فصل: تفسير الآيات رقم (68- 70)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏فرقنا‏}‏ معناه‏:‏ جعلناه فرقاً، وقرأ الزهري «فرَّقنا» بتشديد الراء، ومعنى ‏{‏بكم‏}‏ بسببكم، وقيل لما كانوا بين الفرق وقت جوازهم فكأنهم بهم فرق، وقيل معناه لكم، والباء عوض اللام وهذا ضعيف، و‏{‏البحر‏}‏ هو بحر القلزم، ولم يفرق البحر عرضاً جزعاً من ضفة إلى ضفة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة، وكان ذلك الفرق بقرب موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة‏.‏

وذكر العامري أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين وهي كانت طريقهم‏.‏

وقيل انفلق البحر عرضاً وانفرق البحر على اثني عشر طريقاً، طريق لكل سبط فلما دخلوها قالت كل طائفة غرق أصحابنا وجزعوا، فقال موسى‏:‏ اللهم أعني على أخلاقهم السيئة، فأوحى الله إليه أن أدر عصاك على البحر، فأدارها فصار في الماء فتوح كالطاق يرى بعضهم بعضاً، وجازوا، وجبريل صلى الله عليه وسلم في ساقتهم على ماذيانة يحث بني إسرائيل ويقول لآل فرعون‏:‏ مهلاً حتى يلحق آخركم أولكم، فلما وصل فرعون إلى البحر أراد الدخول فنفر فرسه فتعرض له جبريل بالرمكة فاتبعها الفرس، ودخل آل فرعون وميكائيل يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائيل في ساقتهم على الضفة وحده انطبق البحر عليهم فغرقوا‏.‏

و ‏{‏تنظرون‏}‏ قيل معناه بأبصاركم، لقرب بعضهم من بعض‏.‏

وقيل معناه ببصائركم للاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار‏.‏

وقيل‏:‏ إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم‏.‏

وقيل المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر، كما تقول‏:‏ هذا الأمر منك بمرأى ومسمع، أي بحال تراه وتسمعه إن شئت‏.‏

قال الطبري رحمه الله‏:‏ وفي إخبار القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في خفي علم بني إسرائيل، دليل واضح عند بني إسرائيل وقائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقرأ الجمهور «واعدنا»‏.‏

وقرأ أبو عمرو‏.‏ «وعدنا»، ورجحه أبو عبيد، وقال‏:‏ إن المواعدة لا تكون إلا من البشر‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وليس هذا بصحيح، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة، و‏{‏موسى‏}‏ اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف، والقبط على ما يروى يقولون للماء «مو»، وللشجر «سا»، فلما وُجِدَ موسى في التابوت عند ماء وشجر سُمِّي «موسى»‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، ونصب أربعين على المفعول الثاني، ولا يجوز نصبها على الظرف في هذا الموضع، وهي فيما روي ذو العقدة وعشر ذي الحجة، وخص الليالي دون الأيام بالذكر إذ الليلة أقدم من اليوم وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخ‏.‏

قال النقاش‏:‏ «وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم، لأنه لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلة بأيامها»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ حدثني أبي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل بن الجوهري رحمه الله يعظ الناس بهذا المعنى في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه، وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول‏:‏ أين حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم‏:‏ «آتنا غداءنا»‏؟‏ وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد‏.‏

وقال بعض البصريين‏:‏ وَعَدَهُ رأس الأربعين ليلة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف‏:‏ وقوله تعالى ‏{‏ثم اتخذتم‏}‏‏.‏ قرأ أكثر السبعة بالإدغام‏.‏

وقرأ ابن كثير وعاصم في روايه حفص عنه بإظهارالذال و‏{‏ثم‏}‏ للمهلة، ولتدل على أن الاتخاذ بعد المواعدة، واتخذ وزنه افتعل من الأخذ‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «هو من تخذ لا من أخذ» وأنشد ‏[‏المخرق العبدي‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَقَدْ تَخِذتْ رِجْلي إلى جَنْبِ غَرْزِها *** نسيفاً كأُفْحوصِ القَطَاة المطرق

ونصب ‏{‏العجل‏}‏ ب ‏{‏اتخذتم‏}‏، والمفعول الثاني محذوف، تقديره اتخذتم العجل إلهاً، واتخذ قد يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27‏]‏ وقد يتعدى إلى مفعولين أحدهما هو الآخر في المعنى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أيمانهم جنة‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 16، المنافقون‏:‏ 2‏]‏، وكهذه الآية وغيرها، والضمير في ‏{‏بعده‏}‏ يعود على موسى‏.‏

وقيل‏:‏ على انطلاقه للتكليم، إذ المواعدة تقتضيه‏.‏

وقيل‏:‏ على الوعد، وقصص هذه الآية أن موسى صلى الله عليه وسلم لما خرج ببني إسرائيل من مصر، قال لهم‏:‏ إن الله تعالى سينجيكم من آل فرعون وينفلكم حليهم ومتاعهم الذي كان أمرهم باستعارته، وروي أنهم استعاروه برأيهم، فنفلهم الله ذلك بعد خروجهم، وقال لهم موسى عن الله تعالى‏:‏ إنه ينزل عليّ كتاباً فيه التحليل والتحريم والهدى لكم، فلما جازوا البحر طالبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب، فخرج لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلة، فعدوا عشرين يوماً بعشرين ليلة، ثم قالوا هذه أربعون من الدهر، وقد أخلفنا الموعد، وبدا تعنتهم وخلافهم‏.‏

وكان السامري رجلاً من بني إسرائيل يسمى موسى بن ظفر، وقيل لم يكن من بني إسرائيل بل كان غريباً فيهم، وكان قد عرف جبريل عليه السلام وقت عبرهم البحر، فقالت طائفة‏:‏ أنكر هيئته فعرف أنه ملك‏.‏

وقال طائفة‏:‏ كانت أم السامري ولدته عام الذبح فجعلته في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل صلى الله عليه وسلم يغذوه بأصابع نفسه فيجد في إصبع لبناً، وفي إصبع عسلاً، وفي إصبع سمناً، فلما رآه وقت جواز البحر عرفه، فأخذ من تحت حافر فرسه قبضة تراب، وألقي في روعه أنه لن يلقيها على شيء ويقول له كن كذا إلا كان، فلما خرج موسى لميعاده قال هارون لبني إسرائيل‏:‏ إن ذلك الحلي والمتاع الذي استعرتم من القبط لا يحل لكم، فجيئوا به حتى تأكله النار التي كانت العادة أن تنزل على القرابين‏.‏

وقيل‏:‏ بل أوقد لهم ناراً وأمرهم بطرح جميع ذلك فيها، فجعلوا يطرحون‏.‏

وقيل‏:‏ بل أمرهم أن يضعوه في حفرة دون نار حتى يجيء موسى، وجاء السامري فطرح القبضة، وقال كن عجلاً‏.‏

وقيل‏:‏ إن السامري كان في أصله من قوم يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ بل كانت بنو إسرائيل قد مرت مع موسى على قوم يعبدون البقر ف ‏{‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏، فوعاها السامري وعلم أن من تلك الجهة يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلت منهم طائفة يعبدونه، فاعتزلهم هارون بمن تبعه، فجاء موسى من ميعاده فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه من القرآن إن شاء الله‏.‏

ثم أوحى الله إليه أنه لن يتوب على بني إسرائيل حتى يقتلوا أنفسهم، ففعلت بنو إسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح، من عبد منهم ومن لم يعبد وألقى الله عليهم الظلام، فقتل بعضهم بعضاً يقتل الأب ابنه والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفاً عفا الله عنهم وجعل من مات منهم شهيداً، وتاب على البقية، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثم عفونا عنكم‏}‏‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ وقف الذين عبدوا العجل صفاً ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ جلس الذين عبدوا بالأفنية، وخرج يوشع بن نون ينادي‏:‏ ملعون من حل حبوته، وجعل الذين لم يعبدوا يقتلونهم، وموسى في خلال ذلك يدعو لقومه ويرغب في العفو عنهم، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال أو بقتلهم قراباتهم على الأقوال الأخر لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوا العجل، وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده، و‏{‏أنتم ظالمون‏}‏ مبتدأ وخبر في موضع الحال، وقد تقدم تفسير الظلم، والعفو تغطية الأثر وإذهاب الحال الأولى من الذنب أو غيره، ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب وعفا عنهم عز وجل أي عمن بقي منهم لم يقتل، و‏{‏لعلكم‏}‏ ترج لهم في حقهم وتوقع منهم لا في حق الله عز جل، لأنه كان يعلم ما يكون منهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ آتينا موسى الكتاب‏}‏، ‏{‏إذ‏}‏ عطف على ما ذكر من النعم، و‏{‏الكتاب‏}‏ هو التوراة بإجماع من المتأولين‏.‏

