فصل: تفسير الآيات رقم (8- 9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

كان أصل النون أن تكسر لالتقاء الساكنين، لكنها تفتح مع الألف واللام‏.‏ ومن قال‏:‏ استثقلت كسرتان تتوالى في كلمة على حرفين فمعترض بقولهم من ابنك ومن اسمك وما أشبهه‏.‏

واختلف النحويون في لفظ ‏{‏الناس‏}‏ فقال قوم‏:‏ «هي من نسي فأصل ناس نسي قلب فجاء نيس تحركت الياء وانفتح، ما قبلها فانقلبت ألفاً فقيل ناس، ثم دخلت الألف واللام»‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ناس اسم من أسماء الجموع دون هذا التعليل، دخلت عليه الألف واللام‏.‏

وقال آخرون‏:‏ «أصل ناس أناس دخلت الألف واللام فجاء الأناس، حذفت الهمزة فجاء الناس أدغمت اللام في النون لقرب المخارج»‏.‏ وهذه الآية نزلت في المنافقين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يقول آمنا بالله‏}‏ رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ ‏{‏من‏}‏ ومعناها، وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز ان يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد، لو قلت ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز‏.‏

وسمى الله تعالى يوم القيامة ‏{‏اليوم الآخر‏}‏ لأنه لا ليل بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل، ثم نفى تعالى الإيمان عن المنافقين، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب‏.‏

واختلف المتأولون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخادعون الله‏}‏‏.‏

فقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزاً لتعلق رسوله به، ومخادعتهم في تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه»‏.‏

وقال جماعة من المتأولين‏:‏ «بل يخادعون الله والمؤمنين، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك»‏.‏

واختلف القراء في يخادعون الثاني‏.‏

فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو‏:‏ «يخادعون»‏.‏

وقرأ عصام وابن عامر وحمزة والكسائي‏:‏ «وما يخدعون»‏.‏

وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة‏:‏ «يُخدعون» بضم الياء‏.‏

وقرأ قتادة ومورق العجلي‏:‏ «يُخَدِّعون» بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها‏.‏ فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏عمرو بن كلثوم‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

ألاَ لاَ يجْهلنْ أحدٌ عليْنا *** فَنَجْهل فوق جهْل الجاهلينا

فجعل انتصاره جهلاً، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل‏.‏

وتتجه أيضاً هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين‏.‏ وقد قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الكميت‏]‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

تذكر من أَنَّى ومن أين شربه *** يؤامرُ نفسيه كذي الهجمة الأبل

وأنشد ابن الأعرابي‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

لم تدر ما لا ولست قائلها *** عمرك ما عشت آخر الأبد

ولم تؤامرْ نفسيك ممترياً في *** ها وفي أختها ولم تكد

وقال الآخر‏:‏

يؤامر نفسيهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ *** أيستوتغ الذوبانَ أمْ لا يطورُها

وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وكنتَ كذات الضنء لم تدر إذْ بَغَتْ *** تؤامرُ نفسيْها أتسرِقُ أن تزني

ووجه قراءة عاصم ومن ذكر، أن ذلكَ الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها، تقول‏:‏ «خادعت الرجل» بمعنى أعملت التحيل عليه، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد، والمصدر «خِدع» بكسر الخاء وخديعة، حكى ذلك أبو زيد‏.‏ فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم فيها‏.‏ ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قومه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ أي من قومه وإما أن يكون «يخدعون» أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم، ونحوه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ ولا تقول رفثت إلى المرأة ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل لك إلى أن تزكى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏ وإنما يقال هل لك في كذا، ولكن لما كان المعنى أجد بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن، وهو باب سني من فصاحة الكلام، ومنه قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏:‏

كيف تراني قالباً مجني *** قد قتل الله زياداً عنّي

لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف‏.‏ ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏نحيف العامري‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ *** لعمر اللَّهِ أعجبني رضاها

لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي‏.‏

وأما الكسائي فقال في هذا البيت‏:‏ «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها»‏.‏

ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع، إذ هو مصير إلى عذاب الله‏.‏

قال الخليل‏:‏ «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل إلى الاثنين، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يشعرون‏}‏ معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان، وهو مأخوذ من الشعر، والشاعر المتفطن لغريب المعاني‏.‏

وقولهم‏:‏ «ليت شعري» معناه ليت فطنتي تدرك، ومن هذا المعنى قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المنخل الهذلي‏]‏‏.‏

عقوا بسهمٍ فلم يشعرْ به أحدٌ *** ثم استفاؤوا قالوا حبّذا الوضح

واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له‏:‏ فقالت طائفة‏:‏ «وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار»‏.‏

وقال آخرون‏:‏ «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

المرض عباة مستعارة للفساد الذي في عقائد هؤلاء المنافقين وذلك إما أن يكون شكاً، وإما حجداً بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما يحجدون، وبنحو هذا فسر المتأولون‏.‏

وقال قوم‏:‏ «المرض غمهم بظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم»‏.‏

وقرأ الأصمعي عن أبي عمر‏:‏ «مرْض» بسكون الراء وهي لغة في المصدر قال أبو الفتح‏:‏ «وليس بتخفيف»‏.‏

واختلف المتأولون في معنى قوله ‏{‏فزادهم الله مرضاً‏}‏ فقيل هو دعاء عليهم، وقيل هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحي ويظهر من البراهين، فهي على هؤلاء المنافقين عمى وكلما كذبوا زاد المرض‏.‏

وقرأ حمزة‏:‏ «فزادهم» بكسر الزاي، وكذلك ابن عامر‏.‏ وكان نافع يشم الزاي إلى الكسر، وفتح الباقون‏.‏ و‏{‏أليم‏}‏ معناه مؤلم كما قال الشاعر وهو عمرو بن معدي كرب‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

أمن ريحانة الداعي السميع *** بمعنى‏:‏ مسمع‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يُكذِّبون» بضم الياء وتشديد الذال‏.‏

وقرأ الباقون بفتح الياء وتخفيف الذال‏.‏ فالقراءة بالتثقيل يؤيدها قوله تعالى قبل ‏{‏وما هم بمؤمنين‏}‏ فهذا إخبار بأنهم يكذبون‏.‏ والقراءة بالتخفيف يؤيدها أن سياق الآيات إنما هي إخبار بكذبهم، والتوعد بالعذاب الأليم، متوجه على التكذيب، وعلى الكذب في مثل هذه النازلة، إذ هو منطوٍ على الكفر، وقراءة التثقيل أرجح‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏ ظرف زمان، وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة خرجت فإذا زيد ظرف مكان، لأنها تضمنت جثة، وهذا مردود لأن المعنى «خرجت فإذا حضور زيد» فإنما تضمنت المصدر، كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم‏:‏ «اليوم خمر، وغداً أمر» فمعناه وجود خمر ووقوع أمر، والعامل في ‏{‏إذا‏}‏ في هذه الآية ‏{‏قالوا‏}‏‏.‏ وأصل ‏{‏قيل‏}‏ قول نقلت حركة الواو إلى القاف فقلبت ياء لانكسار ما قبلها‏.‏

