‏من أوفى‏}‏ بالعهد ‏{‏واتقى‏}‏ عقوبة الله في نقضه، فإنه محبوب عند الله، وتقول العرب‏:‏ وفى بالعهد، وأوفى به بمعنى، وأوفى، هي لغة الحجاز وفسر الطبري وغيره، على أن الضمير في قوله ‏{‏بعهده‏}‏ عائد على الله تعالى، وقال بعض المفسرين‏:‏ هو عائد على ‏{‏من‏}‏‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأن أمر الله تعالى بالوفاء مقترن بعهد كل إنسان، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏اتقى‏}‏ في هذه الآية، معناه‏:‏ اتقى الشرك، ثم خرج جواب الشرط على تعميم المتقين تشريفاً للتقوى وحضّاً عليها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يشترون بعهد الله‏}‏ الآية آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي آية يدخل فيها الكفر فيما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته، واختلف المفسرون في سبب نزولها، فقال عكرمة‏:‏ نزلت في أحبار اليهود، أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، تركوا عهد الله في التوراة للمكاسب والرياسة التي كانوا بسبيلها، وروي أنها نزلت بسبب خصومة الأشعث بن قيس مع رجل من اليهود في أرض فوجبت اليمين على اليهودي فقال الأشعث‏:‏ إذن يحلف يا رسول الله ويذهب بمالي، فنزلت الآية، وروي أن الأشعث بن قيس اختصم في أرض مع رجل من قرابته فوجبت اليمين على الأشعث وكان في الحقيقة مبطلاً قد غصب تلك الأرض في جاهليته فنزلت الآية، فنكل الأشعث عن اليمين، وتحرج وأعطى الأرض وزاد من عنده أرضاً أخرى، وروي أن الآية نزلت بسبب خصومة لغير الأشعث بن قيس، وقال الشعبي‏:‏ نزلت الآية في رجل أقام سلعة في السوق من أول النهار، فلما كان في آخره جاءه رجل فساومه فحلف حانثاً لقد منعها في أول النهار من كذا وكذا ولولا المساء ما باعها، فنزلت الآية بسببه، وقال سعيد بن المسيب، اليمين الفاجرة من الكبائر، ثم تلا هذه الآية وقال ابن مسعود‏:‏ كنا نرى ونحن مع نبينا أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر، إذا فجر فيها صاحبها، وقد جعل الله «الأيمان» في هذه الألفاظ مشتراة فهي مثمونة أيضاً، والخلاق‏:‏ الحظ والنصيب والقدر، وهو مستعمل في المستحبات، وقال الطبري‏:‏ ‏{‏ولا يكلمهم الله‏}‏ معناه بما يسرهم وقال غيره‏:‏ نفى تعالى أن يكلمهم جملة لانه يكلم عباده المؤمنين المتقين، وقال قوم من العلماء‏:‏ وهي عبارة عن الغضب، المعنى لا يحفل بهم ولا يرضى عنهم ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ يحتمل معنيين، أحدهما يطهرهم من الذنوب وأدرانها، والآخر ينمي أعمالهم، فهي تنمية لهم، والوجهان منفيان عنهم في الآخرة و‏{‏أليم‏}‏ فعيل بمعنى، مفعل، فالمعنى، مؤلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 83‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏منهم‏}‏، عائد على أهل الكتاب، و«الفريق»، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق، إذا فصل وأبان شيئاً عن شيء، و‏{‏يلوون‏}‏ معناه‏:‏ يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها، ومثال ذلك قولهم‏:‏ راعنا واسمع غير مسمع ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليٍّ، وحقيق الليّ في الثياب والحبال ونحوها، فتلها وإراغتها، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيهاً بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم، خصم ألوى ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَذًى مِنْ خُصُومَةٍ *** لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الْخُصُومِ الملاويا

وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

ألْفَيْتَني ألوي بعيداً مستمر *** وقرأ جمهور الناس، «يلوون»، مضارع لوى، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، «يلوّون» بتشديد الواو وفتح اللام، من لوّى، على وزن فعّل بتشديد العين، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، وقرأ حميد «يلُوْن» بضم اللام وسكون الواو، وهي في الأصل «يلون» مثل قراءة الجماعة، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات، فجاء «يلوون» فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء «يلون» و‏{‏الكتاب‏}‏ في هذا الموضع التوراة، وضمير الفاعل في قوله ‏{‏لتحسبوه‏}‏ هو للمسلمين قوله ‏{‏وما هو من عند الله‏}‏ نفي أن يكون منزلاً كما ادعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله، وما هو من عند الله، وقد تقدم نظير قوله تعالى ‏{‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر‏}‏ معناه لأحد من الناس، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏ فهذا منتف عقلاً، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين، و‏{‏الكتاب‏}‏ في هذه الآية اسم جنس، و‏{‏الحكم‏}‏ بمعنى الحكمة، ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ إن من الشعر لحكماً، و‏{‏ثم‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يقول‏}‏ معطية تعظيم الذنب في القول، بعد مهلة من هذا الإنعام، وقوله ‏{‏عباداً‏}‏ هو جمع عبد، ومن جموعه عبيد وعبدى، قال بعض اللغويين، وهذه الجموع بمعنى، وقال قوم، العباد لله، العبيد والعبدى للبشر، وقال قوم‏:‏ العبدى، إنما تقال في العبيد بني العبيد، وكأنه بناء مبالغة، تقتضي الإغراق في العبودية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والذي استقريت في لفظة العباد، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 207‏]‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏ و‏{‏عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏ فنوه بهم، وقال بعض اللغويين‏:‏ إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله، وأما العبيد فيستعمل في تحقير، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏‏.‏

قُولا لِدُوَدان عبيدِ العَصَى *** مَا غَرَّكُمْ بالأَسَد الباسلِ

ومنه قول حمزة بن عبد المطلب‏:‏ وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ربك بظلاّم للعبيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏

قال الإمام أبو محمد‏:‏ فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏كونوا عباداً لي من دون الله‏}‏ اعبدوني واجعلوني إلهاً‏.‏

واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر‏}‏ فقال النقاش وغيره‏:‏ الإشارة إلى عيسى عليه السلام، والآية رادة على النصارى الذين قالوا‏:‏ عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين‏:‏ بل الإشارة إلى محمد عليه السلام، وسبب نزول الآية، أن أبا رافع القرظي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم، حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران‏:‏ يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى، فقال الرئيس من نصارى نجران‏:‏ أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت، فنزلت الآية، في ذلك، قال بعض العلماء‏:‏ أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمداً صلى الله عليه وسلم، لما تلا عليهم ‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ وإنما معنى الآية، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله، فحرفوها بتأويلهم، وهذا من نوع ليِّهم الكتاب بألسنتهم، وقرأ جمهور القراء «ثم يقولَ» بالنصب، وروى شبل عن ابن كثير ومحبوب عن أبي عمرو «ثم يقولُ» برفع اللام وهذا على القطع وإضمار مبتدأ، وقرأ عيسى بن عمر، «عباداً ليَ» بتحريك الياء مفتوحة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَكِن كُونُواْ رَبَّنِيِّنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْملاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنَصُرُنَّهُ‏}‏

