فصل: تفسير الآية رقم (3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


الجزء الأول

سورة الفاتحة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قال ابن عباس، وموسى بن جعفر عن أبيه، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، ومحمد بن يحيى بن حبان‏:‏ إنها مكية، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر ‏{‏ولقد آتيناك سبعاً من المثاني‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏ والحجر مكية بإجماع‏.‏ وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني، والسبع الطُّول نزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين‏.‏

وروي عن عطاء بن يسار، وسوادة بن زياد، والزهري محمد بن مسلم، وعبد الله بن عبيد بن عمير أن سورة الحمد مدنية‏.‏

وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب، لأن موضعها يعطي ذلك، واختلف هل يقال لها أم الكتاب، فكرة الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال‏:‏ «أم الكتاب والحلال والحرام»‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس وغيره‏:‏ «يقال لها أم الكتاب»‏.‏

وقال البخاري‏:‏ سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة، وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، واختلف هل يقال لها أم القرآن‏؟‏ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء‏.‏

قال يحيى بن يعمر‏:‏ «أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأم القرآن سورة الحمد»‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ اسمها أم القرآن‏.‏ وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخراً لها‏.‏

وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها» ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلاً من الله تعالى لا يعلل، وكذلك يجيء عدل ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ وعدل ‏{‏زلزلت‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الحمد لله رب العالمين فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام» وورد حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة»

وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجراً طالب ثوان، لأن قوله الحمد لله في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قول لا إله إلا الله توحيد فقط‏.‏ فأما إذا أخذا بموضعهما من شرع الملة ومحلهما من رفع الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل، والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله»

‏{‏الحمد‏}‏ معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر، وشكره حمد ما، والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئاً، فالحامد من الناس قسمان‏:‏ الشاكر والمثني بالصفات‏.‏

وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد، وذلك غير مرضي‏.‏

وحكي عن بعض الناس أنه قال‏:‏ «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه، والحمدُ ثناء بأوصافِه»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد‏.‏ واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك الحمد لله شكراً‏.‏ وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه‏.‏ لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم‏.‏ وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمدُ لله»‏.‏

وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمدَ لله» بفتح الدال وهذا على إضمار فعل‏.‏

وروي عن الحسن بن الحسن وزيد بن علي‏:‏ «الحمدِ لله»، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني‏.‏

وروي عن ابن أبي عبلة‏:‏ «الحمدُ لُله»، بضم الدال واللام، على اتباع الثاني والأول‏.‏

قال الطبري‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه، فكأنه قال‏:‏ «قولوا الحمد لله» وعلى هذا يجيء «قولوا إياك» قال‏:‏ وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر‏:‏

وأعلَمُ أنني سأكونُ رمساً *** إذا سار النواعِجُ لا يسيرُ

فقالَ السائلونَ لِمَنْ حفرْتُمْ *** فقال القائلونَ لهمْ وزيرُ

المعنى المحفور له وزير، فحذف لدلالةِ ظاهرِ الكلامِ عليه، وهذا كثير‏.‏

وقرأت طائفة «ربَّ» بالنصب‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ «هو نصب على المدح»‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ «هو على النداء، وعليه يجيء ‏{‏إياك‏}‏»‏.‏

والرب في اللغة‏:‏ المعبود، والسيد المالك، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها، والملك،- تأتي اللفظة لهذه المعاني-‏.‏

فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر ‏[‏غاوي بن عبد العزى‏]‏‏:‏

أربّ يبولُ الثعلبان برأسه *** لقد هانَ من بالَتْ عليه الثَّعالبُ

ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم‏:‏ رب العبيد والمماليك‏.‏

ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد‏:‏

وأهلكن يوماً ربَّ كندة وابنَهُ *** وربَّ معدٍّ بين خَبْتٍ وعَرْعَرٍ

ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة‏:‏

تخبُّ إلى النعمان حتّى تنالَهُ *** فدى لك من ربٍّ طريفي وتالدي

ومن معنى الإصلاح قولهم‏:‏ أديم مربوب، أي مصلح، قال الشاعر الفرزدق‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

كانوا كسالئةٍ حمقاء إذْ حقنتْ *** سلاءَها في أديمٍ غيرِ مَرْبُوبِ

ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين‏:‏ «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن»‏.‏

ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان‏:‏ «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم»‏.‏ ذكره البخاري في تفسير سورة براءة‏.‏ ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

وكنت أمراً أفضت إليك ربابتي *** ومن قبل ربتني فضعت ربوبُ

وهذه الاستعمالات قد تتداخل، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى‏.‏

و ‏{‏العالمين‏}‏ جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، يقال لجملته عالم، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم، وبحسب ذلك يجمع على العالمين، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجاج‏.‏ وقد تقدم القول في «الرحمن الرحيم»‏.‏

واختلف القراء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ملك يوم الدين‏}‏‏.‏

فقرأ عاصم والكسائي «مالك يوم الدين»‏.‏

قال الفارسي‏:‏ «وكذلك قرأها قتادة والأعمش»‏.‏

قال مكي‏:‏ «وروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك بالألف، وكذلك قرأها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وطلحة، والزبير، رضي الله عنهم»‏.‏

وقرأ بقية السبعة «ملك يوم الدين» وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ «ملْك يوم الدين»‏.‏ هذه رواية عبد الوارث عنه‏.‏

وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ «ملكي» وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي‏.‏

وقرأ أبو حيوة «ملِكَ» بفتح الكاف وكسر اللام‏.‏

وقرأ ابن السميفع، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وأبو صالح السمان، وأبو عبد الملك الشامي «مالكَ» بفتح الكاف‏.‏ وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله ‏{‏إياك‏}‏‏.‏

ورد الطبري على هذا وقال‏:‏ «إن معنى السورة‏:‏ قولوا الحمد لله، وعلى ذلك يجيء ‏{‏إياك‏}‏ و‏{‏اهدنا‏}‏‏.‏

وذكر أيضاً أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب‏.‏ وبالعكس، وبالعكس، كقول أبي كبير الهذلي‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

