فصل: فصل: أيام العشر من ذي الحجة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر وهو على صومه ‏]‏ وجملته أن الجنب له أن يؤخر الغسل حتى يصبح‏,‏ ثم يغتسل ويتم صومه في قول عامة أهل العلم‏,‏ منهم علي وابن مسعود وزيد‏,‏ وأبو الدرداء وأبو ذر وابن عمر‏,‏ وابن عباس وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي‏,‏ في أهل الحجاز وأبو حنيفة والثوري‏,‏ في أهل العراق والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر‏,‏ وإسحاق وأبو عبيدة في أهل الحديث‏,‏ وداود في أهل الظاهر وكان أبو هريرة يقول‏:‏ لا صوم له ويروى ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم رجع عنه قال سعيد بن المسيب‏:‏ رجع أبو هريرة عن فتياه وحكي عن الحسن‏,‏ وسالم بن عبد الله قالا‏:‏ يتم صومه ويقضي وعن النخعي في رواية‏:‏ يقضي في الفرض دون التطوع وعن عروة وطاوس‏:‏ إن علم بجنابته في رمضان‏,‏ فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر وإن لم يعلم‏,‏ فهو صائم وحجتهم حديث أبي هريرة الذي رجع عنه ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال‏:‏ ‏(‏ذهبت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة‏,‏ فقالت‏:‏ أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن كان ليصبح جنبا من جماع من غير احتلام‏,‏ ثم يصومه‏)‏ ثم دخلنا على أم سلمة فقالت مثل ذلك ثم أتينا أبا هريرة‏,‏ فأخبرناه بذلك فقال‏:‏ هما أعلم بذلك إنما حدثنيه الفضل بن عباس متفق عليه قال الخطابي‏:‏ أحسن ما سمعت في خبر أبي هريرة أنه منسوخ لأن الجماع كان محرما على الصائم بعد النوم‏,‏ فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم وروت عائشة ‏(‏أن رجلا قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ وأنا أصبح جنبا‏,‏ وأنا أريد الصيام فقال له الرجل‏:‏ يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال‏:‏ إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله‏,‏ وأعلمكم بما أتقي‏)‏ رواه مالك في ‏"‏موطئه‏"‏ ومسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها من الليل فهي صائمة إذا نوت الصوم قبل طلوع الفجر‏,‏ وتغتسل إذا أصبحت ‏]‏ وجملة ذلك أن الحكم في المرأة إذا انقطع حيضها من الليل كالحكم في الجنب سواء ويشترط أن ينقطع حيضها قبل طلوع الفجر لأنه إن وجد جزء منه في النهار أفسد الصوم‏,‏ ويشترط أن تنوي الصوم أيضا من الليل بعد انقطاعه لأنه لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل قال الأوزاعي والحسن بن حي وعبد الملك بن الماجشون‏,‏ والعنبري‏:‏ تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط لأن حدث الحيض يمنع الصوم بخلاف الجنابة ولنا أنه حدث يوجب الغسل‏,‏ فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة الصوم كالجنابة وما ذكروه لا يصح‏,‏ فإن من طهرت من الحيض ليست حائضا وإنما عليها حدث موجب للغسل فهي كالجنب‏,‏ فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب الغسل من الحيض وقد استدل بعض أهل العلم بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ فلما أباح المباشرة إلى تبين الفجر‏,‏ علم أن الغسل إنما يكون بعده‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ والحامل إذا خافت على جنينها والمرضع على ولدها أفطرتا‏,‏ وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا ‏]‏ وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما‏,‏ فلهما الفطر وعليهما القضاء فحسب لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم وهذا يروى عن ابن عمر وهو المشهور من مذهب الشافعي وقال الليث‏:‏ الكفارة على المرضع دون الحامل وهو إحدى الروايتين عن مالك‏,‏ لأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل ولأن الحمل متصل بالحامل‏,‏ فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها وقال عطاء والزهري والحسن‏,‏ وسعيد بن جبير والنخعي وأبو حنيفة‏:‏ لا كفارة عليهما لما روى أنس بن مالك رجل من بني كعب‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم - أو - الصيام‏)‏ والله لقد قالهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدهما أو كليهما رواه النسائي والترمذي وقال‏:‏ هذا حديث حسن ولم يأمره بكفارة‏,‏ ولأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالفطر للمرض ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ وهما داخلتان في عموم الآية قال ابن عباس‏:‏ كانت رخصة للشيخ الكبير‏,‏ والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا‏,‏ ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا‏,‏ وأطعمتا رواه أبو داود وروي ذلك عن ابن عمر ولا مخالف لهما في الصحابة ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة عن طريق الخلقة فوجبت به الكفارة‏,‏ كالشيخ الهرم وخبرهم لم يتعرض للكفارة فكانت موقوفة على الدليل‏,‏ كالقضاء فإن الحديث لم يتعرض له والمريض أخف حالا من هاتين لأنه يفطر بسبب نفسه إذا ثبت هذا‏,‏ فإن الواجب في إطعام المسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير والخلاف فيه‏,‏ كالخلاف في إطعام المساكين في كفارة الجماع إذا ثبت هذا فإن القضاء لازم لهما وقال ابن عمر‏,‏ وابن عباس‏:‏ لا قضاء عليهما لأن الآية تناولتهما وليس فيها إلا الإطعام ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم‏)‏ ولنا أنهما يطيقان القضاء‏,‏ فلزمهما كالحائض والنفساء والآية أوجبت الإطعام‏,‏ ولم تتعرض للقضاء فأخذناه من دليل آخر والمراد بوضع الصوم وضعه في مدة عذرهما كما جاء في حديث عمرو بن أمية‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إن الله وضع عن المسافر الصوم‏)‏ ولا يشبهان الشيخ الهرم لأنه عاجز عن القضاء وهما يقدران عليه قال أحمد‏:‏ أذهب إلى حديث أبي هريرة يعني ولا أقول بقول ابن عباس وابن عمر في منع القضاء‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر‏,‏ وأطعم لكل يوم مسكينا ‏]‏ وجملة ذلك أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يجهدهما الصوم‏,‏ ويشق عليهما مشقة شديدة فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكينا وهذا قول علي وابن عباس‏,‏ وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير‏,‏ وطاوس وأبي حنيفة والثوري‏,‏ والأوزاعي وقال مالك‏:‏ لا يجب عليه شيء لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا الآية‏,‏ وقول ابن عباس في تفسيرها‏:‏ نزلت رخصة للشيخ الكبير ولأن الأداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء وأما المريض إذا مات فلا يجب الإطعام لأن ذلك يؤدي إلى أن يجب على الميت ابتداء‏,‏ بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل حتى مات لأن وجوب الإطعام يستند إلى حال الحياة‏,‏ والشيخ الهرم له ذمة صحيحة فإن كان عاجزا عن الإطعام أيضا فلا شيء عليه و ‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏‏.‏