وقرأ الكسائي‏:‏ «قُيل وغُيض وسُيء وسُيئت وحُيل وسُيق وجُيء» بضم أوائل ذلك كله‏.‏ وروي مثل ذلك عن ابن عامر‏.‏ وروي أيضاً عنه أنه كسر «غِيض وقِيل وجِيء»، الغين القاف والجيم حيث وقع من القرآن وضم نافع من ذلك كله حرفين «سُيء وسُيئت» وكسر ما بقي‏.‏ وكان ابن كثير وعاصم وأبوعمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلها، والضمير في ‏{‏لهم‏}‏ هو عائد إلى المنافقين المشار إليهم قبل‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ «الإشارة هنا هي إلى منافقي اليهود»‏.‏

وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية‏:‏ لم يجئ هؤلاء بعد ومعنى قوله‏:‏ لم ينقرضوا بل هم يجيئون في كل زمان‏.‏

و ‏{‏لا تفسدوا في الأرض‏}‏ معناه بالكفر وموالاة الكفرة، و‏{‏نحن‏}‏ اسم من ضمائر المرفوع مبني على الضم، إذ كان اسماً قوياً يقع للواحد المعظم والاثنين والجماعة، فأعطي أسنى الحركات‏.‏

وأيضاً فلما كان في الأغلب ضمير جماعة، وضمير الجماعة في الأسماء الظاهرة الواو أعطي الضمة إذ هي أخت الواو، ولقول المنافقين‏:‏ ‏{‏إنما نحن مصلحون‏}‏ ثلاث تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم قرابة توصل‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم مصلحون بن الكفار والمؤمنين، فلذلك يداخلون الكفار‏.‏ و‏{‏ألا‏}‏ استفتاح كلام، و«إن» بكسر الألف استئناف، و‏{‏هم‏}‏ الثاني رفع بالابتداء، و‏{‏المفسدون‏}‏ خبره والجملة خبر «إن»، ويحتمل أن يكون فصلاً ويسميه الكوفيون‏:‏ «العماد» ويكون ‏{‏المفسدون‏}‏ خبر «إن» فعلى هذا لا موضع ل ‏{‏هم‏}‏ من الإعراب، ويحتمل أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم فموضعه نصب، ودخلت الألف واللام في قوله‏:‏ ‏{‏المفسدون‏}‏ لما تقدم ذكر اللفظة في قوله‏:‏ ‏{‏لا تفسدوا‏}‏ فكأنه ضرب من العهد، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ألا إنهم مفسدون، قاله الجرجاني‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة كما تقول زيد هو الرجل أي حق الرجل، فقد تستغني عن مقدمة تقتضي عهداً، و‏{‏لكن‏}‏ بجملته حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا لا يشعرون أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله يفضحهم، وهذا مع أن يكون قولهم ‏{‏إنما نحن مصلحون‏}‏ جحداً محضاً للإفساد‏.‏ والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم‏:‏ ‏{‏إنما نحن مصلحون‏}‏ اعتقاداً منهم أنه صلاح في صلة القرابة، أو إصلاح بين المؤمنين والكافرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

المعنى صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، مثل ما صدقه المهاجرون والمحققون من أهل يثرب، قالوا‏:‏ أنكون كالذين خفت عقولهم‏؟‏ والسفه الخفة والرقة الداعية إلى الخفة يقال «ثوب سفيه» إذا كان رقيقاً مهلهل النسج، ومنه قول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

مشين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليَها مرّ الرياح النواسم

وهذا القول إنما كانوا يقولونه في خفاء فأطلع الله عليه نبيه والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هو في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء للرَّين الذي على قلوبهم‏.‏

وقال قوم‏:‏ «الآية نزلت في منافقي اليهود، والمراد بالناس عبد الله بن سلام ومن أسلم من بني إسرائيل»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تخصيص لا دليل عليه‏.‏

و ‏{‏لقوا‏}‏ أصله لقيوا استثقلت الضمة على الياء فسكنت فاجتمع الساكنان فحذفت الياء‏.‏ وقرأ ابن السميفع «لاقوا الذين»‏.‏ وهذه كانت حال المنافقين إظهار الإيمان للمؤمنين وإظهار الكفر في خلواتهم بعضهم مع بعض، وكان المؤمنون يلبسونهم على ذلك لموضع القرابة فلم تلتمس عليهم الشهادات ولا تقرر تعينهم في النفاق تقرراً يوجب لوضوحه الحكم بقتلهم وكان ما يظهرونه من الإيمان يحقن دماءهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم ويدعهم في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه فينفر الناس حسبما قال عليه السلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال له في وقت قول عبد الله بن أبي ابن سلول‏:‏ «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» القصة‏:‏ «دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق» فقال‏:‏ «دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»‏.‏

فهذه طريقة أصحاب مالك رضي الله عنه في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين مع علمه بكفرهم في الجملة‏:‏ نص على هذا محمد بن الجهم وإسماعيل القاضي والأبهري وابن الماجشون واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين إينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60-61‏]‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ «معناه إذا هم أعلنوا النفاق»‏.‏

قال مالك رحمه الله‏:‏ «النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، لأنه لا يظهر ما يستتاب منه، وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليسن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين»‏.‏

قال القاضي إسماعيل‏:‏ «لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه وحده، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ أقوى من انفراد زيد وغيره أن اللفظ ليس بصريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر‏.‏

قال الشافعي رحمه الله‏:‏ «السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه»‏.‏ وبه قال أصحاب الرأي والطبري وغيرهم‏.‏

قال الشافعي وأصحابه‏:‏ «وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله فمن قال إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف معنى الكتاب والسنة وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله على المنافقين»‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قال الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل وأهل الحديث‏:‏ فالمعنى الموجب لكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع العلم بهم أن الله تعالى نهاه عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان وصلوا فكذلك والزنديق‏.‏

واحتج ابن حنبل بحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجل من الأنصار في الذي شهد عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفاق فقال‏:‏ «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله‏؟‏ قالوا بلى ولا شهادة له، قال‏:‏ أليس يصلى‏؟‏ قالوا بلى ولا صلاة له، قال‏:‏ أولئك الذين نهاني الله عنهم»

وذكر أيضاً أهل الحديث ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيهم‏:‏ «لعل الله سيخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويصدق المرسلين ويخلص العبادات لرب العالمين»‏.‏