يا ويح نفسي كان جلدة خالد *** وبياض وجهك للتراب الأعفر

وكما قال لبيد‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

قامت تشكّى إليَّ النفسُ مجهشة *** وقد حملتُكَ سبعاً سبعينا

وكقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏}‏

‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقرأ يحيى بن يعمر والحسن بن أبي الحسن، وعلي بن أبي طالب «ملك يوم الدين» على أنه فعل ماض‏.‏

وقرأ أبو هريرة «مليك» بالياء وكسر الكاف‏.‏

قال أبو علي‏:‏ ولم يمل أحد من القراء ألف «مالك»، وذلك جائز، إلا أنه يقرأ بما يجوز، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض، و«المُلك» و«المِلك» بضم الميم وكسرها وما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد وضبط، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏:‏

ملكتُ بها كفّي فأنهرتُ فَتْقَها *** وهذا يصف طعنة فأراد شددت، ومن ذلك قول أومن بن حجر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

فملَّكَ بالليطِ تحتَ قشرِها *** كغرقئ بيضٍ كنَّه القيضُ من علِ

أراد شدد، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس، والذي مفعول وليس بصفة لليط، ومن ذلك قولهم‏:‏ إملاك المرأة وإملاك فلان إنما هو ربط النكاح، كما قالوا‏:‏ عقدة النكاح، إذ النكاح موضع شد وربط، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له، وكذلك الملك، واحتج من قرأ «ملك» بأن لفظة «ملك» أعم من لفظة «مالك» إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً، والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك‏.‏ وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك‏.‏ فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلاً يملكها أجمع أو رجلاً هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والأحكام، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفاً وأعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها، كما لكل أحد في ملكه، ثم عنده زيادة التملك، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد، فهو مالكه وملكه، والقراءتان حسنتان‏.‏

وحكى أبو علي في حجة من قرأ «مالك يوم الدين» أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم وأنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير، والدراهم، والطير، والبهائم، ولا يقال ملكها، ومالك في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء وملك الحكم فيها، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ «الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ» ملك يوم الدين «مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع ولعل قائل ذلك أرد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد ونحوه»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين» بغير ألف، وفيه أيضاً أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين» بألف‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ والاختيار عندي «ملك يوم الدين» لأن «الملك» و«الملك» يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا ملكت العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره‏.‏

قال‏:‏ والوجه لمن قرأ «ملك» أن يقول‏:‏ إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه‏.‏

قال أبو الحسن الأخفش‏:‏ «يقال» ملك «بين الملك، بضم الميم، ومالك بين» المِلك «و» المَلك «بفتح الميم وكسرها، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى، وروى بعض البغداديين في هذا الوادي» مَلك «و» ملك «و» مِلك «بمعنى واحد»‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القرءة ب» ملك «أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله ‏(‏رب العالمين‏)‏ فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير»‏.‏

قال أبو علي ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الله الخالق البارئ المصور‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 24‏]‏ ف الخالق يعم وذكر ‏{‏المصور‏}‏ لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبالآخرة هم يوقنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ فذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ وأيضاً‏:‏ فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

‏(‏ومن قبل ربتني فضعت ربوب‏)‏ *** وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ «مالك يوم الدين» والجر في «ملك» أو «مالك» على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح، والإضافة إلى ‏{‏يوم الدين‏}‏ في كلتا القراءتين من باب يا سارق الليلة أهل الدار، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد، وليس هذا كإضافة قوله تعالى‏:‏

‏{‏وعنده علم الساعة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 85‏]‏، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، أي إنه يعلم الساعة وحقيقتها، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وأما على المعنى الذي قاله ابن السراج من أن معنى «مالك يوم الدين» أنه يملك مجيئه ووقوعه، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة، وليس ظرفاً اتسع فيه‏.‏

قال أبو علي‏:‏ ومن قرأ «مالك يوم الدين» فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره مالك يوم الدين الاحكام، ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ فنصب ‏{‏الشهر‏}‏ على أنه ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر، ولو كان الشهر مفعولاً للزم الصوم للمسافر، لأن شهادته لشهر كشهادة المقيم، وشهد يتعدى إلى مفعول يدل على ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

ويوماً شهدناه سليماً وعامرا *** والدين لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء، منها الملة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى، وسمي حظ الرجل منها في أقواله وأعماله واعتقاداته ديناً، فيقال فلان حسن الدين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه في قميص عمر الذي رآه يجره‏:‏ «قيل‏:‏ فما أولته يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الدين» وقال علي بن أبي طالب‏:‏ «محبة العلماء دين يدان به»‏.‏ ومن أنحاء اللفظة الدين بمعنى العادة‏:‏ فمنه قول العرب في الريح‏:‏ «عادت هيف لأديانها» ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كدينك أمّ الحويرثِ قبلَها *** ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المثقب العبدي‏]‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏:‏

أهذا دينه أبداً وديني *** إلى غير من الشواهد، يقال دين ودينة أي عادة، ومن أنحاء اللفظة‏:‏ الدين سيرة الملك وملكته، ومنه قول زهير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

لئن حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسد *** في دين عمروٍ وحالتْ بينَنَا فَدَكُ

أراد في موضع طاعة عمرو وسيرته، وهذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله ‏{‏ملك يوم الدين‏}‏‏.‏ ومن أنحاء اللفظة الدين الجزاء، فمن ذلك قول الفند الزماني‏:‏ ‏[‏شهل بن شيبان‏]‏ ‏[‏الهزج‏]‏‏.‏

ولم يبق سوى العدوا *** ن دنّاهم كما دانوا

أي جازيناهم‏.‏ ومنه قول كعب بن جعيل‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏‏.‏

إذا ما رمونا رميناهمُ *** ودناهمُ مثل ما يقرضونا

ومنه قول الآخر‏:‏

واعلمْ يقيناً أنّ ملكَكَ زائلٌ *** واعلمْ بأنَّ كما تدينُ تدانُ

وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلحُ لتفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ملك يوم الدين‏}‏ أي يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وقتادة وغيرهم‏.‏

قال أبو علي‏:‏ يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم تجزى كل نفس بما كسبت‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏، و‏{‏اليوم تجزون ما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وحكى أهل اللغة‏:‏ دنته بفعله ديناً بفتح الدال وديناً بكسرها جزيته، وقيل الدين المصدر والدين بكسر الاسم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏ملك يوم الدين‏}‏ أي يوم الحساب، مدينين محاسبين وهذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء‏.‏ ومن أنحاء اللفظة الدين الذل، والمدين العبد، والمدينة الأمة، ومنه قول الأخطل‏:‏

