فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة إلى ‏{‏آل عمران‏}‏ منها ثم خص ‏{‏امرأة عمران‏}‏ بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان و‏{‏اصطفى‏}‏ معناه‏:‏ اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدراً، و‏{‏آدم‏}‏ هو أبونا عليه السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث وحكى الزجاج عن قوم ‏{‏إن الله اصطفى آدم‏}‏ عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله‏:‏ ‏{‏أنبئهم بأسمائهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 33‏]‏ وهذا ضعيف، ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم، كهود ولوط، و‏{‏آل إبراهيم‏}‏ يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام والآل في اللغة، الأهل والقرابة، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل، فمنه آل فرعون، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجنَّهُ *** عليٌّ وَعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ

أراد جميع المؤمنين، و«الآل» في هذه الآية يحتمل الوجهين، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير ‏{‏إن الله اصطفى‏}‏ هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاماً يقدر محمداً عليه السلام من آل إبراهيم، وإن قلنا أرد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه السلام وأن «الآل» الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم، و‏{‏آل عمران‏}‏ أيضاً يحتمل من التأويل ما تقدم في ‏{‏آل إبراهيم‏}‏، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري، قال مكي‏:‏ هو عمران بن ماثال، وقال قتادة في تفسير هذه الآية‏:‏ ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم، وقال ابن عباس‏:‏ «اصطفى الله» هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرية‏}‏ نصب على البدل، وقيل على الحال لأن معنى ‏{‏ذرية بعضها من بعض‏}‏ متشابهين في الدين والحال، وهذا أظهر من البدل، والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلاً، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس أي كل أحد ذرية لغيره فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى‏:‏

‏{‏أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41‏]‏ أي ذرية هذا الجنس ولا يسوغ أن يقول في والد هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من ذر إذا بث فهكذا يجيء معناها، وكذلك إن جعلناها من «ذرى» وكذلك إن جعلت من ذرأ أو من الذر الذي هو صغار النمل، قال أبو الفتح‏:‏ الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلاً لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره وذكرها أبو علي في الأعراف في ترجمة ‏{‏من ظهورهم ذرياتهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ قال الزجّاج‏:‏ أصلها فعليه من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، قال أبو الفتح‏:‏ هذه نسبة إلى الذر غير أولها كما قالوا في النسبة إلى الحرم‏:‏ حرمي بكسرالحاء وغير ذلك من تغيير النسب قال الزجّاج‏:‏ وقيل أصل ‏{‏ذرية‏}‏ ذرورة، وزنها فعلولة فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت ‏{‏ذرية‏}‏‏.‏

قال القاضي فهذا اشتقاق من ذر يذر، أو من ذرى، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعلية كمريقة أصلها ذرئة فألزمت البدل والتخفيف كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق، وفي كوكب دري، في قول من رآه من-درأ- لأنه يدفع الظلمة بضوئه‏.‏

وقرأ جمهور الناس «ذُرية» بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت والضحاك، «ذِرية» بكسر الذال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعضها من بعض‏}‏ أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة‏.‏

واختلف الناس في العامل في قوله ‏{‏إذ قالت‏}‏ فقال أبو عبيدة معمر‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ زائدة، وهذا قول مردود، وقال المبرد والأخفش‏:‏ العامل فعل مضمر تقديره، اذكر إذ وقال الزجاج‏:‏ العامل معنى الاصطفاء، التقدير‏:‏ واصطفى آل عمران إذ‏:‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء، وقال الطبري ما معناه‏:‏ إن العامل في ‏{‏إذ‏}‏ قوله ‏{‏سميع‏}‏ و‏{‏امرأة عمران‏}‏ اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق، وهي أم مريم بنت عمران، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏نذرت لك ما في بطني محرراً‏}‏ أي جعلت نذراً أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيساً على خدمة بيتك محرراً من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا، أي عتيقاً من ذلك فهو من لفظ الحرية، ونصبه على الحال، قال مكي‏:‏ فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره، غلاماً محرراً، وفي هذا نظر، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يزق فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً فحلمت بمريم وهلك عمران، فلا علمت أن في بطنها جنيناً جعلته نذيرة لله، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏محرراً‏}‏ معناه خادماً للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفاً في الذكور خاصة، وكان فرضاً على الأبناء التزام ذلك، فقالت ‏{‏ما في بطني‏}‏ ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكراً، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال، فمعنى قولها ‏{‏فتقبل مني‏}‏ أي ارضَ عني في ذلك واجعله فعلاً مقبولاً مجازى به، والسميع، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والوضع الولادة، وأنث الضمير في ‏{‏وضعتها‏}‏، حملاً على الموجودة ورفعاً للفظ ‏{‏ما‏}‏ التي في قولها ‏{‏ما في بطني‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏ وقولها، ‏{‏رب إني وضعتها أنثى‏}‏ لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف، وبيّن الله ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما وضعت‏}‏‏:‏ وقرأ جمهر الناس «وضعَتْ» بفتح العين وإسكان التاء، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «وضعْتُ»، بضم التاء وإسكان العين، وهذا أيضاً مخرج قولها، ‏{‏رب إني وضعتها أنثى‏}‏ من معنى الخبر إلى معنى التلهف، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكراً فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره، وقرأ ابن عباس «وضعتِ» بكسر التاء على الخطاب من الله لها، وقولها ‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏}‏ تريد في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله قتادة والربيع والسدي وعكرمة وغيرهم، وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول‏:‏ وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد، وفي قولها ‏{‏وإني سميتها مريم‏}‏ سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وقد روي عنه عليه السلام أن ذلك في يوم السابع يعق عن المولود ويسمى، قال مالك رحمه الله‏:‏ ومن مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه ولا تسمية، قال ابن حبيب‏:‏ أحب إلي أن يسمى، وأن يسمى السقط لما روي من رجاء شفاعته، و‏{‏مريم‏}‏، لا ينصرف لعجمته وتعريفه وتأنيثه، وباقي الآية إعادة، وورد في الحديث عن النبي عليه السلام من رواية أبي هريرة قال‏:‏ «كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها‏:‏ ‏{‏وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏ فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب»، وقد اختلفت ألفاظ الحديث من طرق والمعنى واحد كما ذكرته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتقبلها‏}‏ إخبار لمحمد عليه السلام بأن الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها، ولذلك جعلوها كما نذرت، وقوله ‏{‏بقبول‏}‏ مصدر جاء على غير الصدر، وكذلك قوله ‏{‏نباتاً‏}‏ بعد أنبت، وقوله ‏{‏وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏، عبارة عن حسن وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفلها زكريا‏}‏ معناه‏:‏ ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل هو المربي الحاضن، قال ابن إسحاق‏:‏ إن زكريا كان زوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين، ولدت امرأة زكريا يحيى وولدت امرأة عمران مريم، وقال السدي وغيره‏:‏ إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى‏:‏ ابنا الخالة، قال مكي‏:‏ وهو زكريا بن آذن، وذكر قتادة وغير واحد من أهل العلم‏:‏ أنهم كانوا في ذلك الزمان يتشاحون في المحرر عند من يكون من القائمين بأمر المسجد فيتساهمون عليه، وأنهم فعلوا في مريم ذلك، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر، وقيل أقلاماً بروها من عود كالسهام والقداح، وقيل عصياً لهم، وهذه كلها تقلم، وروي أنهم ألقوا ذلك في نهر الأردن، وروي أنهم ألقوه في عين، وروي أن قلم زكرياء صاعد الجرية، ومضت أقلام الآخرين مع الماء في جريته، وروي أن أقلام القوم عامت علىلماء معروضة كما تفعل العيدان وبقي قلم زكرياء مرتكزاً واقفاً كأنما ركز في طين فكفلها عليه السلام بهذا الاستهام، وحكى الطبري عن ابن إسحاق، أنها لما ترعرعت أصابت بني إسرائيل مجاعة فقال لهم زكرياء‏:‏ إني قد عجزت عن إنفاق مريم فاقترعوا على من يكفلها ففعلوا فخرج السهم على رجل يقال له جريج فجعل ينفق عليها وحينئذ كان زكرياء يدخل عليها المحراب عند جريج فيجد عندها الرزق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الاستفهام غير الأول، هذا المراد منه دفعها، والأول المراد منه أخذها، ومضمن هذه الرواية أن زكرياء كفلها من لدن طفولتها دون استهام، لكن أمها هلكت وقد كان أبوها هلك وهي في بطن أمها فضمها زكرياء إلى نفسه لقرابتها من امرأته، وهكذا قال ابن إسحاق، والذي عليه الناس أن زكرياء إنما كفل بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيما يكفل المحرر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏وكلفها زكرياء‏}‏ مفتوحة الفاء، خفيفة «زكرياء» مرفوعاً ممدوداً، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وكفلها مشددة الفاء ممدوداً منصوباً في جميع القرآن، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص، «كفَّلها» مشددة الفاء مفتوحة، «زكريا» مقصوراً في جميع القرآن، وفي رواية أبي بن كعب، و«أكفلها زكرياء» بفتح الفاء على التعدية بالهمزة، وقرأ مجاهد، «فتقبلْها» بسكون اللام على الدعاء «ربَّها» بنصب الباء على النداء و«أنِبتها» بكسر الباء على الدعاء، و«كفِلها» بكسرالفاء وشدها على الدعاء زكرياء منصوباً ممدوداً، وروي عن عبد الله بن كثير، وأبي عبد الله المزني، و«وكفِلها» بكسر الفاء خفيفة وهي لغة يقال‏:‏ كفل يكفُل بضم العين في المضارع، وكفِل بكسر العين يكفَل بفتحها في المضارع، «زكرياء» اسم أعجمي يمد ويقصر، قال أبو علي‏:‏ لما عرب صادق العربية في بنائه فهو كالهيجاء تمد وتقصرب، قال الزجاج‏:‏ فأما ترك صرفه فلأن فيه في المد ألفي تأنيث وفي القصر ألف التأنيث، قال أبو علي‏:‏ ألف زكرياء ألف تأنيث ولا يجوز أن تكون ألف إلحاق، لأنه ليس في الأصول شيء على وزنه، ولا يجوز أن تكون منقلبه، ويقال في لغة زكرى منون معرب، قال أبو علي‏:‏ هاتان ياءا نسب ولو كانتا اللتين في ‏{‏زكريا‏}‏ لوجب ألا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف وإنما حذفت تلك وجلبت ياء النسب، وحكى أبو حاتم، زكرى بغير صرف وهو غلظ عند النحاة، ذكره مكي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما‏}‏ ظرف والعامل فيه ‏{‏وجد‏}‏، و‏{‏المحراب‏}‏ المبنى الحسن كالعرف والعلالي ونحوه، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب، وقال الشاعر‏:‏ ‏[‏وضاح اليمن‏]‏ ‏[‏السريع‏]‏

