فصل: تفسير الآية رقم (267)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تر‏}‏ تنبيه، وهي رؤية القلب، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم ترْ» بجزم الراء، و‏{‏الذي حاج إبراهيم‏}‏ هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة، هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ هو أول ملك في الأرض وهذا مردود‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته وهو أحد الكافرين‏.‏ والآخر بخت نصر‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏الذي حاج إبراهيم‏}‏ نمرود بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحدهما‏:‏ ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة فكلما جاء قوم قال‏:‏ من ربكم وإلهكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ أنت، فيقول‏:‏ ميّروهم وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار، فقال له من ربك وإلهك‏؟‏ قال ‏{‏قال إبراهيم‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت‏}‏، فلما سمعها نمرود قال‏:‏ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس، ‏{‏فبهت الذي كفر‏}‏، وقال‏:‏ لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء، فمر على كثيب من رمل كالدقيق، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء، فقالت امرأته‏:‏ لو صنعت له طعاماً يجده حاضراً إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري فخبرته، فلما قام وضعته بين يديه فقال‏:‏ من أين هذا‏؟‏ فقالت من الدقيق الذي سقت، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك، وقال الربيع وغيره في هذه القصص‏:‏ ان النمرود لما قال‏:‏ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏ أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال‏:‏ قد أحييت هذا وأمتُّ هذا، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت، والرواية الأخرى ذكر السدي‏:‏ أنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه، فكلمه وقال له‏:‏ من ربك‏؟‏ قال‏:‏ ربي الذي يحيى ويميت، قال نمرود‏:‏ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتاً ولا يطعمون شيئاً ولا يسقون، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا، وتركت اثنين فماتا، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت‏.‏ وذكر الأصوليون في هذه الآية‏:‏ أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة، لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام الحقيقة، ففزع نمرود إلى المجاز وموه به على قومه، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه من المثال، وجاءه بأمر لا مجاز فيه، ‏{‏فبهت الذي كفر‏}‏، ولم يمكنه أن يقول‏:‏ أنا الآتي بها من المشرق، لأن ذوي الأسنان يكذبونه، وقوله ‏{‏حاجّ‏}‏ وزنه «فاعل» من الحجة أي جاذبه أياها والضمير في ‏{‏ربه‏}‏ يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يعود على ‏{‏الذي حاج‏}‏، و‏{‏أن‏}‏ مفعول من أجله والضمير في ‏{‏آتاه‏}‏ للنمرود، وهذا قول جمهور المفسرين، وقال المهدوي‏:‏ يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة، وهذا تحامل من التأويل، وقرأ جمهور القراء ‏{‏أن أحيي‏}‏ بطرح الألف التي بعد النون من ‏{‏أنا‏}‏ إذا وصلوا في كل القرآن غير نافع، فإن ورشاً وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن، مثل أنا أحيي أخوك إلا في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إن أنا إلا نذير‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 115‏]‏ فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة، قال أبو علي‏:‏ ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحياناً في الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء فكذلك الألف، وهي مثل ألف حيهلا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي، فتأمل‏.‏ قال أبو علي‏:‏ فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر‏:‏

أنا شيخ العشيرة فاعرفوني *** حميداً قد تذريت السناما

وقرأ الجمهور‏:‏ «فبُهِتَ» الذي بضم الباء وكسر الهاء، يقال بهت الرجل‏:‏ إذا انقطع وقامت عليه الحجة‏.‏ قال ابن سيده‏:‏ ويقال في هذا المعنى‏:‏ «بَهِتَ» بفتح الباء وكسر الهاء، «وَبَهُت» بفتح الباء وضم الهاء‏.‏ قال الطبري‏:‏ وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى، «بَهَت» بفتح الباء والهاء‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول دون تقييد بفتح الباء والهاء، قال ابن جني‏:‏ قرا أبو حيوة‏:‏ «فبَهُت» بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر الهاء، قال‏:‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ «فبَهَت» بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب، قال‏:‏ وقد يجوز أن يكون «بَهَت» بفتحهما لغة في بهت‏.‏ قال‏:‏ وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهِت» بكسر الهاء كَخَرِقَ ودهِش، قال‏:‏ والأكثر بالضم في الهاء، قال ابن جني‏:‏ يعني أن الضم يكون للمبالغة، قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وقد تأول قوم في قراءة من قرأ ‏{‏فبهت‏}‏ بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏، إخبار لمحمد عليه السلام وأمته‏.‏

والمعنى‏:‏ لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم، لأنه لا هدى في الظلم، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص، كما ذكرنا، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان‏.‏ ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِى هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ‏}‏

عطفت ‏{‏أو‏}‏ في هذه الآية على المعنى، لأن مقصد التعجيب في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاج‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 258‏]‏ يقتضي أن المعنى أرأيت كالذي حاج، ثم جاء قوله ‏{‏أو كالذي‏}‏، عطفاً على ذلك المعنى، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أوَ كالذي مر» بفتح الواو، وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير، قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك‏:‏ الذي مر على القرية هو عزير، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وبكر بن مضر‏:‏ هو أرمياء، وقال ابن إسحاق‏:‏ أرمياء هو الخضر وحكاه النقاش عن وهب بن منبه، قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسماً وافق اسماً؛ لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه، وحكى مكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى، قال النقاش‏:‏ ويقال هو غلام لوط عليه السلام‏.‏ قال أبو محمد‏:‏ واختلف في القرية أيما هي‏؟‏ فحكى النقاش أن قوماً قالوا هي المؤتفكة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ إن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله‏:‏ ‏{‏موتوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 243‏]‏ مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح، فوقف ينظر فقال‏:‏ ‏{‏أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام‏}‏، وترجم الطبري على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان، وعلى نفس القول هي إلى العظام والأجساد‏.‏ وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها‏.‏ والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان‏.‏ وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة الربيع‏:‏ القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في الحديث الطويل‏.‏ حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏ومما يعرشون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏ قال السدي‏:‏ يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها، وقال غير السدي‏:‏ معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة، قال أبو محمد وانظر استعمل العريش مع على، في الحديث في قوله، وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر، و‏{‏خاوية‏}‏ معناه خالية، يقال خوت الدار تخوي خواء وخوياً ويقال خويت قال الطبري‏:‏ والأول أفصح وقوله‏:‏ ‏{‏أنّى يحيي هذه الله بعد موتها‏}‏ معناه من أي طريق وبأي سبب‏؟‏ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله، إنما كان عن إحياء الموتى من بنى آدم، أي أنى يحيي الله موتاها، وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وليس يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها، وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب أن لا يتأول في الآية شك، وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبراً فقال، ‏{‏أنّى يحيي هذه الله بعد موتها‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏فأماته الله‏}‏ تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها تبن وهو طعامه، وقيل تبن وعنب، وكان معه ركوة من خمر، وقيل من عصير وقيل، قلة ماء هي شرابه، وبقي ميتاً مائة عام، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره، وروي أنه بلي دون الحمار، وأن الحمار بقي حياً مربوطاً لم يمت ولا أكل شيئاً ولا بليت رمته، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير، وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة، وحينئذ حيي عزير، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة، لأنه بقي سبعين ميتاً كله، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثه‏}‏، معناه‏:‏ أحياه وجعل له الحركة والانتقال، فسأله الله تعالى بواسطة الملك ‏{‏كم لبثت‏}‏‏؟‏ على جهة التقرير، و‏{‏كم‏}‏ في موضع نصب على الظرف، فقال‏:‏ ‏{‏لبثت يوماً أو بعض يوم‏}‏، قال ابن جريج وقتادة والربيع‏:‏ أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب، فظن هذا اليوم واحداً فقال ‏{‏لبثت يوماً‏}‏ ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذباً فقال‏:‏ ‏{‏أو بعض يوم‏}‏ فقيل له ‏{‏بل لبثت مائة عام‏}‏، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك قال النقاش‏:‏ العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك، والعوم كالسبح، وقال تعالى‏:‏