رَبَتْ وَرَبَا في حِجْرِها ابنُ مدينةٍ *** تراه على مِسْحاتِه يَتَرَكَّلُ

أي ابن أمة، وقيل بل أراد ابن مدينة من المدن، الميم أصلية، ونسبه إليها كما يقال ابن ماء وغيره‏.‏ وهذا البيت في صفة كرمة فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب‏.‏ ومن أنحاء اللفظة الدين السياسة، والديان السائس، ومنه قول ذي الأصبع الحدثان بن الحارث‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

لاهِ ابنِ عمّك لا أفضلتَ في حسبٍ *** يوماً ولا أنتَ دياني فتخزوني

ومن أنحاء اللفظة الدين الحال‏.‏

قال النضر بن شميل‏:‏ «سألت أعرابياً عن شيء فقال لي لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك»‏.‏ ومن أنحاء اللفظة الدين الداء، عن اللحياني وأنشد‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

ما دين قلبك من سلمى وقد دينا *** قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو، فلم يبق إلا قول اللحياني‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏‏.‏

نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك، وقدم المفعول على الفعل اهتماماً، وشأن العرب تقديم الأهم‏.‏

ويذكر أن أعرابياً سبّ آخر فأعرضَ المسبوبُ عنهُ، فقال له السابُّ‏:‏ «إياك أعني» فقال الآخر‏:‏ «وعنكَ أُعرِضُ» فقدَّما الأهم‏.‏

وقرأ الفضل الرقاشي‏:‏ «أياك» بفتح الهمزة، وهي لغة مشهورة وقرأ عمرو بن فائد‏:‏ «إيَاك» بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها، وهذا كتخفيف «ربْ» و«إنْ» وقرأ أبو السوار الغنوي‏:‏ «هيّاك نعبد وهيّاك نستعين» بالهاء، وهي لغة‏.‏ واختلف النحويون في ‏{‏إيّاك‏}‏ فقال الخليل‏:‏ إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف، وحكي عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب‏.‏ وقال المبرد‏:‏ إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ ‏{‏إيّاك‏}‏ بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال‏:‏ الكاف والهاء والياء هي الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها ولا تكون إلا متصلات، فإذا تقدمت الأفعال جعل «إيّا» عماداً لها‏.‏ فيقال «إياك» و«إياه» و«إيّاي»، وإذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن «إيا»‏.‏

وحكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب، وزيدت الكاف والياء والهاء تفرقة بين المخاطب والغائب والمتكلم، ولا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك وفي أرايتك زيداً ما فعل‏.‏

و ‏{‏نعبد‏}‏ معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة، والطريق المذلل يقال له معبد، وكذلك البعير‏.‏ وقال طرفة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

تباري عتاق الناجيات وأتبعت *** وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد

وتكررت ‏{‏إياك‏}‏ بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام‏.‏

و ‏{‏نستعين‏}‏ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرؤ من الأصنام‏.‏ وقرأ الأعمش وابن وثاب والنخعي‏:‏ «ونستعين» بكسر النون، وهي لغة لبعض قريش في النون والتاء والهمزة ولا يقولونها في ياء الغائب وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحوعلم وشرب، وكذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال، فإنهم يقولون تخال وأخال‏.‏

و ‏{‏نستعين‏}‏ أصله نستعون نقلت حركة الواو إلى العين وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، والمصدر استعانة أصله استعواناً نقلت حركة الواو إلى العين فلما انفتح ما قبلها وهي في نية الحركة انقلبت ألفاً، فوجب حذف أحد الألفين الساكنين، فقيل حذفت الأولى لأن الثانية مجلوبة لمعنى، فهي أولى بالبقاء، وقيل حذفت الثانية لأن الأولى أصلية فهي أولى بالبقاء، ثم لزمت الهاء عوضاً من المحذوف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا‏}‏ رغبة لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغة الأمر كلها، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر، والهداية في اللغة الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبرعنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

قال أبو المعالي‏:‏ فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل قوم هاد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ أي داع وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ وهذا أيضاً يبين فيه الإرشاد، لأنه ابتداء إرشاد، أجاب المدعو أو لم يجب، وقد جاء بمعنى الإلهام، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قال المفسرون‏:‏ معناه «ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها»‏.‏

وهذا أيضاً بين فيه معنى الإرشاد، وقد جاء الهدى بمعنى البيان، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما ثمود فهديناهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قال المفسرون‏:‏ «معناه بينا لهم»‏.‏ قال أبو المعالي‏:‏ معناه دعوناهم ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن علينا للهدى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 12‏]‏ أي علينا أن نبين، وفي هذا كله معنى الإرشاد‏.‏

قال أبو المعالي‏:‏ وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين‏:‏ ‏{‏فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 5‏]‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 23‏]‏ معناه فاسلكوهم إليها‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد الضلال وهي الواقعة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ على صحيح التأويل، وذلك بين من لفظ ‏{‏الصراط‏}‏، والهدى لفظ مؤنث، وقال اللحياني‏:‏ «هو مذكر» قال ابن سيده‏:‏ «والهدى اسم من أسماء النهار» قال ابن مقبل‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة *** يخشعن في الآل غلفاً أو يصلينا

و ‏{‏الصراط‏}‏ في اللغة الطريق الواضح فمن ذلك قول جرير‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

أمير المؤمنين على صراط *** إذ اعوج الموارد مستقيم

ومنه قول الآخر‏:‏ فصد عن نهج الصراط الواضح‏.‏

وحكى النقاش‏:‏ «الصراط الطريق بلغة الروم»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف جداً‏.‏ واختلف القراء في ‏{‏الصراط‏}‏ فقرأ ابن كثير وجماعة من العلماء‏:‏ «السراط» بالسين، وهذا هو أصل اللفظة‏.‏

قال الفارسي‏:‏ «ورويت عن ابن كثير بالصاد»‏.‏ وقرأ باقي السبعة غير حمزة بصاد خالصة وهذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الاطباق فيحسنان في السمع، وحكاها سيبويه لغة‏.‏