واختلف في ‏{‏الفرقان‏}‏ هنا فقال الزجاج وغيره هو التوراة أيضاً كرر المعنى لاختلاف اللفظ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل، ولفظة الكتاب لا تعطي ذلك‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة، و‏{‏الفرقان‏}‏ سائر الآيات التي أوتي موسى صلى الله عليه وسلم، لأنها فرقت بين الحق والباطل‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ‏{‏الفرقان‏}‏‏:‏ النصر الذي فرق بين حالهم وحال آل فرعون بالنجاة والغرق‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ «الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقاً»‏.‏

وقال الفراء وقطرب‏:‏ معنى هذه الآية‏:‏ آتينا موسى الكتاب ومحمداً الفرقان‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏

و ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏ ترج وتوقع مثل الأول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى، وحذفت الياء في «يا قومي» لأن النداء موضع حذف وتخفيف، والضمير في «اتخاذكم» في موضع خفض على اللفظ، وفي موضع رفع بالمعنى، «العجل» لفظة عربية، اسم لولد البقرة‏.‏

وقال قوم‏:‏ سمي عجلاً لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وليس هذا القول بشيء‏.‏

واختلف هل بقي العجل من ذهب‏؟‏ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ صار لحماً ودماً، والأول أصح‏.‏

و «توبوا»‏:‏ معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «بارئِكم» بإظهار الهمزة وكسرها‏.‏

وقرأ أبو عمرو‏:‏ «بارئْكم» بإسكان الهمزة‏.‏

وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات‏.‏

وقال المبرد‏:‏ لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب، وقرءاة أبي عمرو «بارئكم» لحن‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب، قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

إذا اعوججن قلت صاحب قوم *** وقال امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل

وقال آخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

قالت سليمى اشتر لنا سويقا *** وقال الآخر‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

وقد بدا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ *** وقال جرير‏:‏

ونهر تيري فما تعرفْكُمُ العربُ *** وقال وضاح اليمن‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

إنما شعري شهد قد خلط بجلجلان *** ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علماً للإعراب‏.‏

قال أبو علي‏:‏ وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات‏.‏

وقرأ الزهري‏:‏ «باريكم» بكسر الياء من غير همز، ورويت عن نافع‏.‏

وقرأ قتادة‏:‏ «فاقتالوا أنفسكم»‏:‏ وقال‏:‏ «هي من الاستقالة»‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ «اقتال» هذه افتعل، ويحتمل أن يكون عينها واواً كاقتادوا، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس» والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ قبله محذوف تقديره ففعلتم‏.‏

وقوله ‏{‏عليكم‏}‏ معناه‏:‏ على الباقين، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم‏.‏

قال بعض الناس‏:‏ ‏{‏فاقتلوا‏}‏ في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخاً، وبقول حسان‏:‏

قتلت قتلت فهاتها لم تقتل *** وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قلتم يا موسى‏}‏ يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف في وقت اختيارهم‏.‏

فحكى أكثر المفسرين أن ذلك بعد عبادة العجل، اختارهم ليستغفروا لبني إسرائيل‏.‏

وحكى النقاش وغيره أنه اختارهم حين خرج من البحر وطلب بالميعاد، والأول أصح، وقصة السبعين أن موسى صلى الله عليه وسلم لما رجع من تكليم الله ووجد العجل قد عبد قالت له طائفة ممن لم يعبد العجل‏:‏ نحن لم نكفر ونحن أصحابك، ولكن أسمعنا كلام ربك، فأوحى الله إليه أن اختر منها سبعين شيخاً، فلم يجد إلاّ ستين، فأوحى الله إليه أن اختر من الشباب عشرة، ففعل، فأصبحوا شيوخاً، وكان قد اختار ستة من كل سبط فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحوا فيمن يتأخر، فأوحى الله إليه أن من تأخر له مثل أجر من مضى، فتأخر يوشع بن نون وطالوت بن يوقنا وذهب موسى عليه السلام بالسبعين بعد أن أمرهم أن يتجنبوا النساء ثلاثاً ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجبل، فألقي عليهم الغمام‏.‏

قال النقاش وغيره‏:‏ غشيتهم سحابة وحيل بينهم موسى بالنور فوقعوا سجوداً‏.‏

قال السدي وغيره‏:‏ وسمعوا كلام الله يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعبر لهم، ففعل، فلما فرغ وخرجوا بدلت منهم طائفة ما سمعت من كلام الله فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏، واضطرب إيمانهم وامتحنهم الله بذلك فقالوا‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة‏}‏ ولم يطلبوا من الرؤية محالاً، أما إنه عند أهل السنة ممتنع في الدنيا من طريق السمع، فأخذتهم حينئذ الصاعقة فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به الغير‏.‏

وقال قتادة‏:‏ «ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود جعل موسى يناشد ربه فيهم ويقول‏:‏ أي رب، كيف أرجع إلى بني إسرائلي دونهم فيهلكون ولا يؤمنون بي أبداً، وقد خرجوا معي وهم الاخيار»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ يعني وهم بحال الخير وقت الخروج‏.‏

وقال قوم‏:‏ بل ظن موسى عليه السلام أن السبعين إنما عوقبوا بسبب عبادة العجل، فذلك قوله ‏{‏أتهلكنا‏}‏ يعني السبعين ‏{‏بما فعل السفهاء منا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ يعني عبدة العجل‏.‏

وقال ابن فورك‏:‏ يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه، بقولهم لموسى «أرنا» وليس وذلك من مقدور موسى صلى الله عليه وسلم، و‏{‏جهرة‏}‏ مصدر في موضع الحال، والأظهر أنها من الضمير في ‏{‏نرى‏}‏، وقيل من الضمير في ‏{‏نؤمن‏}‏، وقيل من الضمير في ‏{‏قلتم‏}‏، والجهرة العلانية، ومنه الجهر ضد السر، وجهر الرجل الأمر كشفه‏.‏

وقرأ سهل بن شعيب وحميد بن قيس‏:‏ «جهَرة» بفتح الهاء، وهي لغة مسموعة عند البصريين فيما فيه حرف الحلق ساكناً قد انفتح ما قبله، والكوفيون يجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يكون ‏{‏جهرة‏}‏ جمع جاهر، أي حتى نرى كاشفين هذا الأمر‏.‏

وقرأ عمر وعلي رضي الله عنهما‏:‏ «فأخذتكم الصعقة»، ومضى في صدر السورة معنى ‏{‏الصاعقة‏}‏، والصعقة ما يحدث بالإنسان عند الصاعقة‏.‏

وتنظرون معناه إلى حالكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ حتى أحالهم العذاب وأزال نظرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

أجاب الله تعالى فيهم رغبة موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمود أو الموت، ليستوفوا آجالهم، وتاب عليهم، والبعث هنا الإثارة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعثنا من مرقدنا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ إنهم لما أحيوا وأنعم عليهم بالتوبة سألوا موسى عليه السلام أن يجعلهم الله أنبياء، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثناكم من بعد موتكم‏}‏ أي أنبياء ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ أي على هذه النعمة، والترجي إنما هو في حق البشر، ونزلت الألواح بالتوراة على موسى في تلك المدة، وهذا قول جماعة، وقال آخرون‏:‏ إن الألواح نزلت في ذهابه الأول وحده‏.‏

وذكر المفسرون في تظليل الغمام‏:‏ أن بني إسرائيل لما كان من أمرهم ما كان من القتل وبقي منهم من بقي حصلوا في فحص التيه بين مصر والشام، فأمروا بقتال الجبارين فعصوا وقالوا‏:‏ ‏{‏فاذهب أنت وربك فقاتلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ فدعا موسى عليهم فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة، روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس، فندم موسى عليه السلام على دعائه، عليهم، فقيل له‏:‏ ‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين خرجوا من فحص التيه وقاتلوا الجبارين، وإذ كان جميعهم في التيه قالوا لموسى‏:‏ من لنا بالطعام‏؟‏ قال‏:‏ الله، فأنزل الله عليهم المن والسلوى، قالوا‏:‏ من لنا من حر الشمس‏؟‏ فظلل عليهم الغمام، قالوا‏:‏ بم نستصبح بالليل‏؟‏ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، وذكر مكي‏:‏ عمود نار‏.‏ فقالوا‏:‏ من لنا بالماء‏؟‏ فأمر موسى بضرب الحجر، قالوا‏:‏ من لنا باللباس‏؟‏ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان‏.‏

ومعنى ‏{‏ظللنا‏}‏ جعلناه ظللاً، و‏{‏الغمام‏}‏ السحاب لأنه يغم وجه السماء أي يستره‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «هو أبرد من السحاب وأرق وأصفى، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ يأتي أمره وسلطانه وقضاؤه‏.‏ وقيل ‏{‏الغمام‏}‏ ما ابيض من السحاب‏.‏

