فصل: تفسير الآيات رقم (79- 82)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 82‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء، قال الخليل‏:‏ الويل شدة الشر، وقال الأصمعي‏:‏ الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له، ويجمع على ويلات، والأحسن فيه إذا انفصل الرفع، لأنه يقتضي الوقوع، ويصح النصب على معنى الدعاء أي ألزمه الله ويلاً، وويل وويح وويس وويب تتقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم، وروى سفيان وعطاء بن يسار أن الويل في هذه الآية‏:‏ واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وادٍ في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفاً، وقال أبو عياض‏:‏ إنه صهريج في جهنم، وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من جبال النار‏.‏ وحكى الزهراوي عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم، و‏{‏الذين يكتبون‏}‏‏:‏ هم الأحبار الذين بدلوا التوراة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأيديهم‏}‏ بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله، وفرق بين من كتب وبين من أمر، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله، وإن كان رأياً له، وقال ابن السراج‏:‏ هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم، والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليستديموا رياستهم ومكاسبهم، وقال ابن إسحاق‏:‏ كانت صفته في التوراة أسمر ربعة، فردوه آدم طويلاً، وذكر السدي أنهم كانوا يكتبون كتباً يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعرب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند الله، وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم‏.‏

والثمن قيل عرض الدنيا، وقيل الرشا والمآكل التي كانت لهم، ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراماً، وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها، ‏{‏يكسبون‏}‏ معناه من المعاصي والخطايا، وقيل من المال الذي تضمنه ذكر الثمن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن تمسَّنا النارُ‏}‏ الآية، روى ابن زيد وغيره أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود من أهل النار‏؟‏ فقالوا‏:‏ نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال لهم‏:‏ كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم، فنزلت هذه الآية، ويقال إن السبب أن اليهود قالت‏:‏ إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوماً عدد عبادتهم العجل، قاله ابن عباس وقتادة، وقالت طائفة‏:‏ قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وابن جريج‏:‏ إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوماً‏.‏

و ‏{‏اتخذتمْ‏}‏ أصله «ايتخذتم»، وزنه افتعلتم من الأخذ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء «ايتخذتم» فاضطربت الياء في التصريف فجاءت ألفاً في ياتخذوا وواواً في «موتخذ» فبدلت بحرف جلد ثابت وهو التاء وأدغمت، فلما دخلت في هذه الآية ألف التقرير استغني عن ألف الوصل، ومذهب أبي علي أن ‏{‏اتخذتم‏}‏ من «تخذ» لا من «أخذ» وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏

وقال أهل التفسير‏:‏ العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والوعد، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ معناه هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار‏؟‏، فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى‏:‏ هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون‏؟‏ وعلى التأويل الثاني يجيء‏:‏ هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون‏؟‏، وقوله ‏{‏فلن يخلف الله عهده‏}‏ اعتراض أثناء الكلام‏.‏

و ‏{‏بلى‏}‏ رد بعد النفي بمنزلة نعم بعد الإيجاب، وقال الكوفيون‏:‏ أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها، وقال سيبويه‏:‏ هي حرف مثل بل وغيره، وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل ‏{‏لن تمسنا النار‏}‏ فرد الله عليهم وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان، و‏{‏من‏}‏ شرط في موضع رفع بالابتداء، و«أولئك» ابتداء ثان، و‏{‏أصحاب‏}‏ خبره، والجملة خبر الأول، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ السيئة الشرك كقوله تعالى ‏{‏ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 90‏]‏، والخطيئات كبائر الذنوب، وقال قوم‏:‏ «خطيئته» بالإفراد، وقال قوم‏:‏ السيئةُ هنا الكبائر، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس، كقوله تعالى ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏، والخطيئة الكفر، ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء، وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم‏:‏ معنى الآية مات بذنوب لم يتب منها، وقال الربيع أيضاً‏:‏ المعنى مات على كفره، وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي‏:‏ المعنى كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة، والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين، ومستعار بمعنى الطول والدوام في العصاة وإن علم انقطاعه، كما يقال ملك خالد ويدعى للملك بالخلد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ الآية‏.‏ يدل هذا التقسيم على أن قوله ‏{‏من كسب سيئة‏}‏ الآية في الكفار لا في العصاة، ويدل على ذلك أيضاً قوله‏:‏ ‏{‏أحاطت‏}‏ لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته، ويدل على ذلك أيضاً أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة فهم المراد بالخلود، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ «واذكروا إذ أخذنا»، وقال مكي رحمه الله‏:‏ «هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر»، وهذا ضعيف، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، وأخذ الميثاق قول، فالمعنى قلنا لهم ‏{‏لا تعبدون‏}‏، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «لا يعبدون» بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، حكاية ما قيل لهم، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «لا تعبدوا» على النهي‏.‏ قال سيبويه‏:‏ ‏{‏لا تعبدون‏}‏ متعلق لقسم، والمعنى وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون، وقالت طائفة‏:‏ تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها، ‏{‏فلا تعبدون‏}‏ على هذا معمول لحرف النصب، وحكي عن قطرب أن ‏{‏لا تعبدون إلا الله‏}‏ في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحدين، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة، وقال قوم ‏{‏لا تعبدون إلا الله‏}‏ نهي في صيغة خبر، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي لا تعبدوا‏.‏

والباء في قوله ‏{‏وبالوالدين‏}‏ قيل هي متعلقة بالميثاق عطفاً على الباء المقدرة أولاً على قول من قال التقدير بأن لا تعبدوا، وقيل‏:‏ تتعلق بقوله و‏{‏إحساناً‏}‏ والتقدير قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأحسنوا إحساناً بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له، وقيل تتعلق الباء بأحسنوا المقدر والمعنى وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وهذا قول حسن، وقدم اللفظ ‏{‏وبالوالدين‏}‏ تهمماً فهو نحو قوله تعالى ‏{‏إياك نعبد‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها، ‏{‏وذي القربى‏}‏ عطف على الوالدين، و‏{‏القربى‏}‏ بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم، ‏{‏واليتامى‏}‏‏:‏ جمع يتيم كنديم وندامى، واليتم في بني آدم فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال عليه السلام‏:‏ «لا يتم بعد بلوغ»، وحكى الماوردي أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم، ‏{‏والمساكين‏}‏‏:‏ جمع مسكين وهو الذي لا شيء له، لأنه مشتق من السكون وقد قيل‏:‏ إن المسكين هو الذي له بلغة من العيش، وهو على هذا مشتق من السكن، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولوا للناس حسناً‏}‏، أمر عطف على ما تضمنه ‏{‏لا تعبدون إلا الله‏}‏ وما بعده من معنى الأمر والنهي، أو على أحسنوا المقدر في قوله ‏{‏وبالوالدين‏}‏، وقرأ حمزة والكسائي «حَسَناً» بفتح الحاء والسين، قال الأخفش‏:‏ هما بمعنى واحد كالبخل والبخل، قال الزجاج وغيره‏:‏ بل المعنى في القراءتين وقولوا قولاً حسناً بفتح السين أو قولاً ذا «حُسن» بضم الحاء، وقرأ قوم «حسنى» مثل فعلى، ورده سيبويه لأنه أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدراً كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح «حُسُناً» بضم الحاء والسين، وقال ابن عباس‏:‏ معنى الكلام قولوا لهم لا إلا إلا الله ومروهم بها، وقال ابن جريج‏:‏ قولوا لهم حسناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري‏:‏ معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال أبو العالية‏:‏ معناه قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق، وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله تعالى ‏{‏وقولوا للناس حسناً‏}‏‏:‏ منسوخ بآية السيف‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، وقد تقدم القول في إقامة الصلاة، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال‏:‏ «الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم توليتم‏}‏ الآية خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره، و‏{‏ثم‏}‏ مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف، وضمت التاء الأخيرة من ‏{‏توليتم‏}‏ لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم، و‏{‏قليلاً‏}‏ نصب على الاستثناء قال سيبويه‏:‏ المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به، قال المبرد‏:‏ هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا، والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديماً من أسلافهم وحديثاً كابن سلام وغيره، والقلة على هذا هي في عدد الأشخاص، ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى، وقرأ قوم «إلا قليلٌ» برفع القليل، ورويت عن أبي عمرو، وهذا على بدل قليل من الضمير في ‏{‏توليتم‏}‏، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن ‏{‏توليتم‏}‏ معناه النفي كأنه قال ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل، والسفك صب الدم وسرد الكلام، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفُكون» بضم الفاء، وقرأ أبو نهيك «تُسفِّكون» بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها، وإعراب ‏{‏لا تسفكون‏}‏ كما تقدم في ‏{‏لا تعبدون‏}‏، و‏{‏دماءكم‏}‏ جمع دم، وهو اسم منقوص أصله دمي، وتثنيته دميان، وقيل أصله دمْي بسكون الميم، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏ولا تخرجون أنفسكم من دياركم‏}‏ معناه ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغي، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول، وقيل ‏{‏لا تسفكون دماءكم‏}‏ أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصاً، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره، وهذا تأويل فيه تكلف، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏ثم أقررتم‏}‏ أي خلفاً بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزماً‏.‏