فصل‏:‏

والمريض الذي لا يرجى برؤه‏,‏ يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا لأنه في معنى الشيخ قال أحمد -رحمه الله- في من به شهوة الجماع غالبة‏,‏ لا يملك نفسه ويخاف أن تنشق أنثياه‏:‏ أطعم أباح له الفطر لأنه يخاف على نفسه فهو كالمريض‏,‏ ومن يخاف على نفسه الهلاك لعطش أو نحوه وأوجب الإطعام بدلا عن الصيام وهذا محمول على من لا يرجو إمكان القضاء‏,‏ فإن رجا ذلك فلا فدية عليه والواجب انتظار القضاء وفعله إذا قدر عليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ وإنما يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء‏,‏ فإن أطعم مع يأسه ثم قدر على الصيام احتمل أن لا يلزمه لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجب عليه‏,‏ فلم يعد إلى الشغل بما برئت منه ولهذا قال الخرقي‏:‏ فمن كان مريضا لا يرجى برؤه أو شيخا لا يستمسك على الراحلة‏,‏ أقام من يحج عنه ويعتمر وقد أجزأ عنه وإن عوفي واحتمل أن يلزمه القضاء لأن الإطعام بدل يأس‏,‏ وقد تبينا ذهاب اليأس فأشبه من اعتدت بالشهور عند اليأس من الحيض ثم حاضت‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا حاضت المرأة‏,‏ أو نفست أفطرت وقضت فإن صامت لم يجزئها ‏]‏ أجمع أهل العلم على أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم‏,‏ وأنهما يفطران رمضان ويقضيان وأنهما إذا صامتا لم يجزئهما الصوم‏,‏ وقد قالت عائشة‏:‏ ‏(‏كنا نحيض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة‏)‏ متفق عليه والأمر إنما هو للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال أبو سعيد‏:‏ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أليس إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك من نقصان دينها‏)‏ رواه البخاري والحائض والنفساء سواء لأن دم النفاس هو دم الحيض‏,‏ وحكمه حكمه ومتى وجد الحيض في جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم سواء وجد في أوله أو في آخره ومتى نوت الحائض الصوم‏,‏ وأمسكت مع علمها بتحريم ذلك أتمت‏,‏ ولم يجزئها‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها لكل يوم مسكين ‏]‏ وجملة ذلك أن من مات وعليه صيام من رمضان لم يخل من حالين أحدهما‏,‏ أن يموت قبل إمكان الصيام إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر‏,‏ أو عجز عن الصوم فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم وحكي عن طاوس وقتادة أنهما قالا‏:‏ يجب الإطعام عنه لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه‏,‏ فوجب الإطعام عن كالشيخ الهرم إذا ترك الصيام لعجزه عنه ولنا أنه حق لله تعالى وجب بالشرع‏,‏ مات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج ويفارق الشيخ الهرم فإنه يجوز ابتداء الوجوب عليه‏,‏ بخلاف الميت الحال الثاني أن يموت بعد إمكان القضاء فالواجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عائشة‏,‏ وابن عباس وبه قال مالك والليث والأوزاعي‏,‏ والثوري والشافعي والحسن بن حي‏,‏ وابن علية وأبو عبيد في الصحيح عنهم وقال أبو ثور‏:‏ يصام عنه وهو قول الشافعي لما روت عائشة‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من مات وعليه صيام صام عنه وليه‏)‏ متفق عليه وروي عن ابن عباس نحوه ولنا ما روى ابن ماجه عن ابن عمر‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا‏)‏ قال الترمذي‏:‏ الصحيح عن ابن عمر موقوف وعن عائشة أيضا قالت‏:‏ يطعم عنه في قضاء رمضان‏,‏ ولا يصام عنه وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر‏؟‏ يصوم شهرا وعليه صوم رمضان قال‏:‏ أما رمضان فليطعم عنه‏,‏ وأما النذر فيصام عنه رواه الأثرم في ‏"‏السنن‏"‏ ولأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة فكذلك بعد الوفاة‏,‏ كالصلاة فأما حديثهم فهو في النذر لأنه قد جاء مصرحا به في بعض ألفاظه كذلك رواه البخاري عن ابن عباس‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏قالت امرأة‏:‏ يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر فأقضيه عنها‏؟‏ قال‏:‏ أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه‏,‏ أكان يؤدى ذلك عنها‏؟‏ قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ فصومي عن أمك‏)‏ وقالت عائشة وابن عباس كقولنا وهما راويا حديثهم‏,‏ فدل على ما ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏

فأما صوم النذر فيفعله الولي عنه وهذا قول ابن عباس والليث‏,‏ وأبي عبيد وأبي ثور وقال سائر من ذكرنا من الفقهاء‏:‏ يطعم عنه لما ذكرنا في صوم رمضان ولنا الأحاديث الصحيحة التي رويناها قبل هذا وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق بالاتباع‏,‏ وفيها غنية عن كل قول والفرق بين النذر وغيره أن النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها والنذر أخف حكما لكونه لم يجب بأصل الشرع‏,‏ وإنما أوجبه الناذر على نفسه إذا ثبت هذا فإن الصوم ليس بواجب على الولي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- شبهه بالدين ولا يجب على الولي قضاء دين الميت‏,‏ وإنما يتعلق بتركته إن كانت له تركة فإن لم يكن له تركة فلا شيء على وارثه‏,‏ لكن يستحب أن يقضى عنه لتفريغ ذمته وفك رهانه‏,‏ كذلك ها هنا ولا يختص ذلك بالولي بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه‏,‏ وأجزأ لأنه تبرع فأشبه قضاء الدين عنه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ فإن لم تمت المفرطة حتى أظلها شهر رمضان آخر صامته‏,‏ ثم قضت ما كان عليها ثم أطعمت لكل يوم مسكينا وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة‏,‏ إذا فرطا في القضاء ‏]‏ وجملة ذلك أن من عليه صوما من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة قالت‏:‏ كان يكون على الصيام من شهر رمضان‏,‏ فما أقضيه حتى يجيء شعبان متفق عليه ولا يجوز له تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها لأخرته ولأن الصوم عبادة متكررة‏,‏ فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة فإن أخره عن رمضان آخر نظرنا فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء وإن كان لغير عذر‏,‏ فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة‏,‏ ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك‏,‏ والثوري والأوزاعي والشافعي‏,‏ وإسحاق وقال الحسن والنخعي وأبو حنيفة‏:‏ لا فدية عليه لأنه صوم واجب‏,‏ فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كما لو أخر الأداء والنذر ولنا ما روي عن ابن عمر وابن عباس‏,‏ وأبي هريرة أنهم قالوا‏:‏ أطعم عن كل يوم مسكينا ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافهم وروي مسندا من طريق ضعيف ولأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء‏,‏ أوجب الفدية كالشيخ الهرم‏.‏

فصل‏:‏

فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضانان أو أكثر لم يكن عليه أكثر من فدية مع القضاء لأن كثرة التأخير لا يزداد بها الواجب‏,‏ كما لو أخر الحج الواجب سنين لم يكن عليه أكثر من فعله‏.‏

فصل‏:‏

وإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين واحد نص عليه أحمد‏,‏ فيما روى عنه أبو داود أن رجلا سأله عن امرأة أفطرت رمضان ثم أدركها رمضان آخر‏,‏ ثم ماتت‏؟‏ قال‏:‏ يطعم عنها قال له السائل‏:‏ كم أطعم‏؟‏ قال‏:‏ كم أفطرت‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثين يوما قال اجمع ثلاثين مسكينا وأطعمهم مرة واحدة وأشبعهم قال‏:‏ ما أطعمهم‏؟‏ قال خبزا ولحما إن قدرت من أوسط طعامكم وذلك لأنه بإخراج كفارة واحدة‏,‏ أزال تفريطه بالتأخير فصار كما لو مات من غير تفريط وقال أبو الخطاب‏:‏ يطعم عنه لكل يوم فقيران لأن الموت بعد التفريط بدون التأخير عن رمضان آخر يوجب كفارة والتأخير بدون الموت يوجب كفارة‏,‏ فإذا اجتمعا وجبت كفارتان كما لو فرط في يومين‏.‏

فصل‏:‏

واختلفت الرواية عن أحمد في جواز التطوع بالصوم ممن عليه صوم فرض‏,‏ فنقل عنه حنبل أنه قال‏:‏ لا يجوز له أن يتطوع بالصوم وعليه صوم من الفرض حتى يقضيه يبدأ بالفرض‏,‏ وإن كان عليه نذر صامه يعني بعد الفرض وروى حنبل عن أحمد بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من صام تطوعا‏,‏ وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه‏)‏ ولأنه عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يصح التطوع بها قبل أداء فرضها‏,‏ كالحج وروي عن أحمد أنه يجوز له التطوع لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع في وقتها قبل فعلها‏,‏ كالصلاة يتطوع في أول وقتها وعليه يخرج الحج ولأن التطوع بالحج يمنع فعل واجبه المتعين فأشبه صوم التطوع في رمضان‏,‏ بخلاف مسألتنا والحديث يرويه ابن لهيعة وفيه ضعف وفي سياقه ما هو متروك‏,‏ فإنه قال في آخره‏:‏ ‏"‏ومن أدركه رمضان وعليه من رمضان شيء لم يتقبل منه‏"‏ ويخرج في التطوع بالصلاة في حق من عليه القضاء مثل ما ذكرناه في الصوم‏.‏