و ‏{‏المن‏}‏ صمغة حلوه، هذا قول فرقة، وقيل‏:‏ هو عسل، وقيل‏:‏ شراب حلو، وقيل‏:‏ الذي ينزل اليوم على الشجر، وقيل‏:‏ ‏{‏المن‏}‏ خبز الرقاق مثل النقي‏:‏ وقيل‏:‏ هو الترنجبين وقيل الزنجبيل، وفي بعض هذه الأقوال بعد‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏المن‏}‏ مصدر يعني به جميع ما من الله به مجملاً‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب مسلم‏:‏ الكمأة مما من الله به على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين‏.‏

فقيل‏:‏ أراد عليه السلام أن الكمأة نفسها مما أنزل نوعها على بني إسرائيل‏.‏

وقيل‏:‏ أراد أنه لا تعب في الكمأة ولا جذاذ ولا حصاد، فهي منه دون تكلف من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف‏.‏

وروي أن ‏{‏المن‏}‏ كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ منه الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم، لأن يوم السبت يوم عبادة، و‏{‏المن‏}‏ هنا اسم جمع لا واحد له من لفظه، ‏{‏والسلوى‏}‏ طير بإجماع من المفسرين، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم‏.‏

قيل‏:‏ هو السماني بعينه‏.‏ وقيل‏:‏ طائر يميل إلى الحمرة مثل السمانى، وقيل‏:‏ طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب‏.‏

قال الأخفش‏:‏ «السلوى جمعه وواحده بلفظ واحد»‏.‏ قال الخليل‏:‏ ‏{‏السلوى‏}‏ جمع واحدته سلواة‏.‏

قال الكسائي‏:‏ ‏{‏السلوى‏}‏ واحدة جمعها سلاوى، ‏{‏والسلوى‏}‏ اسم مقصور لا يظهر فيه الإعراب، لأن آخره ألف، والألف حرف هوائي أشبه الحركة فاستحالت حركته ولو حرك لرجع حرفاً آخر، وقد غلط الهذلي فقال‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وقاسمها بالله عهداً لأنتمُ *** ألذُّ من السلوى إذا ما نشورُها

ظن السلوى العسل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا‏}‏ الآية، معناه وقلنا كلوا، فحذف اختصاراً لدلالة الظاهر عليه، والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ظلمونا‏}‏ يقدر قبله‏:‏ فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا ولكن وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ ‏{‏ما ظلمونا‏}‏ ما نقصونا، والمعنى يرجع إلى ما لخصناه، و‏{‏القرية‏}‏ المدينة تسمى بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت، ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته، والإشارة بهذه إلى بيت المقدس في قول الجمهور‏.‏ وقيل إلى أريحا، وهي قريب من بيت المقدس‏.‏

قال عمر بن شبة‏:‏ كانت قاعدة ومسكن ملوك، ولما خرج ذرية بني إسرائيل من التيه أمروا بدخول القرية المشار إليها، وأما الشيوخ فماتوا فيه، وروي أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في التيه، وكذلك هارون عليه السلام‏.‏

وحكى الزجاج عن بعضهم أن موسى وهارون لم يكونا في التيه لأنه عذاب، والأول أكثر، و‏{‏كلوا‏}‏ إباحة، وقد تقدم معنى الرغد، وهي أرض مباركة عظيمة الغلة، فلذلك قال ‏{‏رغداً‏}‏‏.‏

و ‏{‏الباب‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو باب في مدينة بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطة، وقيل هو باب القبة التي كان يصلي إليها موسى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروي عن مجاهد أيضاً‏:‏ أنه باب في الجبل الذي كلم عليه موسى كالفرضة‏.‏

و ‏{‏سجداً‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ معناه ركوعاً، وقيل متواضعين خضوعاً لا على هيئة معينة، والسجود يعم هذا كله لأنه التواضع، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ترى الأكم فيه سجُّداً للحوافر‏.‏‏.‏‏.‏

وروي أن الباب خفض لهم ليقصر ويدخلوا عليه متواضعين، و‏{‏حطة‏}‏ فعلة من حط يحط، ورفعه على خبر ابتداء، كأنهم قالوا سؤالنا حطة لذنوبنا، هذا تقدير الحسن بن أبي الحسن‏.‏

وقال الطبري‏:‏ التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقيل أمروا أن يقولوا مرفوعة على هذا اللفظ‏.‏

وقال عكرمة وغيره‏:‏ أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله لتحط بها ذنوبهم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ قيل لهم استغفروا وقولوا ما يحط ذنوبكم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ قيل لهم أن يقولوا هذا الأمر حق كما أعلمنا‏.‏ وهذه الأقوال الثلاثة تقتضي النصب‏.‏

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة‏:‏ «حطة» بالنصب‏.‏

وحكي عن ابن مسعود وغيره‏:‏ أنهم أمروا بالسجود وأن يقولوا ‏{‏حطة‏}‏ فدخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون حنطة حبة حمراء في شعرة، ويروى غير هذا من الألفاظ‏.‏

وقرأ نافع‏:‏ «يُغفر» بالياء من تحت مضمومة‏.‏

وقرأ ابن عامر‏:‏ «تُغفر» بالتاء من فوق مضمومة‏.‏

وقرأ أبو بكر عن عاصم‏:‏ «يَغفر» بفتح الياء على معنى يغفر الله‏.‏

وقرأ الباقون‏:‏ «نغفر» بالنون‏.‏

وقرأت طائفة «تغفر» كأن الحطة تكون سبب الغفران، والقراء السبعة على ‏{‏خطاياكم‏}‏، غير أن الكسائي كان يميلها‏.‏

وقرأ الجحدري‏:‏ «تُغفر لكم خطيئتُكُمْ» بضم التاء من فوق وبرفع الخطيئة‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ «يغفر» بالياء من أسفل مفتوح «خطيئتَكُم» نصباً‏.‏

وقرأ قتادة مثل الجحدري، وروي عنه أنه قرأ بالياء من أسفل مضمومة خطيئتكم رفعاً‏.‏

وقرأ الحسن البصري‏:‏ «يغفر لكم خطيئاتِكم» أي يغفر الله‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏:‏ «تغفر» بالتاء من فوق مرفوعة «خطيئاتُكم» بالجمع ورفع التاء‏.‏

وحكى الأهوازي‏:‏ أنه قارئ «خطأياكم» يهمز الألف الأولى وسكون الآخرة‏.‏ وحكي أيضاً أنه قرئ بسكون الأولى وهمز الآخرة‏.‏

قال الفراء‏:‏ خطايا جمع خطية بلا همز كهدية وهدايا، وركية وركايا‏.‏

وقال الخليل‏:‏ هو جمع خطيئة بالهمز، وأصله خطايئ قدمت الهمزة على الياء فجاء خطائي أبدلت الياء ألفاً بدلاً لازماً فانفتحت الهمزة التي قبلها فجاء خطاءا، همزة بين ألفين، وهي من قبيلهما فكأنها ثلاث ألفات، فقلبت الهمزة فجاء خطايا‏.‏

قال سيبويه‏:‏ «أصله خطايئ همزت الياء كما فعل في مدائن وكتائب فاجتمعت همزتان فقلبت الثانية ياء، ثم أعلت على ما تقدم»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسنزيد المحسنين‏}‏ عدة، المعنى إذا غفرت الخطايا بدخولكم وقولكم زيد بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أمر وقال لا إله إلا الله فقيل هم المراد ب ‏{‏المحسنين‏}‏ هنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

روي أنه لما جاؤوا الباب دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى، وفي الحديث أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم، وبدلوا فقالوا حبة في شعرة، وقيل قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعرة وقيل شعيرة‏.‏

وحكى الطبري أنهم قالوا حطي شمقاثا أزبة، وتفسيره ما تقدم‏.‏

والرجز العذاب، وقال ابن زيد ومقاتل وغيرهما‏:‏ «إن الله تعالى بعث على الذين بدلوا ودخلوا على غير ما أمروا الطاعون فأذهب منهم سبعين ألفاً»، وقال ابن عباس‏:‏ «أمات الله منهم في ساعة واحدة نيفاً على عشرين ألفاً»‏.‏

وقرأ ابن محيصن «رُجزاً» بضم الراء، وهي لغة في العذاب، والزجر أيضاً اسم صنم مشهور‏.‏

والباء في قوله ‏{‏بما‏}‏ متعلقة ب ‏{‏أنزلنا‏}‏، وهي باء السبب‏.‏

و ‏{‏يفسقون‏}‏ معناه يخرجون عن طاعة الله، وقرأ النخعي وابن وثاب «يفسِقون» بكسر السين، يقال فسق يفسُق ويفسِق بضم السين وكسرها‏.‏