وقوله ‏{‏وأنتم تشهدون‏}‏ قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏هؤلاء‏}‏ دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل رداً إلى الأسلاف، قيل‏:‏ تقدير الكلام يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات، لا تقول هذا أقبل، وقيل تقديره أعني هؤلاء، وقيل ‏{‏هؤلاء‏}‏ بمعنى الذين، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون، ف ‏{‏تقتلون‏}‏ صلة ‏{‏لهؤلاء‏}‏، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري‏.‏

عدسْ ما لعبّاد عليك إمارة *** نجوت وهذا تحملين طليق

وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ رفع بالابتداء و‏{‏أنتم‏}‏ خبر مقدم، و‏{‏تقتلون‏}‏ حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه، كما تقول هذا زيد منطلقاً، وأنت قد قصدت الإخبار بالنطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد‏.‏

وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضاً وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعاً لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تُقتِّلون» بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة، والديار مباني الإقامة، وقال الخليل‏:‏ محلة القوم دارهم، وقرأ حمزة وعاصم والسكائي «تظاهرون» بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون، وقرأ بقية السبعة «تظَّاهرون» بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء، وقرأ أبو حيوة «تُظهِرون» بضم التاء وكسر الهاء، وقرأ مجاهد وقتادة «تَظَّهَرَّون» بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف، ورويت هذه عن أبي عمرو، ومعنى ذلك على كل قراءة تتعاونون، وهو مأخوذ من الظهر، كأن المتظاهريْن يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي، والمعنى بمكتسبات الإثم، ‏{‏والعدوان‏}‏ تجاوز الحدود والظلم، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج، وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم»، وقرأ نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم»، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم»، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم»‏.‏ و‏{‏أسارى‏}‏ جمع أسير، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد، سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقاً، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير فعيل بمعنى مفعول، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى، والأقيس فيه أسرى، لأن فعيلاً بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى، كقتلى وجرحى، والأصل في فعلان أن يجمع على «فَعالى» بفتح الفاء و«فُعالى» بضمها كسكران وكسلان وسُكَارى وكُسَالى، قال سيبويه‏:‏ فقالوا في جمع كسلان كسْلى، شبّهوه بأسرى كما قالوا ‏{‏أسارى‏}‏ شبهوه بكسالى، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرهاً كما يدخل الكسل، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء‏.‏

و ‏{‏تفَادوهم‏}‏ معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً، قاله أبو علي، قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، تقول‏:‏ فديت زيداً بمال وفاديته بمال، وقال قوم‏:‏ هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى، قال أبو علي‏:‏ كل واحد من الفريقين فعل، الأسر دفع الأسير، والمأسور منه دفع أيضاً إما أسيراً وإما غيره، والمفعول الثاني محذوف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو محرم‏}‏ قيل في ‏{‏هو‏}‏ إنه ضمير الأمر، تقديره والأمر محرم عليكم، و‏{‏إخراجهم‏}‏ في هذا القول بدل من ‏{‏هو‏}‏، وقيل ‏{‏هو‏}‏ فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و‏{‏محرم‏}‏ على هذا ابتداء، و‏{‏إخراجهم‏}‏ خبره، وقيل هو الضمير المقدر في ‏{‏محرم‏}‏ قدم وأظهر، وقيل هو ضمير الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب‏}‏ يعني التوراة، والذي آمنوا به فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضاً وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم، وبيان لقبح فعلهم‏.‏

وروي أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه، فقال له ابن سلام‏:‏ أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن‏.‏

ثم توعدهم عز وجل‏:‏ والخزي‏:‏ الفضيحة والعقوبة، يقال‏:‏ خزي الرجل يخرى خزياً إذا ذل من الفضحية، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا‏.‏ واختلف ما المراد بالخزي ها هنا فقيل‏:‏ القصاص فيمن قتل، وقيل ضرب الجزية عليهم غابر الدهر، وقيل قتل قريظة، وإجلاء النضير، وقيل‏:‏ الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو‏.‏ والدنيا مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقاً بين الأسماء والصفات‏.‏ وأشد العذاب الخلود في جهنم، وقرأ الحسن وابن هرمز «تردون» بتاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما الله بغافل‏}‏ الآية، فرأ نافع وابن كثير «يعملون» بياء على ذكر الغائب فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد، يريد‏:‏ وبما يجري مجراه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 88‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا، وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز الشراء على ان يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها، ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة، و‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة، ونصبه على المفعول الثاني ل ‏{‏آتينا‏}‏، ‏{‏وقفينا‏}‏ مأخوذ من القفا، تقول قفيت فلاناً بفلان إذا جئت به من قبل قفاه، ومنه قفا يقفو إذا اتبع‏.‏ وهذه الأية مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أرسلنا رسلنا تترا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 144‏]‏، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «بالرسْل» ساكنة السين، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم، و‏{‏البينات‏}‏ الحجج التي أعطاها الله عيسى، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير، وقيل هي الإنجيل، والآية تعم جميع ذلك، و‏{‏أيدناه‏}‏ معناه قويناه، والأيد القوة، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه»‏.‏ وقرأ ابن كثير ومجاهد «روح القدْس» بسكون الدال‏.‏ وقرأ الجمهور بضم القاف والدال، وفيه لغة فتحهما، وقرأ أبو حيوة «بروح القدوس» بواو، وقال ابن عباس رضي الله عنه «روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى»، وقال ابن زيد‏:‏ «هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحاً» وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة‏:‏ «روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم»، وهذا أصح الأقوال‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت‏:‏ «اهج قريشاً وروح القدس معك» ومرة قال له «وجبريل معك»، وقال الربيع ومجاهد‏:‏ ‏{‏القدس‏}‏ اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى، وقيل ‏{‏القدس‏}‏ الطهارة، وقيل ‏{‏القدس‏}‏ البركة‏.‏