قال أبو علي‏:‏ روي عن أبي عمرو السين والصاد، والمضارعة بين الصاد والزاي، رواه عنه العريان بن أبي سفيان‏.‏ وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة‏.‏

قال بعض اللغويين‏:‏ «ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زاياً، ولم يكن الأصمعي نحوياً فيؤمن على هذا»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد‏.‏ وقرأ حمزة بين الصاد والزاي‏.‏ وروي أيضاً عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة‏.‏

قال ابن مجاهد‏:‏ «وهذه القراءة تكلف حرف بين حرفين، وذلك أصعب على اللسان، وليس بحرف يبنى عليه الكلام ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب، إلا أن الصاد أفصح وأوسع»‏.‏

وقرأ الحسن والضحاك‏:‏ «اهدنا صراطاً مستقيماً» دون تعريف وقرأ جعفر بن محمد الصادق‏:‏ «اهدنا صراطَ المستقيم» بالإضافة وقرأ ثابت البناني‏:‏ «بصرنا الصراط»‏.‏

واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له ‏{‏الصراط‏}‏ في هذا الموضع وما المراد به، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ «‏{‏الصراط المستقيم‏}‏ هنا القرآن» وقال جابر‏:‏ «هو الإسلام» يعني الحنيفية‏.‏ وقال‏:‏ سعته ما بين السماء والأرض‏.‏ وقال محمد بن الحنفية‏:‏ «هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره» وقال أبو العالية‏:‏ «هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر»‏.‏ وذكر ذلك للحسن بن أبي الحسن، فقال‏:‏ صدق أبو العالية ونصح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام، وهو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون وعندهم المعتقدات وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قولهم ‏{‏اهدنا‏}‏ فيما هو حاصل عندهم طلب التثبيت والدوام، وفيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به أو التقصير في المحافظة عليه طلب الإرشاد إليه‏.‏ وأقول إن كل داع فإنما يريد ‏{‏الصراط‏}‏ بكماله في أقواله وأفعاله ومعتقداته، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه ولا يتجه أن يراد ب ‏{‏اهدنا‏}‏ في هذه الآية اخلق الإيمان في قلوبنا، لأنها هداية مقيدة إلى صراط ولا أن يراد بها ادعنا، وسائر وجوه الهداية يتجه، و‏{‏الصراط‏}‏ نصب على المفعول الثاني، و‏{‏المستقيم‏}‏ الذي لا عوج فيه ولا انحراف، والمراد أنه استقام على الحق وإلى غاية الفلاح، ودخول الجنة، وإعلال ‏{‏مستقيم‏}‏ أن أصله مستقوم نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وصراط الذين بدل من الأول‏.‏

وقرأ عمر بن الخطاب، وابن الزبير‏:‏ «صراط من أنعمت عليهم»‏.‏

و ‏{‏الذين‏}‏ جمع الذي، وأصله «لذٍ»، حذفتْ منه الياء للتنوين كما تحذف من عمٍ، وقاضٍ، فلما دخلته الألف واللام ثبتت الياء‏.‏ و«الذي» اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة وعائد، وهو مبني في إفراده‏.‏ وجمعه معرب في تثنيته‏.‏ ومن العرب من يعرب جمعه، فيقول في الرفع اللذون، وكتب الذي بلام واحدة في الإفراد والجمع تخفيفاً لكثرة الاستعمال، واختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم‏.‏

فقال ابن عباس وجمهور من المفسرين‏:‏ إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً، وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع اللَّهَ والرسولَ فأولئكَ مع الذينَ أنعمَ اللَّهُ عليهمْ من النبيين والصدّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً‏}‏

‏[‏النساء‏:‏ 66-69‏]‏ فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم‏.‏ وهو المطلوب في آية الحمد‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ «المنعم عليهم هو المؤمنون»‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «المنعم عليهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم»‏.‏

وحكى مكي وغيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهمْ مؤمنو بني إسرائيل، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40، 47، 122‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «المنعم عليهم أصحابُ موسى قبل أن يبدلوا»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا والذي قبله سواء‏.‏

وقال قتادة بن دعامة‏:‏ «المنعم عليهم الأنبياء خاصة»‏.‏

وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال‏:‏ «المنعم عليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عمر»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر ‏{‏الصراط المستقيم‏}‏ بذلك، وعلى ما حكى مكي ينتقض الأول ويكون ‏{‏الصراط المستقيم‏}‏ طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏ وهذا أقوى في المعنى، لأن تسمية أشخاصهم طريقاً تجوز، واختلف القراء في الهاء من ‏{‏عليهم‏}‏، فقرأ حمزة «عليهُمْ» بضم الهاء وإسكان الميم، وكذلك لديهم وإليهم، قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء واختلفوا في الميم‏.‏

فروي عن نافع التخيير بين ضمها وسكونها، وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان‏.‏

وكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ «عليهمو وقلوبهمو وسمعهمو وأبصارهمو»‏.‏

وقرأ ورش الهاء مكسورة والميم موقوفة، إلا أن تلقى الميم ألفاً أصلية فيلحق في اللفظ واواً مثل قوله‏:‏ ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وكان أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، والكسائي، يكسرون، ويسكنون الميم، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم، وابن كثير، ونافع يمضون على كسر الهاء وضم الميم، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليهم الذلة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61، آل عمران‏:‏ 112‏]‏ و‏{‏من دونهم امرأتين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏ وما أشبه ذلك، وكان أبو عمرو يكسر الهاء والميم فيقول‏:‏ ‏{‏عليهم الذلة‏}‏ و‏{‏إليهم اثنين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 14‏]‏ وما أشبه ذلك‏.‏

وكان الكسائي يضم الهاء والميم معاً، فيقرأ ‏{‏عليهم الذلة‏}‏ و‏{‏من دونهم امرأتين‏}‏‏.‏

قال أبو بكر أحمد بن موسى‏:‏ وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم والتسكين في مثل قوله تعالى‏:‏ منكم وأنتم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحكى صاحب الدلائل قال‏:‏ «قرأ بعضهم عليهمو بواو وضمتين، وبعضهم بضمتين وألغى الواو، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء، وبعضهم بكسرتين وألغى الياء، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم»‏.‏