‏{‏وإذ‏}‏ متعلقة بفعل مضمر تقديره اذكر، و‏{‏استسقى‏}‏ معناه طلب السقيا، وعرف استفعل طلب الشيء، وقد جاء في غير ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغنى الله‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 6‏]‏ بمعنى غني، وقولهم‏:‏ استعجب بمعنى عجب، ومثل بعض الناس في هذا بقولهم استنسر البغاث، واستنوق الجمل، إذ هي بمعنى انتقل من حال إلى حال، وكان هذا الاستسقاء في فحص التيه، فأمره الله تعالى بضرب الحجر آية منه، وكان الحجر من جبل الطور، على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وضربه موسى عليه السلام، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجراً منفصلاً مربعاً تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى صلى الله عليه وسلم، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون، وفي الكلام حذف تقديره فضربه ‏{‏فانفجرت‏}‏، والانفجار انصداع شيء عن شيء، ومنه الفجر، والانبجاس في الماء أقل من الانفجار‏.‏

و ‏{‏اثنتا‏}‏ معربة دون أخواتها لصحة معنى التثنية، وإنما يبنى واحد مع واحد، وهذه إنما هي اثنان مع واحد، فلو بنيت لرد ثلاثة واحداً، وجاز اجتماع علامتي التأنيث في قوله ‏{‏اثنتا عشرة‏}‏ لبعد العلامة من العلامة، ولأنهما في شيئين، وإنما منع ذلك في شيء واحد، نحو مسلمات وغيره‏.‏

وقرأ ابن وثاب وابن أبي ليلى وغيرهما‏:‏ «عَشِرة» بكسر الشين، وروي ذلك عن أبي عمرو، والأشهر عنه الإسكان، وهي لغة تميم، وهو نادر، لأنهم يخففون كثيراً، وثقلوا في هذه، وقرأ الأعمش «عشَرة» بفتح الشين وهي لغة ضعيفة، وروي عنه كسرها وتسكينها، والإسكان لغة الحجاز‏.‏

و ‏{‏عيناً‏}‏ نصب على التمييز، والعين اسم مشترك، وهي هنا منبع الماء‏.‏

و ‏{‏أناس‏}‏ اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا كل سبط، لأن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب السلام‏.‏

والمشرب المفعل موضع الشرب، كالمشرع موضع الشروع في الماء، وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها، وفي الكلام محذوف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المنفجر من الحجر المنفصل، وبهذه الأحوال حسنت إضافة الرزق إلى الله تعالى، وإلا فالجميع رزقه وإن كان فيه تكسب للعبد‏.‏

‏{‏ولا تعثوا‏}‏ معناه ولا تفرطوا في الفساد، يقال عثى الرجل يعثي وعثي يعثى عثياً إذا أفسد أشد فساد، والأولى هي لغة القرآن والثانية شاذة وتقول العرب عثا يعثو عثواً ولم يقرأ بهذه اللغة لأنها توجب ضم الثاء من ‏{‏تعثوا‏}‏، وتقول العرب عاث يعيث إذا أفسد، وعث يعث كذلك، ومنه عثة الصوف، وهي السوسة التي تلحسه‏.‏

و ‏{‏مفسدين‏}‏ حال، وتكرر المعنى لاختلاف اللفظ، وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها، والتقدم في المعاصي والنهي عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى، وتذكروا عيشهم الأول بمصر، وكنى عن المن والسلوى ‏{‏بطعام واحد‏}‏، وهما طعامان، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد، ولتكرارهما سواء أبداً قيل لهما ‏{‏طعام واحد‏}‏، ولغة بني عامر «فادعِ» بكسر العين‏.‏

و ‏{‏يخرج‏}‏‏:‏ جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولاً مما تنبت الأرض، وقال الأخفش‏:‏ «من» في قوله‏:‏ ‏{‏مما‏}‏ زائدة «وما» مفعولة، وأبى سيبويه أن تكون «من» ملغاة في غير النفي، كقولهم‏:‏ ما رأيت من أحد، و‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من بقلها‏}‏ لبيان الجنس، و‏{‏بقلها‏}‏ بدل بإعادة الحرف، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم، والقثاء جمع قثأة‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب‏:‏ «قُثائها»، بضم القاف‏.‏

وقال ابن عباس وأكثر المفسرين‏:‏ «الفوم الحنطة»‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «الفوم الخبز»‏.‏

وقال عطاء وقتادة‏:‏ «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه»‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ «الفوم الثوم»، وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء، وروي ذلك عن ابن عباس، والثاء تبدل من الفاء، كما قالوا، مغاثير ومغافير، وجدث وجدف، ووقعوا في عاثور شر، وعافور شر، على أن البدل لا يقاس عليه، والأول أصح‏:‏ أنها الحنطة، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

قد كنت أغنى الناس شخصاً واجداً *** ورد المدينة عن زراعة فوم

يعني حنطة‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ «الفوم الزرع أو الحنطة»، وأزد السراة يسمون السنبل فوماً «، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر، و‏{‏أدنى‏}‏ مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة‏.‏

وقال علي بن سليمان‏:‏» هو مهموز من الدنيء البين الدناءة، بمعنى الأخس، إلا أنه خففت همزته «‏.‏

وقال غيره‏:‏» هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون أفعل، قلب فجاء أفلع، وقلبت الواو ألفاً لتطرفها «‏.‏

وقرأ زهير للكسائي‏:‏» أدنأ «، ومعنى الآية‏:‏ أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير‏؟‏ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه، يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة، لأن هذه البقول لا خطر لها، وهذا قول الزجاج، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوا عارٍ من هذه الخصال، فكأن أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب، فهو ‏{‏أدنى‏}‏ في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، فهي ‏{‏أدنى‏}‏ في هذا الوجه‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها، وفي الكلام حذف، تقديره‏:‏ فدعا موسى ربه فأجابه، فقال لهم‏:‏ ‏{‏اهبطوا‏}‏، وتقدم ذكر معنى الهبوط، وكأن القادم على قطر منصب عليه، فهو من نحو الهبوط، وجمهور الناس يقرؤون «مصراً» بالتنوين وهو خط المصحف، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه‏.‏

وقال مجاهد وغيره ممن صرفها‏:‏ «أراد مصراً من الأمصار غير معين»، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه‏.‏

وقالت طائفة ممن صرفها‏:‏ أراد مصر فرعون بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، وأجازوا صرفها‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ «لخفتها وشبهها بهند ودعد» وسيبويه لا يجيز هذا‏.‏

وقال غير الأخفش‏:‏ «أراد المكان فصرف»‏.‏

وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما‏:‏ «اهبطوا مصر» بترك الصرف، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا‏:‏ «هي مصر فرعون»‏.‏

قال الأعمش‏:‏ «هي مصر التي عليها صالح بن علي»‏.‏

وقال أشهب‏:‏ «قال لي مالك‏:‏ هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لكم ما سألتم‏}‏ يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم‏.‏

وقرأ النخغي وابن وثاب «سِألتم» بكسر السين وهي لغة، ‏{‏وضربت عليهم الذلة والمسكنة‏}‏ معناه ألزموها وقضي عليهم بها، كما يقال ضرب الأمير البعث، وكما قالت العرب ضربة لازب، أي إلزام ملزوم أو لازم، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد، أي حجر وألزم؛ ومنه ضرب الدهر ضرباته، أي ألزم إلزاماته، و‏{‏الذلة‏}‏ فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال، ‏{‏والمسكنة‏}‏ من المسكين، قال الزجاج‏:‏ «هي مأخوذة من السكون وهي هنا‏:‏ زي الفقر وخضوعه، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته»‏.‏

قال الحسن وقتادة‏:‏ «المسكنة الخراج أي الجزية»‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ «المسكنة الفاقة والحاجة»‏.‏

‏{‏وباؤوا بغضب من الله‏}‏ معناه‏:‏ مروا متحملين له، تقول‏:‏ بؤت بكذا إذا تحملته، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد‏:‏ «بؤ بشسع نعل كليب»‏.‏

والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده، والباء في ‏{‏بأنهم‏}‏ باء السبب‏.‏

وقال المهدوي‏:‏ «إن الباء بمعنى اللام» والمعنى‏:‏ لأنهم، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع وغيرها مما يخرق العادة، وهو علامة لصدق الآية به، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن‏.‏

وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «وتقتلون» بالتاء على الرجوع إلى خطابهم، وروي عنه أيضاً بالياء‏.‏