وكلما ظرف، والعامل فيه ‏{‏استكبرتم‏}‏، وظاهر الكلام الاستفهام، ومعناه التوبيخ والتقرير، ويتضمن أيضاً الخبر عنهم، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل‏.‏

ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي سبعين نبياً ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، وفي ‏{‏تهوى‏}‏ ضمير من صلة ما لطول اللفظ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر‏:‏ «فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت»، و‏{‏استكبرتم‏}‏ من الكبر، ‏{‏وفريقاً‏}‏ مفعول مقدم‏.‏

وقرأ جمهور القراء «غلْف» بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل «حمْر» و«صفْر»، والمعنى قلوبنا عليها غَلَف وغشاوات فهي لا تفقه، قاله ابن عباس، وقال قتادة‏:‏ «المعنى عليها طابع»، وقالت طائفة‏:‏ غلْف بسكون اللام جمع غلاف، أصله غلّف بتثقيل اللام فخفف‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر‏.‏ وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن «غلّف» بتثقيل اللام جمع غلاف، ورويت عن أبي عمرو، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏، فرد الله تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بل لعنهم الله بكفرهم‏}‏، و‏{‏بل‏}‏ في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه، واللعن الإبعاد والطرد، و‏{‏قليلاً‏}‏ نعت لمصدر محذوف تقديره فإيماناً قليلاً ما يؤمنون، والضمير في ‏{‏يؤمنون‏}‏ لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان‏:‏ إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى قتادة، وإما لأن وقت إيمانهم عندما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا بعد ذلك، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيماناً قليلاً، وعلى الذي قبله فوقتاً قليلاً، وعلى الذي قبله فعدداً من الرجال قليلاً، و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ زائدة مؤكدة، و‏{‏قليلاً‏}‏ نصب ب ‏{‏يؤمنون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 91‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

الكتاب القرآن، و‏{‏مصدق لما معهم‏}‏ يعني التوراة، وروي أن في مصحف أبي بن كعب «مصدقاً» بالنصب‏.‏

و ‏{‏يستفتحون‏}‏ معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم‏:‏ لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به و‏{‏يستفتحون‏}‏ معناه يستنصرون، وفي الحديث‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عيله وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين»، وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث، وما عرفوا أنه محمد عليه السلام وشرعه، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم، وان كفرهم كان مع معرفة ومعاندة، «ولعنة الله»‏:‏ معناه إبعاده لهم وخزيهم لذلك‏.‏

واختلفت النحاة في جواب ‏{‏لما‏}‏ و‏{‏لِما‏}‏ الثانية في هذه الآية‏.‏ فقال أبو العباس المبرد‏:‏ جوابهما في قولَه‏:‏ ‏{‏كَفروا‏}‏، وأعيدت ‏{‏لما‏}‏ الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقريراً للذنب، وتأكيداً له، وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏لما‏}‏ الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه‏؟‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فكأنه محذوف، وقال الفراء‏:‏ جواب ‏{‏لما‏}‏ الأولى في الفاء وما بعدها، وجواب ‏{‏لما‏}‏ الثانية ‏{‏كفروا‏}‏‏.‏

«وبيس» أصله «بئس» سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها، ويقال في «بئس» «بيس» اتباعاً للكسرة، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح، واختلف النحويون في ‏{‏بيسما‏}‏ في هذا الموضع، فمذهب سيبويه أن «ما» فاعلة ببيس، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما» في الإبهام، فالتقدير على هذا القول‏:‏ بيس الذي ‏{‏اشتروا به أنفسهم أن يكفروا‏}‏، كقولك‏:‏ بيس الرجل زيد، و«ما» في هذا القول موصولة، وقال الأخفش‏:‏ «ما» في موضع نصب على التمييز كقولك «بيس رجلاً زيد»، فالتقدير «بيس شيئاً أن يكفروا»، و‏{‏اشتروا به أنفسهم‏}‏ في هذا القول صفة «ما»، وقال الفراء «بيسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا»، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل، و«ما» إنما تكف أبداً حروفاً، وقال الكسائي‏:‏ «ما»، و‏{‏اشتروا‏}‏ بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا، وهذا أيضاً معترض لأن «بيس» لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير، وقال الكسائي أيضاً‏:‏ إن «ما» في موضع نصب على التفسير وثم «ما» أخرى مضمرة، فالتقدير بيس شيئاً ما اشتروا به أنفسهم، و‏{‏أن يكفروا‏}‏ في هذا القول بدل من «ما» المضمرة، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون ‏{‏أن يكفروا‏}‏ في موضع خفض بدلاً من الضمير في ‏{‏به‏}‏، وأما في القولين الأولين ف ‏{‏أن‏}‏ ‏{‏يكفروا‏}‏ ابتداء وخبره فيما قبله، و‏{‏اشتروا‏}‏ بمعنى باعوا، يقال‏:‏ شرى واشترى بمعنى باع، وبمعنى ابتاع، و‏{‏بما أنزل الله‏}‏ يعني به القرآن، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل، و‏{‏بغياً‏}‏ مفعول من أجله، وقيل نصب على المصدر، و‏{‏أن ينزل‏}‏ نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل‏.‏

وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أن ينزل» بالتخفيف في النون والزاي، و‏{‏من فضله‏}‏ يعني من النبوة والرسالة‏.‏ و‏{‏من يشاء‏}‏ يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب‏.‏ ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغياً، والله قد تفضل عليه، و«باؤوا» معناه‏:‏ مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به، و‏{‏يغضب‏}‏ معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم، قيل لعبادتهم العجل، وقيل لقولهم عزير ابن الله، وقيل لكفرهم بعيسى عليه السلام‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ فالمعنى على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها‏.‏

وقال قوم‏:‏ المراد بقوله ‏{‏بغضب على غضب‏}‏ التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين، و‏{‏مهين‏}‏ مأخوذ من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه بل هو تطهير له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ يعني‏:‏ اليهود أنهم إذ قيل لهم‏:‏ آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏قالوا نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ يعنون التوراة وما وراءه‏.‏ قال قتادة‏:‏ أي ما بعده، وقال الفراء، أي ما سواه ويعني به القرآن، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلاً فأجاد يقال له ما وراء ما أتيت به شيء، أي ليس يأتي بعده‏.‏ ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق، و‏{‏مصدقاً‏}‏ حال مؤكدة عند سيبويه، وهي غير منتقلة، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة‏.‏

‏[‏البسيط‏]‏‏:‏

أنا ابن دارة معروفاً بها حسبي *** وهل لدارة يا للنّاس من عار

و ‏{‏لما معهم‏}‏ يريد به التوراة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فلم تقتلون‏}‏ الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك، واحتجاج عليهم‏.‏ ولا يجوز الوقف على ‏{‏فلم‏}‏ لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم‏.‏ وخاطب الله من حضر محمداً صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم‏.‏ وجاء ‏{‏تقتلون‏}‏ بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله ‏{‏من قبل‏}‏ وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي‏.‏ قال الحطيئة ‏[‏الكامل أخذ مضمر‏]‏‏.‏