رَبَّة مِحْرابٍ إذَا جئْتُهَا *** لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أرتقي سُلَّما

ومثل قول الآخر‏:‏ ‏[‏عدي بن زيد‏]‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

كَدُمَى العاجِ في المحاريبِ أَوْ كال *** بيضِ في الرَّوضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏، معناه طعاماً تتغذى به ما لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها وكانت فيما ذكر الربيع، تحت سبعة أبواب مغلقة وحكى مكي أنها كانت في غرفة يطلع إليها، بسلم، وقال ابن عباس‏:‏ وجد عندها عنباً في مكتل في غير حينه، وقاله ابن جبير ومجاهد، وقال الضحاك ومجاهد أيضاً وقتادة‏:‏ كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وقال ابن عباس‏:‏ كان يجد عندها ثمار الجنة‏:‏ فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وقال الحسن‏:‏ كان يجد عندها رزقاً من السماء ليس عند الناس ولو أنه علم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه، وقال ابن إسحاق‏:‏ هذا الدخول الذي ذكر الله تعالى في قوله ‏{‏كلما دخل عليها‏}‏ إنما هو دخول زكرياء عليها وهي في كفالة جريج أخيراً، وذلك أن جريجاً كان يأتيها بطعامها فينميه الله ويكثره، حتى إذا دخل عليها زكرياء عجب من كثرته فقال‏:‏ ‏{‏يا مريم أنّى لك هذا‏}‏ والذي عليه الناس أقوى مما ذكره ابن إسحاق، وقوله ‏{‏أنى‏}‏ معناه كيف ومن أين‏؟‏ وقولها‏:‏ ‏{‏هو من عند الله‏}‏، دليل على أنه ليس من جلب بشر، وهكذا تلقى زكرياء المعنى وإلا فليس كان يقنع بهذا الجواب، قال الزجاج‏:‏ وهذا من الآية التي قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناها وابنها آية للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏ وروي أنها لم تلقم ثدياً قط، وقولها‏:‏ ‏{‏إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والله تعالى لا تنتقص خزائنه، فليس يحسب ما يخرج منها، وقد يعبر بهذا العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب، وذلك مجاز وتشبيه، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

هناك في كلام العرب إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان، و‏{‏هنالك‏}‏ باللام أبلغ في الدلالة على البعد، ولا يعرب ‏{‏هنالك‏}‏ لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى، ومعنى هذه الآية‏:‏ أن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصاحلات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة، و«الذرية» اسم جنس يقع على واحد فصاعداً كما الولي يقع على اسم جنس كذلك، وقال الطبري‏:‏ إنما أراد هنا بالذرية واحداً ودليل ذلك طلبه ولياً ولم يطلب أولياء، وأنث «الطيبة» حملاً على لفظ الذرية كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

أبوك خليفةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى *** وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذاكَ الْكَمَالُ

وكما قال الآخر‏:‏

فما تزدري مِنْ حَيَّةٍ جَبليَّة‏؟‏ *** سِكَات إذا ما عضَّ لَيْسَ بأدْرَدا

وفيما قال الطبري تعقب وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد، وهكذا كان طلب زكرياء عليه السلام، و‏{‏طيبة‏}‏ معناه سليمة في الخلق والدين نقية، و‏{‏سميع‏}‏ في هذه الآية بناء اسم فاعل‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه، تقديره فقبل الله دعاءه ووهبه يحيى وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه فنادته، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة، وذكر جمهور المفسرين‏:‏ أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء، وقال قوم‏:‏ بل نادرت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية، وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه السلام وفي غير ما قصة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود وقراءته «فناداه جبريل وهو قائم يصلي»، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو‏:‏ «فنادته» بالتاء «الملائكة»، وقرأ حمزة والكسائي «فناداه الملائكة» بالألف وإمالة الدال، قال أبو علي‏:‏ من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير تجري مجرى ما لا يعقل، ألا ترى أنك تقول‏:‏ هي الرجال كما تقول‏:‏ هي الجذورع وهي الجمال، ومثله‏:‏ ‏{‏قالت الأعراب‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ ففسر أبو علي على أن المنادي ملائكة كثيرة، والقراءة بالتاء على قول من يقول‏:‏ المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى‏:‏

‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ قال أبو علي‏:‏ ومن قرأ «فناداه الملائكة»، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال نسوة في المدينة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 30‏]‏‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا على أن المنادي كثير، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى، وعبر عن جبريل عليه السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنادته‏}‏ عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخباراً على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو قائم‏}‏ جملة في موضع الحال، و‏{‏يصلي‏}‏ صفة لقائم، و‏{‏المحراب‏}‏ في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد، وقرأ ابن عامر وحمزة‏:‏ «إن الله» بكسر الألف، قال أبو علي‏:‏ وهذا على إضمار القول، كأنه قال ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ فقالت وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فدعا ربه أني مغلوب‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10‏]‏ على قراءة من كسر الألف، وقال بعض النحاة‏:‏ كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال، وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله‏:‏ ‏{‏أن الله يبشرك‏}‏ قال أبو علي‏:‏ المعنى فنادته بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها، ف «إن» في موضع نصب، وعلى قياس قول الخليل في موضع جر، وفي قراءة عبد الله «في المحراب، يا زكرياء إن الله»، قال أبو علي‏:‏ فقوله «يا زكرياء» في موضع نصب بوقوع النداء عليه، ولا يجوز فتح الألف في «إن» على هذه القراءة لأن نادته قد استوفت مفعوليها أحدهما الضمير، والآخر المنادى، فإن فتحت «إن» لم يبق لها شيء متعلق به، قال أبو علي‏:‏ وكلهم قرأ ‏{‏في المحراب‏}‏ بفتح الراء إلا ابن عامر فإنه أمالها، وأطلق ابن مجاهد القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب ولم يخص به الجر من غيره، وقال غير ابن مجاهد‏:‏ إنما نميله في الجر فقط‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «يبشرك»، بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن إلا في «عسق» فإنهما قرآ ‏{‏ذلك الذي يبشر الله عباده‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏ بفتح الياء، وسكون الباء، وضم الشين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر، «يبشِّرك بشد الشين المكسورة في كل القرآن، وقرأ حمزة» يبشُر «خفيفاً بضم الشين مما لم يقع في كل القرآن إلا قوله تعالى، ‏{‏فبم تبشرون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 54‏]‏ وقرأ الكسائي» يبشر «مخففة في خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكرياء وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل والكهف، ويبشر المؤمنين، وفي» عسق «‏{‏يبشر الله عباده‏}‏، قال غير واحد من اللغويين‏:‏ في هذه اللفظة ثلاث لغات، بشّر بشد الشين، وبشر بتخفيفها، وأبشر يبشر إبشاراً، وهذه القراءات كلها متجهه فصيحة مروية، وفي قراءة عبد الله بن مسعود» يُبشِرك «بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من- أبشر- وهكذا قرأ في كل القرآن‏.‏