وقرأ نافع‏:‏ بهمز «النبيئين»، وكذلك حيث وقع في القرآن، إلا في موضعين‏:‏ في سورة الأحزاب‏:‏ ‏{‏أن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏ بلا مد ولا همز، ‏{‏ولا تدخلوا بيوت النبي إلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون، فأما من همز فهو عنده من «أنبأ» إذا أخبر، واسم فاعله منبئ فقيل نبيء، بمعنى منبئ، كما قيل‏:‏ سميع بمعنى مسمع، واستدلوا بما جاء من جمعه على نبآء‏.‏ قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

يا خاتم النبآء إنك مرسل *** بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا

فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف» وظرفاء وشبهه‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة‏:‏ كان مسيلمة نبوته نبيئة سوء، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة»، واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز، ومنهم من قال‏:‏ هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر، فالنبي الطريق الظاهر، وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة، وقال الشاعر‏:‏ ‏[‏البيسط‏]‏‏.‏

لما وردنا نبياً واستتبّ بنا *** مسحنفر كخطوط السيح منسحل

واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء، وحكى الزهراوي أنه يقول نبوء إذا ظهر فهو نبيء، والطريق الظاهر نبيء بالهمز، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ السلام عليك يا نبيء الله، وهمز، فقال له النبي صلى عليه السلام‏:‏ لست بنبيء الله، وهمز، ولكني نبيّ الله، ولم يهمز‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «ضعف سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه صلى الله عليه وسلم، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار، والجمع كالواحد»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجهاً، فصرح قوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم‏.‏ وسلط عليه، كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال ابن عباس وغيره‏:‏ «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ رد على الأول وتاكيد للإشارة إليه، والباء في ‏{‏بما‏}‏ باء السبب، و‏{‏يعتقدون‏}‏ معناه‏:‏ يتجاوزون الحدود، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء، وعرفه في الظلم والمعاصي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

اختلف المتأولون في المراد ب ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ في هذه الآية، فقال سفيان الثوري‏:‏ هم المنافقون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ في ظاهر أمرهم، وقرنهم باليهود ‏{‏والنصارى والصابئين‏}‏، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فمعنى قوله ‏{‏من آمن‏}‏ في المؤمنين المذكورين‏:‏ من حقق وأخلص، وفي سائر الفرق المذكورة‏:‏ من دخل في الإيمان‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ هم المؤمنون حقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم قوله ‏{‏من آمن بالله‏}‏ يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه‏.‏ وقال السدي‏:‏ هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، ‏{‏والذين هادوا‏}‏ كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، ‏{‏والنصارى‏}‏ كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم، ‏{‏والصابئين‏}‏ كذلك، قال‏:‏ إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، وذكر له الطبري قصة طويلة، وحكاها أيضاً ابن إسحاق، مقتضاها أنه صحب عباداً من النصارى فقال له آخرهم إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فأمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية‏.‏

وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره، ثم نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏ وردت الشرائع‏:‏ كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏والذين هادوا‏}‏ هم اليهود، وسموا بذلك لقولهم ‏{‏إنا هدنا إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ أي تبنا، فاسمهم على هذا من هاد يهود، قال الشاعر‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

إني امرؤ من مدحتي هائد *** أي تائب‏:‏ وقيل‏:‏ نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب، فلما عرب الاسم لحقه التغيير، كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها، وحكى الزهراوي التهويد النطق في سكون ووقار ولين، وأنشد‏:‏

وخود من اللائي تسمعن بالضحى *** قريض الردافى بالغناء المهود

قال‏:‏ ومن هذا سميت اليهود، وقرأ أبو السمال «هادَوا» بفتح الدال‏.‏

‏{‏والنصارى‏}‏ لفظة مشتقة من النصر، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة، ويقال نصريا ويقال نصرتا، وإما لأنهم تناصروا، وإما لقول عيسى عليه السلام ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152، الصف‏:‏ 4‏]‏ قال سيبويه‏:‏ واحدهم نصران ونصرانة كندمان وندمانة وندامى، وأنشد‏:‏ ‏[‏أبو الأخرز الحماني‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فكلتاهما خرت وأسجدَ رأسُها *** كما سَجَدتْ نصْرانةٌ لم تَحَنّفِ

وأنشد الطبري‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

يظل إذا دار العشيُّ محنّفاً *** ويضحي لديها وهو نَصْرانُ شامسُ

قال سيبويه‏:‏ إلا إنه لا يستعمل في الكلام إلاّ بياء نسب، قال الخليل، واحد ‏{‏النصارى‏}‏ نصريّ كمهريّ ومهارى‏.‏

والصابئ في اللغة من خرج من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبا، وقيل إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة تشبيهاً بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم لا إله إلا الله، وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت، قال أبو علي‏:‏ يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت، فالصابئ التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه ومتنقل إلى سواها، وبالهمزة قرأ القراء غير نافع فإنه لم يهمزه، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال، أو يجعله على قلب الهمزة ياء، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر‏.‏

وأما المشار إليهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصابئين‏}‏ فقال السدي‏:‏ هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد‏:‏ هم قوم لا دين لهم، وليسوا بيهود ولا نصارى، وقال ابن أبي نجيح‏:‏ هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم، وقال ابن زيد‏:‏ هم قوم يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بجزيرة الموصل، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة‏:‏ هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرؤون الزبور، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من آمن بالله‏}‏ في موضع نصب بدل من ‏{‏الذين‏}‏، والفاء في قولهم ‏{‏فلهم‏}‏ داخله بسبب الإبهام الذي في ‏{‏من‏}‏ و‏{‏لهم أجرهم‏}‏ ابتداء وخبر في موضع خبر ‏{‏إن‏}‏، ويحتمل ويحسن أن تكون ‏{‏من‏}‏ في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، والفاء في قوله ‏{‏فلهم‏}‏ موطئة أن تكون الجملة جوابها، و‏{‏لهم أجرهم‏}‏ خبر ‏{‏من‏}‏، والجملة كلها خبر ‏{‏إن‏}‏، والعائد على ‏{‏الذين‏}‏ محذوف لا بد من تقديره، وتقديره «من آمن منهم بالله»‏.‏

وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب، ومنه يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى، وجمع الضمير في قوله تعالى ‏{‏لهم أجرهم‏}‏ بعد أن وحد في ‏{‏آمن‏}‏ لأن ‏{‏من‏}‏ تقع على الواحد والتثنية الجمع، فجائز أن يخرج ما بعدها مفرداً على لفظها، أو مثنى أو مجموعاً على معناها، كما قال عز وجل ‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏ فجمع على المعنى، وكقوله ‏{‏ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13‏]‏ ثم قال ‏{‏خالدين فيها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13‏]‏ فجمع على المعنى، وقال الفرزدق‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تعشَّ فإن عاهدتني لا تخونني *** نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطحبانِ

فثنى على المعنى، وإذا جرى ما بعد ‏{‏من‏}‏ على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى، وإذا جرى ما بعدها على المعنى فلم يستعمل أن يخالف به بعد على اللفظ، لأن الإلباس يدخل في الكلام‏.‏

وقرأ الحسن «ولا خوف» نصب على التبرية، وأما الرفع فعلى الابتداء، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاقكم‏}‏، ‏{‏إذ‏}‏ معطوفة على التي قبلها، والميثاق مفعال من وثق يثق، مثل ميزان من وزن يزن، و‏{‏الطور‏}‏ اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه، قاله ابن عباس، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم‏:‏ ‏{‏الطور‏}‏ اسم لكل جبل، ويستدل على ذلك بقول العجاج‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

دانى جناحيه من الطور فمرْ *** تقضّيَ البازي إذا البازي كسرْ

وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ ‏{‏الطور‏}‏ كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت ليس بطور، قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا كله على أن اللفظة عربية، وقال أبو العالية ومجاهد‏:‏ هي سريانية اسم لكل جبل‏.‏

وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة، قال لهم‏:‏ خذوها والتزموها، فقالوا‏:‏ لا إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا، ثم أحيوا، فقال لهم‏:‏ خذوها، فقالوا‏:‏ لا، فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين، طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم ناراً بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وقال الطبري رحمه الله عن بعض العلماء‏:‏ لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق، وكانت سجدتهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً، فلما رحمهم الله قالوا لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق واحد‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لأنهم آمنوا كرهاً وقلوبهم غير مطمئنة، وقد اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة بصعقة السبعين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ وقلنا خذوا، و‏{‏آتيناكم‏}‏ معناه أعطيناكم، و‏{‏بقوة‏}‏‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه بجد واجتهاد، وقيل‏:‏ بكثرة درس، وقال ابن زيد‏:‏ معناه بتصديق وتحقيق، وقال الربيع‏.‏ معناه بطاعة الله‏.‏