فصل‏:‏

واختلفت الرواية في كراهة القضاء في عشر ذي الحجة فروي أنه لا يكره وهو قول سعيد بن المسيب‏,‏ والشافعي وإسحاق لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستحب قضاء رمضان في العشر ولأنه أيام عبادة فلم يكره القضاء فيه‏,‏ كعشر المحرم والثانية يكره القضاء فيه روي ذلك عن الحسن والزهري لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه كرهه‏,‏ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا‏:‏ يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله‏؟‏ قال‏:‏ ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله‏,‏ فلم يرجع بشيء‏)‏ فاستحب إخلاؤها للتطوع لينال فضيلتها ويجعل القضاء في غيرها وقال بعض أصحابنا‏:‏ هاتان الروايتان مبنيتان على الروايتين في إباحة التطوع قبل صوم الفرض وتحريمه فمن أباحه كره القضاء فيها‏,‏ ليوفرها على التطوع لينال فضله فيها مع فعل القضاء ومن حرمه لم يكرهه فيها‏,‏ بل استحب فعله فيها لئلا يخلو من العبادة بالكلية ويقوى عندي أن هاتين الروايتين فرع على إباحة التطوع قبل الفرض أما على رواية التحريم‏,‏ فيكون صومها تطوعا قبل الفرض محرما وذلك أبلغ من الكراهة والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه فإن تحمل وصام‏,‏ كره له ذلك وأجزأه ‏]‏ أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه قيل لأحمد‏:‏ متى يفطر المريض‏؟‏ قال‏:‏ إذا لم يستطع قيل‏:‏ مثل الحمى‏؟‏ قال‏:‏ وأي مرض أشد من الحمى وحكي عن بعض السلف أنه أباح الفطر بكل مرض‏,‏ حتى من وجع الإصبع والضرس لعموم الآية فيه ولأن المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه فكذلك المريض ولنا أنه شاهد للشهر‏,‏ لا يؤذيه الصوم فلزمه كالصحيح‏,‏ والآية مخصوصة في المسافر والمريض جميعا بدليل أن المسافر لا يباح له الفطر في السفر القصير والفرق بين المسافر والمريض‏,‏ أن السفر اعتبرت فيه المظنة وهو السفر الطويل حيث لم يمكن اعتبار الحكمة بنفسها‏,‏ فإن قليل المشقة لا يبيح وكثيرها لا ضابط له في نفسه فاعتبرت بمظنتها‏,‏ وهو السفر الطويل فدار الحكم مع المظنة وجودا وعدما والمرض لا ضابط له فإن الأمراض تختلف‏,‏ منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الإصبع‏,‏ والدمل والقرحة اليسيرة والجرب‏,‏ وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطا وأمكن اعتبار الحكمة‏,‏ وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره فإذا ثبت هذا فإن تحمل المريض وصام مع هذا‏,‏ فقد فعل مكروها لما يتضمنه من الإضرار بنفسه وتركه تخفيف الله تعالى وقبول رخصته‏,‏ ويصح صومه ويجزئه لأنه عزيمة أبيح تركها رخصة فإذا تحمله أجزأه كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة إذا حضرها‏,‏ والذي يباح له ترك القيام في الصلاة إذا قام فيها‏.‏

فصل‏:

والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله‏,‏ فالخوف من تجدد المرض في معناه قال أحمد في من به شهوة غالبة للجماع يخاف أن تنشق أنثياه فله الفطر وقال في الجارية‏:‏ تصوم إذا حاضت‏,‏ فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض يعني إذا حاضت وهي صغيرة لم تبلغ خمس عشرة سنة قال القاضي‏:‏ هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام أبيح لها الفطر‏,‏ وإلا فلا‏.‏

فصل‏:‏

ومن أبيح له الفطر لشدة شبقه إن أمكنه استدفاع الشهوة بغير جماع كالاستمناء بيده‏,‏ أو بيد امرأته أو جاريته لم يجز له الجماع لأنه فطر للضرورة فلم تبح له الزيادة على ما تندفع به الضرورة‏,‏ كأكل الميتة عند الضرورة وإن جامع فعليه الكفارة وكذلك إن أمكنه دفعها بما لا يفسد صوم غيره كوطء زوجته أو أمته الصغيرة أو الكتابية‏,‏ أو مباشرة الكبيرة المسلمة دون الفرج أو الاستمناء بيدها أو بيده لم يبح له إفساد صوم غيره لأن الضرورة إذا اندفعت لم يبح له ما وراءها‏,‏ كالشبع من الميتة إذا اندفعت الضرورة بسد الرمق وإن لم تندفع الضرورة إلا بإفساد صوم غيره أبيح ذلك لأنه مما تدعو الضرورة إليه فأبيح كفطره‏,‏ وكالحامل والمرضع يفطران خوفا على ولديهما فإن كان له امرأتان حائض وطاهر صائمة ودعته الضرورة إلى وطء إحداهما‏,‏ احتمل وجهين‏:‏ أحدهما وطء الصائمة أولى لأن الله تعالى نص على النهي عن وطء الحائض في كتابه ولأن وطأها فيه أذى لا يزول بالحاجة إلى الوطء والثاني‏:‏ يتخير لأن وطء الصائمة يفسد صيامها‏,‏ فتتعارض المفسدتان فيتساويان‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وكذلك المسافر ‏]‏ يعني أن المسافر يباح له الفطر فإن صام كره له ذلك‏,‏ وأجزأه وجواز الفطر للمسافر ثابت بالنص والإجماع وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزأه ويروى عن أبي هريرة أنه لا يصح صوم المسافر قال أحمد‏:‏ كان عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة وروى الزهري‏,‏ عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه قال‏:‏ الصائم في السفر كالمفطر في الحضر وقال بهذا قوم من أهل الظاهر لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ليس من البر الصوم في السفر‏)‏ متفق عليه ‏(‏ولأنه عليه السلام أفطر في السفر‏,‏ فلما بلغه أن قوما صاموا قال‏:‏ أولئك هم العصاة‏)‏ وروى ابن ماجه بإسناده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏الصائم في رمضان في السفر‏,‏ كالمفطر في الحضر‏)‏ وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول قال ابن عبد البر‏:‏ هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف هجره الفقهاء كلهم‏,‏ والسنة ترده وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أصوم في السفر‏؟‏ وكان كثير الصيام‏,‏ قال‏:‏ إن شئت فصم وإن شئت فأفطر‏)‏ وفي لفظ رواه النسائي ‏(‏أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح‏؟‏ قال‏:‏ هي رخصة الله‏,‏ فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه‏)‏ وقال أنس‏:‏ ‏(‏كنا نسافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم‏)‏ متفق عليه وكذلك روى أبو سعيد وأحاديثهم محمولة على تفضيل الفطر على الصيام‏.‏