المعنى ‏{‏ولكن‏}‏ يقول‏:‏ ‏{‏كونوا ربانيين‏}‏ وهو جمع رباني، واختلف النحاة في هذه النسبة، فقال قوم‏:‏ هو منسوب إلى الرب من حيث هو العالم ما علمه، العمل بطاعته، المعلم للناس ما أمر به، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر، وقال قوم الرباني منسوب إلى الربان وهو معلم الناس، وعالمهم السائس لأمرهم، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان، ثم نسب إليه رباني، واختلف العلماء في صفة من يستحق أن يقال له رباني، فقال أبو رزين‏:‏ الرباني‏:‏ الحيكم العالم، وقال مجاهد‏:‏ الرباني الفقيه، وقال قتادة وغيره‏:‏ الرباني العالم الحليم، وقال ابن عباس‏:‏ هو الحكيم الفقيه، وقال الضحاك‏:‏ هو الفقيه العالم، وقال ابن زيد‏:‏ الرباني والي الأمر، يرب الناس أي يصلحهم، فالربانيون الولاة والأحبار والعلماء، وقال مجاهد‏:‏ الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم، وفي البخاري‏:‏ الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس، وقوله ‏{‏بما كنتم‏}‏ معناه‏:‏ بسبب كونكم عالمين دارسين، فما مصدرية، ولا يجوز أن تكون موصولة، لأن العائد الذي كان يلزم لم يكن بد أن يتضمنه‏:‏ ‏{‏كنتم تعلمون‏}‏، ولا يصح شيء من ذلك لأن «كان» قد استوفت خبرها ظاهراً، وهو ‏{‏تعلمون‏}‏ وكذلك ‏{‏تعلمون‏}‏ قد استوفى مفعوله وهو ‏{‏الكتاب‏}‏ ظاهراً، فلم يبق إلا أن ‏{‏ما‏}‏ مصدرية، إذ لا يمكن عائد، و‏{‏تعلمون‏}‏ بمعنى تعرفون، فهي متعدية إلى مفعول واحد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو‏:‏ «تعْلمون» بسكون العين، وتخفيف اللام، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تُعلِّمون» مثقلاً، بضم التاء وكسر اللام، وهذا على تعدية الفعل بالتضعيف، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف، تقديره‏:‏ تعلمون الناس الكتاب‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ والقراءتان متقاربتا المعنى، وقد رجحت قراءة التخفيف بتخفيفهم ‏{‏تدرسون‏}‏ وبأن العلم هو العلة التي توجب للموفق من الناس أن يكون ربانياً، وليس التعليم شرطاً في ذلك، ورجحت الأخرى بأن التعليم يتضمن العلم، والعلم لا يتضمن التعليم، فتجيء قراءة التثقيل أبلغ في المدح‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ ومن حيث العالم بحال من يعلم، فالتعليم كأنه في ضمن العلم، وقراءة التخفيف عندي أرجح، وقرأ مجاهد والحسن «تَعَلَّمون» بفتح التاء والعين، وشد اللام المفتوحة، وقرأ جمهور الناس، «تدرُسون» بضم الراء، من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره، وقرأ أبو حيوة «تدرِسون» بكسر الراء، وهذا على أنه يقال في مضارع درس، يدرُس ويدرِس وروي عن أبي حيوة، أنه قرأ «تُدرِّسون» بضم التاء، وكسر الراء وشدها، بمعنى تدرسون غيركم‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو والكسائي‏:‏ «ولا يأمرُكم» برفع الراء، وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفاً، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة‏:‏ «ولا يأمرَكم نصباً»، ولا خلاف في الراء من قوله‏:‏ ‏{‏أيأمركم‏}‏ إلا اختلاس أبي عامر، فمن رفع قوله‏:‏ «ولا يأمرُكم» فهو على القطع، قال سيبويه‏:‏ المعنى ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج وغيره‏:‏ المعنى ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «ولن يأمركم»، فهذه قراءة تدل على القطع، وأما قراءة من نصب الراء، فهي عطف على قوله‏:‏ ‏{‏أن يؤتيه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏ والمعنى ولا له أن يأمركم، قاله أبو علي وغيره، وقال الطبري‏:‏ قوله ‏{‏ولا يأمركم‏}‏ بالنصب، معطوف على قوله، ‏{‏ثم يقول‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى، والأرباب في هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيأمركم بالكفر‏}‏ تقرير على هذا المعنى الظاهر فساده‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين‏}‏ الآية، المعنى واذكر يا محمد «إذ» ويحتمل أن يكون «أخذ» هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسماً، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه، ثم جمع اللفظ، في حكاية الحال في هذه الآية، والمعنى‏:‏ أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل، الظاهره براهينهم والنصرة له، واختلف المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية، فقال مجاهد والربيع‏:‏ إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب، لا ميثاق النبيين، وفي مصحب أبي بن كعب وابن مسعود‏:‏ «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب»، قال مجاهد‏:‏ هكذا هو القرآن، وإثبات «النبيين» خطأ من الكتاب‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ إنما ‏{‏أخذالله ميثاق النبيين‏}‏ على قومهم، فهو أخذ لميثاق الجميع، وقال طاوس‏:‏ أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ما بعث الله نبياً، آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذه على قومه، ثم تلا هذه الآية، وقاله السدي‏:‏ وروي عن طاوس أنه قال‏:‏ صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله‏:‏ ‏{‏ثم جاءكم‏}‏ مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم‏.‏ وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة‏:‏ «لما» بكسر اللام، وهي لام الجر، والتقدير لأجل ما أتيناكم، إذ أنتم القادة الرؤوس، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه، و«ما» في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه، و«من» لبيان الجنس، وقوله، ‏{‏ثم جاءكم‏}‏ الآية، جملة معطوفة على الصلة، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول، فتقديره عند سيبويه‏:‏ رسول به مصدق لما معكم، وحذف تخفيفاً كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أهذا الذي بعث الله رسولاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 41‏]‏ والحذف من الصلات كثير جميل، وأما أبو الحسن الأخفش، فقال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لما معكم‏}‏‏.‏ هو العائد عنده على الموصول، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 90‏]‏ لأن المعنى لا يضيع أجرهم، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 30‏]‏ وكذلك ما ضارع هذه الآيات، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر، كما يراه أبو الحسن، واللام في ‏{‏لتؤمِننَّ‏}‏، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز‏.‏