قال أبو جعفر الطبري في كتاب اللطيف في باب المرتد‏:‏ «إن الله تعالى قد جعل الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ووكل سرائرهم إلى الله وقد كذب الله ظاهرهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ينفصل المالكيون عما ألزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموض عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول لم أرد بها ولا أنا إلا مؤمن ولو عين أحد لما جب كذبه شيئاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم‏}‏ وصلت ‏{‏خلوا‏}‏ ب ‏{‏إلى‏}‏ وعرفها أن توصل بالباء فتقول خلوت بفلان من حيث نزلت ‏{‏خلوا‏}‏ في هذا الموضع منزلة ذهبوا وانصرفوا، إذ هو فعل معادل لقوله ‏{‏لقوا‏}‏، وهذا مثل ما تقدم من قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

كيف تراني قالباً مِجَنِّي *** فقد قتل الله زياداً عني

لما أنزله منزلة صرف ورد‏.‏

قال مكي‏:‏ «يقال خلوت بفلان بمعنى سخرت به فجاءت إلى في الآية زوالاً عن الاشتراك في الباء»‏.‏ وقال قوم‏:‏ ‏{‏إلى‏}‏ بمعنى مع، وفي هذا ضعف ويأتي بيانه إن شاء الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52، الصف‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ ‏{‏إلى‏}‏ بمعنى الباء إذ حروف المعاني يبدل بعضها من بعض‏.‏ وهذا ضعيف يأباه الخليل وسيبويه وغيرهما‏.‏

واختلف المفسرون في المراد بالشياطين فقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «هم رؤساء الكفر»‏.‏

وقال ابن الكلبي وغيره‏:‏ «هم شياطين الجن»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا في الموضع بعيد‏.‏

وقال جمع من المفسرين‏:‏ «هم الكهان»‏.‏ ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر والمنافقين حتى يقدر كل واحد شيطان غيره، فمنهم الخالون، ومنهم الشياطين‏.‏

و ‏{‏مستهزئون‏}‏ معناه نتخذ هؤلاء الذين نصانعهم بإظهار الإيمان هزواً ونستخف بهم‏.‏

ومذهب سيبويه رحمه الله أن تكون الهمزة مضمومة على الواو في ‏{‏مستهزئون‏}‏‏.‏ وحكى عنه علي أنها تخفف بين بين‏.‏

ومذهب أبي الحسن الأخفش أن تقلب الهمزة ياء قلباً صحيحاً فيقرأ «مستهزِيُون»‏.‏

قال ابن جني‏:‏ «حمل الياء الضمة تذكراً لحال الهمزة المضمومة والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة»‏.‏

وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه، ويقال‏:‏ «هزئ واستهزأ» بمعنى، فهو «كعجب واستعجب»، ومنه قول الشاعر ‏[‏أوس بن حجر‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ومستعجب مما يرى من أناتنا *** ولو زبنته الحرب لم يترمرم

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء‏:‏ «هي تسمية العقوبة باسم الذنب»‏.‏ والعرب تستعمل ذلك كثيراً، ومنه قول الشاعر ‏[‏عمرو بن كلثوم‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

ألا لا يجهلنْ أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال قوم‏:‏ إن الله تعالى يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البشر هزو حسبما يروى أن النار تجمدت كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم، وما يروى أن أبواب النار تفتح لهم فيذهبون إلى الخروج، نحا هذا المنحى ابن عباس والحسن، وقال قوم‏:‏ استهزاؤه بهم هو استدارجهم من حيث لا يعلمون، وذلك أنهم بدرور نعم الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء‏.‏

‏{‏ويمدهم‏}‏ معناه يزيدهم في الطغيان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ «معناه يملي لهم»، قال يونس بن حبيب‏:‏ «يقال مد في الشر وأمد في الخير» وقال غيره‏:‏ «مد الشيء ومده ما كان مثله ومن جنسه، وأمدّه ما كان مغايراً له، تقول‏:‏ مدّ النهر ومدّه نهر آخر، ويقال أمدّه»‏.‏

قال اللحياني‏:‏ «يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده مدّاً، وفي التنزيل‏:‏ ‏{‏والبحر يمده من بعده سبعة أبحر‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه الهاء للمبالغة»‏.‏

قال ابن قتيبة وغيره‏:‏ «مَدَدْت الدواة وأمَددْتُها بمعنى»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ يشبه أن يكون «مددتها» جعلت إلى مدادها آخر، و«أمددتها» جعلتها ذات مداد، مثل «قبر، وأقبر، وحصر، وأحصر»، ومددنا القوم صرنا لهم أنصاراً، وأمددناهم بغيرنا‏.‏ وحكى اللحياني أيضاً أمدّ الأمير جنده بالخيل، وفي التنزيل‏:‏ ‏{‏وأمددناكم بأموال وبنين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 6‏]‏‏.‏

قال بعض اللغويين‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم‏}‏ يمهلهم ويلجهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو المطل والتطويل، كما فسر في‏:‏ ‏{‏عمد ممددة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ويحتمل أن تكون من معنى الزيادة في نفس الطغيان، والطغيان الغلو وتعدي الحد كما يقال‏:‏ «طغا الماء وطغت النار»‏.‏ وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم‏.‏

و ‏{‏يعمهون‏}‏ يترددون، حيرة، والعمه الحيرة من جهة النظر، والعامه الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المتقدم ذكرهم، وهو رفع بالابتداء و‏{‏الذين‏}‏ خبره، و‏{‏اشتروا‏}‏ صلة ل ‏{‏الذين‏}‏، وأصله اشتريوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً فحذفت لالتقاء الساكنين، وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء وحركت الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها، وخصت بالضم لوجوه منها أن الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها، ومنها أنه لما كانت واو جماعة ضمت كما فعل بالنون في «نحنُ»‏.‏

ومنها أنها ضمت إتباعاً لحركة الياء المحذوفة قبلها‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو» أو «و» لو «إذ هذان يحركان بالكسر»‏.‏

وقرأ أبو السمال قعنب العدوي بفتح الواو في‏:‏ «اشتروَا الضلالة»‏.‏

وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو‏.‏ والضلالة والضلال‏:‏ التلف نقيض الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد‏.‏

واختلف عبارة المفسرين عن معنى قوله‏:‏ ‏{‏اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ فقال قوم‏:‏ «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى»‏.‏

وقال آخرون‏:‏ استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستحبوا العمى على الهدى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الشراء هنا استعارة وتشبيه، لما تركوا الهدى وهو معرض لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه‏.‏

وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه الله في منع أن يشتري الرجل على أن يتخير في كل ما تختلف آحاد‏.‏ جنسه ولا يجوز فيه التفاضل‏.‏

وقال قوم‏:‏ الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ ختم للمثل بما يشبه مبدأه في لفظة الشراء، وأسند الربح إلى التجارة كما قالوا‏:‏ «ليل قائم ونهار صائم»‏.‏ والمعنى فما ربحوا في تجارتهم‏.‏

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «فما ربحت تجاراتهم» بالجمع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كانوا مهتدين‏}‏ قيل المعنى في شرائهم هذا، وقيل على الإطلاق، وقيل في سابق علم الله، وكل هذا يحتمله اللفظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