‏{‏وكل في فلك يسبحون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه هذا معنى كلام النقاش‏.‏ والعام على هذا كالقول والقال‏.‏ وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد، وروي في قصص هذه الآية‏:‏ أن الله بعث لها ملكاً من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل‏:‏ ‏{‏أنّى يحيي هذه الله بعد موتها‏}‏ وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع‏:‏ ‏{‏لبثت‏}‏ في كل القرآن بإظهارالثاء وذلك لتباين الثاء من مخرج التاء، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز، والظاء والذال والثاء المثلثة من حيز، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي، بالإدغام في كل القرآن، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتقف الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان، قال أبو علي‏:‏ ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة»‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

‏{‏فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيّاً على مربطه‏.‏ هذا على أحد التأويلين‏.‏ وعلى التأويل الثاني‏:‏ وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه»، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره‏:‏ «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة»، قال أبو علي‏:‏ واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لم يتسنه‏}‏ و‏{‏اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏، و‏{‏ما أغنى عني ماليه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 28‏]‏ و‏{‏سلطانيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏وما أدراك ماهية‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 10‏]‏ وإسقاطها في الوصل، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف‏.‏ فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل، وكان الكسائي يحذفها في ‏{‏يتسنّه‏}‏، و‏{‏اقتده‏}‏، ويثبتها في الباقي‏.‏ ولم يخلتفوا في ‏{‏حسابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 20-26‏]‏ و‏{‏كتابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 19-25‏]‏ أنهما بالهاء في الوقف والوصل، و‏{‏يتسنّه‏}‏ يحتمل أن يكون من تسنن الشيء إذا تغير وفسد، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم‏.‏

وقال الزجّاج‏:‏ ليس منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض، فإذا كان من تسنن فهو لم يتسنن‏.‏ قلبت النون ياء كما فعل في تظننت، حتى قلت لم أتظنن، فيجيء تسنن تسنى‏.‏ ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع لم يتسن‏.‏ ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت‏.‏ وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل‏.‏ ويحتمل ‏{‏يتسنه‏}‏ أن يكون من السنة وهو الجدب‏.‏ والقحط، وما أشبهه، يسمونه بذلك‏.‏ وقد اشتق منه فعل فقيل‏:‏ استنّوا، وإذا كان هذا أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضاً الهاء هاء السكت، والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه، أو لم تغيره السنون والأعوام‏.‏ وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع سنهات، وقال أسنهت عند بني فلان وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر‏:‏

وليست بسنهاء ولا رجبية *** ولكن عرايا في السنين الجوائح

فإن القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد، وهي لام الفعل، وفيها ظهر الجزم ب ‏{‏لم‏}‏، وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقد ذكر‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف «لم يسنّه» على الإدغام‏.‏

وقال النقاش‏:‏ ‏{‏لم يتسنه‏}‏ معناه‏:‏ لم يتغير من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ماء غير آسن‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏، قال أبو محمد‏:‏ ورد النحاة على هذا القول، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وانظر إلى حمارك‏}‏، فقال وهب بن منبه وغيره‏:‏ المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءاً جزءاً، ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاماً ملتئمة، ثم كساه لحماً حتى كمل حماراً، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح، فقام الحمار ينهق، وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضاً أنهما قالا‏:‏ بل قيل له وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة، قالا‏:‏ وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه، قالا‏:‏ وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيراً اختصرته لعدم صحته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنجعلك آية للناس‏}‏ معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا، وقال الأعمش موضع كونه آية هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات، فوجد الحفدة والأبناء شيوخاً، وقال عكرمة‏:‏ جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات، ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة، وقال غير الأعمش‏:‏ بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حياً من قومه، إذ كانوا موقنين بحاله سماعاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وفي إماتته هذه المدة، ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض‏.‏

وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال‏:‏ هي عظام نفسه، ومن قال‏:‏ هي عظام الحمار، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو‏:‏ «نَنْشُرُها» بضم النون الأولى وبالراء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي‏.‏ «ننشزها» بالزاي، وروى أبان عن عاصم «نَنشرُها» بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء، وقرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة‏.‏ فمن قرأها «نُنشرها» بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها‏.‏ يقال أنشر الله الموتى فنشروا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا شاء أنشره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقال الأعشى‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

يَا عَجَبا للميِّت النَّاشِرِ *** وقراءة عاصم‏:‏ «نَنشرها» بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء، يقال‏:‏ نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها، وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته‏.‏ ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر‏.‏ وأما من قرأ‏:‏ «ننشزها» بالزاي بمعناه‏:‏ نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض، ومنه قول الشاعر‏:‏

ترى الثَّعْلَبَ الْحَوليَّ فيها كأنَّهُ *** إذا مَا علا نَشْزاً حِصَانٌ مُجَلَّلُ

قال أبو علي وغيره‏:‏ فتقديره ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

قُضَاعِيَّةٌ تَأْتي الْكَواهِنَ ناشِزا *** يقال نشز وأنشزته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلاً قليلاً، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع، وقال النقاش‏:‏ ننشزها معناه ننبتها، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت، من ذلك نشز ناب البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل انشزوا فانشزوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏ أي فارتفعوا شيئاً شيئاً كنشوز الناب‏.‏ فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع‏.‏ ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة‏:‏ نشز‏.‏ وقرأ النخعي «نَنشُزُها» بفتح النون وضم الشين والزاي، وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة‏.‏ وقرأ أبي بن كعب‏:‏ «كيف ننشيها» بالياء‏.‏ والكسوة‏:‏ ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال‏:‏