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر

وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع‏.‏ وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام الأمر مستمر‏.‏ ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، و‏{‏إن كنتم‏}‏ شرط والجواب متقدم، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ نافية بمعنى ما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 95‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏92‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏93‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

البينات التوراة والعصا وفرق البحر وغير ذلك من آيات موسى عليه السلام وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اتخذتم‏}‏ تدل ثم على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم في دينهم، وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل، والضمير في قوله ‏{‏من بعده‏}‏ عائد على موسى عليه السلام، أي من بعده حين غاب عنكم في المناجاة، ويحتمل أن يعود الضمير في ‏{‏بعده‏}‏ على المجيء‏.‏ وهذه الآية رد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل، وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ يعني التوراة والشرع، و‏{‏بقوة‏}‏ أي بعزم ونشاط وجد‏.‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ معناه هنا‏:‏ وأطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط‏.‏

وقالت طائفة من المفسرين‏:‏ إنهم قالوا ‏{‏سمعنا وعصينا‏}‏‏.‏ ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ ذلك مجاز ولم ينطقوا ب ‏{‏سمعنا وعصينا‏}‏، ولكن فعلهم اقتضاه، كما قال الشاعر ‏[‏الرجز‏]‏‏:‏

امتلأ الحوض وقال قطني *** وهذا أيضاً احتجاج عليهم في كذب قولهم ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم‏}‏ التقدير حب العجل، والمعنى جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وقال قوم‏:‏ إن معنى قوله ‏{‏وأشربوا في قلوبهم العجل‏}‏ شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه في الماء، وقيل لبني إسرائيل‏:‏ اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا قول يرده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم‏}‏، وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن، وقوله تعالى ‏{‏بكفرهم‏}‏ يحتمل أن تكون باء السبب، ويحتمل أن تكون بمعنى مع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بِئسما‏}‏ الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم بأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏، و«ما» في موضع رفع والتقدير‏:‏ بئس الشيء قتل واتخاذ عجل وقول ‏{‏سمعنا وعصينا‏}‏، يجوز أن تكون «ما» في موضع نصب، و‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ شرط‏.‏ وقد يأتي الشرط والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إن كنت قلته فقد علمته‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه إقامة حجة بقياس بيّن، وقال قوم ‏{‏إن‏}‏ هنا نافية بمنزلة «ما» كالتي تقدمت، وقرأ الحسن ومسلم بن جندب‏:‏ «يأمركم بهو إيمانكم» برفع الهاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كانت لكم الدار الآخرة‏}‏ الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم، والمعنى‏:‏ إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها ‏{‏فتمنوا الموت‏}‏، ‏{‏الدار‏}‏ اسم ‏{‏كانت‏}‏، و‏{‏خالصة‏}‏ خبرها، ويجوز أن يكون نصب ‏{‏خالصة‏}‏ على الحال، و‏{‏عند الله‏}‏ خبر كان، و‏{‏من دون الناس‏}‏‏:‏ يحتمل أن يراد ب ‏{‏الناس‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم التام وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من «تمنوا» للالتقاء، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ «تمنوا الموت» بفتح الواو، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع، وقراءة الجماعة بضم الواو‏.‏ وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قالت‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه، وشبه ذلك من القول، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه، فرقاً من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكذبهم في قولهم‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه، وحرصاً منهم على الحياة‏.‏

وقيل إن الله تعالى منعهم من التمني وقصرهم على الإمساك عنه، لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمراد بقوله «تمنوا» أريدوه بقلوبكم واسألوه، هذا قول جماعة من المفسرين، وقال ابن عباس‏:‏ المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب، وقال أيضاً هو وغيره‏:‏ إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم، وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت بموته‏.‏ والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة، وقالت فرقة‏:‏ إن سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد به هلاك الفريق المكذب أو قطع حجتهم، لا أن علته قولهم نحن أبناء الله‏.‏

ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم وأنهم لا يتمنونه، و‏{‏أبداً‏}‏ ظرف زمان وإذا كانت «ما» بمعنى الذي فتحتاج إلى عائد تقديره قدمته، وإذا كانت مع قدمت بمثابة المصدر غنيت عن الضمير، هذا قول سيبويه، والأخفش يرى الضمير في المصدرية، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي وأسند تقديمها إليها إذ الأكثر من كسب العبد الخير والشر إنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عليم بالظالمين‏}‏ ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 99‏]‏

‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏97‏)‏ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏98‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

«وجد» في هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين لأنها من أفعال النفس، ولذلك صح تعديها إلى ضمير المتكلم في قول الشاعر‏:‏

تَلَفَّتُّ نحو الحيِّ حتَّى وجدتُني *** وَجِعْتُ من الإصغاءِ لِيتاً وأخدعا

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الضب‏:‏ «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم وأن لا خير لهم عند الله تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الذين أشركوا‏}‏ قيل المعنى وأحرص من الذين أشركوا، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، ألا ترى إلى قول امرئ القيس ‏[‏الطويل‏]‏‏:‏

تمتّعْ من الدنيا فإنك فان *** والضمير في ‏{‏أحدهم‏}‏ يعود في هذا القول على اليهود، وقيل إن الكلام تم في قوله ‏{‏حياة‏}‏، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين أنهم ‏{‏يود أحدهم‏}‏ وهي المجوس، لأن تشميتهم للعاطس لفظ بلغتهم معناه «عِشْ ألف سنة» فكأن الكلام‏:‏ ومن المشركين قوم ‏{‏يود أحدهم‏}‏، وفي هذا القول تشبيه بني إسرئيل بهذه الفرقة من المشركين، وقصد «الألف» بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو بمزحزحه‏}‏‏:‏ اختلف النحاة في ‏{‏هو‏}‏، فقيل هو ضمير الأحد المتقدم الذكر، فالتقدير وما أحدهم بمزحزحه وخبر الابتداء في المجرور، و‏{‏أن يعمر‏}‏ فاعل بمزحزح، وقالت فرقة هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه والخبر في المجرور، ‏{‏أن يعمر‏}‏ بدل من التعمير في هذا القول، وقالت فرقة ‏{‏هو‏}‏ ضمير الأمر والشأن، وقد رد هذا القول بما حفظ عن النحاة من أن الأمر والشأن إنما يفسر بجملة سالمة من حرف جر، وقد جوز أبو علي ذلك في بعض مسائله الحلبيات، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت هو عماد، وقيل ‏{‏ما‏}‏ عاملة حجازية و‏{‏هو‏}‏ اسمها والخبر في ‏{‏بمزحزحه‏}‏، والزحزحة الإبعاد والتنحية‏.‏

وفي قوله ‏{‏والله بصير بما يعملون‏}‏ وعيد، والجمهور على قراءة «يعملون» بالياء من أسفل، وقرأ قتادة والأعرج ويعقوب «تعملون» بالتاء من فوق، وهذا على الرجوع إلى خطاب المتوعدين من بني إسرائيل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من كان عدواً لجبريل‏}‏ الآية‏:‏ نزل على سبب لم يتقدم له ذكر فيما مضى من الآيات، ولكن أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت‏:‏ جبريل عدونا، واختلف في كيفية ذلك، فقيل إن يهود فدك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نسألك عن أربعة أشياء فإن عرفتها اتبعناك، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، فقال‏:‏ لحوم الإبل وألبانها، وسألوه عن الشبه في الولد، فقال‏:‏ أي ماء علا كان الشبه له، وسألوه عن نومه، فقال‏:‏ تنام عيني ولا ينام قلبي، وسألوه عمن يجيئه من الملائكة، فقال‏:‏ جبريل، فلما ذكره قالوا ذاك عدونا، لأنه ملك الحرب والشدائد والجدب، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة والخصب والأمطار لاتبعناك، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتكرر على بيت المدارس فاستحلفتهم يوماً بالذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتعلمون أن محمداً نبي‏؟‏ قالوا نعم، قال‏:‏ فلم تهلكون في تكذبيه، قالوا‏:‏ صاحبه جبريل وهو عدونا، وذكر أنهم قالوا سبب عداوتهم له أنه حمى بختنصر حين بعثوا إليه قبل أن يملك من يقتله، فنزلت هذه الآية لقولهم‏.‏