«المَثَل والمِثْل والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان وقد يكون مثل الشيء جرماً مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلاً له، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل‏}‏ معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الجنة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35، محمد‏:‏ 15‏]‏ وفي تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مثلهم‏}‏ رفع بالابتداء والخبر في الكاف، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏.‏

أتنتهون ولا ينهى ذوي شططٍ *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالاً عليه، وجوز الأخفش حذف الفاعل، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفاً ووحد الذي لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد، و‏{‏الذي‏}‏ أيضاً ليس بإشارة إلى واحد ولا بد، بل إلى هذا الفعل‏:‏ وقع من واحد أو من جماعة‏.‏

قال النحويون، الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع‏.‏ و‏{‏استوقد‏}‏ قيل معناه أوقد، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى‏.‏

قال أبو علي‏:‏ وبمنزلة هزئ واستهزأ وسخر واستسخر، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر ‏[‏كعب بن سعد الغنوي‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

فلم يستجبه عند ذاك مجيب *** وأخلف لأهله واستخلف إذا جلب لهم الماء، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ومستخلفات من بلاد تنوفة *** لمصفرة الأشداق حمر الحواصل

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

سقاها فروّاها من الماء مخلف *** ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل، وذلك يقتضي حاجته إلى النار، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له‏.‏ واختلف في ‏{‏أضاءت‏}‏ فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

وأنت لما ولدت أشرقَتِ ال *** أرضُ وضاءت بنورك الطرق

وعلى هذا، ف ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما حوله‏}‏ مفعولة، وقيل ‏(‏أضاءت‏)‏ لا تتعدى، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى، ف ‏(‏ما‏)‏ زائدة، وحوله ظرف‏.‏

واختلف المتأولون في على المنافقين الذي يشبه فعل ‏(‏الذي استوقد ناراً‏)‏‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره‏:‏ «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات»‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله واعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها‏.‏

وقالت فرقة منهم قتادة‏:‏ نطقهم ب «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها‏.‏

قال جمهور النحاة‏:‏ جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على ‏(‏الذي‏)‏، ويصح شبه الآية بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الأشهب بن رميلة‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

وإنّ الذي حانتْ بفلجٍ دماؤهم *** همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمّ خالدِ

وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم‏.‏

وقال قوم‏:‏ جواب «لما» مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضرب بينهم بسور له باب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلْمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلَمات» بفتح اللام‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ في ظلمات وكسرات ثلاثة لغات‏:‏ اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل إتباعاً فتقول ثمرة وثمرات‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذهب قوم في «ظلَمات» بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع، والأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك، وإما على إضمار هم‏.‏

وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما‏.‏ «صماً، بكماً، عمياً» بالنصب، ونصبه على الحال من الضمير في ‏{‏مهتدين‏}‏، وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من جعل الضمير في «نورهم» للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في ‏{‏تركهم‏}‏‏.‏

قال بعض المفسرين قوله تعالى ‏{‏فهم لا يرجعون‏}‏ إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره‏:‏ معناه ‏{‏فهم لا يرجعون‏}‏ ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏أو‏}‏ للتخيير، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، وقوله‏:‏ ‏{‏أو كصيّب‏}‏ معطوف على ‏{‏كمثل الذي‏}‏‏.‏ وقال الطبري‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ بمعنى الواو‏.‏

قال القاضي أبو محمد وهذه عجمة، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل، ومنه قول علقمة بن عبدة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كأنهمُ‏:‏ صابتْ عليهمْ سحابةٌ *** صواعقها لطيرِهِنَّ دبيبُ

وقول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلستِ لإنسيٍّ ولكن لملأكٍ *** تنّزلَ من جوِّ السماءِ يصوبُ

وأصل صيّب صَيْوب اجتمع الواو والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعل في سَيّد ومَيّت‏.‏

وقال بعض الكوفيين‏:‏ أصل صيّب صَوِيب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل، فبهذا يضعف هذا القول‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظلمات‏}‏ بالجمع، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفس، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه، فإنه سارٌّ جميل، ومنه قول قيس بن الخطيم‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

فما رَوْضةٌ من رياضِ القطا *** كأَنَّ الْمَصَابِيحَ حوذانها

بأحسنَ مِنْها ولا مَزنةٌ *** دلوحٌ تَكشّفُ أدجانُها

واختلف العلماء في الرعد‏:‏ فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم‏:‏ هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه، فهي ‏{‏الصواعق‏}‏، واسم هذا الملك الرعد، وقيل الرعد ملك، وهذا الصوت تسبيحه، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا هو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

فجعني الرعدُ والصواعقُ بال *** فارسِ يومَ الكريهةِ النجدِ

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت»‏.‏ وقيل‏:‏ «الرعد اصطكاك أجرام السحاب»‏.‏ وأكثر العلماء على أن الرعد ملك، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب‏.‏

واختلفوا في البرق‏:‏

فقال علي بن أبي طالب‏:‏ «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب»‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب»‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق يتراءى، وقال قوم‏:‏ «البرق ماء»، وهذا قول ضعيف‏.‏

والصاعقة‏:‏ قال الخليل‏:‏ «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحياناً نار، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه»‏.‏

وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة» بالسين‏.‏

وقال النقاش‏:‏ «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد»‏.‏

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع» بتقديم القاف‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ «وهي لغة تميم»‏.‏

وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت» بكسر الحاء وبألف‏.‏ واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق‏.‏

فقال جمهور المفسرين‏:‏ «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم‏.‏ والعمى‏:‏ هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم، واشتهار كفرهم، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا كله صحيح بين‏.‏

وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ «إن رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك، فقالا‏:‏ ليتنا أصبحنا فنأتي محمداً ونضع أيدينا في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله ما نزل بهما مثلاً للمنافقين»‏.‏

وقال أيضاً ابن مسعود‏:‏ «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعون القرآن، فضرب الله المثل لهم»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه‏.‏

وقل قوم‏:‏ «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن، ووعيده»‏.‏

و ‏{‏محيط بالكافرين‏}‏ معناه بعقابه وأخذه، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه حاصراً من كل جهة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحيط بثمره‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ ففي الكلام حذف مضاف، ويكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخطف الانتزاع بسرعة‏.‏

واختلفت القراءة في هذه اللفظة فقرأ جمهور الناس‏:‏ «يَخْطَف أبصارهم» بفتح الياء والطاء وسكون الخاء، على قولهم في الماضي خطف بكسر الطاء وهي أفصح لغات العرب، وهي القرشية‏.‏

وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب‏:‏ «يَخْطِف» بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء على قول بعض العرب في الماضي «خَطَف» بفتح الطاء، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم‏.‏