وقرأ سائر السبعة‏:‏ «لَما» بفتح اللام، وذلك يتخرج على وجهين، أحدهما أن تكون «ما» موصولة في موضع رفع بالابتداء، واللام لام الابتداء، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق‏}‏ وخبر الابتداء قوله ‏{‏لتؤمنن‏}‏، و‏{‏لتؤمنن‏}‏ متعلق بقسم محذوف، والمعنى والله لتؤمنن، هكذا قال أبو علي الفارسي، وفيه من جهة المعنى نظر، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيداً فتأمل، والعائد الذي في الصلة، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرناهما في قراءة حمزة، أما أن هذا التأويل يقتضي عائداً من الخبر الذي هو ‏{‏لتؤمنن‏}‏ فهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏به‏}‏ فالهاء من ‏{‏به‏}‏ عائدة على «ما»، ولا يجوز أن تعود على ‏{‏رسول‏}‏ فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء «لما» بفتح اللام، هو أن تكون «ما» للجزاء شرطاً، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم و‏{‏جاءكم‏}‏ معطوف في موضع جزم، واللام الداخلة على «ما» ليست المتلقية للقسم، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏ لانها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله‏:‏ ‏{‏لتؤمِننَّ‏}‏ وهذه اللام الداخلة على «أن» لا يعتمد القسم عليها، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لأن قولك، والله لئن جئتني لأكرمنك، إنما حلف على فعلك، لأن الشرط معلق به، فلذلك دخلت اللام على الشرط، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد‏.‏

والضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتؤمِننَّ به‏}‏ عائد على ‏{‏رسول‏}‏، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام، وأما الضمير في قوله ‏{‏ولَتنصرنَه‏}‏ فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول، قال أبو علي في الإغفال‏:‏ وجزاء الشرط محذوف بدلالة قوله ‏{‏لتؤمنن‏}‏ عليه، قال سيبويه‏:‏ سألته، يعني الخليل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم‏}‏ فقال‏:‏ «ما» هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن، حين قلت‏:‏ لئن فعلت لأفعلن، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي‏:‏ أرد الخليل بقوله‏:‏ هي بمنزلة الذي، أنها اسم كما أن الذي اسم ولَم يرد أنها موصولة كالذي، وإنما فرّ من أن تكون «ما» حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كلاًّ لما ليوفينهم ربك أعمالهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 111‏]‏ وفي قوله ‏{‏وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 35‏]‏، الله المستعان، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل،‏:‏ أن خبر الابتداء فيمن جعل «ما» ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله‏:‏ ‏{‏من كتاب وحكمة‏}‏ ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه، والخليل، وإنما الخبر في قوله، ‏{‏لتؤمنن‏}‏ كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره، وقرأ الحسن‏:‏ «لمّا آتيناكم» بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق‏:‏ أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء، كما تقول لما جئتني أكرمتك‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ويظهر أن «لما» هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال، رؤساء الناس وأماثلهم، أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يؤخذ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة، وذهب ابن جني في «لما» في هذه الآية إلى أن أصلها «لمن ما»، وزيدت «من» في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت، كما يجب في مثل هذا، فجاء لهما، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي «لما»، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر «لما» بفتح الميم مخففة، وقد تقدم، وقرأ نافع وحده، «آتيناكم» بالنون، وقرأ الباقون، «آتيتكم» بالتاء، و‏{‏رسول‏}‏ في هذه الآية اسم جنس، وقال كثير من المفسرين‏:‏ الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «مصدقاً» بالنصب على الحال‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأْوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏

هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه، وذلك يحتمل موطن القسم، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه، ‏{‏وأخذتم‏}‏ في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم ايضاً وقال الطبري‏:‏ ‏{‏أخذتم‏}‏ في هذه الآية معناه‏:‏ قبلتم، و«الإصر»، العهد، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك، وقوله تعالى ‏{‏فاشهدوا‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد، هذا قول الطبري وجماعة، والمعنى الثاني، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به، وشهادة الله تعالى هذا التأويل، وفي التي في قوله ‏{‏وأنا معكم من الشاهدين‏}‏ هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم، هذا قول الزجّاج وغيره‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفظها، والقول الثاني هو الأمر بأدائها، وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق على أن قوله، ‏{‏فاشهدوا‏}‏ أمر بالأداء وقرا أبو عمرو‏:‏ «يَبغون» بالياء مفتوحة، «تُرجعون» بالتاء مضمومة، وقرأ عاصم، «يبغون» و«يرجعون» بالياء معجمة من تحت فيهما، وقرأ الباقون بالتاء فيهما، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل و‏{‏تبغون‏}‏ معناه‏:‏ تطلبون، و‏{‏أسلم‏}‏ في هذه الآية بمعنى‏:‏ استسلم عند جمهور المفسرين، و‏{‏من‏}‏ في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين، واختلفوا في معنى قوله ‏{‏طوعاً وكرهاً‏}‏ فقال مجاهد‏:‏ هذه الآية كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرهاً‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ فهذا عموم في لفظ الآية، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل و‏{‏أسلم‏}‏ فيه بمعنى استسلم، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع، وعبارته رحمه الله‏:‏ كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعاً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق، وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر فيسجد المؤمن طوعاً ويسجد الكافر وهو كاره، وقال الشعبي‏:‏ الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره، وذلك هو الذي يسجد كرهاً‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا هو مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ معنى الآية‏:‏ أنه أسلم قوم طوعاً، وأسلم قوم خوف السيف، وقال مطر الوراق‏:‏ أسلمت الملائكة طوعاً، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان، والآية ظاهرها العموم ومعناها الخصوص، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعاً ولا كرهاً على هذا حد، وقال قتادة‏:‏ الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك، وهذا غير موجود إلا في أفراد، والمعنى في هذه الآية، يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة، والتوقيف بقوله ‏{‏أفغَير‏}‏ إنما هو لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار، وقرأ أبو بكر عن عاصم، «أُصري»، بضم الألف وهي لغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ قل يا محمد أنت وأمتك‏:‏ ‏{‏آمنا بالله وما أنزل علينا‏}‏ وهو القرآن وأمر محمد صلى الله عليه وسلم والإنزال على نبي الأمة إنزال عليها، وقدم إسماعيل لسنة، وسائر الآية بين، ثم حكم تعالى في قوله ‏{‏ومن يبتغ‏}‏ الآية بأنه لا يقبل من آدمي ديناً غير دين الإسلام، وهو الذي وافق في معتقداته دين كل من سمي من الأنبياء، وهو الحنيفة السمحة، وقال عكرمة‏:‏ لما نزلت قال أهل الملل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون، فقال الله له‏:‏ فجحهم يا محمد وأنزل عليه ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ فحج المسلمون وقعد الكفار، وأسند الطبري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ نزلت ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ إلى قوله ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏ فأنزل الله بعدها، ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه‏}‏ الآية‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ فهذه إشارة إلى نسخ، وقوله ‏{‏في الآخرة‏}‏ متعلق بمقدر، تقديره خاسر في الآخر لأن الألف واللام في ‏{‏الخاسرين‏}‏ في معنى الموصول، وقال بعض المفسرين‏:‏ إن قوله ‏{‏من يبتغ‏}‏ الآية، نزلت في الحارث بن سويد، ولم يذكر ذلك الطبري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 89‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت هذه الآيات من قوله‏:‏ ‏{‏كيف يهدي الله‏}‏ نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، كان مسلماً ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة‏؟‏