قال‏:‏ «وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة»‏.‏

قال ابن جني‏:‏ «حكى أحمد بن موسى عليهمو وعليهمُ بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، وعليهم بسكون الميم»‏.‏

وقرأ الحسن وعمرو بن فائد «عليهمي»‏.‏

وقرئ «عليهمِ» بكسر الميم دون إشباع إلى الياء‏.‏

وقرأ الأعرج‏:‏ «علِيهمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إشباع‏.‏

وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏}‏‏.‏

اختلف القراء في الراء من غير، فقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بخفض الراء، وقرأ بن كثير بالنصب، وروي عنه الخفض‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «الخفض على ضربين‏:‏ على البدل، من ‏{‏الذين‏}‏، أو على الصفة للنكرة، كما تقول مررت برجل غيرك، وإنما وقع هنا صفة ل ‏{‏الذين‏}‏ لأن ‏{‏الذين‏}‏ هنا ليس بمقصود قصدهم، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه»‏.‏

قال‏:‏ «والنصب في الراء على ضربين‏:‏ على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم، ويجوز النصب على أعني»‏.‏ وحكي نحو هذا عن الخليل‏.‏

ومما يحتج به لمن ينصب أن ‏{‏غير‏}‏ نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة‏.‏ والاختيار الذي لا خفاء به الكسر‏.‏ وقد روي عن ابن كثير، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار‏.‏

قال أبو بكر بن السراج‏:‏ «والذي عندي أن ‏{‏غير‏}‏ في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة، وهذا شيء فيه نظر ولبس، فليفهم عني ما أقول‏:‏ اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت غير ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة، فأنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته، ونفي ضده، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة، وذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون، وكذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه، فمتى كانت غير على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ أبقى أبو بكر ‏{‏الذين‏}‏ على حد التعريف، وجوز نعتها ب ‏{‏غير‏}‏ لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع، وغير أبي بكر وقف مع تنكر غير، وذهب إلى تقريب ‏{‏الذين‏}‏ من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة، و‏{‏المغضوب عليهم‏}‏ اليهود، والضالون النصارى‏.‏

وهكذا قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد، وروي ذلك عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بين من كتاب الله تعالى، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله‏:‏ ‏{‏وباؤوا بغضب من الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61، آل عمران‏:‏ 112‏]‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أؤنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏ فهؤلاء اليهود، بدلالة قوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65‏]‏ والغضب عليهم هو من الله تعالى، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محناً وعقوبات وذلة ونحو ذلك، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعداً مؤكداً مبالغاً فيه، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فلما ورد ضلوا، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام‏.‏ وقد قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 77‏]‏‏.‏

قال مكي رحمه الله حكاية‏:‏ دخلت ‏{‏لا‏}‏ في قوله ‏{‏ولا الضالين‏}‏ لئلا يتوهم أن ‏{‏الضالين‏}‏ عطف على ‏{‏الذين‏}‏‏.‏

قال‏:‏ «وقيل هي مؤكدة بمعنى غير»‏.‏

وحكى الطبري أن ‏{‏لا‏}‏ زائدة، وقال‏:‏ هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز‏:‏

فما ألوم البيض ألا تسخرا- أراد أن تسخر- *** وفي قول الأحوص‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه *** وللهو داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ

وقال الطبري‏:‏ يريد‏:‏ ويلحينني في اللهو أن أحبه «‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وبيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه ف» لا «فيه متمكنة‏.‏

قال الطبري‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما منعك أن لا تسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ وإنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف، ولأنها تقدمها الجحد في صدر الكلام، فسيق الكلام الآخر مناسباً للأول، كما قال الشاعر‏:‏

ما كان يرضي رسول الله فعلهم *** والطيبان أبو بكر ولا عمر

وقرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب‏:‏» غير المغضوب عليهم وغير الضالين «‏.‏

وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين‏.‏

قال الطبري‏:‏» فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد‏؟‏ قيل‏:‏ هم كذلك ولكن وسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره «‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ وهذا غير شاف، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم، وتعنتهم، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا، فسمى تعالى ما أحل بهم غضباً، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضباً خاصاً بأفاعيلهم، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر، وليس في العبارة ب ‏{‏الضالين‏}‏ تعلق للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار وتحركت الشجرة والهادم والمحرك غيرهما، وكذلك النصارى خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم‏.‏

وقرأ أيوب السختياني‏:‏ «الضألين» بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة‏.‏

حكى أبو زيد قال‏:‏ سمعت عمرو بن عبيد يقرأ‏:‏ «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن» فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ وعلى هذه اللغة قول كثير ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

إذا ما العوالي بالعبيط احْمَأَرَّتِ *** وقول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

وللأرض أما سودُها فتجللَتْ *** بياضاً وأمّا بيضُها فادْهأَمَّتِ

وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبعُ آيات‏:‏ ‏{‏العالمين‏}‏ آية، ‏{‏الرحيم‏}‏ آية، ‏{‏الدين‏}‏ آية، ‏{‏نستعين‏}‏ آية، ‏{‏المستقيم‏}‏ آية، ‏{‏أنعمت عليهم‏}‏ آية، ‏{‏ولا الضالين‏}‏ آية، وقد ذكرنا في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك‏.‏

القول في آمين

روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ إذا قال الإمام‏:‏ ‏{‏ولا الضالين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏ فقولوا آمين‏.‏ فإن الملائكة في السماء تقول آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه‏.‏

وروي أن جبريل عليه السلام لما علم النبي عليه السلام فاتحة الكتاب وقت نزولها فقرأها قال له‏:‏ «قل آمين»‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ «آمين خاتم رب العالمين، يختم بها دعاء عبده المؤمن»‏.‏

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو فقال‏:‏ «أوجب إن ختم‏.‏ فقال له رجل بأي شيء يختم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏» بآمين «‏.‏

ومعنى» آمين «عند أكثر أهل العلم‏:‏ اللهم استجب، أو أجب يا رب، ونحو هذا‏.‏ قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره، ونص عليه أحمد بن يحيى ثعلب وغيره‏.‏