فصل‏:‏

والأفضل عند إمامنا‏,‏ -رحمه الله- الفطر في السفر وهو مذهب ابن عمر‏,‏ وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي‏,‏ والأوزاعي وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك‏,‏ والشافعي‏:‏ الصوم أفضل لمن قوي عليه ويروى ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بما روي عن مسلمة بن المحبق أن النبي -صلى الله عليه وسلم-‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه‏)‏ رواه أبو داود ولأن من خير بين الصوم والفطر‏,‏ كان الصوم أفضل كالتطوع وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة‏:‏ أفضل الأمرين أيسرهما لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر‏}‏ ولما روى أبو داود‏,‏ عن حمزة بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر‏,‏ أعالجه وأسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوة‏,‏ وأنا شاب وأجدني أن أصم يا رسول الله‏,‏ أهون علي من أن أؤخر فيكون دينا علي أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري‏,‏ أم أفطر‏؟‏ قال‏:‏ أي ذلك شئت يا حمزة‏)‏ ولنا ما تقدم من الأخبار في الفصل الذي قبله وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏خيركم الذي يفطر في السفر ويقصر‏)‏ ولأن في الفطر خروجا من الخلاف فكان أفضل‏,‏ كالقصر وقياسهم ينتقض بالمريض وبصوم الأيام المكروه صومها‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وقضاء شهر رمضان متفرقا يجزئ والمتتابع أحسن ‏]‏ هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك‏,‏ وأبي هريرة وابن محيريز وأبي قلابة‏,‏ ومجاهد وأهل المدينة والحسن‏,‏ وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة‏,‏ والثوري والأوزاعي والشافعي‏,‏ وإسحاق وحكي وجوب التتابع عن علي وابن عمر والنخعي والشعبي وقال داود‏:‏ يجب ولا يشترط لما روى ابن المنذر‏,‏ بإسناده عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من كان عليه صوم رمضان فليسرده‏,‏ ولا يقطعه‏)‏ ولنا إطلاق قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ غير مقيد بالتتابع فإن قيل‏:‏ قد روي عن عائشة أنها قالت‏:‏ نزلت ‏"‏فعدة من أيام أخر متتابعات‏"‏ فسقطت ‏"‏متتابعات‏"‏ قلنا‏:‏ هذا لم يثبت عندنا صحته ولو صح فقد سقطت اللفظة المحتج بها وأيضا قول الصحابة‏,‏ قال ابن عمر‏:‏ إن سافر فإن شاء فرق وإن شاء تابع وروي مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال أبو عبيدة بن الجراح في قضاء رمضان‏:‏ إن الله لم يرخص لكم في فطره‏,‏ وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن المنكدر أنه قال‏:‏ بلغني ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن تقطيع قضاء رمضان‏؟‏ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ لو كان على أحدكم دين‏,‏ فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضيا دينه‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏,‏ يا رسول الله قال‏:‏ فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم‏)‏ ولأنه صوم لا يتعلق بزمان بعينه فلم يجب فيه التتابع كالنذر المطلق وخبرهم لم يثبت صحته‏,‏ فإن أهل السنن لم يذكروه ولو صح حملناه على الاستحباب فإن المتتابع أحسن لما فيه من موافقة الخبر‏,‏ والخروج من الخلاف وشبهه بالأداء والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن دخل في صيام تطوع فخرج منه‏,‏ فلا قضاء عليه وإن قضاه فحسن ‏]‏ وجملة ذلك أن من دخل في صيام تطوع استحب له إتمامه‏,‏ ولم يجب فإن خرج منه فلا قضاء عليه‏,‏ روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطرا‏,‏ وقال ابن عمر‏:‏ لا بأس به ما لم يكن نذرا أو قضاء رمضان وقال ابن عباس‏:‏ إذا صام الرجل تطوعا ثم شاء أن يقطعه قطعه‏,‏ وإذا دخل في صلاة تطوعا ثم شاء أن يقطعها قطعها وقال ابن مسعود‏:‏ متى أصبحت تريد الصوم فأنت على آخر النظرين‏,‏ إن شئت صمت وإن شئت أفطرت هذا مذهب أحمد والثوري‏,‏ والشافعي وإسحاق وقد روى حنبل عن أحمد‏,‏ إذا أجمع على الصيام فأوجبه على نفسه فأفطر من غير عذر‏,‏ أعاد يوما مكان ذلك اليوم وهذا محمول على أنه استحب ذلك أو نذره ليكون موافقا لسائر الروايات عنه وقال النخعي وأبو حنيفة‏,‏ ومالك‏:‏ يلزم بالشروع فيه ولا يخرج منه إلا بعذر فإن خرج قضى وعن مالك‏:‏ لا قضاء عليه واحتج من أوجب القضاء بما روي عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين‏,‏ فأهدي لنا حيس فأفطرنا ثم سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ اقضيا يوما مكانه‏)‏ ولأنها عبادة تلزم بالنذر فلزمت بالشروع فيها‏,‏ كالحج والعمرة ولنا ما روى مسلم وأبو داود‏,‏ والنسائي عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما فقال‏:‏ هل عندكم شيء‏؟‏ فقلت‏:‏ لا قال‏:‏ فإني صائم ثم مر بعد ذلك اليوم‏,‏ وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه وكان يحب الحيس قلت‏:‏ يا رسول الله‏,‏ إنه أهدي لنا حيس فخبأت لك منه قال‏:‏ أدنيه‏,‏ أما إني قد أصبحت وأنا صائم فأكل منه ثم قال لنا‏:‏ إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها‏)‏ هذا لفظ رواية النسائي‏,‏ وهو أتم من غيره وروت أم هانئ ‏(‏قالت‏:‏ دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتى بشراب فناولنيه فشربت منه ثم قلت‏:‏ يا رسول الله‏,‏ لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها‏:‏ أكنت تقضين شيئا‏؟‏ قالت‏:‏ لا قال‏:‏ فلا يضرك إن كان تطوعا‏)‏ رواه سعيد وأبو داود والأثرم وفي لفظ قالت‏:‏ ‏(‏قلت إني صائمة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ إن المتطوع أمير نفسه‏,‏ فإن شئت فصومي وإن شئت فأفطري‏)‏ ولأن كل صوم لو أتمه كان تطوعا إذا خرج منه لم يجب قضاؤه كما لو اعتقد أنه من رمضان فبان من شعبان أو من شوال فأما خبرهم‏,‏ فقال أبو داود‏:‏ لا يثبت وقال الترمذي‏:‏ فيه مقال وضعفه الجوزجاني وغيره ثم هو محمول على الاستحباب إذا ثبت هذا فإنه يستحب له إتمامه‏,‏ وإن خرج منه استحب قضاؤه للخروج من الخلاف وعملا بالخبر الذي رووه‏.‏