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي *** حتى اكتسيتُ من الإسلامِ سربالا

وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال الطبري‏:‏ المعنى في قوله ‏{‏فلما تبين له‏}‏ أي لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه، ‏{‏قال أعلم‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر‏:‏ «أعلمُ أن» مقطوعة الألف مضمومة الميم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «قال اعلم أن الله» موصولة الألف ساكنة الميم‏.‏ وقرأها أبو رجاء، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش، «قيل أعلم»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فأما هذه فبينة المعنى أي قال الملك له‏.‏ والأولى بينة المعنى أي قال هو أنا أعلم أن الله على كل شيء قدير‏.‏ وهذ عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري‏.‏ بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله‏:‏ الله لا إله إلا هو ونحو هذا‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ يعني علم المعاينة، وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما، قال الملك له «اعلم»، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه‏:‏ «اعلم» وأنشد أبو علي في مثل هذا قول الأعشى‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

ودّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ *** و-

ألمْ تَغْتَمِضْ عَيْناكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا‏؟‏ *** ‏[‏الطويل‏]‏

وأمثلة هذا كثيرة وتأنس أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَذّكَّرَ مِنْ أَنّى ومِنْ أَيْنَ شُرْبُه *** يؤامِرُ نَفْسيْهِ كَذِي الْهَجْمَةِ الآبل

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏

العامل في ‏{‏إذ‏}‏ فعل مضمر تقديره واذكر‏.‏ واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام‏؟‏ فقال الجمهور‏:‏ إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة‏.‏ وترجم الطبري في تفسيره فقال‏:‏ وقال آخرون سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما في القرآن آية أرجى عندي منها، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال‏:‏ دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال‏:‏ ‏{‏رب أرني كيف تحيي الموتى‏}‏‏؟‏ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «نحن أحق بالشك من إبراهيم» الحديث‏.‏ ثم رحج الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث‏.‏ وقال‏:‏ إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال‏:‏ متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء‏؟‏ وأما من قال‏:‏ بأن إبراهيم لم يكن شاكاً، فاختلفوا في سبب سؤاله‏.‏ فقال قتادة‏:‏ إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نحوه، قال‏:‏ وقد علم عليه السلام أن لله قادر على إحياء الموتى، وقال ابن زيد‏:‏ رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر، وقال ابن إسحاق، بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له‏:‏ أنا أحيي وأميت، فكر في تلك الحقيقة والمجاز، فسأل هذا السؤال‏.‏ وقال السدي وسعيد بن جبير‏:‏ بل سبب هذا السؤال أنه بشر بأن الله اتخذه خليلاً أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ يريد بالخلة‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس‏:‏ هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول‏:‏ هي أرجى آية لقوله‏:‏ ‏{‏أو لم تؤمن‏}‏‏؟‏ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث، وأما قول عطاء بن أبي رباح‏:‏ دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت، به، ولهذا قال النبي عليه السلام‏:‏ «ليس الخبر كالمعاينة»، وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه‏:‏ أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم‏.‏

والذي روي فيه عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ذلك محض الإيمان إنما هو في الخواضر الجارية التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام‏.‏ وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكاً، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول‏.‏ نحو قولك‏:‏ كيف علم زيد‏؟‏ وكيف نسج الثوب‏؟‏ ونحو هذا، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون ‏{‏كيف‏}‏ خبراً عن شيء شأنه أن يستفهم عنه، ‏{‏كيف‏}‏ نحو قولك‏:‏ كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري‏:‏ كيف كان بدء الوحي، و‏{‏كيف‏}‏ في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع‏:‏ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول له المكذب‏:‏ أرني كيف ترفعه‏؟‏ فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف‏؟‏ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تؤمن قال بلى‏}‏، فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمانينة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تؤمن‏}‏ معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فصل إحياء الموتى، والواو واو حال دخلت عليه ألف التقرير، و‏{‏ليطمئن‏}‏ معناه ليسكن عن فكره، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام‏:‏ «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً»، الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد‏.‏ والفكر في صورة الإحياء غير محظورة، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، بل هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين، فتذهب فكره في صورة الإحياء، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة وإما قول النمرود‏:‏ أنا أحيي وأميت، وقال الطبري‏:‏ معنى ‏{‏ليطمئن‏}‏ ليوقن‏.‏ وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقيناً وقاله إبراهيم وقتادة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لأزداد إيماناً مع إيماني‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر، وإلا فاليقين لا يتبعض، وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك، والطاووس، والحمام، والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول، وقاله مجاهد وابن جريج وابن زيد، وقال ابن عباس‏:‏ مكان الغراب الكركي‏.‏

وروي في قصص هذه الآية أن الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر وذكاها ثم قطعها قطعاً صغاراً وجمع ذلك مع الدم والريش، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءاً على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء، وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم، والريش إلى الريش، حتى التأمت كما كانت أولاً وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعياً حتى وضعت أجسادها في رؤوسها، وطارت بإذن الله تعالى، وقرأ حمزة وحده‏:‏ «فصِرهن إليك» بكسر الصاد، وقرأ الباقون بضمها ويقال صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته، ومنه قول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

صِرْنَا بِهِ الحُكْمَ وَعَنَّا الحَكَمَا *** ومنه قول الخنساء‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

فلو يلاقي الذي لاقيتُه حضنٌ *** لظلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تنصارُ

أي تنقطع ويقال أيضاً صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

يصُورُ عنوقَها أحوى زنيمٌ *** لَهُ صَخَبٌ كَمَا صَخِبَ الْغَرِيمُ

ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور، وعن الخنا زور، فهذا كله في ضم الصاد، ويقال أيضاً في هذين المعنيين،‏:‏ القطع والإمالة‏:‏ صرت الشيء بكسر الصاد أصيره، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وفرعٌ يَصيرُ الْجِيدَ وَجْفٌ كأَنَّهُ *** عَلى اللِّيتِ قِنْوانُ الكرومِ الدَّوالِحِ