وقال قوم‏:‏» هو اسم من أسماء الله تعالى «، روي ذلك عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف، وقد روي أن» آمين «اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فمقتضى هذه الآثار أن كلّ داعٍ ينبغي له في آخر دعائه أن يقول‏:‏ «آمين» وكذلك كل قارئ للحمد في غير صلاة، لكن ليس بجهر الترتيل‏.‏ وأما في الصلاة فقال بعض العلماء‏:‏ «يقولها كل مصلّ من إمام وفذ ومأموم قرأها أو سمعها»‏.‏

وقال مالك في المدونة‏:‏ «لا يقول الإمام» آمين «ولكن يقولها من خلفه ويخفون، ويقولها الفذ»‏.‏

وقد روي عن مالك رضي الله عنه‏:‏ أن الإمام يقولها أسرّ أم جَهَرَ‏.‏

وروي عنه‏:‏ «الإمام لا يؤمن في الجهر»‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ «يؤمن»‏.‏

وقال ابن بكير‏:‏ «هو مخير»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبدالحق رضي الله عنه‏:‏ فهذا الخلاف إنما هو في الإمام، ولم يختلف في الفذ ولا في المأموم إلا ابن نافع‏.‏ قال في كتاب ابن حارث‏:‏ «لا يقولها المأموم إلا إن سمع الإمام يقول ‏{‏ولا الضالين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏، وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل»‏.‏

وقال ابن عبدوس‏:‏ «يتحرى قدر القراءة ويقول آمين»‏.‏ وهي لفظة مبنية على الفتح لالتقاء الساكنين، وكأن الفتح مع الياء أخف من سائر الحركات، ومن العرب من يقول «آمين» فيمده، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

آمين آمين لا أرضى بواحدة *** حتى أبلغها ألفين آمينا

ومن العرب من يقول «أمين» بالقصر، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏جبير بن الأضبط‏]‏‏.‏

تباعد مني فَطْحَلٌ إذْ رأيتُه *** أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة» فقيل في الإجابة، وقيل في خلوص النية، وقيل في الوقت، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم، والإجابة تتبع حينئذ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراطِ المستقيم‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏

اختلف في الحروف التي في أوائل السورة على قولين‏:‏

قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين‏:‏ «هي سرّ الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن يؤمن بها وتُمَرُّ كما جاءت»‏.‏

وقال الجمهور من العلماء‏:‏ «بل يجب أن يُتكلم فيها وتُلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها» واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولاً‏:‏

فقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ «الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها»‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ «هي أسماء الله أقسم بها»‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ «هي أسماء للسور»‏.‏

وقال قتادة‏:‏ «هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر»‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «هي فواتح للسور»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد‏:‏ «بل» و«لا بل»‏.‏ نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش‏.‏

وقال قوم‏:‏ «هي حساب أبي جاد لتدل على مدة ملة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حيي بن أخطب» وهو قول أبي العالية رفيع وغيره‏.‏

وقال قطرب وغيره‏:‏ «هي إشارة إلى حروف المعجم، كأنه يقول للعرب‏:‏ إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم، فقوله ‏{‏الم‏}‏ بمنزلة قولك أ، ب، ت، ث، لتدل بها على التسعة والعشرين حرفاً»‏.‏

وقال قوم‏:‏ «هي أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاباً في أول سور منه حروف مقطعة»‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «هي حروف تدل على‏:‏ أنا الله أعلم، أنا الله أرى، أنا الله أفصّل»‏.‏

وقال ابن جبير عن ابن عباس‏:‏ «هي حروف كل واحد منها إما أن يكون من اسم من أسماء الله، وإما من نعمة من نعمه، وإما من اسم ملك من ملائكة، أو نبي من أنبيائه»‏.‏

وقال قوم‏:‏ «هي تنبيه ك» يا «في النداء»‏.‏

وقال قوم‏:‏ «روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه الحروف ويلتمس لها التأويل‏:‏ لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً لها ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الواليد بن المغيرة‏]‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏.‏

قلنا لها قفي فقالت قاف *** أراد قالت‏:‏ وقفت‏.‏ وكقول القائل‏:‏ ‏[‏زهير بن أبي سلمى‏]‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏.‏

بالخير خيرات وإن شرّاً فا *** ولا أريد الشر إلا أن تا

أراد‏:‏ وإن شرّاً فشر، وأراد‏:‏ إلا أن تشاء‏.‏ والشواهد في هذا كثيرة، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها، فينبغي إذا كان معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه، والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرْتَ عنها أو عطفْتَها فإنك تُعربها‏.‏

وموضع ‏{‏الم‏}‏ من الإعراب رفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أو على أنه ابتداء، أو نصب بإضمار فعل، أو خفض بالقسم، وهذا الإعراب يتجه الرفع منه في بعض الأقوال المتقدمة في الحروف، والنصب في بعض، والخفض في قول ابن عباس رضي الله عنه أنها أسماء لله أقسم بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

الاسم من ‏{‏ذلك‏}‏ الذال والألف، وقيل الذال وحدها، والألف تقوية، واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد، والكاف للخطاب، وموضع ‏{‏ذلك‏}‏ رفع كأنه ابتداء، أو ابتداء وخبره بعده، واختلف في ‏{‏ذلك‏}‏ هنا فقيل‏:‏ هو بمعنى «هذا»، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك أنه قد يشار ب «ذلك» إلى حاضر تعلق به بعض الغيبة وب «هذا» إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة وقُرْب‏.‏ وقيل‏:‏ هو على بابه إِشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل‏:‏ ما قد كان نزل من القرآن، وقيل‏:‏ التوراة والإنجيل، وقيل‏:‏ اللوح المحفوظ؛ أي الكتاب الذي هو القدر وقيل‏:‏ إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ «‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد»‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتاباً، فالإشارة إلى ذلك الوعد، وقيل‏:‏ إن الإشارة إلى حروف المعجم في قول من قال ‏{‏الم‏}‏ حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها‏.‏

ولفظ ‏{‏الكتاب‏}‏ مأخوذ من «كتبتُ الشيء» إذا جمعتَه وضممتَ بعضه إلى بعض ككتبَ الخَرَز بضم الكاف وفتح التاء وكتبَ الناقة‏.‏