فصل‏:

وسائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصيام في أنها لا تلزم بالشروع‏,‏ ولا يجب قضاؤها إذا خرج منها إلا الحج والعمرة فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا‏,‏ لتأكد إحرامهما ولا يخرج منهما بإفسادهما ولو اعتقد أنهما واجبان ولم يكونا واجبين‏,‏ لم يكن له الخروج منهما وقد روي عن أحمد في الصلاة ما يدل على أنها تلزم بالشروع فإن الأثرم قال‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ الرجل يصبح صائما متطوعا أيكون بالخيار‏؟‏ والرجل يدخل في الصلاة أله أن يقطعها‏؟‏ فقال‏:‏ الصلاة أشد‏,‏ أما الصلاة فلا يقطعها قيل له‏:‏ فإن قطعها قضاها‏؟‏ قال‏:‏ إن قضاها فليس فيه اختلاف ومال أبو إسحاق الجوزجاني إلى هذا القول وقال‏:‏ الصلاة ذات إحرام وإحلال فلزمت بالشروع فيها‏,‏ كالحج وأكثر أصحابنا على أنها لا تلزم أيضا وهو قول ابن عباس لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما‏.‏

فصل‏:‏

ومن دخل في واجب‏,‏ كقضاء رمضان أو نذر معين أو مطلق أو صيام كفارة لم يجز له الخروج منه لأن المتعين وجب عليه الدخول فيه‏,‏ وغير المتعين تعين بدخوله فيه فصار بمنزلة الفرض المتعين وليس في هذا خلاف بحمد الله‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا كان للغلام عشر سنين‏,‏ وأطاق الصيام أخذ به ‏]‏ يعني أنه يلزم الصيام يؤمر به ويضرب على تركه ليتمرن عليه‏,‏ ويتعوده كما يلزم الصلاة ويؤمر بها وممن ذهب إلى أنه يؤمر بالصيام إذا أطاقه‏,‏ عطاء والحسن وابن سيرين‏,‏ والزهري وقتادة والشافعي وقال الأوزاعي إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يخور فيهن ولا يضعف‏,‏ حمل صوم شهر رمضان وقال إسحاق‏:‏ إذا بلغ ثنتي عشرة أحب أن يكلف الصوم للعادة واعتباره بالعشر أولى لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالضرب على الصلاة عندها واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى واجتماعهما في أنهما عبادتان بدنيتان من أركان الإسلام‏,‏ إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيقه‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجب عليه الصوم حتى يبلغ قال أحمد في غلام احتلم‏:‏ صام ولم يترك والجارية إذا حاضت وهذا قول أكثر أهل العلم‏,‏ وذهب بعض أصحابنا إلى إيجابه على الغلام المطيق له إذا بلغ عشرا لما روى ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان‏)‏ ولأنه عبادة بدنية أشبه الصلاة‏,‏ وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يضرب على الصلاة من بلغ عشرا والمذهب الأول قال القاضي‏:‏ المذهب عندي رواية واحدة‏:‏ أن الصلاة والصوم لا تجب حتى يبلغ وما قاله أحمد في من ترك الصلاة يقضيها نحمله على الاستحباب وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاث‏:‏ عن الصبي حتى يبلغ‏,‏ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ‏)‏ ولأنه عبادة بدنية فلم تجب على الصبي‏,‏ كالحج وحديثهم مرسل ثم نحمله على الاستحباب وسماه واجبا‏,‏ تأكيدا لاستحبابه كقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏غسل الجمعة واجب على كل محتلم‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

إذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن‏,‏ فقال القاضي‏:‏ يتم صومه ولا قضاء عليه لأن نية صوم رمضان حصلت ليلا فيجزئه كالبالغ ولا يمتنع أن يكون أول الصوم نفلا وباقيه فرضا كما لو شرع في صوم يوم تطوعا‏,‏ ثم نذر إتمامه واختار أبو الخطاب أنه يلزمه القضاء لأنه عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضي بعض أركانها فلزمته إعادتها كالصلاة‏,‏ والحج إذا بلغ بعد الوقوف وهذا لأنه ببلوغه يلزمه صوم جميعه والماضي قبل بلوغه نفل‏,‏ فلم يجز عن الفرض ولهذا لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم والناذر صائم لزمه القضاء فأما ما مضى من الشهر قبل بلوغه‏,‏ فلا قضاء عليه وسواء كان قد صامه أو أفطره هذا قول عامة أهل العلم وقال الأوزاعي‏:‏ يقضيه إن كان أفطره وهو مطيق لصيامه ولنا أنه زمن مضى في حال صباه‏,‏ فلم يلزمه قضاء الصوم فيه كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان وإن بلغ الصبي وهو مفطر فهل يلزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه‏؟‏ على روايتين‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان‏,‏ صام ما يستقبل من بقية شهره ‏]‏ أما صوم ما يستقبله من بقية شهره فلا خلاف فيه وأما قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه‏,‏ فلا يجب وبهذا قال الشعبي وقتادة ومالك‏,‏ والأوزاعي والشافعي وأبو ثور‏,‏ وأصحاب الرأي وقال عطاء‏:‏ عليه قضاؤه وعن الحسن كالمذهبين ولنا أن ما مضى عبادة خرجت في حال كفره فلم يلزمه قضاؤه‏,‏ كالرمضان الماضي‏.‏