ففي اللفظة لغتان قرئ بهما، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه الآية ‏{‏صرهن‏}‏ معناه‏:‏ قطعهن، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض ما روي عنه أنها لفظة بالنبطية معناها قطعهن، وقاله الضحاك، وقال أبو الأسود الدؤلي‏:‏ هي بالسريانية، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏صرهن‏}‏ فصلهن، وقال ابن إسحاق‏:‏ معناه قطعهن، وهوالصور في كلام العرب، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ ‏{‏فصرهن‏}‏ معناه اضممهن إليك‏.‏ وقال ابن زيد معناه اجمعهن، وروي عن ابن عباس معناه أوثقهن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى الإمالة‏.‏ فقوله ‏{‏إليك‏}‏ على تأويل التقطيع متعلق بخذ‏.‏ وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق ب ‏{‏صرّهنّ‏}‏، وفي الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن‏.‏ وقرأ قوم «فصُرَّهن» بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدَّهن‏.‏ ومنه صرة الدنانير‏.‏ وقرأ قوم «فصِرَّهن» بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوَّتَ، ذكره النقاش‏.‏ قال ابن جني وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعُل بضم العين كشد يشُد ونحوه‏.‏

لكن قد جاء منه نمَّ الحديث يَنمُّه ويُنمّه وهر الحرب يَهرها ويُهرها ومنه قول الأعشى‏:‏

لَيَعْتَوِرَنْكَ الْقَوْلَ حَتَّى تهرَّهُ *** إلى غير ذلك في حروف قليلة‏.‏ قال ابن جني، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال المهدوي وغيره وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة، واختلف المتأولون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً‏}‏، فروى أبو حمزة عن ابن عباس أن المعنى اجعل جزءاً على كل ربع من أرباع الدنيا كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة‏.‏ وفي هذا القول بعد، وقال قتادة والربيع المعنى واجعل على أربعة أجبل على كل جبل جزءاً من ذلك المجموع المقطع، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها‏.‏ وقرأ الجمهور «جزءاً» بالهمز، وقرأ أبو جعفر «جزّاً» بشد الزاي في جميع القرآن‏.‏ وهي لغة في الوقف فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه‏.‏ وقال ابن جريج والسدي أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها‏.‏ قالا‏:‏ وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بل أمر أن يجعل على كل جبل يلية جزءاً‏.‏ قال الطبري معناه دون أن تحصر الجبال بعدد، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله «إياه تفريق ذلك فيها، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا، فلن يحيط بذلك بصره، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيداً متمكناً‏.‏ والله أعلم أي ذلك كان‏.‏ ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه، ويرى كيف التأمت، وكذلك صحت له العبرة، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه‏.‏ ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه ‏{‏سعياً‏}‏، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته‏.‏ ولو جاءته مشياً لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيراناً لكان ذلك على عرف أمرها، فهذا أغرب منه‏.‏ ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏261- 262‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏‏}‏

هذه الآية لفظها بيان مثل بشرف النفقة في سبيل الله وبحسنها، وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآية في نفقة التطوع، وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة، وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، والحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر، وكثيراً ما يراد بالحب‏.‏ ومنه قول المتلمس‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

آليت حب العراق الدهر أطعمه *** والحب يأكله في القرية السوس

وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حَسنتها بسبعمائة ضعف، وبين ذلك الحديث الصحيح، واختلف العلماء في معنى قوله‏:‏ ‏{‏والله يضاعف لمن يشاء‏}‏، فقالت طائفة هي مبينة ومؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة‏.‏ وليس ثمة تضعيف فوق سبعمائة، وقالت طائفة من العلماء‏:‏ بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف‏.‏ وروي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف‏.‏ وليس هذا بثابت الإسناد عنه، وقال ابن عمر لما نزلت هذه الآية قال النبي عليه السلام‏:‏ «رب زد أمتي» فنزلت ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 11‏]‏، فقال رب زد أمتي، فنزلت ‏{‏إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏ و‏{‏سنبلة‏}‏ فنعلة من أسبل الزرع أي أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب، والجمع سنابل، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين‏}‏، حذف مضاف، تقديره مثل إنفاق الذين، أو تقدره كمثل ذي حبة، وقال الطبري في هذه الآية، إن قوله ‏{‏في كل سنبلة مائة حبة‏}‏، معناه إن وجد ذلك وإلا فعلى أن نفرضه ثم أدخل عن الضحاك أنه قال‏:‏ ‏{‏في كل سنبلة مائة حبة‏}‏ معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال هو، وذلك غير لازم من لفظ الضحاك، قال أبو عمرو الداني قرأ بعضهم «مائة حبة» بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم‏}‏ الآية، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه مناً ولا أذى، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجوا ثوابه، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئاً ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه، وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه منَّ الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى، وإما أن ينفق مضطراً دافع غرم إما لماتة للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى‏.‏

فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد، وأنه لم يخلص لوجه الله، فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة، وذكر النقاش أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مكي في عثمان وابن عوف رضي الله عنهما‏:‏ والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، والأذى‏:‏ السب والتشكي، وهو أعم من المنّ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه، وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد، بل ينفقون وهم قعود، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم‏.‏ قال‏:‏ ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد، وقال زيد بن أسلم‏:‏ لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه، وقالت له امرأة‏:‏ يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقاً، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه، فإن عندي أسهماً وجعبة، فقال لها لا بارك الله في أسهمك وجعبتك، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم‏.‏ وضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏263- 264‏]‏

‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏‏}‏

هذا أخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لا شيء‏.‏ لأن ذلك القول المعروف فيه أجر، وهذه لا أجر فيها‏.‏ وقال المهدوي وغيره التقدير في إعرابه ‏{‏قول معروف‏}‏ أولى ‏{‏ومغفرة خير‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا ذهاب برونق المعنى، وإنما يكون المقدر كالظاهر، والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج‏.‏ ومن هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوماً بكلام فصيح، فقال له قائل‏:‏ ممن الرجل‏؟‏ فقال اللهم غفراً، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب، وقال النقاش‏:‏ يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم، ثم أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله وعاقبة أمره، وحمله عمن يمكن أن يواقع هذا من عبيده وإمهالهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ الآية، والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات، فقال جمهور العلماء في هذه الآية‏:‏ إن الصدقة التي يعلم الله في صاحبها أنه يمن أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة، وقيل بل جعل الله للملك عليها أمارة فلا يكتبها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا حسن، لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عز وجل على ما ذكرناه قبل، فلم تترتب له صدقة، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي ‏{‏ينفق رئاء‏}‏ لا لوجه الله، والرياء مصدر من فاعل من الرؤية‏.‏ كأن الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس‏.‏ قال المهدوي والتقدير كإبطال الذي ينفق رئاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ يحتمل أن يريد الكافر الظاهر الكفر، إذ قد ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء ولغير ذلك‏.‏ ويحتمل أن يريد المنافق الذي يظهر الإيمان‏.‏ ثم مثل هذا المنفق رئاء ب ‏{‏صفوان عليه تراب‏}‏ فيظنه الظانُّ أرضاً منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر أو معنى، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك التراب وبقي صلداً، فكذلك هذا المرائي إذا كان يوم القيامة وحصلت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقته ولا معنى‏.‏ فالمن والأذى والرياء يكشف عن النية‏.‏ فيبطل الصدقة كما يكشف الوابل الصفا فيذهب ما ظن أرضاً‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف «رياء الناس» بغير همز‏.‏