ورفع ‏{‏الكتاب‏}‏ يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على عطف البيان‏.‏ و‏{‏لا ريب فيه‏}‏ معناه‏:‏ لا شكّ فيه ولا ارتياب به؛ والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريبٌ للكافر‏.‏

وقال قوم‏:‏ لفظ قوله ‏{‏لا ريب‏}‏ فيه لفظ الخبر ومعناه النهي‏.‏

وقال قوم‏:‏ هو عموم يراد به الخصوص؛ أي عند المؤمنين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏

وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير‏:‏ «فِيهُ» بضم الهاء؛ وكذلك «إليهُ» و«علَيْهُ» و«بِهُ» و«نُصْلِهُ» ونولهُ وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل‏.‏ وقرأ ابن إسحاق‏:‏ «فيهو» ضم الهاء ووصلها بواو‏.‏

و ‏{‏هدى‏}‏ معناه رشاد وبيان، وموضعه، من الإعراب رفع على أنه خبر ‏{‏ذلك‏}‏، أو خبر ابتداء مضمر، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله، ويصح أن يكون موضعه نصباً على الحال من ذلك، أو من الكتاب، ويكون العامل فيه معنى الإشارة، أو من الضمير في ‏{‏فيه‏}‏، والعامل معنى الاستقرار؛ وفي هذا القول ضعف‏.‏

وقوله ‏{‏للمتقين‏}‏ اللفظ مأخوذ من وَقَى، وفعله اتَّقى، على وزن افتعل، وأصله «للموتقيين» استثقلت الكسرة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء، وأبدلت الواو تاءً على أصلهم في اجتماع الواو والتاء، وأدغمت التاء في التاء فصار ‏{‏للمتقين‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏يؤمنون‏}‏ معناه يصدقون ويتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولاتؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 73‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏فما آمن لموسى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ وبين التعديتين فرق، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدٍّ بالباء يفهم من المعنى‏.‏ واختلف القراء في همز ‏{‏يؤمنون‏}‏ فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون «يؤمنون» وما أشبهه، مثل يأكلون، ويأمرون، ويؤتون؛ وكذلك مع تحرك الهمزة مثل «يؤخركم» و«يؤوده» إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا وقف، والباقون يقفون بالهمز‏.‏

وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك‏.‏ وقد روي عن عاصم أنه لم يكن يهمز الساكنة‏.‏

وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة، إلا أنه يهمز حروفاً من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله‏.‏ وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل ‏{‏ننسأها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏ ‏{‏وهيئ لنا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 8‏]‏ وما أشبهه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ قالت طائفة‏:‏ معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا‏.‏ وقال آخرون‏:‏ معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع‏.‏

واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك، فقالت فرقة‏:‏ «الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل» وقال آخرون‏:‏ «القضاء والقدر» وقال آخرون‏:‏ «القرآن وما فيه من الغيوب» وقال آخرون‏:‏ «الحشر والصراط والميزان والجنة والنار»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها، والغيب في اللغة‏:‏ ما غاب عنك من أمر، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يقيمون‏}‏ معناه يظهرونها ويثبتونها، كما يقال‏:‏ أقيمت السوق، وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء، قعود أو غيره، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

وإذا يقال أتيتُم يبرحوا *** حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعان

ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

أقمنا لأهل العراقين سوق الطِّ *** طِعان فخاموا وولّوا جميعا

وأصل ‏{‏يقيمون‏}‏ يقومون، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت ياء لكون الكسرة قبلها‏.‏ و‏{‏الصلاة‏}‏ مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

عليكِ مثل الذي صلّيت فاغتمضي *** يوماً فإنَّ لجنب المرءِ مُضْطَجعا

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لها حارس لا يبرح الدهرَ بيتها *** وإنْ ذبحت صلّى عليها وزمزما

فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي جميع ذلك باسم الدعاء‏.‏ وقال قوم‏:‏ هي مأخوذة من الصَّلاَ وهو عِرْق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي مع صَلَوي السابق، فاشتقّت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلِّي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد صَلَواه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقول إنها من الدعاء أحسن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ كتبت «مما» متصلة «وما» بمعنى «الذي» فحقّها أن تكون منفصلة، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد، وأيضاً فلما خفيت نون «من» في اللفظ حذفت في الخط‏.‏ والرزق عند أهل السنة‏.‏ ما صح الانتفاع به حلالاً كان أو حراماً، بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق‏.‏ و‏{‏ينفقون‏}‏ معناه هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ينفقون‏}‏ يؤتون الزكاة احتساباً لها «‏.‏

قال غيره‏:‏» الآية في النفقة في الجهاد «‏.‏

قال الضحاك‏:‏» هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يُسْرهم «‏.‏

قال ابن مسعود وابن عباس أيضاً‏:‏» هي نفقة الرجل على أهله «‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والآية تعمّ الجميع‏.‏ وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

اختلف المتأولون فيمن المراد بهذه الآية وبالتي قبلها‏.‏

فقال قوم‏:‏ «الآيتان جميعاً في جميع المؤمنين»‏.‏

وقال آخرون‏:‏ «هما في مؤمني أهل الكتاب»‏.‏

وقال آخرون‏:‏ «الآية الأولى في مؤمني العرب، والثانية في مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وفيه نزلت»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فمن جعل الآيتين في صنف واحد فإعراب و‏{‏الذين‏}‏ خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعاً على الاستنئاف، «أي وهم الذين» ومن جعل الآيتين في صنفين، فإعراب «الذين» رفع على الابتداء، وخبره ‏{‏أولئك على هدى‏}‏ ويحتمل أن يكون عطفاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بما أنزل إليك‏}‏ يعني القرآن ‏{‏وما أنزل من قبلك‏}‏ يعني الكتب السالفة‏.‏ وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب‏.‏ «بما أنزل‏.‏‏.‏‏.‏ وما أنزل» بفتح الهمزة فيهما خاصة‏.‏ والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى، ويحتمل إلى جبريل، والأول أظهر وألزم‏.‏ ‏{‏وبالآخرة‏}‏ قيل معناه بالدار الآخرة، وقيل بالنشأة الآخرة‏.‏