و ‏{‏يحيى‏}‏ اسم سماه الله به قبل أن يولد، قال أبو علي‏:‏ هو اسم بالعبرانية صادف هذا البناء، والمعنى من العربية، قال الزجاج‏:‏ لا ينصرف لأنه إن كان أعجمياً ففيه التعريف والعجمة، وإن كان عربياً فالتعريف ووزن الفعل، وقال قتادة‏:‏ سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان ‏{‏مصدقاً‏}‏ نصب على الحال وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بكلمة من الله‏}‏، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي وغيرهم، «الكلمة» هنا يراد بها عيسى ابن مريم‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وسمى الله تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر، وروى ابن عباس‏:‏ أن امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان‏:‏ إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك، وفي بعض الروايات، يسجد لما في بطنك قال، فذلك تصديقه‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ أي أول التصديق، وقال بعض الناس‏:‏ ‏{‏بكلمة من الله‏}‏، معناه بكتاب من الله الإنجيل وغيره من كتب الله فأوقع المفرد موقع الجمع، فكلمة اسم جنس، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيداً‏}‏ قال فيه قتادة‏:‏ أي والله سيد في الحلم والعبادة والورع، وقال مرة‏:‏ معناه في العلم والعبادة، وقال ابن جبير‏:‏ ‏{‏وسيداً‏}‏ أي حليماً، وقال مرة‏:‏ السيد التقي وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وسيداً‏}‏ أي تقياً حليماً، وقال ابن زيد‏:‏ السيد الشريف، وقال ابن المسيب‏:‏ السيد الفقيه العالم، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وسيداً‏}‏ يقول، تقياً حليماً، وقال عكرمة‏:‏ السيد الذي لا يغلبه الغضب‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل ‏{‏مصدقاً بكلمة من الله‏}‏ وتحصل التقى بباقي الآية، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل، هذا لفظ يعم السؤدد، وتفصيله أن يقال‏:‏ بذل الندى، وهذا هو الكرم وكف الأذى، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترقد، والإنقاذ من الهلكات، وانظر أن النبي عليه السلام قال‏:‏ أنا سيد ولد آدم ولا فخر يجمع الله الأولين والآخرين، وذكر حديث شفاعته في إطلاق الموقف، وذلك منه احتمال في رضى ولد آدم فهو سيدهم بذلك، وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيداً وإن قصر في كثير من الواجبات أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه‏:‏ ما رأيت أحداً أسود من معاوية بن أبي سفيان قيل له، وأبو بكر وعمر‏؟‏ قال‏:‏ هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذوراً، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيراً من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريراً ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى عليه السلام، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا، ومثال ذلك، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحصوراً‏}‏ أصل هذه اللفظة الحبس والمنع، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيراً وجهنم حصيراً، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور، قال الأخطل‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

وشارِب مرْبح بالْكَأْسِ نَادَمني *** لا بالحصورِ وَلاَ فِيها بِسَوَّارِ

ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر، قال جرير‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وَلَقَدْ تَسَاقَطَني الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا *** حَصِراً بسرِّكِ يا أميمُ ضَنِينَا

وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال‏:‏ إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي إما عبد الله وإما أبوه عن النبي عليه السلام، أنه قال‏:‏ «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء»، قال‏:‏ ثم دلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويداً صغيراً، ثم قال‏:‏ «وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، ولذلك سماه الله سيداً وحصوراً»، وقال ابن مسعود «الحصور» العنين، وقال مجاهد وقتادة‏:‏ «الحصور» الذي لا يأتي النساء، وقال ابن عباس والضحاك‏:‏ الحصور الذي لا ينزل الماء‏.‏

قال القاضي‏:‏ ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنيناً لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه تقى وجلداً في طاعة الله وكانت به القدرة على جماع النساء، قالوا‏:‏ وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح، إلا بأن الله يسر له شيئاً لا تكسب له فيه، وباقي الآية بيّن، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقاً وأخاديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

اختلف المفسرون لم قال زكرياء ‏{‏رب أنّى يكون لي غلام‏}‏ فقال عكرمة والسدي‏:‏ إنه نودي بهذه البشارة، جاء الشيطان يكدر عليه نعمة ربه فقال هل تدري من ناداك‏؟‏ قال‏:‏ نادتني ملائكة ربي قال بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك قال‏:‏ فخالطت قلبه وسوسة وشك مكانه، فقال‏:‏ ‏{‏أنّى يكون لي غلام‏}‏ وذهب الطبري وغيره إلى أن زكرياء لما رأى حال نفسه وحال امرأته وأنها ليست بحال نسل سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام، أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون‏؟‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذا تأويل حسن يليق بزكرياء عليه السلام وقال مكي‏:‏ وقيل إنما سأل لأنه نسي دعاءه لطول المدة بين الدعاء والبشارة وذلك أربعون سنة‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذا قول ضعيف المعنى، و‏{‏أنّى‏}‏ معناها كيف ومن أين، وقوله ‏{‏بلغني الكبر‏}‏ استعارة كأن الزمان طريق والحوادث تتساوق فيه فإذا التقى حادثان فكأن كل واحد منهما قد بلغ صاحبه وحقيقة البلوغ في الأجرام أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه، وحسن في الآية‏:‏ ‏{‏بلغني الكبر‏}‏ من حيث هي عبارة واهن منفعل وبلغت عبارة فاعل مستعل، فتأمله ولا يعترض على هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وقد بلغت من الكبر عتياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 8‏]‏ لأنه قد أفصح بضعف حاله في ذكر العتيّ، والعاقر الإنسان الذي لا يلد، يقال ذلك للمرأة والرجل، قال عامر بن الطفيل‏:‏

لبئس الفتى إن كنت أعور عاقراً *** جباناً فما عذري لدى كل مشهد‏؟‏

و «عاقر» بناء فاعل وهو على النسب وليس بجار على الفعل، والإشارة بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك الله‏}‏، يحتمل أن تكون إلى هذه الغريبة التي بشر بها أي كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله، ففي الكلام حذف مضاف، والكلام تام في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك الله‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يفعل ما يشاء‏}‏ شرح الإبهام الذي في ذلك، ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكرياء وحال امرأته كأنه قال‏:‏ ربِّ على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا‏؟‏ فقال له‏:‏ كما أنتما يكون لكما الغلام، والكلام تام على هذا التأويل في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله يفعل ما يشاء‏}‏ جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

«الآية» العلامة، وقال الربيع والسدي وغيرهما‏:‏ إن زكرياء قال‏:‏ يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حق، فاجعل لي علامة أعرف صحة ذلك بها، فعوقب على هذا الشك في أمر الله، بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس، وقالت فرفة من المفسرين‏:‏ لم يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له ‏{‏كذلك الله يفعل ما يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 40‏]‏ سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى‏.‏

واختلف المفسرون هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة فقال جبير بن نفير، ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث، وقال الربيع وغيره‏:‏ عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام، وقال قوم من المفسرين‏:‏ لم تكن آفة، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها، وكان يقدر على ذكر الله قاله الطبري، وذكر نحوه عن محمد بن كعب، ثم استثنى الرمز، وهو استثناء منقطع، وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها، إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً، والكلام المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء، أنه متقطع، وقرأ جمهور الناس ‏{‏رَمْزاً‏}‏ بفتح الراء وسكون الميم، وقرأ علقمة بن قيس‏:‏ «رُمزاً» بضمها، وقرأ الأعمش «رَمْزاً» بفتحها، والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز بأي شيء كانت الحركة من عين أو حاجب أو شفة أو يد أو عود أو غير ذلك، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز، لأنها علامات بغير اللفظ الموضوع للمعنى المقصود الإعلام به، وقد يقال للتصويت الدال على معنى رمز، ومنه قول جوية بن عائد‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزاً *** وَغَمْغَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الْهَدِيرِ