‏{‏واذكروا ما فيه‏}‏ أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه وتضيعوه، والضمير عائد على ‏{‏ما آتيناكم‏}‏ ويعني التوراة، وتقدير صلة ‏{‏ما‏}‏‏:‏ واذكروا ما استقر فيه، و‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ ترج في حق البشر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم توليتم من بعد ذلك‏}‏ الآية‏.‏ تولّى تفعّل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً، و‏{‏فضل الله‏}‏ رفع بالابتداء، والخبر مضمر عند سيبويه لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه، تقديره فلولا فضل الله عليكم تدارككم، ‏{‏ورحمته‏}‏ عطف على فضل، قال قتادة‏:‏ فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن‏.‏ قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا على أن المخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏ لفظاً ومعنى من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أن المراد بالمعنى من سلف، و‏{‏لكنتم‏}‏ جواب ‏{‏لولا‏}‏، ‏{‏ومن الخاسرين‏}‏ خبر «كان»‏.‏ والخسران النقصان، وتوليهم من بعد ذلك، إما بالمعاصي، فكان فضل الله بالتوبة والإمهال إليها، وإما أن يكون توليهم بالكفر فكان فضل الله بأن لم يعاجلهم بالإهلاك ليكون من ذريتهم من يؤمن، أو يكون المراد من لحق محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك قوم، وعليه يتجه قول قتادة‏:‏ إن الفضل الإسلام، والرحمة القرآن، ويتجه أيضاً أن يراد بالفضل والرحمة إدراكهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏علمتم‏}‏ معناه‏:‏ عرفتم، كما تقول‏:‏ علمت زيداً بمعنى عرفته، فلا يتعدى العلم إلا إلى مفعول واحد، و‏{‏اعتدوا‏}‏ معناه تجاوزوا الحد، مصرف من الاعتداء، و‏{‏في السبت‏}‏ معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت، و‏{‏السبت‏}‏ مأخوذ إما‏:‏ من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت وهو‏:‏ القطع، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها‏.‏

وقصة اعتدائهم فيه، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر موسى عليه السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية‏.‏ قاله الحسن بن أبي الحسن‏.‏ وقيل حتى تخرج خرطيمها من الماء، وذلك إما بالإلهام من الله تعالى، أو بأمر لا يعلل، وإما بأن فهمها معنى الأمنة التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقاً من الساعة»، وحمام مكة قد فهم الأمنة، إما أنها متصلة بقرب فهمها‏.‏

وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتاً بخزمة، وضرب له وتداً بالساحل، فلما ذهب السبت جاءَ وأخذه، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه، فقيل نجت مع الناهين، وقيل هلكت مع العاصين‏.‏

و ‏{‏كونوا‏}‏ لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شيء‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40 مريم‏:‏ 35، يس‏:‏ 82، غافر‏:‏ 68‏]‏، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب‏.‏

و ‏{‏خاسئين‏}‏ معناه مبعدين أذلاء صاغرين، كما يقال للكلب وللمطرود اخساً‏.‏ تقول خسأته فخسأ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر‏.‏

وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين ‏{‏قردة‏}‏ بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدها ومجتمعاتهم، فلم يروا أحداً من الهالكين، فقالوا إن للناس لشأناً، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم ‏{‏قردة‏}‏ يعرفون الرجل والمرأة، وقيل‏:‏ إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار، تبرياً منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة، يثب بعضهم على بعض‏.‏

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عن أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام؛ ووقع في كتاب مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت، وأراها الفأر، وظاهر هذا أن الممسوخ ينسل، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل، ونظير ما قلناه نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر»‏.‏

وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة، والأول أقوى، والضمير في ‏{‏جعلناها‏}‏‏:‏ يحتمل العود على المسخة والعقوبة، ويحتمل على الأمة التي مسخت، ويحتمل على القردة، ويحتمل على القرية إذ معنى الكلام يقتضيها، وقيل يعود على الحيتان، وفي هذا القول بعد‏.‏

والنكال‏:‏ الزجر بالعقاب، والنكل والأنكال‏:‏ قيود الحديد، فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك الفعل، قال السدي‏:‏ ما بين يدي المسخة‏:‏ ما قبلها من ذنوب القوم، ‏{‏وما خلفها‏}‏‏:‏ لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب، وهذا قول جيد، وقال غيره‏:‏ «ما بين يديها» أي من حضرها من الناجين، ‏{‏وما خلفها‏}‏ أي لمن يجيء بعدها، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لما بين يديها‏}‏‏:‏ أي من بعدهم من الناس ليحذر ويتقي، ‏{‏وما خلفها‏}‏‏:‏ لمن بقي منهم عبرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وما أراه يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، لأن دلالة ما بين اليد ليست كما في القول، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ ‏{‏لما بين يديها وما خلفها‏}‏، أي من القرى، فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزمان‏.‏

‏{‏وموعظة‏}‏ مفعلة من الاتعاظ والازدجار، ‏{‏وللمتقين‏}‏ معناه للذين نهوا ونجوا، وقالت فرقة‏:‏ معناه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واللفظ يعم كل متق من كل أمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ عطف على ما تقدم، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق، وقرأ أبو عمرو «يأمرْكم» بإسكان الراء، وروي عنه اختلاس الحركة، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم»‏.‏

وسبب هذه الآية على ما روي، أن رجلاً من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل أخوه، وقيل ابنا عمه، وقيل ورثة كثير غير معينين، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه، وقيل‏:‏ كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين، وهي التي لم يقتل فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء حتى دخلوا في السلاح، فقال أهل النهي منهم‏:‏ أنقتل ورسول الله معنا‏؟‏ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة، وسألوه البيان، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏، فكان جوابهم أن قالوا‏:‏ ‏{‏أتتخذنا هزواً‏}‏‏؟‏ قرأ الجحدري «أيتخذنا» بالياء، على معنى أيتخذنا الله، وقرأ حمزة‏:‏ «هزْؤاً» بإسكان الزاي والهمز، وهي لغة، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز، وقرأ أيضاً‏:‏ دون همز «هزواً»، حكاه أبو علي، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاء والهمزة بين بين، وروي عن أبي جعفر وشيبة ضم الهاء وتشديد الزاي «هُزّاً»، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته، وقال‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏، ‏{‏أتتخذنا هزواً‏}‏، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين‏:‏ «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله»، وكما قال له الآخر‏:‏ «اعدل يا محمد»، وكلٌّ محتمل، والله أعلم‏.‏

وقول موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏، يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما الاستعاذة من الجهل من أن يخبر الله تعالى مستهزئاً، والآخر من الجهل كما جهلوا في قولهم ‏{‏أتتخذنا هزواً‏}‏ لمن يخبرهم عن الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

هذا تعنت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر فاستعرضوا بقرة فذبحوها لقضوا ما أمروا به، ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما‏.‏ ولغة بني عامر «ادعِ» بكسر العين، و‏{‏ما‏}‏ استفهام رفع بالابتداء، وهي خبره، ورفع ‏{‏فارض‏}‏ على النعت للبقرة على مذهب الأخفش، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره لا هي فارض، والفارض المسنة الهرمة التي لا تلد، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم، تقول فرضت تفرض بفتح العين في الماضي، فروضاً، ويقال فرضت بضم العين، ويقال لكل ما قدم وطال أمده فارض، وقال الشاعر ‏[‏العجاج‏]‏‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يا رب ذي ضغن عليَّ فارض *** له قروء كقروء الحائض

والبكر من البقر التي لم تلد من الصغر، وحكى ابن قتيبة أنها التي ولدت ولداً واحداً، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة، قاله مجاهد، وحكاه أهل اللغة، ومنه قول العرب‏:‏ العوان لا تعلم الخمرة‏.‏ وحرب عوان‏:‏ قد قوتل فيها مرتين فما زاد، ورفعت ‏{‏عوان‏}‏ على خبر ابتداء مضمر، تقديره هي عوان، وجمعها عون بسكون الواو، وسمع عون بتحريكها بالضم‏.‏

و ‏{‏بين‏}‏، بابها أن تضاف إلى اثنتين، وأضيفت هنا إلى ‏{‏ذلك‏}‏، إذ ذلك يشار به إلى المجملات، فذلك عند سيبويه منزلة ما ذكر، فهي إشارة إلى مفرد على بابه، وقد ذكر اثنان فجاءت أيضاً ‏{‏بين‏}‏ على بابها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فافعلوا ما تؤمرون‏}‏ تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت، فما تركوه، و‏{‏ما‏}‏ رفع بالابتداء، و‏{‏لونها‏}‏ خبره، وقال ابن زيد وجمهور الناس في قوله ‏{‏صفراء‏}‏، إنها كانت كلها صفراء، قال مكي رحمه الله عن بعضهم‏:‏ حتى القرن والظلف، وقال الحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير‏:‏ كانت صفراء القرن والظلف فقط، وقال الحسن أيضاً‏:‏ ‏{‏صفراء‏}‏ معناه سوداء، وهذا شاذ لا يستعمل مجازاً إلا في الإبل، وبه فسر قول الأعشى ميمون بن قيس‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