وقرأ الحسن وأبو رجاء وعاصم الجحدري وقتادة‏:‏ «يَخِطِّف» بفتح الياء وكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء، وهذه أصلها «يختطف» أدغمت التاء في الطاء وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين‏.‏

وحكى ابن مجاهد قراءة لم ينسبها إلى أحد «يَخَطِّف» بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ «أصلها يختطف نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء في الطاء»‏.‏

وحكى أبو عمرو الداني عن الحسن أيضاً، أنه قرأ «يَخَطَّف» بفتح الياء والخاء والطاء وشدها‏.‏

وروي أيضاَ عن الحسن والأعمش «يخطِّف» بكسر الثلاثة وشد الطاء منها‏.‏ وهذه أيضاً أصلها يختطف أدغم وكسرت الخاء للالتقاء وكسرت الياء إتباعاً‏.‏

وقال عبد الوارث‏:‏ «رأيتها في مصحف أبي بن كعب» يَتَخَطَّف «بالتاء بين الياء والخاء»‏.‏

وقال الفراء‏:‏ «قرأ بعض أهل المدينة بفتح الياء وسكون الخاء وشد الطاء مكسورة»‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ «إنما هو اختلاس وإخفاء فيلطف عندهم فيرون أنه إدغام، وذلك لا يجوز»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ لأنه جمع بين ساكنين دون عذر‏.‏

وحكى الفراء قراءة عن بعض الناس بضم الياء وفتح الخاء وشد الطاء مكسورة‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ كأنه تشديد مبالغة لا تشديد تعدية‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل ‏{‏البرق‏}‏ في المثل الزجر والوعيد قال يكاد ذلك يصيبهم‏.‏

و ‏{‏كلما‏}‏ ظرف، والعامل فيه ‏{‏مشوا‏}‏ وهو أيضاً جواب ‏{‏كلما‏}‏، و‏{‏أضاء‏}‏ صلة ما، ومن جعل ‏{‏أضاء‏}‏ يتعدى قدر له مفعولاً، ومن جعله بمنزلة ضاء استغنى عن ذلك‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «أضا لهم» بغير همز، وهي لغة‏.‏

وفي مصحف أبي بن كعب‏:‏ «مروا فيه»‏.‏

وفي قراءة ابن مسعود «مضوا فيه»‏.‏

وفي الضحاك‏:‏ «وإذا أُظلِم» بضم الهمزة وكسر اللام، و‏{‏قاموا‏}‏ معناه ثبتوا، لأنهم كانوا قياماً، ومنه قول الأعرابي‏:‏ «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره» يريد أثبت الدهر، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عباس وغيره كلما سمع المنافقون القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم‏.‏

وروي عن ابن مسعود أن معنى الآية‏:‏ كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك‏.‏ وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوه وثبتوا في نفاقهم‏.‏

وقال قوم‏:‏ معنى الآية‏:‏ كلما خفي عليكم نفاقهم وظهر لكم منهم الإيمان مشوا فيه، فإذا افتضحوا عندكم قاموا، ووحد السمع لأنه مصدر يقع للواحد والجمع‏.‏

وحكى النقاش أن من العلماء من قرأ بأسماعهم‏.‏

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة‏:‏ «ولو شاء الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم» وخص الأسماع والأبصار لتقدم ذكرها في الآية‏.‏ ويشبه هذا المعنى في حال المنافقين أن الله لو شاء لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد أو لفضحهم عند المؤمنين وسلط المؤمنين عليهم، وبكل مذهب من هذين قال قوم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على كل شيء‏}‏ لفظه العموم ومعناه عند المتكلمين على كل شيء يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه و‏{‏قدير‏}‏ بمعنى قادر، وفيه مبالغة، وخص هنا صفته التي هي القدرة بالذكر لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسباً لذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

«يا» حرف نداء، وفيه تنبيه، و«أي» هو المنادى‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «اجتلبت أي بعد حرف النداء فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفاً فكان يجتمع تعريفان، و» ها «تنبيه وإشارة إلى المقصود، وهي بمنزلة ذا في الواحد، و‏{‏الناس‏}‏ نعت لازم لأي»‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ حيث وقع في القرآن مكي، و‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ مدني‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ قد تقدم في أول السورة أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المدني ‏{‏يا أيها الناس‏}‏، وأما قوله في ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ فصحيح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏ معناه وحدوه وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم‏.‏

و «لعل» في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين هي بمعنى إيجاب التقوى وليست من الله تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع‏.‏

وقال سيبويه ورؤساء اللسان‏:‏ هي على بابها، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، أي إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم رجوتم لأنفسكم التقوى، و‏{‏لعلكم‏}‏ متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏، ويتجه تعلقها بخلقكم أي لما ولد كل مولود على الفطرة فهو إن تأمله متأمل توقَّع له ورجا أن يكون متقياً، و‏{‏تتقون‏}‏ مأخوذ من الوقاية، وأصله «توتقيون» نقلت حركة الياء إلى القاف وحذفت للالتقاء مع الواو الساكنة وأدغمت الواو الأولى في التاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جعل‏}‏ نصب على إتباع الذي المتقدم، ويصح أن يكون مرفوعاً على القطع‏.‏

وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب ‏{‏تتقون‏}‏ فضعيف‏.‏

وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين، و‏{‏فراشاً‏}‏ معناه تفترشونها وتستقرون عليها، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها، و‏{‏السماء‏}‏ قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات»، وقيل هو جمع واحده «سماوة»، وكل ما ارتفع عليك في الهواء سماء، والهواء نفسه علواً يقال له «سماء»، ومنه الحديث‏:‏ «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً»، واللفظة من السمو وتصاريفه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بناء‏}‏ تشبيه يفهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء بنيناها بأييد‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقال بعض الصحابة‏:‏ «بناها على الأرض كالقبة»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنزل من السماء‏}‏ يريد السحاب، سمي بذلك تجوزاً لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

فتجوز أيضاً في رعيناه، فبتوسط المطر جعل السماء عشباً، وأصل ‏{‏ماء‏}‏ موه يدل على ذلك قولهم في الجمع مياه وأمواه، وفي التصغير مويه، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه، وليس الحرام برزقه، وواحد الأنداد ند، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلاً أو خلافاً أو ضداً، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما‏.‏

وقال أبو عبيدة معمر والمفضل‏:‏ الضد الند، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر‏.‏

واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية‏؟‏ فقالت جماعة من المفسرين‏:‏ المخاطب جميع المشركين‏:‏ فقوله على هذا‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار، وقيل المراد كفار بني إسرائيل، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم، أن الله لا ند له‏.‏

وقال ابن فورك‏:‏ «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين» فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد‏.‏ وهذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله، لا رب غيره

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

الريب الشك، وهذه الآية تقتضي أن الخطاب المتقدم إنما هو لجماعة المشركين الذي تحدوا، وتقدم تفسير لفظ سورة في صدر هذا التعليق‏.‏ وقرأ يزيد بن قطيب‏:‏ «أنزلنا» بألف‏.‏