وأما المفسرون فخصص كل واحد منهم نوعاً من الرمز في تفسيره هذه الآية، فقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إلا رمزاً‏}‏ معناه إلا تحريكاً بالشفتين، وقال الضحاك‏:‏ معناه إلا إشارة باليد والرأس، وبه قال السدي وعبد الله ابن كثير، وقال الحسن‏:‏ أمسك لسانه فجعل يشير بيده إلى قومه، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏إلا رمزاً‏}‏، معناه إلا إيماء، وقرأ جمهور الناس‏:‏ ‏{‏ألا تكلم الناس‏}‏ بنصب الفعل بأن، وقرأ ابن أبي عبلة، «ألا تكلمُ» برفع الميم، وهذا على أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة ويكون فيها ضمير الأمر والشأن التقدير آيتك أنه لا تكلم الناس، والقول بأن هذه الآية نسخها قول النبي عليه السلام‏:‏ لا صمت يوماً إلى الليل قول ظاهر الفساد من جهات، وأمره تعالى بالذكر لربه كثيراً لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه، وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكرياء عليه السلام حيث قال‏:‏ «آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً»، لكنه قال له‏:‏ ‏{‏واذكر ربك كثيراً‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبح‏}‏ معناه قل سبحان الله، وقال قوم معناه‏:‏ صلّ والقول الأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس، و«العشي» في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها ومنه قول القاسم بن محمد‏:‏ ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي، و«العشي» من حين يفيء الفيء، ومنه قول حميد بن ثور‏:‏

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه *** ولا الفيء من برد العشيِّ تذوق

و «العشي» اسم مفرد عند بعضهم، وجمع عشية عند بعضهم كسفينة وسفين، و‏{‏الإبكار‏}‏ مصدر أبكر الرجل «إذا بادر أمره من لدن طلوع الشمس، وتتمادى البكرة شيئاً بعد طلوع الشمس يقال أبكر الرجل وبكر فمن الأول قول ابن أبي ربيعة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أَمِنْ آلِ نُعْمى أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ *** ومن الثاني قول جرير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أَلاَ بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا *** وشقَّ العَصَا بَعْدَ اجتماعٍ أمِيرُها

وقال مجاهد في تفسير ‏{‏الإبكار‏}‏‏:‏ أول الفجر، والعشي ميل الشمس حتى تغيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قال الطبري‏:‏ العامل في ‏{‏إذ‏}‏ قوله ‏{‏سميع‏}‏ فهو عطف على قوله‏:‏ ‏{‏إذ قالت امرأة عمران‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 35‏]‏، وقال كثير من النحاة‏:‏ العامل في ‏{‏إذ‏}‏ في هذه الآية فعل مضمر تقديره «واذكر» وهذا هو الراجح لأن هذه الآيات كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة محمد عليه السلام، مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام، وقرأ عبد الله بن عمر وابن مسعود، «وإذ قال الملائكة»، واختلف المفسرون هل المراد هنا بالملائكة جبريل وحده أو جمع من الملائكة‏؟‏ وقد تقدم القول على معنى مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ و‏{‏اصطفاك‏}‏ مأخوذ من صفا يصفو وزنه- افتعل- وبدلت التاء طاء التناسب الصاد، فالمعنى تخيرك لطاعته وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطهرك‏}‏ معناه من كل ما يصم النساء في خلق أو خلق أو دين قاله مجاهد وغيره، وقال الزجّاج، قد جاء في التفسير أن معناه طهرك من الحيض والنفاس‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذا يحتاج إلى سند قوي وما أحفظه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصطفاك على نساء العالمين‏}‏ إن جعلنا ‏{‏العالمين‏}‏ عاماً فيمن تقدم وتأخر جعلنا الاصطفاء مخصوصاً في أمر عيسى عليه السلام وأنها اصطفيت لتلد من غير فحل، وإن جعلنا الاصطفاء عاماً جعلنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏العالمين‏}‏ مخصوصاً في عالم ذلك الزمان، قاله ابن جريج وغيره، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة، خديجة بنت خويلد» وروي عنه أنه قال‏:‏ «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد»، فذهب الطبري وغيره إلى أن الضمير في قوله- نسائها- يراد به الجنة، وذهب قوم إلى أنه يراد به الدنيا، أي كل امرأة في زمانها، وقال النبي عليه السلام، «خير نساء ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه إلى زوج في ذات يده»، وقال أبو هريرة راوي الحديث‏:‏ ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط، وهذا الزيادة فيها غيب، فلا يتأول أن أبا هريرة رضي الله عنه، قالها إلا عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، «خير نساء العالمين أربع، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»، وقد أسند الطبري، أن النبي عليه السلام، قال لفاطمة بنته، «أنت سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران، البتول»، وأنه قال، «فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين»‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وإذا تأملت هذه الأحاديث وغيرها مما هو في معناها، وجدت مريم فيها متقدمة، فسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على ‏{‏العالمين‏}‏ عموماً أيضاً، وقد قال بعض الناس، إن مريم نبية، قال ابن إسحاق، كانت الملائكة تقبل على مريم فتقول، ‏{‏يا مريم إن الله اصطفاك‏}‏، الآية، فيسمع ذلك زكريا فيقول، إن لمريم لشأناً، فمن مخاطبة الملائكة لها، جعلها هذا القائل نبية، وجمهور الناس على أنه لم تنبأ امرأة‏.‏

و ‏{‏اقنتي‏}‏ معناه اعبدي وأطيعي، قاله قتادة والحسن، وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام قال، كل قنوت في القرآن فهو بمعنى طاعة الله، ويحتمل أن يكون معناه، أطيلي القيام في الصلاة، وهذا هو قول الجمهور، وهو المناسب في المعنى لقوله، ‏{‏واسجدي واركعي‏}‏ وبه قال مجاهد، وابن جريج، والربيع وروى مجاهد أنها لما خوطبت بهذا، قامت حتى ورمت قدماها، وروى الأوزاعي، أنها قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها، تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها، وقال سعيد بن جبير، ‏{‏اقنتي لربك‏}‏، معناه أخلصي لربك، واختلف المتأولون، ثم قدم السجود على الركوع‏؟‏ فقال قوم‏:‏ كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم وقال قوم‏:‏ الواو لا تعطي رتبة، وإنما المعنى، افعلي هذا وهذا، وقد علم تقديم الركوع، وهذه الآية أكثر إشكالاً من قولنا، قام زيد وعمرو، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك، فالقول عندي في ذلك، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة، وهما طول القيام والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى‏:‏ وهذان يختصان بصلاتها مفردة، وإلا فيمن يصلي وراء إمام، فليس يقال له أطل قيامك، ثم أمرت-بعد- بالصلاة في الجماعة، فقيل لها، ‏{‏واركعي مع الراكعين‏}‏ وقصد هنا معلم من معالم الصلاة، لئلا يتكرر لفظ، ولم يرد بالآية السجود والركوع، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

هذه المخاطبة لمحمد عليه السلام، والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدم ذكره من القصص، والأنباء الأخبار، و‏{‏الغيب‏}‏ ما غاب عن مدارك الإنسان، و‏{‏نوحيه‏}‏ معناه نلقيه في نفسك في خفاء، وحد الوحي إلقاء المعنى في النفس في خفاء، ثم تختلف أنواعه، فمنه بالملك، ومنه بالإلهام، ومنه بالإشارة، ومنه بالكتاب، كما قال كعب بن زهير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أتَى الْعَجم والآفاق مِنْهُ قصائدٌ *** بَقينَ بقاءَ الوحْيَ في الْحَجَرِ الأصمْ