تلك خيلي منه وتلك ركابي *** هنَّ صفرٌ أولادُها كالزبيب

والفقوع‏:‏ نعت مختص بالصفرة، كما خص أحمر بقانئ، وأسود بحالك، وأبيض بناصع، وأخضر بناضر، و‏{‏لونها‏}‏ فاعل ب ‏{‏فاقع‏}‏‏.‏

و ‏{‏تسر الناظرين‏}‏ قال وهب بن منبه‏:‏ كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، فمعناه تعجب الناظرين، ولهذا قال ابن عباس وغيره‏:‏ الصفرة تسر النفس، وحض ابن عباس على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش، وحكي نهي ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهمّ، وقال أبو العالية والسدي‏:‏ ‏{‏تسر الناظرين‏}‏ معناه في سمنها ومنظرها كله، وسألوه بعد هذا كله عما هي سؤال متحيرين قد أحسوا بمقت المعصية، و‏{‏البقر‏}‏ جمع بقرة، وتجمع أيضاً على باقر، وبه قرأ ابن يعمر وعكرمة، وتجمع على بقير وبيقور، ولم يقرأ بهما فيما علمت، وقرأ السبعة‏:‏ «تشابه» فعل ماض، وقرأ الحسن «تشّابهُ» بشد الشين وضم الهاء، أصله تتشابه، وهي قراءة يحيى بن يعمر، فأدغم، وقرأ أيضاً «تَشَابهُ» بتخفيف الشين على حذف التاء الثانية، وقرأ ابن مسعود «يَشابهُ» بالياء وإدغام التاء، وحكى المهدي عن المعيطي «يشَّبَّهُ» بتشديد الشين والباء دون ألف، وحكى أبو عمرو الداني قراءة «متشبه» اسم فاعل من تَشَبَّه، وحكي أيضاً «يتشابهُ»‏.‏

وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ودليل ندم وحرص على موافقة الأمر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لولا ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبداً»، والضمير في ‏{‏إنا‏}‏، هو اسم ‏{‏إن‏}‏، و‏{‏مهتدون‏}‏ الخبر، واللام للتأكيد، والاستثناء اعتراض، قدم على ذكر الاهتداء، تهمماً به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏ذلول‏}‏‏:‏ مذللة بالعمل والرياضة، تقول بقرة مذللة بيِّنة الذِّل بكسر الذال، ورجل ذلول بين الذُّل بضم الذال، و‏{‏ذلول‏}‏ نعت ل ‏{‏بقرة‏}‏، أو على إضمار هي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ «لا ذلولَ» بنصب اللام‏.‏

و ‏{‏تثير الأرض‏}‏، معناه بالحراثة، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة، أي لا ذلول مثيرة، وقال قوم ‏{‏تثير‏}‏ فعل مستأنف، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها من نكرة، و‏{‏تسقي الحرث‏}‏ معناه بالسانية أو غيرها من الآلات، و‏{‏الحرث‏}‏ ما حرث وزرع‏.‏

و ‏{‏مسلمة‏}‏ بناء مبالغة من السلامة، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية‏:‏ معناه من العيوب، وقال مجاهد‏:‏ معناه من الشيات والألوان، وقال قوم‏:‏ معناه من العمل‏.‏

و ‏{‏لا شية فيها‏}‏‏:‏ أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره، والموشي المختلط الألوان، ومنه وشي الثوب، تزيينه بالألوان، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول، والثور الأشيه الذي فيه بلقة، يقال فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه، كل ذلك بمعنى البلقة‏.‏

وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يُسْرٌ، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم‏.‏

وقصة وجود هذه البقرة على ما روي، أن رجلاً من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة، فأرسلها في غيضة، وقال‏:‏ اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه‏:‏ إن أباك قد استودع الله عجلةً لك، فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها، وكانت مستوحشة، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها، وروت طائفة أنه كان رجل من بني إسرائيل براً بأبيه فنام أبوه يوماً وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفاً، فقال له ابن النائم‏:‏ اصبر حتى ينتبه أبي، وأنا آخذه منك بسبعين ألفاً، فقال له صاحب الجوهر‏:‏ نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفاً، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفاً، فقال له ابن النائم‏:‏ والله لا اشتريته منك بشيء براً بأبيه، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده، وقال قوم‏:‏ وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها، هذا معناه، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، وكانت قيمتها- على ما روي عن عكرمة- ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام، وقالوا‏:‏ إن هذا اشتط علينا، فقال لهم‏:‏ أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة السلماني، وقيل بوزنها مرتين، وقال السدي‏:‏ بوزنها عشر مرات، وقال مجاهد‏:‏ كانت لرجل يبر أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير، وحكى مكي‏:‏ أن هذه البقرة نزلت من السماء، ولم تكن من بقر الأرض، وحكى الطبري عن الحسن أنها كانت وحشية‏.‏

و ‏{‏الآن‏}‏ مبنيٌّ على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام، ألا ترى أنها لا تفارقه في الاستعمال، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف، ولأنه واقع موقع المبهم، إذ معناه هذا الوقت، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل، وقرئ «قالوا الآن» بسكون اللام وهمزة بعدها، «وقالوا الان» بمدة على الواو وفتح اللام دون همز، «وقالوا الآن» بحذف الواو من اللفظ دون همز، «وقالوا ألآن» بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل، كما تقول «يا الله»‏.‏

و ‏{‏جئت بالحق‏}‏ معناه- عند من جعلهم عصاة- بينت لنا غاية البيان، و‏{‏جئت بالحق‏}‏ الذي طلبناه، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق، ومعناه عند ابن زيد- الذي حمل محاورتهم على الكفر-‏:‏ الآن صدقت‏.‏ وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف، وقالوا‏:‏ هذه بقرة فلان، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن نحر أجزأت‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ عبارة عن تثبطهم في ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها، وقال غيره‏:‏ كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القتال، وقيل‏:‏ كان ذلك للمعهود من قلة انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء، وقد تقدم قصص القتيل الذي يراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قتلتم نفساً‏}‏، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم‏.‏

و «ادارأتم» أصله‏:‏ تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر الابتداء بمدغم، فجلبت ألف الوصل، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم قتل القتيل إلى بعض، قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

صَادَفَ درءُ السَّيْلِ دَرْءاً يَدْفَعُهْ *** وقال الآخر ‏[‏الخفيف‏]‏‏:‏

مدْرأٌ يدرأُ الخُصُومُ بقولٍ *** مِثْلَ حَدِّ الصِّمْصَامَةِ الهُنْدُواني

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ عائد على النفس وقيل على القتلة، وقرأ أبو حيوة وأبو السوار الغنوي «وإذ قتلتم نسمة فادّارأتم»، وقرأت فرقة «فتدارأتم» على الأصل، وموضع ‏{‏ما‏}‏ نصب بمخرج، والمكتوم هو أمر المقتول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اضربوه ببعضها‏}‏ آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل‏:‏ ضربوه، وقيل‏:‏ ضربوا قبره، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة، وقال القرظي‏:‏ لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد، وقال السدي‏:‏ ضرب باللحمة التي بين الكتفين، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني‏:‏ ضرب بالفخذ، وقيل‏:‏ ضرب باللسان، وقيل‏:‏ بالذنب، وقال أبو العالية‏:‏ بعظم من عظامها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يحيي الله الموتى‏}‏ الآية، الإشارة ب ‏{‏كذلك‏}‏ إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره‏:‏ فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبر، ودلالة على البعث في الآخرة‏:‏ وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اضربوه ببعضها‏}‏، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتاً كما كان، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قست‏}‏ أي صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، وقال ابن عباس‏:‏ المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي قال‏:‏ إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته موته أنكروا قتله، وقالوا‏:‏ كذب بعدما رأوا هذه الآية العظمى، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم، قال عبيدة السلماني‏:‏ ولم يرث قاتل من حينئذ‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وبمثله جاء شرعنا، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سبباً لأن لا يرث قاتل‏:‏ ثم ثبت ذلك الإسلام، كما ثبت كثيراً من نوازل الجاهلية، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما‏:‏ إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهي كالحجارة‏}‏ الآية، الكاف في موضع رفع خبر ل «هي»، تقديره‏:‏ فهي مثل الحجارة ‏{‏أو أشد‏}‏ مرتفع بالعطف على الكاف، ‏{‏أو‏}‏ على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي، و‏{‏قسوة‏}‏ نصب على التمييز، والعرف في ‏{‏أو‏}‏ أنها للشك، وذلك لا يصح في هذه الآية، واختلف في معنى ‏{‏أو‏}‏ هنا، فقالت طائفة، هي بمعنى الواو، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏آثماً أو كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏ أي وكفوراً، وكما قال الشاعر ‏[‏جرير‏]‏‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