وفي جبريل لغات‏:‏ «جِبرِيل» بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، و«جَبرِيل» بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه أنه قال‏:‏ «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكال فلا أزال أقرؤهما أبداً كذلك»، وجَبرَيل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام وبها قرأ عاصم، و«جَبرَءيل» بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء وياء بين الهمزة واللام، وبها قرأ حمزة والكسائي وحكاها الكسائي عن عاصم، «وجبرائل» بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة، و«جبرائيل» بزيادة ياء بعد الهمزة، و«جبراييل» بياءين وبها قرأ الأعمش، و«جَبرَئلّ» بفتح الجيم والراء وهمزة ولام مشددة، وبها قرأ يحيى بن يعمر، و«جبرال» لغة فيه، و«جِبرِين» بكسر الجيم والراء وياء ونون، قال الطبري‏:‏ «هي لغة بني أسد» ولم يقرأ بها، و«جبريل» اسم أعجمي عربته العرب فلها فيه هذه اللغات، فبعضها هي موجودة في أبنية العرب، وتلك أدخل في التعريب كجبريل الذي هو كقنديل، وبعضها خارجة عن أبنية العرب فذلك كمثل ما عربته العرب ولم تدخله في بناء كإبريسم وفرند وآجر ونحوه‏.‏

وذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن «جبر» و«ميك» و«سراف» هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك، وإيل اسم الله تعالى، ويقال فيه إلّ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة‏:‏ هذا كلام لم يخرج من إلّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه نزّله على قلبك‏}‏ الضمير في ‏{‏فإنه‏}‏ عائد على الله عز وجل، والضمير في ‏{‏نزّله‏}‏ عائد على جبريل صلى الله عليه وسلم، والمعنى بالقرآن وسائر الوحي، وقيل‏:‏ الضمير في «إنه» عائد على جبريل وفي ‏{‏نزله‏}‏ على القرآن، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف، وجاءت المخاطبة بالكاف في ‏{‏قلبك‏}‏ اتساعاً في العبارة إذ ليس ثم من يخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكاف، وإنما يجيء قوله‏:‏ فأنه نزله على قلبي، لكن حسن هذا إذ يحسن في الكلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له، كما تقول لرجل‏:‏ قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هي الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق ‏[‏الطويل‏]‏

ألم تَرَ أنّي يوم جو سويقة *** بكيت فنادتْني هنيدةُ ما ليا

فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة «ما لك»، و‏{‏بإذن الله‏}‏ معناه‏:‏ بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، و‏{‏مصدقاً‏}‏ حال من ضمير القرآن في ‏{‏نزله‏}‏ و‏{‏ما بين يديه‏}‏‏:‏ ما تقدمه من كتب الله تعالى، ‏{‏هدى‏}‏ إرشاد، والبشرى‏:‏ أكثر استعمالها في الخير، ولا تجيء في الشر إلا مقيدة به، ومقصد هذه الآية‏:‏ تشريف جبريل صلى الله عليه وسلم وذم معاديه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان عدواً لله‏}‏ الآية وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم، وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ومعاداة أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه، وذكر جبريل وميكائيل وقد كان ذكر الملائكة عمهما تشريفاً لهما، وقيل خصا لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، وقرأ نافع «ميكائل» بهمزة دون ياء، وقرأ بها ابن كثير في بعض ما روي عنه، وقرأ ابن عامر وابن كثير أيضاً وحمزة والكسائي، «ميكائيل» بياء بعد الهمزة، وقرأ أبو عمرو وعاصم «ميكال»، ورويت عن ابن كثير منذ رآها في النوم كما ذكرنا، وقرأ ابن محيصن «ميكئل» بهمزة دون ألف، وقرأ الأعمش «ميكاييل» بياءين، وظهر الاسم في قوله‏:‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ لئلا يشكل عود الضمير، وجاءت العبارة بعموم الكافرين لأن عود الضمير على من يشكل سواء أفردته أو جمعته، ولو لم نبال بالاشكال وقلنا المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم، ويحتمل أن الله تعالى قد علم أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن تطلق عليه عداوة الله للمآل‏.‏

وروي أن رجلاً من اليهود لقي عمر بن الخطاب فقال له‏:‏ أرأيت جبريل الذي يزعم صاحبك أنه يجيئه ذلك عدونا، فقال له عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏من كان عدواً لله‏}‏ إلى آخر الآية، فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله وهذا الخبر يضعف من جهة معناه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليك آيات بينات‏}‏، ذكر الطبري أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا محمد ما جئت بآية بينة‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ و‏{‏الفاسقون‏}‏ هنا الخارجون عن الإيمان، فهو فسق الكفر، والتقدير‏:‏ ‏{‏ما يكفر بها‏}‏ أحد ‏{‏إلا الفاسقون‏}‏، لأن الإيجاب لا يأتي إلا بعد تمام جملة النفي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏100‏)‏ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قال سيبويه‏:‏ الواو واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام، وقال الأخفش‏:‏ هي زائدة، وقال الكسائي‏:‏ هي «أو» وفتحت تسهيلاً، وقرأها قوم «أوْ» ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، وكما يقول القائل‏:‏ لأضربنك فيقول المجيب‏:‏ أوْ يكفي الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا كله متكلف، واو في هذا المثل متمكنة في التقسيم، والصحيح قول سيبويه وقرئ «عهدوا عهداً» وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا» و‏{‏عهداً‏}‏ مصدر، وقيل‏:‏ مفعول بمعنى أعطوا عهداً، والنبذ‏:‏ الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقع على اليسير والكثير من الجمع، ولذلك فسرت كثرة النابذين بقوله‏:‏ ‏{‏بل أكثرهم‏}‏ لما احتمل الفريق أن يكون الأقل، و‏{‏لا يؤمنون‏}‏ في هذا التأويل حال من الضمير في ‏{‏أكثرهم‏}‏، ويحتمل الضمير العود على الفريق، ويحتمل العود على جميع بني إسرائيل وهو أذم لهم، والعهد الذي نبذوه هو ما أخذ عليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف ابن مسعود «نقضه فريق»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاءهم رسول من عند الله‏}‏، يعني به محمد صلى الله عليه وسلم، وما ‏{‏معهم‏}‏ هو التوراة، و‏{‏مصدق‏}‏ نعت ل ‏{‏رسول‏}‏، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقاً» بالنصب، و‏{‏لما‏}‏ يجب بها الشيء لوجوب غيره، وهي ظرف زمان، وجوابها ‏{‏نبذ‏}‏ الذي يجيء، و‏{‏الكتاب‏}‏ الذي أتوه‏:‏ التوراة، و‏{‏كتاب الله‏}‏ مفعول ب ‏{‏نبذ‏}‏، والمراد القرآن، لأن التكذيب به نبذ، وقيل المراد التوراة، لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ، و‏{‏وراء ظهورهم‏}‏ مثل لأن ما يجعل ظهرياً فقد زال النظر إليه جملة، والعرب تقول جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق‏:‏