تقول العرب‏:‏ أوحى، وتقول وحى، وفي هذه الآية بيان لنبوة محمد عليه السلام، إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو لم يكن لديهم، أو من قرأها في كتب أهل الكتاب، ومحمد عليه السلام أمي من قوم أميين، أو من أعلمه الله بها وهو ذاك صلى الله عليه وسلم، ولديهم معناه عندهم ومعهم، وقد تقدم القول في الأقلام والكفل، وجمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها، وقال ابن إسحاق‏:‏ إنما كان استهامهم حين نالتهم المجاعة دفعاً منها لتحمل مؤونتها، و‏{‏يختصمون‏}‏ معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها، وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه، وقال عليه السلام‏:‏ لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه، وجمهور الأمة على تجويز القرعة إلا من شذ فظنها قماراً، وهذا كله فيما يصلح التراضي بكونه دون قرعة فكأن القرعة محسنة لذلك الاختصاص، وأما حيث لا يجوز التراضي كعتق العبيد في ثلث ميت فجوزها الجمهور ومعنها أبو حنيفة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة أعبد، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة، وقوله‏:‏ ‏{‏أيهم يكفل مريم‏}‏ ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل الذي تقديره، ينظرون، ‏{‏أيهم يكفل مريم‏}‏ والعامل في قوله ‏{‏إذ قالت الملائكة‏}‏ فعل مضمر تقديره اذكر ‏{‏إذ قالت الملائكة‏}‏ وهكذا يطرد وصف الآية وتتوالى الإعلامات بهذه الغيوب، وقال الزجّاج، العامل فيها ‏{‏يختصمون‏}‏، ويجوز أن يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة‏}‏ وهذا كله يرده المعنى، لأن الاختصام لم يكن عند قول الملائكة، وقرأ ابن مسعود وعبد الله بن عمر‏:‏ «إذ قال الملائكة» واختلف المتأولون هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده أو عن جماعة من الملائكة‏؟‏ وقد تقدم معنى ذلك كله في قوله آنفاً، ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ فتأمله، وتقدم ذكر القراءات في قوله ‏{‏يبشرك‏}‏‏.‏

واختلف المفسرون لم عبر عن عيسى عليه السلام ‏{‏بكلمة‏}‏‏؟‏ فقال قتادة‏:‏ جعله «كلمة» إذ هو موجود بكلمة وهي قوله تعالى‏:‏ لمرادته- كن- وهذا كما تقول في شيء حادث هذا قدر الله أي هو عند قدر الله وكذلك تقول هذا أمر الله، وترجم الطبري فقال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ بل الكلمة اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء، فمقتضى هذه الترجمة أن الكلمة اسم مرتجل لعيسى ثم أدخل الطبري تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «الكلمة» هي عيسى، وقول ابن عباس يحتمل أن يفسر بما قال قتادة وبغير ذلك مما سنذكره الآن وليس فيه شيء مما ادعي الطبري رحمه الله، وقال قوم من أهل العلم‏:‏ سماه الله «كلمة» من حيث كان تقدم ذكره في توراة موسى وغيرها من كتب الله وأنه سيكون، فهذه كلمة سبقت فيه من الله، فمعنى الآية، أنت يا مريم مبشرة بأنك المخصوصة بولادة الإنسان الذي قد تكلم الله بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنزلة على أنبيائه، و‏{‏اسمه‏}‏ في هذا الموضع، معناه تسميته، وجاء الضمير مذكراً من أجل المعنى، إذ «الكلمة» عبارة عن ولد‏.‏

واختلف الناس في اشتقاق لفظة ‏{‏المسيح‏}‏ فقال قوم، هو من ساح يسيح في الأرض، إذا ذهب ومشى أقطارها فوزنه مفعل، وقال جمهور الناس‏:‏ هو من- مسح- فوزنه- فعيل، واختلفوا- بعد- في صورة اشتقاقه من- مسح- فقال قوم من العلماء، سمي بذلك من مساحة الأرض لأنه مشاها فكأنه مسحها، وقال آخرون‏:‏ سمي بذلك لأنه ما مسح بيده على ذي علة إلا برئ، فهو على هذين القولين- فعيل- بمعنى- فاعل- وقال ابن جبير‏:‏ سمي بذلك لأنه مسح بالبركة، وقال آخرون‏:‏ سمي بذلك لأنه مسح بدهن القدس فهو على هذين القولين- فعيل- بمعنى مفعول، وكذلك هو في قول من قال‏:‏ مسحه الله، فطهره من الذنوب، قال إبراهيم النخعي‏:‏ المسيح الصديق، وقال ابن جبير عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏المسيح‏}‏ الملك، وسمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى، وغير ذلك من الآيات، وهذا قول ضعيف لا يصح عن ابن عباس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عيسى‏}‏ يحتمل من الإعراب ثلاثة أوجه، البدل من ‏{‏المسيح‏}‏، وعطف البيان، وأن يكون خبراً بعد خبر، ومنع بعض النحاة أن يكون خبراً بعد خبر وقال‏:‏ كان يلزم أن تكون أسماؤه على المعنى أو أسماؤها على اللفظ للكلمة، ويتجه أن يكون ‏{‏عيسى‏}‏ خبر ابتداء مضمر، تقديره، هو عيسى ابن مريم، ويدعو إلى هذا كون قوله، ‏{‏ابن مريم‏}‏ صفة ل ‏{‏عيسى‏}‏ إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف، وأما على البدل أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون ‏{‏ابن مريم‏}‏ صفة ل ‏{‏عيسى‏}‏ لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص، هذه النزعة لأبي علي، وفي صدر الكلام نظر، و‏{‏جيهاً‏}‏، نصب على الحال وهو من الوجه، أي له وجه ومنزلة عند الله والمعنى في الوجيه أنه حيثما أقبل بوجهه، عظم وروعي أمره، وتقول العرب‏:‏ فلان له وجه في الناس وله وجاه، وهذا على قلب في اللفظة، يقولون جاهني يجوهني بكذا أي واجهني به، وجاه عيسى عليه السلام في الدنيا نبوته وذكره، ورفعه في الآخرة مكانته ونعيمه وشفاعته، ‏{‏ومن المقربين‏}‏، معناه من الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏

‏{‏وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ويكلم‏}‏ نائب عن حال تقديرها ومكلماً وذلك معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وجيهاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏، وجاء عطف الفعل المستقبل على اسم الفاعل لما بينهما من المضارعة كما جاز عطف اسم الفاعل على الفعل المستقبل في قوله الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏.‏

بتُّ أُعشّيها بِعَضْبٍ باترِ *** يَفْصِدُ في أسْوقِها وَجَائِرِ

وقوله‏:‏ ‏{‏في المهد‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏يكلم‏}‏، و‏{‏كهلاً‏}‏ حال معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏في المهد‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏من الصالحين‏}‏، حال معطوفة على قوله، ‏{‏ويكلم‏}‏، وهذه الآية إخبار من الله تعالى لمريم بأن ابنها يتكلم في مهده مع الناس آية دالة على براءة أمه مما عسى أن يقذفها به متعسف ظان، و‏{‏المهد‏}‏ موضع اضطجاع الصبي وقت تربيته، وأخبر تعالى عنه أنه أيضاً يكلم الناس ‏{‏كهلاً‏}‏، وفائدة ذلك إذ كلام الكهل عرف أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة، هذا قول الربيع وجماعة من المفسرين، وقال ابن زيد‏:‏ فائدة قوله ‏{‏كهلاً‏}‏ الإخبار بنزوله عند قتله الدجال كهلاً، وقال جمهور الناس‏:‏ الكهل الذي بلغ سن الكهولة، وقال مجاهد‏:‏ الكهل الحليم، وهذا تفسير الكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب، واختلف الناس في حد الكهوله‏:‏ فقيل‏:‏ الكهل ابن أربعين سنة، وقيل‏:‏ ابن خمس وثلاثين، وقيل، ابن ثلاث وثلاثين، وقيل‏:‏ ابن اثنين وثلاثين، وهذا حد أولها‏.‏ وأما آخرها فاثنتان وخمسون، ثم يدخل سن الشيخوخة‏.‏

وقول مريم‏:‏ ‏{‏ربِّ أنّى يكون لي ولد‏}‏ استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها، و‏{‏يمسسني‏}‏، معناه يطأ ويجامع، والمسيس الجماع، ومريم لم تنف مسيس الأيدي، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏، يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه السلام، وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا، ‏{‏يخلق‏}‏ من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه، وروي أن عيسى عليه السلام، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قضى‏}‏ معناه إذا أراد إيجاده، والأمر واحد الأمور وهو مصدر سمي به، والضمير في ‏{‏له‏}‏ عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة، قال مكي‏:‏ وقيل المعنى يقول لأجله، وهذا ينحو إلى ما نورده عن أبي علي بعد، وقرأ جمهور السبعة «فيكونُ» بالرفع، وقرأ ابن عامر وحده «فيكونَ» بالنصب، فوجه الرفع العطف على ‏{‏يقول‏}‏، أو تقدير فهو يكون، وأما قراءة ابن عامر فغير متجهة لأن الأمر المتقدم خطاب للمقضي وقوله‏:‏ ‏{‏فيكون‏}‏، خطاب للمخبر، فليس كقوله قم فأحسن إليك، لكن وجهها أنه راعى الشبه اللفظي في أن تقدم في الكلام لفظ أمر كما قال أبو الحسن الأخفش في نحو قوله تعالى‏:‏

‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏ابراهيم‏:‏ 31‏]‏ أنه مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جواباً في الحقيقة، فكذلك على قراءة ابن عامر يكون قوله، فيكون بمنزلة جواب الأمر وإن لم يكن جواباً، وذهب أبو علي في هذه المسألة إلى أن القول فيها ليس بالمخاطبة المحضة، وإنما هو قول مجازي كما قال‏:‏ امتلأ الحوض وقال قطني وغير ذلك، قال‏:‏ لأن المنتفي ليس بكائن فلا يخاطب كما لا يؤمر، وإنما المعنى فإنما يكونه فهو يكون، فهذه نزعة اعتزالية غفر الله له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏

قرأ نافع وعاصم «ويعلمه» بالياء، وذلك عطف على ‏{‏يبشرك بكلمة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏ كذا قال أبو علي‏:‏ ويحتمل أن يكون في موضع الحال عطفاً على ‏{‏ويكلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 46‏]‏، وقرأ الباقون، و«نعلمه» بالنون، وهي مثل قراءة الياء في المعنى لكن جاءت بنون العظمة، قال الطبري‏:‏ قراءة الياء عطف على قوله‏:‏ ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 47‏]‏، وقراءة النون عطف على قوله‏:‏ ‏{‏نوحيه إليك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا الذي قاله خطأ في الوجهين مفسد للمعنى و‏{‏الكتاب‏}‏ هو الخط باليد فهو مصدر كتب يكتب‏.‏ هذا قول ابن جريج وجماعة المفسرين، وقال بعضهم‏:‏ هي إشارة إلى كتاب منزل لم يعين وهذه دعوى لا حجة عليها، وأما ‏{‏الحكمة‏}‏، فهي السنة التي يتكلم بها الأنبياء، في الشرعيات، والمواعظ، ونحو ذلك، مما لم يوح إليهم في كتاب ولا بملك، لكنهم يلهمون إليه وتقوى غرائزهم عليه، وقد عبر بعض العلماء عن ‏{‏الحكمة‏}‏ بأنها الإصابة في القول والعمل، فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يعلم عيسى عليه السلام الحكمة، والتعليم متمكن فيما كان من الحكمة بوحي أو مأثوراً عمن تقدم عيسى من نبي وعالم، وأما ما كان من حكمة عيسى الخاصة به فإنما يقال فيها يعلمه على معنى يهيئ غريزته لها ويقدره ويجعله يتمرن في استخراجها ويجري ذهنه إلى ذلك، و‏{‏التوراة‏}‏ هي المنزلة على موسى عليه السلام، ويروى أن عيسى كان يستظهر التوراة وكان أعمل الناس بما فيها، ويروى أنه لم يحفظها عن ظهر قلب إلا أربعة، موسى ويوشع بن نون وعزير وعيسى عليهم السلام، وذكر ‏{‏الإنجيل‏}‏ لمريم وهو ينزل- بعد- لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء وأنه سيزل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ورسولاً‏}‏ حال معطوفة على ‏{‏ويعلمه‏}‏ إذ التقدير، ومعلماً الكتاب، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله ‏{‏وجيهاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏، ويحتمل أن يكون التقدير، ويجعله رسولاً، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، مبيناً حكم التوراة ونادباً إلى العمل بها ومحللاً أشياء مما حرم فيها، كالثروب ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير، ومن أول القول لمريم إلى قوله ‏{‏إسرائيل‏}‏ خطاب لمريم، ومن قوله، ‏{‏إني قد جئتكم‏}‏ إلى قوله ‏{‏مستقيم‏}‏ يحتمل أن يكون خطاباً لمريم على معنى يكون من قوله لبني إٍسرائيل، كيت وكيت، ويكون في آخر الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره، فجاء عيسى بني إسرائيل رسولاً فقال لهم ما تقدم ذكره فلما أحس ويحتمل أن يكون المتروك مقدراً في صدر الكلام بعد قوله، ‏{‏إلا بني إسرائيل‏}‏ فيكون تقديره، فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏إني قد جئتكم‏}‏ ليس بخطاب لمريم، والأول أظهر، وقرأ جمهور الناس «أني قد جئتكم» بفتح الألف، تقديره بأني وقرئ في الشاذ، «إني قد جئتكم»، وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن مسعود «بآيات» وكذلك في قوله بعد هذا ‏{‏وجئتكم بآيات من ربكم‏}‏ واختلف القراء في فتح الألف وكسرها من قوله‏:‏ ‏{‏أني أخلق‏}‏، فقرأ نافع وجماعة من العلماء، «إني» بكسر الألف، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء، «أني» بفتح الألف، فوجه قراءة نافع، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله، «إني» كما فسر المثل في قوله كمثل آدم بقوله، خلقه من تراب إلى غير ذلك من الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية، كأنه قال‏:‏ «وجئتكم بأني أخلق»، وقيل‏:‏ هي بدل من ‏{‏أني‏}‏ الأولى، وهذا كله يتقارب في المعنى و‏{‏أخلق‏}‏ معناه، أقدر وأُهيئ بيدي، ومن ذلك قول الشاعر ‏[‏زهير بن أبي سلمى‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ الْقَوْمِ يَخْلقُ ثمّ لا يُفْري

وقوله ‏{‏لكم‏}‏ تقييد لقوله، ‏{‏أخلق‏}‏ لأنه يدل دلالة ما، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم، ويصرح بذلك قوله ‏{‏بإذن الله‏}‏ وحقيقة الخلق في الأجرام، ويستعمل في المعاني، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتخلقون إفكاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل مرفّل‏]‏

من كان يخلق ما يقو *** ل فحيلتي فيه قليله

وجمهور الناس قرأ «كهيئة» على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك، هاء الشيء يهاء هيئاً وهيئة، إذا ترتب واستقر على حال ما، وهو الذي تعديه فتقول‏:‏ هيأت، وقرأ الزهري «كهِيَّئة الطير»، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائراً» على الإفراد في الموضعين، فالأول اسم الجنس والثاني مفرد، أي يكون طائراً من الطيور، وقرأ نافع وحده، «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً» بالإفراد في الأخير، وهكذا قرأ في المائدة الباقون «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً» بالجمع فيهما، وكذلك في سورة المائدة، ومعاني هذه القراءات بينة، و‏{‏الطير‏}‏ اسم جمع وليس من أبنية الجموع، وإنما البناء في جمع طائر أطيار، وجمع الجمع طيور، وحكاه أبو علي بن أبي الحسن، وقوله ‏{‏فأنفخ فيه‏}‏ ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيأ‏.‏ ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور، وأنث المضير في سورة المائدة في قوله،

‏{‏فتنفخ فيها‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله ‏{‏الطير‏}‏ وكون عيسى عليه السلام خالقاً بيده ونافخاً بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة، وأنها جاءت من قبله، وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك له‏.‏

وقوله ‏{‏بإذن الله‏}‏، معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي، وحقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبداً في قسم الإباحة، وتأمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهزموهم بإذن الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 251‏]‏، وقول النبي عليه السلام، وإذنها صماتها، وروي في قصص هذه الآية، أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل‏:‏ أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى‏؟‏ فيقولون‏:‏ الخفاش، لأنه طائر لا ريش له، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير، وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم، فكانوا يقولون‏:‏ هذا ساحر‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَأُبْرِئ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏

‏{‏أبرئ‏}‏، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره، ويقال‏:‏ برئ المريض أيضاً كما يقال في الذنب والدين، واختلف المفسرون في ‏{‏الأكمه‏}‏ فقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الأكمه‏}‏ هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وقال ابن عباس والحسن والسدي‏:‏ ‏{‏الأكمه‏}‏ الأعمى على الإطلاق، وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏الأكمه‏}‏ الأعمش، وحكى النقاش قولاً‏:‏ أن ‏{‏الأكمه‏}‏ هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم، الميت الفؤاد، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة‏:‏ ‏{‏الأكمه‏}‏ الذي يولد أعمى مضموم العين‏.‏