و ‏{‏يوقنون‏}‏ معناه يعلمون علماً متمكناً في نفوسهم‏.‏ واليقين أعلى درجات العلم، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه وقول مالك رحمه الله‏:‏ «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك» تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب، ولم يقصد تحرير الكلام في اليقين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المذكورين، و«أولاء» جمع «ذا»، وهو مبني على الكسرة لأنه ضَعُفَ لإبهامه عن قوة الأسماء، وكان أصل البناء السكون فحرك لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب، و«الهدى» هنا الإرشاد‏.‏ و‏{‏أولئك‏}‏ الثاني ابتداء، و‏{‏المفلحون‏}‏ خبره، و‏{‏هم‏}‏ فصل، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون ‏{‏هم‏}‏ ابتداء، و‏{‏المفلحون‏}‏ خبره، والجملة خبر ‏{‏أولئك‏}‏، والفلاح الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏‏.‏

اعقلي إن كنت لمّا تعقلي *** ولقد أفلح من كان عقلْ

وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء، كقوله‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ونرجو الفلاحَ بَعْدَ عادٍ وحمْيَرِ *** وقول الأضبط‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

لِكُلّ همٍّ من الهموم سَعَهْ *** والصُّبْحُ والمسى لا فلاح معه

والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

في ليلة كفر النجوم غمامها *** أي سترها ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر‏:‏ ‏[‏ثعلبة بن صغيرة‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

فتذكر ثقلاً رثيداً بعدما *** ألقت ذكاءَ يمينها في كافر

ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب، ف «كفر» في الدين معناه غطى قلبه بالرِّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله‏.‏

واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها‏.‏

فقال قوم‏:‏ «هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس في هذه حاله دون أن يعين أحد»‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظارائهم» وقال الربيع بن أنس‏:‏ «نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب ببدر»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ هكذا حكي هذا القول، وهو خطأ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه، وكل من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سواء عليهم‏}‏ معناه معتدل عندهم، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏أعشى قيس‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

وليل يقول الناس من ظلماتِهِ *** سواء صحيحاتُ العيونِ وعورُها

قال أبو علي‏:‏ في اللفظة أربع لغات‏:‏ سوى بكسر السين، وسواء بفتحها والمد، وهاتان لغتان معروفتان، ومن العرب من يكسر السين ويمد، ومنهم من يضم أوله ويقصره، وهاتان اللغتان أقل من تينك‏.‏ ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا‏:‏ «في، وقواء»، و‏{‏سواء‏}‏ رفع على خبر ‏{‏إن‏}‏، أو رفع على الابتداء وخبره فيما بعده، والجملة خبر ‏{‏إن‏}‏، ويصح أن يكون خبر ‏{‏إن‏}‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏‏.‏

وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع‏:‏ «آنذرتهم» بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خففت، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفاً، وابن كثير لا يفعل ذلك‏.‏ وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية‏.‏ وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر‏:‏ فبالهمزتين «أأنذرتهم»، وما كان مثله في كل القرآن‏.‏

وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما‏.‏

وقرأ الزهري وابن محيصن «أنذرتهم» بحذف الهمزة الأولى، وتدل ‏{‏أم‏}‏ على الألف المحذوفة، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء‏.‏ والإنذار إعلام بتخويف، هذا حده، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين‏.‏

قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنا أنذرناكم عذاباً قريباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏ وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏آنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام، فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية جرى عل هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله‏}‏ مأخوذ من الختم وهو الطبع، والخاتم الطابع، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على الحقيقة، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال والإعراض إصبعاً إصبعاً‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ذلك على المجاز، وإن ما اخترع له في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختماً‏.‏

وقال آخرون ممن حمله على المجاز‏:‏ «الختم هنا أسند إلى الله تعالى لما كفر الكافرون به وأعرضوا عن عبادته وتوحيده، كما يقال أهلك المال فلاناً وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه»‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وعلى سمعهم‏}‏‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «وعلى أسماعهم»، وهو في قراءة الجمهور مصدر يقع للقليل والكثير، وأيضاً فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل المضاف إليه على المراد، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف وأقام المضاف إليه مقامه‏.‏

والغشاوة الغطاء المغشي الساتر، ومنه قول النابغة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

هلا سألت بني ذبيان ما حسبي *** إذا الدخان تغشى الأشمط البرما

وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الحارث بن خالد المخزومي‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تبعتك إذ عيني عليها غشاوة *** فلما انجلتْ قطعت نفسي ألومها

ورفع غشاوة على الابتداء وما قبله خبره‏.‏

وقرأ عاصم فيما روى المفضل الضبي عنه «غشاوة» بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة، والختم على هذا التقدير في القلوب والأسماع، والغشوة على الأبصار، والوقوف على قوله ‏{‏وعلى سمعهم‏}‏‏.‏

وقرأ الباقون «غشاوةٌ» بالرفع‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن تحمله على ختم الظاهر فيعترض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به» وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وإما أن تحمله على فعل يدل عليه ‏{‏ختم‏}‏ تقديره وجعل على أبصارهم، فيجيء الكلام من باب‏:‏ «متقلداً سيفاً ورمحاً» وقول الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏:‏

علفتها تبناً وماءً بارداً *** ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار‏.‏ فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة «‏.‏

قال‏:‏» ولم أسمع من الغشاوة فعلاً مصرفاً بالواو، فإذا لم يوجد ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم الغشيان فالغشاوة من غشي كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من الجباوة «‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ الغشاوة على الأسماع والأبصار، والوقف في قوله ‏{‏على قوبهم‏}‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏» الختم في الجميع، والغشاوة هي الخاتم «‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد ذكرنا اعتراض أبي عليّ هذا القول‏.‏

وقرأ أبو حيوة» غَشوة «، بفتح الغين والرفع، وهي قراءة الأعمش‏.‏

وقال الثوري‏:‏» كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «غَشيةٌ» بفتح الغين والياء والرفع «‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏» غُشاوة «بضم الغين، وقرئت» غَشاوة «بفتح الغين، وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة الأشياء التي هي أبداً مشتملة، فهكذا يجيء وزنها كالضمامة والعمامة والكنابة والعصابة والربابة وغير ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ معناه بمخالفتك يا محمد وكفرهم بالله استوجبوا ذلك، و‏{‏عظيم‏}‏ معناه بالإضافة إلى عذاب دونه يتخلله فتور، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد‏.‏