تميم بنَ مرٍّ لا تكونَنَّ حاجتي *** بظهرٍ فلا يعيى عليَّ جوابُها

و ‏{‏كأنهم لا يعلمون‏}‏ تشبيه بمن لا يعلم، إذ فعلوا فعل الجاهل، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلو الشياطين‏}‏ الآية، يعني اليهود، قال ابن زيد والسدي‏:‏ المراد من كان في عهد سليمان، وقال ابن عباس‏:‏ المراد من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الجميع، و‏{‏تتلو‏}‏ قال عطاء‏:‏ معناه تقرأ من التلاوة، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏تتلو‏}‏ تتبع، كما تقول‏:‏ جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً، وتتلو بمعنى تلت، فالمستقبل وضع موضع الماضي، وقال الكوفيون‏:‏ المعنى ما كانت تتلو، وقرأ الحسن والضحاك‏:‏ «الشياطون» بالواو‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على ملك سليمان‏}‏ أي على عهد ملك سليمان، وقيل المعنى في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره، وقال الطبري‏:‏ ‏{‏اتبعوا‏}‏ بمعنى فضلوا، و‏{‏على ملك سليمان‏}‏ أي على شرعه ونبوته وحاله، والذي تلته الشياطين‏:‏ قيل إنهم كان يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات قالت الشياطين‏:‏ إن ذلك كان علم سليمان، وقيل‏:‏ بل كان الذي تلته الشياطين سحراً وتعليماً فجمعه سليمان عليه السلام كما تقدم، وقيل إن سليمان عليه السلام كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطراً من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان، وقيل إن آصف تواطأ مع الشياطين على أن يكتبوا سحراً وينسبوه إلى سليمان بعد موته، وقيل إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه، وقيل إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علماً، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل، هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح، هو هذا السحر، فاستخرجته بنو إسرائيل وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود‏:‏ انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كفر سليمان‏}‏ تبرئة من الله تعالى لسليمان، ولم يتقدم في الآيات أن أحداً نسبه إلى الكفر، ولكنها آية نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر، والسحر والعمل به كفر، ويقتل الساحر عند مالك رضي الله عنه كفراً، ولا يستتاب كالزنديق، وقال الشافعي‏:‏ يسأل عن سحره فإن كان كفراً استتيب منه فإن تاب وإلا قتل، وقال مالك‏:‏ فيمن يعقد الرجال عن النساء يعاقب ولا يقتل، واختلف في ساحر أهل الذمة فقيل‏:‏ يقتل، وقال مالك‏:‏ لا يقتل إلا إن قتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه، وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون من «لكنّ» ونصب الشياطين، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بتخفيف النون ورفع «الشياطينُ»، قال بعض الكوفيين‏:‏ التشديد أحب اليّ إذا دخلت عليها الواو لأن المخففة بمنزلة بل، وبل لا تدخل عليها الواو، وقال أبو علي‏:‏ ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد إلا أنها لا تعمل إذا خففت، وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر، وإما بعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، وكل ذلك كان، والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل، و‏{‏السحر‏}‏ مفعول ثان ب ‏{‏يعلمون‏}‏، وموضع ‏{‏يعلمون‏}‏ نصب على الحال، أو رفع على خبر ثان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت‏}‏‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ عطف على ‏{‏السحر‏}‏ فهي مفعولة، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر من اتعبه ويؤمن من تركه، أو على قول مجاهد وغيره‏:‏ إن الله تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر، أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل إن ‏{‏ما‏}‏ عطف على ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما تتلو‏}‏، وقيل‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ نافية، رد على قوله‏:‏ ‏{‏وما كفر سليمان‏}‏، وذلك أن اليهود قالوا‏:‏ إن الله أنزل جبريل وميكائل بالسحر فنفى الله ذلك، وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى «الملِكين» بكسر اللام، وقال ابن أبزى‏:‏ هما داود وسليمان، وعلى هذا القول أيضاً ف ‏{‏ما‏}‏ نافية، وقال الحسن‏:‏ هما علجان كانا ببابل ملكين، ‏{‏فما‏}‏ على هذا القول غير نافية، وقرأها كذلك أبو الأسود الدؤلي، وقال‏:‏ هما ‏{‏هاروت وماروت‏}‏، فهذا كقول الحسن‏.‏

و ‏{‏بابل‏}‏ لا ينصرف للتأنيث والتعريف، وهي قطر من الأرض، واختلف أين هي‏؟‏ فقال قوم‏:‏ هي بالعراق وما والاه، وقال ابن مسعود لأهل الكوفة‏:‏ أنتم بين الحيرة وبابل، وقال قتادة‏:‏ هي من نصيبين إلى رأس العين، وقال قوم‏:‏ هي بالمغرب‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا ضعيف، وقال قوم‏:‏ هي جبل دماوند، و‏{‏هاروت وماروت‏}‏ بدل من ‏{‏الملكين‏}‏ على قول من قال‏:‏ هما ملكان، ومن قرأ «ملِكين» بكسر اللام وجعلهما داود سليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل، جعل ‏{‏هاروت وماروت‏}‏ بدلاً من ‏{‏الشياطين‏}‏ في قوله ‏{‏ولكن الشياطين كفروا‏}‏، وقال هما شيطانان، ويجيء ‏{‏يعلمون‏}‏‏:‏ إما على أن الاثنين جمع، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس، ومن قال كانا علجين قال‏:‏ ‏{‏هاروت وماروت‏}‏ بدل من قوله ‏{‏الملكين‏}‏، وقيل هما بدل من ‏{‏الناس‏}‏ في قوله ‏{‏يعلمون الناس‏}‏، وقرأ الزهري ‏{‏هاروتُ وماروتُ‏}‏ بالرفع، وجهه البدل من ‏{‏الشياطين‏}‏ في قوله ‏{‏تتلو الشياطين‏}‏ أو من ‏{‏الشياطين‏}‏ الثاني على قراءة من خفف «لكنْ» ورفع، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره هما ‏{‏هاروت وماروت‏}‏‏.‏

وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة، فقال الله لهم‏:‏ اختاروا ملكين يحكمان بين الناس، فاختاروا هاروت وماروت، فكانا يحكمان، فاختصمت إليهما امرأة ففتنا بها فراوداها، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه، فتكلمت به فعرجت، فمسخت كوكباً فهي الزهرة، وكان ابن عمر يلعنها‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا كله ضعيف وبعيد ابن عمر رضي الله عنهما، وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من فارس فجرى لهما ما ذكر، فأطلع الله عز وجل الملائكة على ما كان من هاروت وماروت، فتعجبوا، وبقيا في الأرض لأنهما خُيِّرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما، وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا له‏:‏ ‏{‏إنما نحن فتنة فلا تكفر‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض، ولا يقطع منه بشيء، فلذلك اختصرته‏.‏

ذكر ابن الأعرابي في الياقوتة أن ‏{‏يعلمان‏}‏ بمعنى يعلمان ويشعران كما قال كعب بن زهير ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