ورويت عن عاصم‏.‏ والصفوان الحجر الكبير الأملس‏.‏ قيل هو جمع واحدته صفوانة‏.‏ وقال قوم واحدته صفواة، وقيل هو إفراد وجمعه صفى، وأنكره المبرد وقال‏:‏ إنما هو جمع صفا، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كميت يزل اللبد عن حال متنه *** كما زلت الصفواء بالمتنزل

وقال أبو ذؤيب‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

حتى كأني للحوادث مروة *** بصفا المشقَّرِ كلَّ يومٍ تقرع

وقرأ الزهري وابن المسيب «صفَوان» بفتح الفاء، وهي لغة، والوابل الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل على وجه الأرض، والصلد من الحجارة الأملس الصلب الذي لا شيء فيه، ويستعار للرأس الذي لا شعر فيه، ومنه قول رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

بَرَّاق أصْلادِ الْجَبينِ الأجْلَهِ *** قال النقاش‏:‏ الصلد الأجرد بلغة هذيل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يقدرون‏}‏ يريد به الذين ينفقون رئاء، أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم، وجاءت العبارة ب ‏{‏يقدرون‏}‏ على معنى الذي‏.‏ وقد انحمل الكلام قبل على لفظ الذي، وهذا هو مهيع كلام العرب ولو انحمل أولاً على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ إما عموم يراد به الخصوص في الموافي على الكفر، وإما أن يراد به أنه لم يهدهم في كفرهم بل هو ضلال محض، وإما أن يريد أنه لا يهديهم في صدقاتهم وأعمالهم وهم على الكفر، وما ذكرته في هذه الآية من تفسير لغة وتقويم معنى فإنه مسند عن المفسرين وإن لم تجئ ألفاظهم ملخصة في تفسيره إبطال المن والأذى للصدقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏‏}‏

من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه نقيض ما يتقدم ذكره لتبيين حال التضاد بعرضها على الذهن، فلما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم وهي على وجهها في الشرع فضرب لها مثلاً، وتقدير الكلام ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غراس جنة، لأن المراد بذكر الجنة غراسها أو تقدر الإضمار في آخر الكلام دون إضمار نفقة في أوله، كأنه قال‏:‏ كمثل غارس جنة، و‏{‏ابتغاء‏}‏ معناه طلب، وإعرابه النصب على المصدر في موضع الحال‏.‏ وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله‏.‏ لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو ‏{‏وتثبيتاً‏}‏ عليه‏.‏ ولا يصح في ‏{‏تثبيتاً‏}‏ أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت‏.‏ وقال مكي في المشكل‏:‏ كلاهما مفعول من أجله وهو مردود بما بيناه، و‏{‏مرضاة‏}‏ مصدر من رضي يرضى، وقال الشعبي والسدي وقتادة وابن زيد وأبو صالح‏:‏ ‏{‏وتثبيتاً‏}‏ معناه وتيقناً، أي إن نفوسهم لها بصائر متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتاً، وقال مجاهد والحسن‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏وتثبيتاً‏}‏ أي إنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم‏؟‏ وقال الحسن كأن الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك، والقول الأول أصوب‏.‏ لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما عبارته وتثبتاً، فإن قال محتج إن هذا من المصادر التي خرجت على غير المصدر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتبتل إليه تبتيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 8‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ فالجواب لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول أحمله على فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له ذكر، هذا مهيع كلام العرب فيما علمت، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وتثبيتاً‏}‏ معناه وإحساناً من أنفسهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا نحو القول الأول، والجنة البستان وهي قطعة أرض نبتت فيها الأشجار حتى سترت الأرض، فهي من لفظ الجن والجنن والجنة وجن الليل، والربوة ما ارتفع من الأرض ارتفاعاً يسيراً معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه، وما كان كذلك فنباته أحسن، ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسميه أبرد وأرق، ونجد يقال له الحزن، قول ما يصلح هواء تهامه إلا بالليل، وللذلك قالت الأعرابية‏:‏ زوجي كليل تهامة، وقال ابن عباس‏:‏ الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار‏.‏

‏{‏قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏}‏‏:‏ وهذا إنما أراد به هذه الربوة المذكورة في كتاب الله، لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أصابها وابل‏}‏ إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد ابن عباس أن جنس الربا لا يجري فيها ماء، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين، والمعروف في كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر، وقال الحسن‏:‏ الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء، وهذا أيضاً أراد أنها ليست كالجبل والظرب ونحوه، قال الخليل أرض مرتفعة طيبة وخص الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث هي العرف في بلاد العرب فمثل لهم بما يحسونه كثيراً، وقال السدي ‏{‏بربوة‏}‏ أي برباوة وهو ما انخفض من الأرض، قال أبو محمد‏:‏ وهذه عبارة قلقة ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد، يقال «رُبوة» بضم الراء وبها قرأ ابن كثير وحمزة الكسائي ونافع وأبو عمرو‏.‏ ويقال «رَبوة» بفتح الراء وبها قرأ عاصم وابن عامر، وكذلك خلافهم في سورة المؤمنين، ويقال رِبوة بكسر الراء وبها قرأ ابن عباس فيما حكي عنه‏.‏ ويقال رَباوة بفتح الراء والباء وألف بعدها، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن، ويقال رباوة بكسر الراء وبها قرأ الأشهب العقيلي، ‏{‏وآتت‏}‏ معناه أعطت، و«الأُكْل» بضم الهمزة وسكون الكاف الثمر الذي يؤكل، والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب الدار، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أُكْلُها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى مكنى مثل أكل خمط فثقل أبو عمرو ذلك، وخففاه، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه، بالتثقيل‏.‏ ويقال أكل وأكل بمعنى، وهو من أكل بمنزلة الطعمة من طعم، أي الشيء الذي يطعم ويؤكل، و‏{‏ضعفين‏}‏ معناه‏:‏ اثنين مما يظن بها ويحرز من مثلها، ثم أكد تعالى مدح هذه الربوة بأنها ‏{‏إن لم يصبها وابل‏}‏ فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل، وذلك لكرم الأرض، والطل المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة، وقال قوم الطل الندى، وهذا تجوز وتشبيه، وقد روي ذلك عن ابن عباس‏.‏ قال المبرد‏:‏ تقديره ‏{‏فطلٌّ‏}‏ يكفيها‏.‏ وقال غيره التقدير فالذي أصابهم طل، فشبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربى الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة، وذلك كله بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلداً، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ وعد ووعيد، وقرأ الزهري يعملون بالياء كأنه يريد به الناس أجمع‏.‏ أو يريد المنفقين فقط فهو وعد محض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏266‏]‏

‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏‏}‏

حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول، وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏، ثم قال ضرب في ذلك مثلاً فقال‏:‏ ‏{‏أيود أحدكم‏}‏ الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئاً، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا الله ورسوله أعلم، فقال وهو غاضب قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله كأنه قال‏:‏ أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير، فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فرضي ذلك عمر، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏أيود أحدكم‏}‏، وقال‏:‏ هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه، عمل عمل السوء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم، وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر‏.‏ وقرأ الحسن «جنات» بالجمع، وقوله ‏{‏من تحتها‏}‏ هو تحت بالنسبة إلى الشجر، والواو في قوله ‏{‏وأصابه‏}‏ واو الحال، وكذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وله‏}‏ و‏{‏ضعفاء‏}‏ جمع ضعيف وكذلك ضعاف، وال ‏{‏إعصار‏}‏ الريح الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه، يكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم، وإن النار اشتكت إلى ربها»، الحديث بكماله، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها، قال السدي‏:‏ الإعصار الريح، والنار السموم، وقال ابن عباس ريح فيها سموم شديدة، وقال ابن مسعود إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءاً من النار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد من نار الآخرة، وقال الحسن بن أبي الحسن ‏{‏إعصار فيه نار‏}‏ ريح فيها صر، برد، وقاله الضحاك، وفي المثل‏:‏ إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب، وقال الزجاج‏:‏ الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة، قال المهدوي‏:‏ قيل لها ‏{‏إعصار‏}‏ لأنها تلتف كالثوب إذا عصر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة، ‏{‏ولعلكم‏}‏ ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلاً له‏.‏ وقال ابن عباس ‏{‏تتفكرون‏}‏ في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏267‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏‏}‏

هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه صيغة أمر من الإنفاق، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق، الزكاة المفروضة أو التطوع، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين‏:‏ هي في الزكاة المفروضة‏.‏ نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة، فالأمر على هذا القول للوجوب، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة، أن الآية في التطوع، وروى البراء بن عازب، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن الأنصار كانوا أيام الجداد يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفاً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «بئسما علق هذا»، فنزلت الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأمر على هذا القول على الندب، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار، والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى ‏{‏من طيبات‏}‏ من جيد ومختار ‏{‏ما كسبتم‏}‏، وجعلوا ‏{‏الخبيث‏}‏ بمعنى الرديء والرذالة، وقال ابن زيد معناه‏:‏ من حلال ما كسبتم، قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا الخبيت‏}‏ أي الحرام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه، وقوله‏:‏ ‏{‏من طيبات ما كسبتم‏}‏ يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال، لكن يكون المعنى كأنه قال‏:‏ أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط‏.‏ ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنة في المكسوب عاماً وتعديداً للنعمة كما تقول‏:‏ أطعمت فلاناً من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال‏:‏ ليس في مال المؤمن خبيث، و‏{‏كسبتم‏}‏ معناه كانت لكم فيه سعاية، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه، إذ الضمير في ‏{‏كسبتم‏}‏ إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين، ‏{‏ومما أخرجنا لكم من الأرض‏}‏ النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك، و‏{‏تيمموا‏}‏ معناه تعمدوا وتقصدوا، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ *** يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ

ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

تَيَمَّمْتُ قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ *** مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ

ومنه التيمم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعاً أولها هذا الحرف، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث» من أممت إذا قصدت، ومنه إمام البناء، والمعنى في القراءتين واحد، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب «ولا تُيمِّموا» بضم التاء وكسر الميم، وهذا على لغة من قال‏:‏ يممت الشيء بمعنى قصدته، وفي اللفظ لغات، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا» بهمزة بعد التاء، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم، وقد مضى القول في معنى ‏{‏الخبيث‏}‏ وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن‏:‏ قال فريق من الناس‏:‏ إن الكلام تم في قوله‏:‏ ‏{‏الخبيث‏}‏ ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث فقال‏:‏ ‏{‏تنفقون‏}‏ منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع، والضمير في ‏{‏منه‏}‏ عائد على ‏{‏الخبيث‏}‏، قال الجرجاني وقال فريق آخر‏:‏ بل الكلام متصل إلى قوله ‏{‏فيه‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالضمير في ‏{‏منه‏}‏ عائد على ‏{‏ما كسبتم‏}‏، ويجيء ‏{‏تنفقون‏}‏ كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقولك‏:‏ إنما أخرج أجاهد في سبيل الله، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏ فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم‏.‏ معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية‏:‏ لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع، إلا أن يهضم لكم من ثمنه، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة وقال البراء بن عازب أيضاً‏:‏ معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم ‏{‏إلا أن تغمضوا‏}‏ أي تستحيي من المهدي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه، ولا قدر له في نفسه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يشبه كون الآية في التطوع، وقال ابن زيد معنى الآية‏:‏ ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه، وقرأ جمهور الناس «إلا أن تُغْمِضوا» بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم‏.‏ وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففاً، وروي عنه أيضاً «تُغْمِّضُوا» بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمَّضوا» مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء‏.‏

وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففاً قال أبو عمرو معناه‏:‏ إلا أن يغمض لكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

لَمْ يَفُتنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وللذُ *** لِّ أُنَاسٌ يَرْضَونَ بالإغْمَاضِ

وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر‏:‏

إلى كم وكم أشياء منكمْ تريبني *** أغمض عنها لست عنها بذي عمى

وهذا كالإغضاء عند المكروه، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضاً من الأمر كما تقول‏:‏ أعمن إذا أتى عمان، وأعرق إذا أتى العراق، وأنجد، وأغور، إذا أتى نجداً والغور الذي هو تهامة، ومنه قول الجارية‏:‏ وإن دسر أغمض فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى التغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضاً من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراماً على قول ابن زيد، وإما لكونه مهدياً أو مأخوذاً في دين على قول غيره، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأما قراءته الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها‏.‏ ويحتمل أن تكون من تغميض العين‏.‏ وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها‏.‏ وقال ابن جني‏:‏ معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس، وهذا كما تقول‏:‏ أحمدت الرجل وجدته محموداً إلى غير ذلك من الأمثلة، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر، و‏{‏حميد‏}‏ معناه محمود في كل حال، وهي صفة ذات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏268- 269‏]‏

‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏‏}‏

هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمراً بالصدقة فهي جالبة للنفوس إلى الصدقة، بين عز وجل فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته، وذكر بثوابه هو لا رب غيره‏.‏ وذكر بتفضله بالحكمة وأثنى عليها، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عز وجل وغير ذلك، ثم ذكر علمه بكل نفقة ونذر‏.‏ وفي ذلك وعد ووعيد‏.‏ ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى‏.‏ والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعد ما هو فقد يقيد بالخير وبالشر كالبشارة‏.‏ فهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه وهو ‏{‏الفقر‏}‏ و‏{‏الفحشاء‏}‏ كل ما فحش وفحش ذكره، ومعاصي الله كلها فحشاء، وروى حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ «الفُقر» بضم الفاء، وهي لغة، وقال ابن عباس‏:‏ في الآية اثنتان من الشيطان، واثنتان من الله تعالى، وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك فليتعوذ، وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير فمن وجد ذلك فليحمد الله»، ثم قرأ عليه السلام ‏{‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم‏}‏ الآية، والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى، وذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى‏.‏ لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة بها قوية وروي أن في التوراة «عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة» وفي القرآن مصداقة‏:‏ وهو ‏{‏وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 39‏]‏ و‏{‏واسع‏}‏ لأنه وسع كل شيء رحمة وعلماً، ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه ‏{‏يؤتي الحكمة‏}‏ أي يعطيها لمن يشاء من عباده، واختلف المتأولون في ‏{‏الحكمة‏}‏ في هذا الموضع فقال السدي‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ النبوءة، وقال ابن عباس‏:‏ هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وعربيته‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ الفقه في القرآن، وقاله مجاهد‏:‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ الإصابة في القول والفعل، وقال ابن زيد وأبوه زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ العقل في الدين، وقال مالك‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له، وروى عنه ابن القاسم أنه قال‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ التفكر في أمر الله والاتباع له، وقال أيضاً ‏{‏الحكمة‏}‏ طاعة الله والفقه في الدين والعمل به، وقال الربيع‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ الخشية، ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ «رأس كل شيء خشية الله تعالى»، وقال إبراهيم‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ الفهم وقاله زيد بن أسلم، وقال الحسن‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ الورع، وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول‏.‏

وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة‏.‏ وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس‏.‏ وقرأ الجمهور «من يؤت الحكمة» على بناء الفعل للمفعول‏.‏ وقرأ الزهري ويعقوب «ومن يؤت» بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة ‏{‏فمن‏}‏ مفعول أول مقدم و‏{‏الحكمة‏}‏ مفعول ثان، وقرأ الأخفش‏:‏ «ومن يؤته الحكمة»، وقرأ الربيع بن خثيم «تؤتي الحكمة من تشاء» بالتاء في «تؤتي» و«تشاء» منقوطة من فوق، «ومن يؤت الحكمة» بالياء، وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم الغفلة، والألباب العقول واحدها لب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏270- 271‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏‏}‏

كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعاً وما يفعله بعد إلزامه لنفسه، ويقال‏:‏ نذر الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذُر» بضم الذال «وينذِر» بكسرها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله يعلمه‏}‏ قال مجاهد‏:‏ معناه يحصيه، وفي الآية وعد ووعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلاً ولا يجد ناصراً فيه، ووحد الضمير في ‏{‏يعلمه‏}‏ وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا الصدقات‏}‏ الآية، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع، قال ابن عباس‏:‏ جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال بسبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرا يقال بخمسة وعشرين ضعفاً، قال‏:‏ وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك، وقال سفيان الثوري هذه الآية في التطوع، وقال يزيد بن أبي حبيب‏:‏ إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر، وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري‏:‏ أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل، قال المهدوي‏:‏ وقيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع، قال أبو محمد‏:‏ وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء، وقال النقاش‏:‏ إن هذه الآية نسخها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 274‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فنعما هي‏}‏ ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء، واختلف القراء في قوله ‏{‏فنعما هي‏}‏، فقرأ نافع في غير رواية ورش، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل» فنِعمّا «بكسر النون وسكون» فنِعِمّا «بكسر النون والعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي» فَنعِمّا «بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم، قال أبو علي من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضاً من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال وشبهه، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكاناً للطف، ذلك في السمع وخفائه، وأما من قرأ» نِعِمّا «بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة» نِعم «بكسر الفاء من أجل حرف الحلق، ولا يجوز أن يكون ممن يقول» نعم «ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم، لا يدغم، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد، قال سيبويه» نِعِما «بكسر النون والعين ليس على لغة من قال» نعم «فاسكن العين، ولكن على لغة من قال» نعم «فحرك العين، وحدثنا أبو الخطاب أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال» نعْما «ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين، قال أبو علي وأما من قرأ «نَعِمّا» بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر‏:‏

ما أقلّت قدماي أنهم *** نَعِمَ الساعون في الأمر المبر

ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعْم» بسكون العين، وقال المهدوي وذلك جائز محتمل وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين، قال أبو علي، وما من قوله ‏{‏نعمّا‏}‏ في موضع نصب، وقوله ‏{‏هي‏}‏ تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير، نعم شيئاً إبداؤها‏.‏ والإبداء هو المخصوص بالمدح‏.‏ إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويدلك على هذا قوله ‏{‏فهو خير لكم‏}‏ أي الإخفاء خير، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات، فكذلك أولاً الفاعل هو الإبداء، وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه، واختلف القراء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونكفر عنكم‏}‏ فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «ونكفرُ» بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي‏:‏ «ونكفرْ» بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضاً عن عاصم، وقرأ ابن عامر‏:‏ «ويكفرُ» بالياء ورفع الراء، وقرأ ابن عباس ‏{‏وتكفر‏}‏ بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء، وقرأ عكرمة‏:‏ ‏{‏وتكفر‏}‏ بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء، وقرأ الحسن‏:‏ «ويكفرْ» بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أنه قرأ‏:‏ ‏{‏ويكفر‏}‏ بالياء ونصب الراء، وقال أبو حاتم‏:‏ قرأ الأعمش‏:‏ «يكفر» بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ‏:‏ «وتكفرُ» بالتاء ورفع الراء، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فما كان من هذ القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء هو المكفر، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء، وتقدير ونحن نكفر، أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر، والثاني‏:‏ القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهو خير‏}‏ إذ هو في موضع جزم جواباً للشرط، كأنه قال‏:‏ وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ‏:‏