نال الخلافة أو كانَتْ له قدراً *** كما أتى ربَّهُ موسى على قَدَر

أي وكانت له‏.‏ وقالت طائفة هي بمعنى بل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 147‏]‏ المعنى بل يزيدون، وقالت طائفة‏:‏ معناها التخيير، أي‏:‏ شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وقالت فرقة‏:‏ هي على بابها في الشك‏.‏ ومعناه‏:‏ عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هي على جهة الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي‏:‏

أحب محمّداً حباً شديداً *** وعباساً وحمزة أو عليّا

ولم يشك أبو الأسود، وإنما قصد الإبهام على السامع، وقد عورض أبو الأسود في هذا، فاحتجّ بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود، ولا يتم معنى الآية إلا ب «أو»، وقالت فرقة‏:‏ إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد، ومثل هذا قولك‏:‏ أطعمتك الحلو أو الحامض، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين، وقالت فرقة‏:‏ إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة يترجى لها الرجوع والإنابة، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته، فصارت أشد من الحجارة، فلم تخل أن كانت كالحجارة طوراً أو أشد طوراً، وقرأ أبو حيوة‏:‏ «قساوة»، والمعنى واحد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من الحجارة‏}‏ الآية، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة، وقال قتادة‏:‏ عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم، وقرأ قتادة‏:‏ «وإنْ» مخففة من الثقيلة، وكذلك في الثانية والثالثة، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد، في ‏{‏لما‏}‏، وما في موضع نصب اسم ل ‏{‏إن‏}‏، ودخلت اللام على اسم ‏{‏إن‏}‏ لمّا حال بينهما المجرور، ولو اتصل الاسم ب ‏{‏إن‏}‏ لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين، وقرأ مالك بن دينار‏:‏ «ينفجِر» بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم، ووحد الضمير في ‏{‏منه‏}‏ حملاً على لفظ «ما»، وقرأ أبي بن كعب والضحاك «منها الأنهار» حملاً على الحجارة، و‏{‏الأنهار‏}‏ جمع نهر وهو ما كثر ماؤه جرياً من الأخاديد، وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ «لمّا» بتشديد الميم في الموضعين، وهي قراءة غير متجهة، ‏{‏ويشقق‏}‏ أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهاراً، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح، وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون، وقيل في هبوط الحجارة تفيؤ ظلالها، وقيل المراد‏:‏ الجبل الذي جعله الله دكاً، وقيل‏:‏ إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعاً، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الجذع الذي أَنَّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لفظة الهبوط مجاز لما كانت الحجارة يعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب‏:‏ ناقة تاجرة أي‏:‏ تبعث من يراها على شرائها، وقال مجاهد، ما تدرى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا ‏{‏من خشية الله‏}‏، نزل بذلك القرآن، وقال مثله ابن جريج، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى ‏{‏يريد أن ينقض‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 77‏]‏، وكما قال زيد الخيل‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

بِجمعٍ تضِل البُلْقُ في حَجَراتِهِ *** ترى الأكمَ فيه سجداً للحوافرِ

وكما قال جرير‏:‏ والجبال الخشع، أي من رأى الحجر هابطاً تخيل فيه الخشية‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا قول ضعيف‏:‏ لأن براعة معنى الآية تختل به، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدراً ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة، و‏{‏بغافل‏}‏ في موضع نصب خبر ‏{‏ما‏}‏، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية، وقرأ ابن كثير «يعملون» بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم‏}‏ الآية، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطاب‏:‏ التقرير على أمر فيه بعد، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب، وقال مجاهد والسدي‏:‏ عني بالفريق هنا الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئاً حكماً أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها، وقال ابن إسحاق والربيع‏:‏ عُني السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ثم بدلوا بعد ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وفي هذا القول ضعف، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، وقرأ الأعمش، «كَلِمَ الله»، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باقٍ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم وأن ذلك ممكنٌ في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 78‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ وهم أيضاً إذ لقوا يفعلون هذا، فكيف يطمع في إيمانهم‏؟‏ ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفاً مقطوعاً من معنى الطمع، فيه كشف سرائرهم‏.‏

وورد في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن»، فقال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما‏:‏ اذهبوا وتحسسوا أخبار من آمن بمحمد وقولوا لهم آمنا واكفروا إذا رجعتم، فنزلت هذه الآية فيهم، وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في منافقين من اليهود، وروي عنه أيضاً أنها نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين نحن نؤمن أنه نبي ولكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا قال بعضهم‏:‏ لم تقرون بنبوته وقد كنا قبل نستفتح به‏؟‏ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه، وأصل ‏{‏خلا‏}‏ «خَلَوَ» تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، وقال أبو العالية وقتادة‏:‏ إن بعض اليهود تكلم بما في التوارة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كفرة الأحبار‏:‏ أتحدثون ‏{‏بما فتح الله عليكم‏}‏ أي عرفكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم فيحتجون عليكم إذ تقرون به ولا تؤمنون به‏؟‏، وقال السدي‏:‏ إ «ن بعض اليهود حكى لبعض المسلمين ما عذب به أسلافهم، فقال بعض الأحبار، ‏{‏أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ من العذاب، فيحتجون عليكم ويقولون نحن أكرم على الله حين لم يفعل بنا مثل هذا‏؟‏ وفتح على هذا التأويل بمعنى حكم، وقال مجاهد‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة‏:‏ يا إخوة الخنازير والقردة، فقال الأحبار لأتباعهم‏:‏ ما عرف هذا إلا من عندكم، أتحدثونهم‏؟‏ وقال ابن زيد‏:‏ كانوا إذا سئلوا عن شيء، قالوا في التوراة كذا وكذا، فكرهت الأحبار ذلك، ونهوا في الخلوة عنه، ففيه نزلت الآية‏.‏

والفتح في اللغة ينقسم أقساماً تجمعها بالمعنى التوسعة وإزالة الإبهام، وإلى هذا يرجع الحكم وغيره، والفتاح هو القاضي بلغة اليمن، و‏{‏يحاجوكم‏}‏ من الحجة، وأصله من حج إذا قصد، لأن المتحاجَّيْن كل واحد منهما يقصد غلبة الآخر، و‏{‏عند ربكم‏}‏ معناه في الآخرة، وقيل عند بمعنى في ربكم، أي فيكونون أَحق به، وقيل‏:‏ المعنى عند ذكر ربكم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ قيل‏:‏ هو من قول الأحبار للأتباع، وقيل‏:‏ هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال‏.‏ والعقل علوم ضرورية‏.‏

وقرأ الجمهور» أولا يعلمون «بالياء من أسفل، وقرأ ابن محيصن» أولا تعلمون «بالتاء خطاباً للمؤمنين، والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه قولهم آمنا، هذا في سائر اليهود، والذي أسره الأحبار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والمعرفة به، والذي أعلنوه الجحد به، ولفظ الآية يعم الجميع‏.‏

و ‏{‏أميون‏}‏ هنا عبارة عن جهلة بالتوراة، قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما‏:‏ المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال، وقيل‏:‏ المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين، وقال عكرمة والضحاك‏:‏ هم في الآية نصارى العرب، وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال‏:‏ هم المجوس‏.‏ والضمير في ‏{‏منهم‏}‏ على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين، قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وقول أبي العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «أميون» بتخفيف الميم، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسب إلى الأم‏:‏ إما لأنه بحَال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك، وقيل نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف، فإنها لا تقرأ لا تكتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في العرب‏:‏ «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب»، والحديث‏:‏ والألف واللام في ‏{‏الكتاب‏}‏ للعهد، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد‏.‏ والأماني جمع أمنية، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في بعض ما روي عنه «أماني» بتخفيف الياء، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة، ويجمع هذا الوزن على أفاعل، وعلى هذا يجب تخفيف الياء، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء «أماني»‏.‏

واختلف في معنى ‏{‏أماني‏}‏، فقالت طائفة‏:‏ هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئاً سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب، وقال آخرون‏:‏ هي من تمنى إذا تلا، ومنه قوله تعالى ‏{‏إلا إذا ألقى الشيطان في أمنيته‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ ومنه قول الشاعر ‏[‏كعب بن مالك‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تمنى كتاب الله أول ليله *** وآخرة لاقى حمام المقادِرِ

فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لها بصحته، وقال الطبري‏:‏ هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه‏:‏ «ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت»‏.‏

فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب، وإن نافية بمعنى ما، والظن هنا على بابه في الميل إلى أحد الجائزين‏.‏