تَعَلَّمْ رسولَ اللَّهِ أنَّك مدركي *** وأنّ وعيداً منك كالأخذِ باليدِ

وحمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان الناس بالسحر وينهيان عنه، وقال الجمهور‏:‏ بل التعليم على عرفه، و«لا تكفر» قالت فرقة‏:‏ بتعلم السحر، وقالت فرقة‏:‏ باستعماله، وحكى المهدوي أن قولهما‏:‏ ‏{‏إنما نحن فتنة فلا تكفر‏}‏ استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من أحد‏}‏ زائدة بعد النفي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 104‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏103‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيتعلمون‏}‏‏:‏ قال سيبويه‏:‏ التقدير فهم يتعلمون، وقيل هو معطوف على قوله ‏{‏يعلمون الناس‏}‏، ومنعه الزجاج، وقيل‏:‏ هو معطوف على موضع ‏{‏وما يعلمان‏}‏ لأن قوله ‏{‏وما يعلمان‏}‏ وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم، وقيل التقدير فيأتون فيتعلمون، واختاره الزجاج، والضمير في ‏{‏يعلمان‏}‏ هو لهاروت وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم، والضمير في ‏{‏منهما‏}‏ قيل‏:‏ هو عائد عليهما، وقيل‏:‏ على ‏{‏السحر‏}‏ وعلى الذي أنزل على الملكين، و‏{‏يفرقون‏}‏ معناه فرقة العصمة، وقيل معناه‏:‏ يؤخِّذون الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضاً فرقة‏.‏

وقرأ الحسن والزهري وقتادة‏:‏ «المرءِ» براء مكسورة خفيفة، وروي عن الزهري تشديد الراء، وقرأ ابن أبي إسحاق «المُرء» بضم الميم وهمزة وهي لغة هذيل، وقرأ الأشهب العقيلي «المِرء» بكسر الميم وهمزة، ورويت عن الحسن، وقرأ جمهور الناس «المَرء» بفتح الميم وهمزة، والزوج هنا امرأة الرجل، وكل واحد منهما زوج الآخر، ويقال للمرأة زوجة قال الفرزدق‏.‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وإن الذي يسعى ليفسِدَ زوجتي *** كساعٍ إلى أُسْد الشرى يسْتبيلها

وقرأ الجمهور «بضارين به»، وقرأ الأعمش «بضاري به من أحد» فقيل‏:‏ حذفت النون تخفيفاً، وقيل‏:‏ حذفت للإضافة إلى ‏{‏أحد‏}‏ وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور، و‏{‏بإذن الله‏}‏ معناه‏.‏ بعلمه وتمكينه، و‏{‏يضرهم‏}‏ معناه في الآخرة ‏{‏ولا ينفعهم‏}‏ فيها أيضاً، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى إنما هو أمر الآخرة، والضمير في ‏{‏علموا‏}‏ عائد على بني إسرائيل حسب الضمائر المتقدمة، وقيل‏:‏ على ‏{‏الشياطين‏}‏، وقيل على ‏{‏الملكين‏}‏ وهما جمع، وقال ‏{‏اشتراه‏}‏ لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، والخلاق النصيب والحظ، وهو هنا بمعنى الجاه والقدر، واللام في قوله ‏{‏لمن‏}‏ المتقدمة للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط، وتقدم القول في «بئسما»، و‏{‏شروا‏}‏ معناه باعوا، وقد تقدم مثله، والضمير في ‏{‏يعلمون‏}‏ عائد على بني إسرائيل باتفاق، ومن قال إن الضمير في ‏{‏علموا‏}‏ عائد عليهم خرج هذا الثاني على المجاز، أي لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا كأنهم لا يعلمون، ومن قال إن الضمير في ‏{‏علموا‏}‏ عائد على ‏{‏الشياطين‏}‏ أو على ‏{‏الملكين‏}‏ قال‏:‏ إن أولئك علموا أن لا خلاق لمن اشتراه وهؤلاء لم يعلموا فهو على الحقيقة، وقال مكي‏:‏ الضمير في ‏{‏علموا‏}‏ لعلماء أهل الكتاب، وفي قوله ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ للمتعلمين منهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم آمنوا‏}‏‏:‏ موضع «أن» رفع، المعنى لو وقع إيمانهم، ويعني الذين اشتروا السحر، ‏{‏ولو‏}‏ تقتضي جواباً، فقالت فرقة جوابها ‏{‏لمثوبة‏}‏، لأنها مصدر للمضي والاستقبال، وجواب ‏{‏لو‏}‏ لا يكون إلا ماضياً أو بمعناه، وقال الأخفش‏:‏ لا جواب ل ‏{‏لو‏}‏ في هذه مظهراً ولكنه مقدر، أي لو آمنوا لأثيبوا‏.‏

وقرأ قتادة وأبو السمال وابن بريدة «لمثْوَبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وهو مصدر أيضاً كمشورة ومشورة، ومثوبة رفع بالابتداء و‏{‏خير‏}‏ خبره والجملة خبر ان، والمثوبة عند جمهور الناس بمعنى الثواب والأجر، وهذا هو الصحيح، وقال قوم‏:‏ معناه لرجعة إلى الله من ثاب يثوب إذا رجع، واللام فيها لام القسم لأن لام الابتداء مستغنى عنها، وهذه لا غنى عنها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل أن يراد‏:‏ لو كانوا يعلمون علماً ينفع‏.‏

وقرأ جمهور الناس «راعِنا» من المراعاة بمعنى فاعلنا أي أرعنا نرعك، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على التأويل، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وقالت طائفة‏:‏ هي لغة كانت الأنصار تقولها، فقالها رفاعة بن زيد بن التابوت للنبي صلى الله عليه وسلم ليّاً بلسانه وطعناً كما كان يقول‏:‏ اسمع غير مسمع، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة‏.‏ فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحاً؛ وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة «راعناً» بالتنوين، وهذه من معنى الجهل، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا» دون تنوين، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا»، وهي شاذة، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم كما تخاطب الجماعة، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولاً من الرعونة‏.‏

و ‏{‏انظُرنا‏}‏ مضمومة الألف والظاء معناها انتظرنا وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى ‏{‏راعنا‏}‏، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود، وقرأ الأعمش وغيره «أنظِرنا» بقطع الألف وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك‏.‏

ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة، واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذاباً أليماً، وهو المؤلم، ‏{‏واسمعوا‏}‏ معطوف على ‏{‏قولوا‏}‏ لا على معمولها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 106‏]‏

‏{‏مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏105‏)‏ مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

التقدير ولا من المشركين، وعم الذين كفروا ثم بيّن أجناسهم من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان ليبين في الألف واللام في ‏{‏الذين‏}‏ أنها ليست للعهد يراد بها معين، ومعنى الآية أن ما أمرناكم به من أن تعظموا نبيكم خير من الله منحكم إياه، وذلك لا يودّه الكفار‏.‏ ثم يتناول اللفظ كل خير غير هذا، و‏{‏أن‏}‏ مع الفعل بتأويل المصدر، و‏{‏من‏}‏ زائدة في قول بعضهم، ولما كان ود نزول الخير منتفياً، قام ذلك مقام الجحد الذي يلزم أن يتقدم ‏{‏من‏}‏ الزائدة على قول سيبويه والخليل، وأما الأخفش فيجيز زيادتها في الواجب، وقال قوم‏:‏ ‏{‏من‏}‏ للتبعيض؛ لأنهم يريدون أن لا ينزل على المؤمنين من الخير قليل ولا كثير، ولو زال معنى التبعيض لساغ لقائل أن يقول‏:‏ نريد أن لا ينزل خير كامل ولا نكره أن ينزل بعض، فإذا نفي ود نزول البعض فذلك أحرى في نزول خير كامل، والرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاً، وقال قوم‏:‏ الرحمة هي القرآن، وقال قوم‏:‏ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه أجزاء الرحمة العامة التي في لفظ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها‏}‏ الآية، النسخ في كلام العرب على وجهين‏:‏ أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، والثاني الإزلة، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية، وهو منقسم في اللغة على ضربين‏:‏ أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ كقولهم نسخت الشمس الظل، والآخر لا يثبت كقولهم «نسخت الريح الأثر»، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين، والناسخ حقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخاً إذ به يقع النسخ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة‏:‏ الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت، بالخطاب المتقدم على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه‏.‏