واختلف المتأولون على من يعود الضمير في قوله ‏{‏مثله‏}‏‏:‏ فقال جمهور العلماء‏:‏ هو عائد على القرآن ثم اختلفوا‏.‏ فقال الأكثر من مثل نظمه ورصفه وفصاحة معانية التي يعرفونها ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خُصَّ به القرآن، وبه وقع الإعجاز على قول حذاق أهل النظر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏من مثله‏}‏ في غيوبه وصدقه وقدمه، فالتحدي عند هؤلاء وقع بالقدم، والأول أبين و‏{‏من‏}‏ على هذا القول زائدة، أو لبيان الجنس، وعلى القول الأول هي للتعبيض، أو لبيان الجنس‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ الضمير في قوله ‏{‏من مثله‏}‏ عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ من أمي صادق مثله‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ من ساحر أو كاهن أو شاعر مثله‏.‏ على زعمكم أيها المشركون‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الضمير في ‏{‏مثله‏}‏ عائد على الكتب القديمة التوراة والإنجيل والزبور‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادعوا شهداءكم‏}‏ معناه دعاء استصراخ، والشهداء من شهدهم وحضرهم من عون ونصير، قاله ابن عباس‏.‏ وقيل عن مجاهد‏:‏ إن المعنى دعاء استحضار‏.‏

والشهداء جمع شاهد، أي من يشهد لكم أنكم عارضتم، وهذا قول ضعيف‏.‏

وقال الفراء‏:‏ شهداؤهم يراد بهم آلهتهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي فيما قلتم من الريب‏.‏ هذا قول بعض المفسرين‏.‏

وقال غيره‏:‏ فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة‏.‏ ويؤيد هذا القول أنه قد حكى عنهم في آية أخرى‏:‏ ‏{‏لو نشاء لقلنا مثل هذا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا‏}‏، دخلت «إن» على ‏{‏لم‏}‏ لأن ‏{‏لم تفعلوا‏}‏ معناه تركتم الفعل، ف «إن» لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال، و‏{‏تفعلوا‏}‏ جزم ب ‏{‏لم‏}‏، وجزمت ب ‏{‏لم‏}‏ لأنها أشبهت «لا» في التبرية في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولن تفعلوا‏}‏ نصبت ‏{‏لن‏}‏، ومن العرب من تجزم بها، ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

فلن أعرّضْ أبيت اللعن بالصفد *** وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي‏:‏ «لن ترعْ» هذا على تلك اللغة، وفي قوله‏:‏ ‏{‏لن تفعلوا‏}‏ إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار‏}‏، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «وَقودها» بفتح الواو‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة‏:‏ «وقودها» بضم الواو في كل القرآن، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر، وقد حكيا جميعاً في الحطب وقد حكيا في المصدر‏.‏

قال ابن جني‏:‏ «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها، لأن الوقود بالضم مصدر، وليس بالناس، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر، ومثله ولعت به» لوعاً «بفتح الواو، وكله شاذ، والباب هو الضم»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الناس‏}‏ عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها‏.‏

وروي عن ابن مسعود في ‏{‏الحجارة‏}‏ أنها حجارة الكبريت وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب‏:‏ سرعة الاتقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعدت‏}‏ رد على من قال‏:‏ إن النار لم تخلق حتى الآن، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة، وأن غيرها هي للعصاة‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد، إذ فعلهم كفر، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم، وليس فعل فعلكم، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «أَعدَّها الله للكافرين»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏بشر‏}‏ مأخوذ من البشرة لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثر في بشرة الوجه، والأغلب استعمال البشارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيدة به منصوصاً على الشر المبشر به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21، التوبة، 34، الانشقاق‏:‏ 24‏]‏ ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ رد على من يقول إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات لأنه لو كان ذلك ما أعادها‏.‏

و ‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب ب ‏{‏بشرِّ‏}‏ وقيل في موضع خفض على تقدير باء الجر و‏{‏جنات‏}‏ جمع جنة، وهي بستان الشجرة والنخيل، وبستان الكرم يقال له الفردوس، وسميت جنة لأنها تجن من دخلها أي تستره، ومنه المجن والجنن وجن الليل، و‏{‏من تحتها‏}‏ معناه من تحت الأشجار التي يتضمنها ذكر الجنة وقيل قوله ‏{‏من تحتها‏}‏ معناه بإزائها كما تقول داري تحت دار فلان وهذا ضعيف، و‏{‏الأنهار‏}‏ المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، لأنها لفظة مأخوذة من أنهرت أي سعت، ومنه قول قيس بن الخطيم‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

ملكت بها كفي فأنْهَرْتَ فَتْقَها *** يَرَى قَائِمٌ من دونِها ما وراءَها

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أنهر الدم وذكرَ اسمُ الله عليه فكلوه» معناه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر ونسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده تجوزاً، كما قال ‏{‏واسأل القربة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وكما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏مهلهل أخو كليب‏]‏ ‏[‏الكامل‏]‏

نُبِّئْتُ أن النارَ بعدَك بعدَك أوقدتْ *** واستبّ بعدك يا كليبُ المجلسُ

وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح أرض الجنة منضبطة، وقوله‏:‏ ‏{‏كلما‏}‏ ظرف يقتضي الحصر وفي هذه الآية رد على من يقول‏:‏ إن الرزق من شروطه التملك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ذكر هذا بعض الأصوليين وليس عندي ببين، وقولهم ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى الجنس أي‏:‏ هذا من الجنس الذي رزقنا منه من قبل، والكلام يحتمل أن يكون تعجباً وهو قول ابن عباس، ويحتمل أن يكون خبراً من بعضهم لبعض، قاله جماعة من المفسرين‏.‏

وقال الحسن ومجاهد‏:‏ «يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها والطعم مختلف فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضاً»‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة»‏.‏

وقال بعض المتأولين‏:‏ «المعنى أنهم يرون الثمر فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون‏:‏ ‏{‏هذا الذي رزقنا من قبل‏}‏ في الدنيا»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقول ابن عباس الذي قبل هذا يرد على هذا القول بعض الرد‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ «المعنى هذا الذي وعدنا به في الدنيا فكأنهم قد رزقوه في الدنيا إذ وعد الله منتجز»‏.‏

وقال قوم‏:‏ إن ثمر الجنة إذا قطف منه شيء خرج في الحين في موضعه مثله فهذا إشارة إلى الخارج في موضع المجني‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «وأُتُوا» بضم الهمزة وضم التاء‏.‏