قال‏:‏ فنزلت ‏{‏كيف يهدي الله‏}‏ الآيات، إلى قوله ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ فأرسل إليه قومه فأسلم، وقال مجاهد‏:‏ حمل الآيات إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال له الحارث، إنك والله لما علمت لصدوق، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة، قال‏:‏ فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه، وقال السدي‏:‏ نسخ الله تعالى، بقوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ قوله ‏{‏أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله‏}‏‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وفي هذه العبارة تجوز كثير، وليس هذا بموضع نسخ، وقال عكرمة‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً، رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم هل لنا من توبة‏؟‏ فنزلت هذه الآيات وقال ابن عباس أيضاً والحسن بن أبي الحسن‏:‏ إن هذه الآيات نزلت في اليهود والنصارى، شهدوا بنعت الرسول صلىلله عليه وسلم وآمنوا به، فما جاء من العرب حسدوه، وكفروا به ورجح الطبري هذا القول، وقال النقاش‏:‏ نزلت هذه الآيات في طعيمة بن أبيرق‏.‏

وقال الفقيه القاضي‏:‏ وكل من ذكر فألفاظ الآية تعممه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد للأمر كما قال عليه السلام‏:‏ كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها‏؟‏ فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن يهديهم الله تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشهدوا‏}‏ عطف على ‏{‏كفروا‏}‏ بحكم اللفظ، والمعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر، والواو لا ترتب، وقال قوم‏:‏ معنى قوله ‏{‏بعد إيمانهم‏}‏ بعد أن آمنوا فقوله ‏{‏وشهدوا‏}‏ عطف على هذا التقدير، وقوله تعالى ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ عموم معناه الخصوص فيمن حتم كفره وموافاته عليه، ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله، فتجيء الآية عامة تامة العموم، و«اللعنة» الإبعاد وعدم الرحمة والعطف، وذلك مع قرينة الكفر زعيم بتخليدهم في النار، ولعنة الملائكة قول، و‏{‏الناس‏}‏‏:‏ بنو آدم، ويظهر من كلام أبي علي الفارسي في بعض تعاليقه، أن الجن يدخلون في لفظة الناس، وأنشد على ذلك، ‏[‏الوافر‏]‏

فقلتُ إلى الطَّعامِ فَقَالَ مِنْهُمْ *** أُناسٌ يَحْسُدُ الأَنَسَ الطَّعاما

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ والذي يظهر، أن لفظة ‏{‏الناس‏}‏ إذا جاءت مطلقة، فإنما هي في كلام العرب بنو آدم لا غير، فإذا جاءت مقيدة بالجن، فذلك على طريقة الاستعارة، إذ هي جماعة كجماعة، وكذلك

‏{‏برجال من الجن‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 6‏]‏ وكذلك ‏{‏نفر من الجن‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الجنة والناس‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 6‏]‏ قاض بتباين الصنفين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والناس أجمعين‏}‏ إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بضعهم بعضاً، فيجيء من هذا في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته، وكل من هذه صفته- وقد أغواه الشيطان- يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها، فيجيء من هذا أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم، لكن على غير تعيين، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ قال الطبري‏:‏ يعود على عقوبة الله التي يتضمنها معنى اللعنة، وقال قوم من المفسرين‏:‏ الضمير عائد على اللعنة‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم‏:‏ فالضمير عائد على النار، وإن كان لم يجر لها ذكر، لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع كما يفهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏ أنها الأرض، وقد قال بعض الخراسانيين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏ إن الضمير عائد على النار و‏{‏ينظرون‏}‏ في هذه الآية، بمعنى يؤخرون، ولا راحة إلا في التخفيف أو التأخير فهما مرتفعان عنهم، ولا يجوز أن يكون ‏{‏ينظرون‏}‏ هنا من نظر العين إلا على توجيه غير فصيح لا يليق بكتاب الله تعالى وقوله جل وعز ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ استثناء متصل يبين ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ التوبة‏:‏ الرجوع، والإصلاح عام في القول والعمل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ وعد، وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «والناس أجمعون»‏.‏