فصل‏:‏

فأما اليوم الذي أسلم فيه فإنه يلزمه إمساكه ويقضيه هذا المنصوص عن أحمد وبه قال الماجشون وإسحاق وقال مالك‏,‏ وأبو ثور وابن المنذر‏:‏ لا قضاء عليه لأنه لم يدرك في زمن العبادة ما يمكنه التلبس بها فيه فأشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم وقد روي ذلك عن أحمد ولنا أنه أدرك جزءا من وقت العبادة فلزمته‏,‏ كما لو أدرك جزءا من وقت الصلاة‏.‏

فصل‏:‏

فأما المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فعليه صوم ما بقي من الأيام بغير خلاف وفي قضاء اليوم الذي أفاق فيه وإمساكه روايتان ولا يلزمه قضاء ما مضى وبهذا قال أبو ثور‏,‏ والشافعي في الجديد وقال مالك‏:‏ يقضي وإن مضى عليه سنون وعن أحمد مثله وهو قول الشافعي في القديم لأنه معنى يزيل العقل‏,‏ فلم يمنع وجوب الصوم كالإغماء وقال أبو حنيفة‏:‏ إن جن جميع الشهر فلا قضاء عليه‏,‏ وإن أفاق في أثنائه قضى ما مضى لأن الجنون لا ينافي الصوم بدليل ما لو جن في أثناء الصوم لم يفسد فإذا وجد في بعض الشهر‏,‏ وجب القضاء كالإغماء ولنا أنه معنى يزيل التكليف فلم يجب القضاء في زمانه‏,‏ كالصغر والكفر ويخص أبا حنيفة بأنه معنى لو وجد في جميع الشهر أسقط القضاء فإذا وجد في بعضه أسقطه‏,‏ كالصغر والكفر ويفارق الإغماء في ذلك‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا رأى هلال شهر رمضان وحده صام ‏]‏ المشهور في المذهب أنه متى رأى الهلال واحد لزمه الصيام‏,‏ عدلا كان أو غير عدل شهد عند الحاكم أو لم يشهد قبلت شهادته أو ردت وهذا قول مالك‏,‏ والليث والشافعي وأصحاب الرأي‏,‏ وابن المنذر وقال عطاء وإسحاق‏:‏ لا يصوم وقد روى حنبل عن أحمد‏:‏ لا يصوم إلا في جماعة الناس وروي نحوه عن الحسن وابن سيرين لأنه يوم محكوم به من شعبان فأشبه التاسع والعشرين ولنا أنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه‏,‏ كما لو حكم به الحاكم وكونه محكوما به من شعبان ظاهر في حق غيره وأما في الباطن فهو يعلم أنه من رمضان فلزمه صيامه كالعدل‏.‏

فصل‏:‏

فإن أفطر ذلك اليوم بجماع‏,‏ فعليه الكفارة وقال أبو حنيفة لا تجب لأنها عقوبة فلا تجب بفعل مختلف فيه كالحد ولنا أنه أفطر يوما من رمضان بجماع‏,‏ فوجبت به عليه الكفارة كما لو قبلت شهادته ولا نسلم أن الكفارة عقوبة‏,‏ ثم قياسهم ينتقض بوجوب الكفارة في السفر القصير مع وقوع الخلاف فيه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإن كان عدلا صوم الناس بقوله ‏]‏ المشهور عن أحمد‏,‏ أنه يقبل في هلال رمضان قول واحد عدل ويلزم الناس الصيام بقوله وهو قول عمر وعلي‏,‏ وابن عمر وابن المبارك والشافعي في الصحيح عنه وروي عن أحمد‏,‏ أنه قال‏:‏ اثنين أعجب إلى قال أبو بكر‏:‏ إن رآه وحده ثم قدم المصر صام الناس بقوله‏,‏ على ما روي في الحديث وإن كان الواحد في جماعة الناس فذكر أنه رآه دونهم‏,‏ لم يقبل إلا قول اثنين لأنهم يعاينون ما عاين وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه‏:‏ لا يقبل إلا شهادة اثنين وهو قول مالك والليث والأوزاعي‏,‏ وإسحاق لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال‏:‏ إني جالست أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏صوموا لرؤيته‏,‏ وأفطروا لرؤيته وانسكوا فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين‏,‏ وإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا‏)‏ رواه النسائي ولأن هذه شهادة على رؤية الهلال فأشبهت الشهادة على هلال شوال‏,‏ وقال أبو حنيفة في الغيم كقولنا وفي الصحو‏:‏ لا يقبل إلا الاستفاضة لأنه لا يجوز أن تنظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة والموانع مرتفعة‏,‏ فيراه واحد دون الباقين ولنا ما روى ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ رأيت الهلال قال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ والنسائي والترمذي وروى ابن عمر قال ‏(‏تراءى الناس الهلال‏,‏ فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه‏)‏ رواه أبو داود ولأنه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقه المشاهدة فقبل من واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة‏,‏ ولأنه خبر ديني يشترك فيه المخبر والمخبر فقبل من واحد عدل كالرواية‏,‏ وخبرهم إنما يدل بمفهومه وخبرنا أشهر منه وهو يدل بمنطوقه‏,‏ فيجب تقديمه ويفارق الخبر عن هلال شوال فإنه خروج من العبادة‏,‏ وهذا دخول فيها وحديثهم في هلال شوال يخالف مسألتنا وما ذكره أبو بكر‏,‏ وأبو حنيفة لا يصح لأنه يجوز انفراد الواحد به مع لطافة المرئي وبعده ويجوز أن تختلف معرفتهم بالمطلع ومواضع قصدهم وحدة نظرهم ولهذا لو حكم برؤيته حاكم بشهادة واحد جاز‏,‏ ولو شهد شاهدان وجب قبول شهادتهما ولو كان ممتنعا على ما قالوه لم يصح فيه حكم حاكم ولا يثبت بشهادة اثنين‏,‏ ومن منع ثبوته بشهادة اثنين رد عليه الخبر الأول وقياسه على سائر الحقوق وسائر الشهور‏,‏ ولو أن جماعة في محفل فشهد اثنان منه أنه طلق زوجته أو أعتق عبده قبلت شهادتهما دون من أنكر‏,‏ ولو أن اثنين من أهل الجمعة شهدا على الخطيب أنه قال على المنبر في الخطبة شيئا لم يشهد به غيرهما لقبلت شهادتهما وكذلك لو شهدا عليه بفعل‏,‏ وإن كان غيرهما يشاركهما في سلامة السمع وصحة البصر كذا ها هنا‏.‏