وقرأ هارون الأعور‏:‏ «وأَتَوا» بفتح الهمزة والتاء والفاعل على هذه القراءة الولدان والخدام، و«أتوا» على قراءة الجماعة أصله أتيوا نقلت حركة الياء إلى التاء ثم حذفت الياء للالتقاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏متشابهاً‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم‏:‏ «معناه يشبه بعضه بعضاً في المنظر ويختلف في الطعم»‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ «معناه يشبه ثمر الدنيا في المنظر ويباينه في جل الصفات»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏متشابهاً‏}‏ معناه خيار لا رذل فيه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاباً متشابهاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ كأنه يريد متناسباً في أن كل صنف هو أعلى جنسه فهذا تشابه ما، وقيل ‏{‏متشابهاً‏}‏ أي مع ثمر الدنيا في الأسماء لا في غير ذلك من هيئة وطعم، و‏{‏أزواج‏}‏ جمع زوج والمرأة زوج الرجل والرجل زوج المرأة ويقال في المرأة زوجة ومنه قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي *** كساع إلى أُسْد الشرى يستبيلُها

وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها‏:‏ «والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم»‏.‏ ذكر البخاري وغيره الحديث بطوله‏.‏ و‏{‏مطهرة‏}‏ أبلغ من طاهرة، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبزاق وسائر أقذار الآدميات، وقيل من الآثام‏.‏ والخلود الدوام في الحياة أو الملك ونحوه وخلد بالمكان إذا استمرت إقامته فيه، وقد يستعمل الخلود مجازاً فيما يطول، وأما هذا الذي في الآية فهو أبدي حقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في السورة قال الكفار‏:‏ ما هذه الأمثال‏؟‏ الله عز وجل أجل من أن يضرب هذه أمثالاً، فنزلت الآية‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ «إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت»‏.‏

وقال قوم‏:‏ «هذه الآية مثل للدنيا»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام واتساق المعنى‏.‏ و‏{‏يستحيي‏}‏ أصله يستحيي، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت‏.‏

وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه، وابن محيصن وغيرهما «يستحي» بكسر الحاء، وهي لغة فتميم، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء‏.‏

واختلف المتأولون في معنى‏:‏ ‏{‏يستحيي‏}‏ في هذه الآية‏.‏ فرجح الطبري أن معناه يخشى‏.‏ وقال غيره‏.‏ معناه يترك وهذا هو الأولى‏.‏ ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو يترك أو قريب منه‏.‏ ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك، رد الله بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي‏}‏ على القائلين كيف يضرب الله مثلاً بالذباب ونحوه، أي إن هذه الأشياء ليست من نازل القول، إذ هي من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع، فليست مما يستحيى منه‏.‏

وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس، وهذا غير مرضي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يضرب‏}‏، ‏{‏أن‏}‏ مع الفعل في موضع نصب، كأنها مصدر في موضع المفعول، ومعنى ‏{‏يضرب مثلاً‏}‏ يبين ضرباً من الأمثال أي نوعاً، كما تقول‏:‏ هذا من ضرب هذا، والضريب المثيل‏.‏ ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث، وضرب الذلة، فيجيء المعنى أن يلزم الحجة بمثل، و‏{‏مثلاً‏}‏ مفعول، فقيل هو الأول، وقيل هو الثاني، قدم وهو في نية التأخير، لأن «ضرب» في هذا المعنى يتعدى إلى مفعولين‏.‏

واختلفوا في قوله‏:‏ ‏{‏ما بعوضة‏}‏ فقال قوم‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ صلة زائدة لا تفيد إلا شيئاً من تأكيد، وقيل ما نكرة في موضع نصب على البدل من قوله ‏{‏مثلاً‏}‏، و‏{‏بعوضة‏}‏ نعت ل ‏{‏ما‏}‏، فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها‏.‏ حكى المهدوي هذا القول عن الفراء والزجاج وثعلب‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا إليه الظن ‏{‏أن يضرب‏}‏ إنما يتعدى إلى مفعول واحد‏.‏

وقال بعض الكوفيين‏:‏ نصب ‏{‏بعوضة‏}‏ على تقدير إسقاط حرف الجر، والمعنى أن يضرب مثلاً ما من بعوضة‏.‏

وحكي عن العرب‏:‏ «له عشرون ما ناقة فجملاً»، وأنكر أبو العباس هذا الوجه‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ والذي يترجح أن ‏{‏ما‏}‏ صلة مخصصة كما تقول جئتك في أمر ما فتفيد النكرة تخصيصاً وتقريباً، ومنه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

سلع ما ومثله عشر ما *** عائل ما وعالت البيقورا

وبعوضة على هذا مفعول ثان‏.‏

وقال قوم‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ نكرة، كانه قال شيئاً‏.‏ والآية في هذا يشبهها قول حسان بن ثابت‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

فكفى بنا فضلاً على من غيرنا *** حبُّ النبيِّ محمدٍ إيّانا

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد تقدم نظير هذا القول، والشبه بالبيت غير صحيح عندي، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال بضع وبعض بمعنى، وعلى هذا حملوا قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

لنعمَ البيتُ بيتُ أبي دثارٍ *** إذا ما خاف بعضُ القومِ بَعْضا

وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج‏:‏ «بعوضةٌ» بالرفع‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة «الذي»، أي لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلاً، فحذف العائد على الموصول، وهو مبتدأ، ومثله قراءة بعضهم‏:‏ «تماماً على الذي أحسن» أي على الذي هو أحسن‏.‏

وحكى سيبويه ما أنا بالذي قائل لك شيئاً، أي هو قائل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما فوقها‏}‏ من جعل ‏{‏ما‏}‏ الأولى صلة زائدة، ف «ما» الثانية عطف على بعوضة، ومن جعل ‏{‏ما‏}‏ اسماً ف «ما» الثانية عطف عليها‏.‏

وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما‏:‏ «المعنى فما فوقها في الصغر»‏.‏

وقال قتادة وابن جريج وغيرهما‏:‏ «المعنى في الكبر»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والكل محتمل، والضمير في ‏{‏أنه‏}‏، عائد على المثل‏.‏

واختلف النحويون في ‏{‏ماذا‏}‏‏:‏ فقيل هي بمنزلة اسم واحد، بمعنى أي شيء أراد الله، وقيل «ما» اسم «وذا» اسم آخر بمعنى الذي، ف «ما» في موضع رفع بالابتداء، و«ذا» خبره، ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مثلاً‏}‏ نصب على التمييز، وقيل على الحال من «ذا» في ‏{‏بهذا‏}‏، والعامل فيه الإشارة والتنبيه‏.‏

واختلف المتأولون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يضل به كثير ويهدي به كثيراً‏}‏ فقيل هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى‏؟‏ وقيل بل هو خبر من الله تعالى أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون به، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق‏.‏ وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم‏:‏ «إن الله لا يخلق الضلال» ولا خلاف أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين‏}‏ من قوله الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويهدي به كثيراً‏}‏ إلى آخر الآية رداً من الله تعالى على قول الكفار ‏{‏يضل به كثيراً‏}‏ والفسق الخروج عن الشيء‏.‏ يقال فسقت الفارة إذا خرجت من جحرها، والرطبة إذا خرجت من قشرها، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان، وقراءة جمهور الأمة في هذه الآية‏:‏ «يُضل» بضم الياء فيهما‏.‏

وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ «يَضل» بفتح الياء «كثيرٌ» بالرفع «ويهدي به كثير‏.‏ وما يضل به إلا الفاسقون» بالرفع‏.‏

قال أبو عمرو الداني‏:‏ «هذه قراءة القدرية وابن أبي عبله من ثقات الشاميين ومن أهل السنة، ولا تصح هذه القرءة عنه، مع أنها مخالفة خط المصحف»‏.‏

وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى‏:‏ «يُضل» بضم الياء وفي الثانية «وما يَضل» بفتح الياء «به إلا الفاسقون»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه قراءة متجهة لولا مخالفتها خط المصحف المجمع عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏27‏)‏ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏28‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم، والعهد في هذه الآية التقدم في الشيء والوصاة به‏.‏

واختلف في تفسير هذا العهد‏:‏ فقال بعض المتأولين‏:‏ هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وان لا يعبدوا غيره‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يكتموا أمره‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فالآية على هذا في أهل الكتاب، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار‏.‏

وقال قتادة‏:‏ «هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم كفر به فنقض العهد»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ لم ينسب الطبري شيئاً من هذه الأقوال، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية، والضمير في ‏{‏ميثاقه‏}‏ يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله تعالى، وميثاق مفعال من الوثاقة، وهي الشد في العقد والربط ونحوه، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر كما قال عمرو بن شييم‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

أكفراً بعد ردِّ الموتِ عنّي *** وبَعْدَ عَطَائك المائَةَ الرّتاعا‏؟‏

أراد بعد إعطائك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أمر الله به أن يوصل‏}‏، ‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب ب ‏{‏يقطعون‏}‏ واختلف الشيء الذي أمره بوصله‏؟‏

فقالت قتادة‏:‏ «الأرحام عامة في الناس» وقال غيره‏:‏ «خاصة فيمن آمن بمحمد، كان الكفار يقطعون أرحامهم»‏.‏ وقال جمهور أهل العلم‏:‏ الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو الحق، والرحم جزء من هذا، و‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب بدل من ‏{‏ما‏}‏، أو مفعول من أجله‏.‏ وقيل ‏{‏أن‏}‏ في موضع خفض بدل من الضمير في ‏{‏به‏}‏، وهذا متجه‏.‏

‏{‏ويفسدون في الأرض‏}‏ يعبدون غير الله ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، والخسران النقص كان في ميزان أو غيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف تكفرون‏}‏ لفظه الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه‏؟‏ و‏{‏كيف‏}‏ في موضع نصب على الحال والعامل فيها ‏{‏تكفرون‏}‏، وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون‏؟‏ و‏{‏كيف‏}‏ مبنية، وخصت بالفتح لخفته، ومن قال إن ‏{‏كيف‏}‏ تقرير وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم، والواو في قوله ‏{‏وكنتم‏}‏ واو الحال، واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين‏:‏ فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد‏.‏

«فالمعنى كنتم أمواتاً معدومين قبل أن تخلقوا دارسين، كما يقال للشيء الدارس ميت، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت المعهود، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة»‏.‏

وقال آخرون‏:‏ «كنتم أمواتاً بكون آدم من طين ميتاً قبل أن يُحيى ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم على ما تقدم»‏.‏

وقال قتادة‏:‏ «كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم كما تقدم»‏.‏

وقال غيره‏:‏ «كنتم أمواتاً في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم»‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ «إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتاً، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم»‏.‏

وقال ابن عباس وأبو صالح‏:‏ «كنتم أمواتاً بالموت المعهود ثم أحياكم للسؤال في القبور، ثم أماتكم فيها، ثم أحياكم للبعث»‏.‏

وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال‏:‏ «وكنتم أمواتاً بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ والقول الأول هو أولى هذه الأقوال، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه، ثم إن قوله أولاً ‏{‏كنتم أمواتاً‏}‏ وإسناده آخراً الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها، والضمير في ‏{‏إليه‏}‏ عائد على الله تعالى أي إلى ثوابه أو عقابه، وقيل هو عائد على الاحياء، والأول أظهر‏.‏

وقرأ جمهور الناس «تُرجَعون» بضم التاء وفتح الجيم‏.‏

وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن غزوان ويعقوب الحضرمي‏:‏ «يَرجع ويَرجعون وتَرجعون» بفتح الياء والتاء حيث وقع‏.‏

و ‏{‏خلق‏}‏ معناه اخترع وأوجد بعد العدم، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئاً، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏زهير بن أبي سلمى‏]‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ولأنت تفري ما خلقت وبعض *** القوم يخلق ثم لا يفري

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

من كان يخلق ما يقو *** ل فحيلتي فيه قليله

و ‏{‏لكم‏}‏‏:‏ معناه للاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر‏:‏ الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها‏.‏

وقال قوم‏:‏ بل معنى ‏{‏لكم‏}‏ إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس، والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة، ويترجح الوقوف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيه سمع ولا تتعلق به‏.‏

ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل‏.‏

وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال‏:‏ «لم يخل العقل قط من السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال تستصحب»‏.‏ قال‏:‏ «فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف»، و‏{‏جميعاً‏}‏ نصب عل الحال‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى‏}‏، ‏{‏ثم‏}‏ هنا هي لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه، و‏{‏استوى‏}‏‏:‏ قال قوم‏:‏ «معناه علا دون تكييف ولا تحديد»، هذا اختيار الطبري، والتقدير علا أمره وقدرته وسلطانه‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ «معناه قصد إلى السماء»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أي بخلقه واختراعه‏.‏

وقيل معناه كمل صنعه فيها كما تقول استوى الأمر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قلق‏.‏

وحكى الطبري عن قوم‏:‏ أن المعنى أقبل، وضعفه‏.‏

وحكي عن قوم «المستوي» هو الدخان‏.‏

وهذا أيضاً يأباه رصف الكلام، وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر الأخطل‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

قد استوى بشر على العراقِ *** من غير سيف ودم مهراقِ

وهذا إنما يجيء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان‏.‏

‏{‏فسواهن‏}‏ قيل المعنى جعلهن سواء، وقيل سوى سطوحها بالإملاس، و‏{‏سبع‏}‏ نصب على البدل من الضمير، أو على المفعول‏:‏ ب «سوّى»، بتقدير حذف الجار من الضمير، كأنه قال فسوّى منهن سبع، وقيل نصب على الحال، وقال سواهن إما على أن السماء جمع، وإما على أنه مفرد على أنه مفرد اسم جنس، فهو دال على الجمع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو بكل شيء عليم‏}‏ معناه بالموجودات وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر، وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء، وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات‏:‏ هذه والتي في سورة المؤمن وفي النازعات‏.‏