‏{‏من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏ بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن» وتأمل، وقال المهدوي هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام‏.‏ والجزم في الراء أفصح هذه القراءات‏.‏ لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء‏.‏ وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى، و‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من سيئاتكم‏}‏ للتبعيض المحض، والمعنى في ذلك متمكن، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت‏:‏ ‏{‏من‏}‏ زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ، وقوله‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ وعد ووعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏272‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏‏}‏

روي عن سعيد بن جبير في سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم»، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام، وذكر النقاش أن النبي عليه السلام أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال‏:‏ أعطني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس لك في صدقة المسلمين من شيء»، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية، ‏{‏ليس عليك هداهم‏}‏ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية ‏{‏إنما الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ وروي عن ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات في بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلمون إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وحكى بعض المفسرين أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أرادت أن تصل جدها أبا قحافة، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافراً، فنزلت الآية في ذلك، وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم‏}‏ قال أبو محمد‏:‏ وهذه الصدقة التي أبيحت عليهم حسبما تضمنته هذه الآثار إنما هي صدقة التطوع‏.‏ وأما المفروضة فلا يجزي دفعها لكافر، وهذا الحكم متصور للمسلمين اليوم مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين‏.‏ قال ابن المنذر أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئاً، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك، ولم يذكر خلافاً، وقال المهدوي رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة بهذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا مردود عندي، والهدى الذي ليس على محمد صلى الله عليه وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه، وليس بمراد في هذه الآية، ثم أخبر تعالى أنه هو‏:‏ ‏{‏يهدي من يشاء‏}‏ أي يرشده، وفي هذا رد على القدرية وطوائف المعتزلة، ثم أخبر أن نفقة المرء تأجراً إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت، ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله‏}‏ وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل، وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة، ونصب قوله ‏{‏ابتغاء‏}‏ هو على المفعول من أجله، ثم ذكر تعالى أن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه شيئاً، فيكون ذلك أبخس ظلماً لهم، وهذا هو بيان قوله‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم‏}‏ والخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خيراً مستقراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثقال ذرة خيراً يره‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏ إلى غير ذلك، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة‏:‏ كل خير في كتاب الله فهو المال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏273‏]‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏‏}‏

هذه اللام في قوله ‏{‏للفقراء‏}‏ متعلقة بمحذوف مقدر، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء، وقال مجاهد والسدي وغيرهما‏:‏ المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، قال الفقيه أو محمد‏:‏ ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم، ثم بيّن الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم، بقوله‏:‏ ‏{‏الذين أحصروا في سبيل الله‏}‏ والمعنى حبسوا ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار، حكاه ابن سيده وغيره، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه بالعدو‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار‏.‏ وحصر بالعدو‏.‏ وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري‏.‏ وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر، فصار خوف العدو عذراً أحصروا به‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر، كما قالو قبره أدخله في قبره وأقبره جعله ذا قبر، فالعدو وكل محيط يحصر، والأعذار المانعة «تُحصِر» بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به، وقوله‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام، واللفظ يتناولهما، والضرب في الأرض هو التصرف في التجارة، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفراً مطبقاً، وهذا في صدر الهجرة، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد‏.‏ وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة‏.‏ فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث ‏{‏يحسبهم الجاهل‏}‏ بباطن أحوالهم ‏{‏أغنياء‏}‏ و‏{‏التعفف‏}‏ تفعل، وهو بناء مبالغة من عفَّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه‏.‏ وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي «يحسِبهم» بكسر السين‏.‏ وكذلك هذا الفعل في كل القرآن، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم» بفتح السين في كل القرآن، وهما لغتان في «يحسب» كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به، وإن كان شاذاً عن القياس، و‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من التعفف‏}‏ لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف، وإنما يحسبهم أغنياء غناء مال، ومحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏‏:‏ المعنى لا يسألون البتة‏.‏

وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس، سنذكره بعد والسيما مقصورة العلامة‏.‏ وبعض العرب يقول‏:‏ السيمياء بزيادة ياء وبالمد، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ *** واختلف المفسرون في تعيين هذه «السيما» التي يعرف بها هؤلاء المتعففون، فقال مجاهد‏:‏ هي التخشع والتواضع، وقال السدي والربيع‏:‏ هي جهد الحاجة وقصف الفقر في وجوههم وقلة النعمة، وقال ابن زيد‏:‏ هي رثة الثياب، وقال قوم، وحكاه مكي‏:‏ هي أثر السجود‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبداً، و«الإلحاف» والإلحاح بمعنى واحد، وقال قوم‏:‏ هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية، ومنه اللحاف، ومنه قول ابن الأحمر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقُفْقُفَيْهِ *** وَيُلْحِفُهنَّ هَفهَافاً ثَخِينَا

يصف ذكر نعام يحضن بيضاً، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن المعنى لا يسألون البتة‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط، أما الأولى فعلى أن يكون ‏{‏التعفف‏}‏ صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال، وتكون ‏{‏من‏}‏ لابتداء الغاية ويكون قوله‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافاً من الناس، كما تقول‏:‏ هذا رجل خير لا يقتل المسلمين‏.‏ فقولك‏:‏ «خير» قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل، وكثيراً ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجوداً في القضية مشاراً إليه في نفس المتكلم والسامع‏.‏ وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة، وهو مما يكره، فلذلك نبه عليه‏.‏

وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون ‏{‏التعفف‏}‏ داخلاً في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالاً، بل هو قليل‏.‏

وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، ف ‏{‏من‏}‏ لبيان الجنس على هذا التأويل، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقرراً لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي، وقال الزجّاج رحمه الله‏:‏ المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف‏.‏

وهذا كما قال امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

عَلَى لاَحِبٍ يُهتَدَى بِمَنَارِهِ *** أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية، وأما تشبيهه الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح، وذلك أن قوله‏:‏ على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

قِفْ بِالطُّلُولِ التي لَمْ يَعْفُهَا القدَمُ *** وقوله الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

وَمَنْ خفْتُ جَوْرِهِ فِي القَضَا *** ء فَمَا خِفْتُ جَوْرَك يَا عَافِيهْ

وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار، وإن كان المنار موجوداً فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور، وهذا لا يترتب في الآية، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني، أي ليس ثم منار، فإذاً لا يكون اهتداء بمنار، وليس ثم قدم فإذاً لا يكون عفا، وليس ثم جور فإذاً لا يكون خوف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏، لا يترتب فيه شيء من هذا، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره، ثم خصص بقوله‏:‏ ‏{‏إلحافاً‏}‏ جزءاً من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم، والسؤال ليس هكذا مع الألحاف، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالاً لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال، كأنك قلت تكسباً أو نحوه لصح الشبه، والله المستعان وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم‏}‏ وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب‏.‏