والنسخ جائز على الله تعالى عقلاً لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت، ولا النسخ لطروّ علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني‏.‏ والبداء لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكونه إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة، وذلك محال في جهة الله تعالى، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحداً، ولذلك لم يجوزوه فضلُّوا‏.‏

والمنسوخ عند أئمتنا‏:‏ الحكم الثابت نفسه‏:‏ لا ما ذهبت إليه المعتزلة، من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله تعالى حسن، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة، وعلى أن الحسن القبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية‏.‏

والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو ثبت قطعاً تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخاً لا تخصيصاً‏.‏ والنسخ لا يجوز في الإخبار، وإنما هو مختص بالأومر والنواهي، وردّ بعض المعترضين الأمر خبراً بأن قال‏:‏ أليس معناه‏:‏ «واجب عليكم أن تفعلوا كذا»‏؟‏ فهذا خبر، والجواب أن يقال‏:‏ إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء‏.‏

وصور النسخ تختلف، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، وقد ينسخ المثل بمثلة ثقلاً وخفة كالقبلة، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى، والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ «كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر»، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 11‏]‏، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر‏.‏

وينسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، وهذه العبارة يراد بها الخير المتواتر القطعي، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد، وهذا كله متفق عليه، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا وصية لوارث»، وهو ظاهر مسائل مالك رحمه الله، وأبى ذلك الشافعي رحمه الله، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة‏.‏ فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلاً، واختلفوا هل وقع شرعاً، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة، وأبى ذلك قوم، ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصاً، وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت أنه لا نسخ‏.‏

ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى عليه وسلم، فإذا وجدنا إجماعاً يخالف نصاً فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن‏.‏

وقال بعض المتكلمين‏:‏ «النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه»، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح‏.‏

وقرأ جمهور الناس «ما نَنْسخ» بفتح النون، من نسخ، وقرأت طائفة «نُنسخ»، بضم النون من «أنسخ»، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة، قال أبو علي الفارسي‏:‏ ليست لغة لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، لا هي لتعدية لأن المعنى يجيء ما نكتب من آية أي ما ننزل فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً، وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخاً، كما تقول‏:‏ أحمدت الرجل وأبخلته بمعنى وجدته محموداً أو بخيلاً، قال أبو علي‏:‏ وليس نجده منسوخاً إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ وقد خرج قرأة هذه القرءاة المعنى على وجهين أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في ‏{‏منها‏}‏ و‏{‏مثلها‏}‏ عائدين على الضمير في ‏{‏ننسها‏}‏، والمعنى الآخر أن يكون ‏{‏ننسخ‏}‏ من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً، و‏{‏ما‏}‏ شرطية وهي مفعولة ب ‏{‏ننسخ‏}‏، و‏{‏ننسخ‏}‏ جزم بالشرط‏.‏

واختلف القراء في قراءة قوله ‏{‏ننسها‏}‏، فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس «نُنْسِها» بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة، وهذه من أنسى المنقول من نسي، وقرأت ذلك فرقة كما تقدم إلا أنها همزت بعد السين، فهذه بمعنى التأخير، تقول العرب أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته، وقرأت طائفة «أو نَنْسَها» بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين، وهذه بمعنى الترك، ذكرها مكي ولم ينسبها، وذكرها أبو عبيد البكري في كتاب اللآلي عن سعد بن أبي وقاص، وأراه وهمَ، وقرأ سعد بن أبي وقاص «أو تَنْسَها» على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني، فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال‏:‏ إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب، وتلا

‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 24‏]‏، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضاً «أو تُنْسَها» بضم التاء أولاً وفتح السين وسكون النون بينهما، وهذه من النسيان، وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء «نُنَسِّها» بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة، وهذه أيضاً من النسيان‏.‏

وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخغي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو «نَنْسَأها» بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة، وهذه من التأخير، تقول العرب‏:‏ نسأت الإبل عن الحوض أَنْسَؤُها نَسْأَ أي أخرتها، وكذلك يقال‏:‏ أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد، وقرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولاً على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وإسناد الفعل إليه، وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولاً، وقرأ أبي بن كعب «أو نُنْسِك» بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين مكسورة وكاف مخاطبة، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة «أو ننسكها» مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية‏.‏

وقرأ الأعمش «ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها» وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذه القراءات لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير، أو تكون من النسيان‏.‏

والنسيان في كلام العرب يجيء في الإغلب ضد الذكر، وقد يجيء بمعنى الترك، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر‏.‏

فمعنى الآية‏:‏ ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة‏.‏

وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان‏:‏

أحدها‏:‏ ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقاً بكم خيراً من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله‏.‏

والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم‏.‏

والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضاً، على هذا رفع التلاوة والحكم‏.‏

والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه، ويجيء الضميران في ‏{‏منها أو مثلها‏}‏ عائدين على المنسوخة فقط، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها‏.‏

وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته، والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه، والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتاً لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل، وقد قال «جميعها» العلماء إما نصاً وإما إشارة فكملناها‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ إن القراءة «أو نُنْسِها» بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك، وقال أبو علي وغيره‏:‏ ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال‏:‏ إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نسي قرآناً، وقال أبو علي وغيره‏:‏ ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة، واحتج الزجاج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 86‏]‏، أي لم نفعل، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ على معنى إزالة النعمة كما توعد، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج، ورد عليه، والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله، تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآناً جائز‏.‏

فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال‏:‏ أفي القوم أبيّ‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا رسول الله، قال‏:‏ فلم لم تذكرني‏؟‏ قال‏:‏ حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم ترفع ولكني نسيتها‏.‏

ولفظة خير في الآية صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية، وقال قوم «خير» في الآية مصدر و«من» لابتداء الغاية‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ ويقلق هذا القول لقوله تعالى ‏{‏أو مثلها‏}‏ إلا أن يعطف المثل على الضمير في ‏{‏منها‏}‏ دون إعادة حرف الجر، وذلك معترض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تعلم أن‏}‏ ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض، فالمعادل هنا على قول جماعة ‏{‏أم تريدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 18‏]‏، وقال قوم ‏{‏أم‏}‏ هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي‏.‏

ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء، وهذا لإنكار اليهود النسخ‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏على كل شيء‏}‏ لفظ عموم معناه الخصوص، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء، والشيء في كلام الموجود، و‏{‏قدير‏}‏ اسم فاعل على المبالغة من «قَدَر» بفتح العين «يقدِر» بكسرها‏.‏ ومن العرب من يقول قَدِرَ بكسر العين يقدَر بفتحها‏.‏