قال القاضي‏:‏ وقد كان عيسى عليه السلام يبرئ بدعائه ومسح يده كل علة، ولكن الإحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرئ منها طبيب بوجه، فليس يتخلص من هذه الأقوال في ‏{‏الأكمه‏}‏ إلا القول الأخير، إذ ‏{‏الأكمه‏}‏ في اللغة هو الأعمى، وكمهت العين عميت، ولولا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى النقاش حسناً في معنى قيام الحجة به، ‏{‏والأبرص‏}‏ معروف، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن، وروي في إحيائه الموتى، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة، فيحيي الإنسان ويكلمه، وروي في أنه أحيى سام بن نوح عليه السلام، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته، وروي أنه كان يعود لموته سريعاً، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص علىلتحدي بها، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله، وهذا كأمر السحرة مع موسى، والفصحاء مع محمد عليه السلام‏.‏

ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس، كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك‏.‏

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنبئكم‏}‏ الآية، فقال السدي وسيعد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد وعطاء‏:‏ كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر، وكذلك إلى أن نبئ، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى، أكلت البارحة كذا، وادخرت كذا، قال ابن إسحاق، وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس، وقال قتادة معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم‏.‏ وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهداً أن يأكلوا ولا يخبئ أحد شيئاً ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة‏.‏ فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك، وما في قوله ‏{‏بما تأكلون‏}‏ يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية وكذلك ‏{‏وما تدخرون‏}‏، وقرأ الجمهور، «تدّخِرون» بدال مشددة وخاء مكسورة، وهو تفتعلون من ذخرت أصله، «تذخرون» استثقل النطق بالذال والتاء، لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال في الدال، كما صنع في مدكر، ومطلع، بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر‏:‏ ‏[‏زهير‏]‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إن الكَريمَ الذي يُعطيكَ نَائِلَهُ *** عَفْواً وَيظْلِمُ أحْياناً فَيَطَّلِمُ

بالطاء غير منقوطة، وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال «تدْخَرون»- بدال- ساكنة وخاء مفتوحة، وقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء، وفي مصحف ابن مسعود «لآيات» على الجمع، وقوله ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏، توقيف والمعنى، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن- بعد- وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل، وإن كان خطابه لمؤمنين، أو كما كانوا مؤمنين بموسى، فمعنى الآية التثبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء‏:‏ ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏مصدقاً‏}‏ حال معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏إني قد جئتكم بآية‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏، لأن قوله ‏{‏بآية‏}‏ في موضع الحال، وكان عيسى عليه السلام مصدقاً للتوراة متبعاً عاملاً بما فيها، قال وهب بن منبه‏:‏ كان يسبت ويستقبل بيت المقدس، وقال قتادة في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏، كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى، وقال ابن جريج، أحل لكم لحوم الإبل والشحوم، قال الربيع‏:‏ وأشياء من السمك، وما لا صيصة له من الطير، وكان في التوراة محرمات تركها شرع عيسى على حالها، فلفظة «البعض» على هذا متمكنة، وقال أبو عبيدة‏:‏ «البعض» في هذه الآية بمعنى الكل، وخطأه الناس في هذه المقالة وأنشد أبو عبيدة شاهداً على قوله بيت لبيد‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ترَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذا لمْ يَرْضَها *** أو يخترمْ بعضَ النفوسِ حِمامُها

وليست في البيت له حجة لأن لبيداً أراد نفسه فهو تبعيض صحيح، وذهب بعض المفسرين إلى أن وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرم عليكم‏}‏ إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه، فكأن عيسى رد أحكام التوراة «إلى حقائقها التي نزلت من عند الله تعالى، وقال عكرمة‏:‏» حرم عليكم «بفتح الحاء والراء المشددة، وإسناد الفعل إلى الله تعالى أو إلى موسى عليه السلام، وقرأ الجمهور ‏{‏وجئتكم بآية‏}‏ وفي مصحف عبد الله بن مسعود،» وجئتكم بآيات «من ربكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ تحذير ودعاء إلى الله تعالى‏.‏

وقرأ جمهور الناس ‏{‏إن الله ربي وربكم‏}‏ بكسر الألف على استئناف الخبر، وقرأه قوم» أن الله ربي وربكم «بفتح الألف قال الطبري‏:‏» إن «بدل من» آية «، في قوله ‏{‏جئتكم بآية‏}‏، وفي هذا ضعف وإنما التقدير أطيعون، لأن الله ربي وربكم، أو يكون المعنى، لأن الله ربي وربكم فاعبدوه، وقوله ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏ إشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن الله ربي وربكم فاعبدوه‏}‏، وهو لأن ألفاظه جمع الإيمان والطاعات، والصراط، الطريق، والمستقيم، الذي لا اعوجاج فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قبل هذه الآية متروك به يتم اتساق الآيات، تقديره، فجاء عيسى عليه السلام كما بشر الله به فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل، ‏{‏فلما أحس‏}‏ ومعنى أحس، علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه ورأى من قرائن الأحوال وشدة العداوة والإعراض يقال أحسست بالشيء وحسيت به، أصله، حسست فأبدلت إحدى السينين ياء، ‏{‏والكفر‏}‏ هو التكذيب به، وروي أنه رأى منهم إرادة قتله، فحينئذ طلب النصر، والضمير في ‏{‏منهم‏}‏ لبني إسرائيل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال من أنصاري إلى الله‏}‏ عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ويؤمن بالشرع ويحميه، كما كان محمد عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ويتعرض للأحياء في المواسم، وهذه الأفعال كلها وما فيها من أقوال يعبر عنها يقال ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏، ولا شك أن هذه الألفاظ كانت في جملة أقواله الناس، والأنصار جمع نصير، كشهيد وأشهاد وغير ذلك، وقيل جمع ناصر، كصاحب وأصحاب وقوله‏:‏ ‏{‏إلى الله‏}‏ يحتمل معنيين، أحدهما‏:‏ من ينصرني في السبيل إلى الله‏؟‏ فتكون ‏{‏إلى‏}‏ دالة على الغاية دلالة ظاهرة على بابها، والمعنى الثاني، أن يكون التقدير من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي‏؟‏ فيكون بمنزلة قوله ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ فإذا تأملتها وجدت فيها معنى الغاية لأنها تضمنت إضافة شيء إلى شيء، وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى مع ونعم، إن- مع- تسد في هذه المعاني مسد «إلى» لكن ليس يباح من هذا أن يقال إن ‏{‏إلى‏}‏ فقال ‏{‏إلى‏}‏ بمعنى مع حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ فقال ‏{‏إلى‏}‏ بمعنى مع وهذه عجمة بل ‏{‏إلى‏}‏ في هذه الآية، غاية مجردة، وينظر هل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها من طريق آخر، و‏{‏الحواريون‏}‏، قوم مر بهم عيسى عليه السلام، فدعاهم إلى نصرة، واتباع ملته، فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام، وصبروا في ذات الله، وروي أنه مر بهم وهم يصطادون السمك، واختلف الناس لم قيل لهم ‏{‏الحواريون‏}‏‏؟‏ فقال سعيد بن جبير، سموا بذلك لبياض ثيابهم ونقائها، وقال أبو أرطأة، سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب، أي يبيضونها، وقال قتادة، الحواريون أصفياء الأنبياء، الذين تصلح لهم الخلافة، وقال الضحاك نحوه‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو أحمد‏:‏ وهذا تقرير حال القوم، وليس بتفسير اللفظة، وعلى هذا الحد شبه النبي عليه السلام، ابن عمته بهم في قوله‏:‏ وحواريَّ الزبير، والأقوال الأولى هي تفسير اللفظ، إذ هي من الحور، وهو البياض، حورت الثوب بيضته ومنه الحواري، قد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار، الحواريات، لغلبة البياض عليهن، ومنه قول أبي جلدة اليشكري‏:‏

فقل للحواريات يبكين غيرنا *** ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح

وحكى مكي‏:‏ أن مريم دفعت عيسى عليه السلام في صغره في أعمال شتى، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يقصرون الثياب ثم يصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألواناً شتى من ماء واحد، وقرأ جمهور الناس «الحواريّون» بتشديد الياء، واحدهم- حواريّ- وليست بياء نسب وإنما هي كياء كرسي، وقرأ إبراهيم النخعي وأبو بكر الثقفي‏:‏ «الحواريون» مخففة الياء في جميع القرآن، قال أبو الفتح‏:‏ العرب تعاف ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها وتمتنع منها، ومتى جاءت في نحو قولهم، العاديون القاضيون والساعيون أعلت بأن تستثقل الضمة فتسكن الياء وتنقل حركتها ثم تحذف لسكونها وسكون الواو بعدها فيجيء العادون ونحوه، فكان يجب على هذا أن يقال، الحوارون، لكن وجه القراءة على ضعفها أن الياء خففت استثقالاً لتضعيفها وحملت الضمة دلالة على أن التشديد مراد، إذ التشديد محتمل للضمة، وهذا كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزئون إلى أن أخلص الهمزة يا البتة وحملها الضمة تذكر الحال المرادة فيها‏.‏

وقول الحواريين‏:‏ ‏{‏واشهد‏}‏ يحتمل أن يكون خطاباً لعيسى عليه السلام، أي اشهد لنا عند الله، ويحتمل أن يكون خطاباً لله تعالى كما تقول‏:‏ أنا أشهد الله على كذا، إذا عزمت وبالغت في الالتزام، ومنه قول النبي عليه السلام في حجة الوداع‏:‏ اللهم اشهد، قال الطبري‏:‏ وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران، أي هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى، لا ما تقولونه أنتم، يا من يدعي له الألوهية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا آمنا بما أنزلت‏}‏ يريدون الإنجيل وآيات عيسى، و‏{‏الرسول‏}‏ عيسى عليه السلام، وقوله‏:‏ ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ عبارة عن الرغبة في أن يكونوا عنده في عداد من شهد بالحق من مؤمني الأمم، ولما كان البشر يقيد ما يحتاج إلى علمه وتحقيقه في ثاني حال بالكتاب، عبروا عن فعل الله بهم ذلك وقال ابن عباس‏:‏ قولهم ‏{‏مع الشاهدين‏}‏ معناه اجعلنا من أمة محمد عليه السلام في أن نكون ممن يشهد على الناس‏.‏

ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى فقال‏:‏ ‏{‏ومكروا‏}‏ يريد تحيلهم في أخذ عيسى للقتل بزعمهم، ويروى أنهم تحيلوا له، وأذكوا عليه العيون حتى دخل هو والحواريون بيتاً فأخذوهم فيه، فهذا مكر بني إسرائيل، وجازاهم الله تعالى بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين ورفع عيسى، وأعقب بني إسرائيل مذلة وهواناً في الدنيا والآخرة، فهذه العقوبة هي التي سماها الله مكراً في قوله ‏{‏ومكر الله‏}‏ وهذا مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه، وعلى هذا فسر جمهور المفسرين الآية، وعلى أن عيسى قال للحواريين‏:‏ من يصبر فيلقى عليه شبهي فيقتل وله الجنة‏؟‏ فقال أحدهم- أنا- فكان ذلك، وروى قوم أن بني إسرائيل دست يهودياً جاسوساً علىعيسى حتى صحبه ودلهم عليه ودخل معه البيت فلما أحيط بهم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل اليهودي فأخذ وصلب، فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ وهذه أيضاً تسمية عقوبة باسم الذنب، والمكر في اللغة، السعي على الإنسان دون أن يظهر له ذلك، بل أن يبطن الماكر ضد ما يبدي، وقوله ‏{‏والله خير الماكرين‏}‏ معناه في أنه فاعل في حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل ففي الأغلب، لأنه في الأباطيل يحتاج إلى التحيل، والله سبحانه أشد بطشاً وأنفذ إرادة، فهو خير من جهات لا تحصى، لا إله إلا هو، وذكر حصر عيسى عليه السلام، وعدة أصحابه به وأمر الشبه وغير ذلك من أمره سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قال الطبري‏:‏ العامل في ‏{‏إذ‏}‏ قوله تعالى ‏{‏ومكر الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ وقال غيره من النحاة‏:‏ العامل فعل مضمر تقديره اذكر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا هو الأصوب، وهذا القول هو بواسطة الملك لأن عيسى ليس بمكلم، و‏{‏عيسى‏}‏ اسم أعجمي معرف فلذلك لا ينصرف وهو بالسريانية- ايسوع- عدلته العرب إلى ‏{‏عيسى‏}‏ واختلف المفسرون في هذا التوفي، فقال الربيع‏:‏ هي وفاة نوم، رفعه الله في منامه، وقال الحسن وابن جريج ومطر الوراق ومحمد بن جعفر بن الزبير وجماعة من العلماء‏:‏ المعنى أني قابضك من الأرض، ومحصنك أني مميتك، هذا لفظ ابن عباس ولم يفسر، فقال وهب بن منبه‏:‏ توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك، عنده في السماء وفي بعض الكتب، سبع ساعات، وقال الفراء‏:‏ هي وفاة موت ولكن المعنى، ‏{‏إني متوفيك‏}‏ في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال، ففي الكلام تقديم وتأخير، وقال مالك في جامع العتبية‏:‏ مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ووقع في كتاب مكي عن قوم‏:‏ أن معنى ‏{‏متوفيك‏}‏ متقبل عملك، وهذا ضعيف من جهة اللفظ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد ويحج البيت ويعتمر، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة، وقيل أربعين سنة، ثم يميته الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فقول ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ هي وفاة موت لا بد أن يتمم، إما على قول وهب بن منبه، وإما على قول الفراء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورافعك إليّ‏}‏ عبارة عن نقله إلى علو من سفل وقوله ‏{‏إلى‏}‏ إضافة تشريف لما كانت سماءه والجهة المكرمة المعظمة المرجوة، وإلا فمعلوم أن الله تعالى غير متحيز في جهة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومطهرك‏}‏ حقيقة التطهير إنما هي من دنس ونحوه، واستعمل ذلك في السب والدعاوى والآثام وخلطة الشرار ومعاشرتهم، تشبيهاً لذلك كله بالأدناس، فطهر الله العظيم عيسى من دعاوى الكفرة ومعاشرتهم القبيحة له، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاعل‏}‏ اسم فاعل للاستقبال، وحذف تنوينه تخفيفاً، وهو متعد إلى مفعولين، لأنه بمعنى مصيَّر فأحدهما ‏{‏الذين‏}‏ والآخرة في قوله‏:‏ ‏{‏فوق الذين كفروا‏}‏ وقال ابن زيد‏:‏ الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود، والآية مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين وجعله حكماً دنيوياً لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار منهم بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود فقط، وقال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى، نص على ذلك قتادة وغيره، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان وبالعزة والغلبة، ويظهر من قول ابن جريج وغيره أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكراً، فهم فوقهم بالحجة والبرهان، وما ظهر عليهم من أمارات رضوان الله، وقوله تعالى ‏{‏ثم إليّ مرجعكم‏}‏ الخطاب لعيسى، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده فكأنه قال له‏:‏ ‏{‏ثم إلي‏}‏، أي إلى حكمي وعدلي، يرجع الناس، فخاطبه كما تخاطب الجماعة إذ هو أحدها، وإذ هي مرادة في المعنى، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأحكم‏}‏ إلى آخر الآية، وعيد لعيسى والمؤمنين ووعيد للكافرين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين كفروا‏}‏ الآية، إخبار بما يجعل عليه حالهم من أول أمرهم وليس بإخبار عما يفعل بعد يوم القيامة، لأنه قد ذكر الدنيا وهي قبل، وإنما المعنى، فأما الكافرون فالصنع بهم أنهم يعذبون ‏{‏عذاباً شديداً في الدنيا‏}‏ بالأسر والقتل والجزية والذل، ولم ينله منهم فهو تحت خوفه إذ يعلم أن شرع الإسلام طالب له بذلك، وقد أبرز الوجود هذا، وفي ‏{‏الآخرة‏}‏ معناه، بعذاب النار، ثم ذكر قسم الإيمان وقرن به الأعمال الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال ودعاء إليها، وقرأ حفص عن عاصم «فيوفيهم» بالياء على الغيبة، والفعل مسند إلى الله تعالى، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم «فنوفيهم» بالنون، وهي نون العظمة، وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة فذلك هو بحسب الأعمال، وأما نفس دخول الجنة فبرحمة الله وبفضله، وتقدم نظير قوله ‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏ في قوله قبل ‏{‏فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 32‏]‏