فصل‏:‏

وإن أخبره مخبر برؤية الهلال يثق بقوله لزمه الصوم وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم لأنه خبر بوقت العبادة يشترك فيه المخبر والمخبر‏,‏ أشبه الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخبر عن دخول وقت الصلاة ذكر ذلك ابن عقيل ومقتضى هذا أنه يلزمه قبول الخبر وإن رده الحاكم لأن رد الحاكم يجوز أن يكون لعدم علمه بحال المخبر ولا يتعين ذلك في عدم العدالة‏,‏ وقد يجهل الحاكم عدالة من يعلم غيره عدالته‏.‏

فصل‏:

فإن كان المخبر امرأة فقياس المذهب قبول قولها وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه خبر ديني فأشبه الرواية والخبر عن القبلة‏,‏ ودخول وقت الصلاة ويحتمل أن لا تقبل لأنه شهادة برؤية الهلال فلم يقبل فيه قول امرأة‏,‏ كهلال شوال‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يفطر إلا بشهادة اثنين ‏]‏ وجملة ذلك أنه لا يقبل في هلال شوال إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم إلا أبا ثور فإنه قال‏:‏ يقبل قول واحد لأنه أحد طرفي شهر رمضان‏,‏ أشبه الأول ولأنه خبر يستوي فيه المخبر والمخبر أشبه الرواية وأخبار الديانات ولنا خبر عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب‏,‏ وعن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ‏(‏أجاز شهادة رجل واحد على رؤية الهلال وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين‏)‏ ولأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة فلم تقبل فيه إلا شهادة اثنين كسائر الشهود‏,‏ وهذا يفارق الخبر لأن الخبر يقبل فيه قول المخبر مع وجود المخبر عنه وفلان عن فلان وهذا لا يقبل فيه ذلك‏,‏ فافترقا‏.‏

فصل‏:‏

ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة النساء المنفردات وإن كثرن وكذلك سائر الشهور لأنه مما يطلع عليه الرجال‏,‏ وليس بمال ولا يقصد به المال فأشبه القصاص‏,‏ وكان القياس يقتضي مثل ذلك في رمضان لكن تركناه احتياطا للعبادة‏.‏

فصل‏:‏

وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما ولم يروا هلال شوال‏,‏ أفطروا وجها واحدا وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يفطرون لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا‏)‏ ولأنه فطر فلم يجز أن يستند إلى شهادة واحد‏,‏ كما لو شهد بهلال شوال والثاني‏:‏ يفطرون وهو منصوص الشافعي ويحكى عن أبي حنيفة لأن الصوم إذا وجب الفطر لاستكمال العدة لا بالشهادة‏,‏ وقد يثبت تبعا ما لا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء وتثبت بها الولادة‏,‏ فإذا ثبتت الولادة ثبت النسب على وجه التبع للولادة كذا ها هنا وإن صاموا لأجل الغيم لم يفطروا وجها واحدا لأن الصوم إنما كان على وجه الاحتياط فلا يجوز الخروج منه بمثل ذلك‏,‏ والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يفطر إذا رآه وحده ‏]‏ وروي هذا عن مالك والليث وقال الشافعي‏:‏ يحل له أن يأكل حيث لا يراه أحد لأنه يتيقنه من شوال فجاز له الأكل‏,‏ كما لو قامت به بينة ولنا ما روى أبو رجاء عن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال‏,‏ وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما‏:‏ أصائم أنت‏؟‏ قال‏:‏ بل مفطر قال‏:‏ ما حملك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال للآخر قال‏:‏ أنا صائم قال‏:‏ ما حملك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي أفطر‏:‏ لولا مكان هذا لأوجعت رأسك ثم نودي في الناس‏:‏ أن اخرجوا أخرجه سعيد‏,‏ عن ابن علية عن أيوب عن أبي رجاء وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه‏,‏ ولا توعده وقالت عائشة‏:‏ إنما يفطر يوم الفطر الإمام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعا ولأنه يوم محكوم به من رمضان‏,‏ فلم يجز الفطر فيه كاليوم الذي قبله وفارق ما إذا قامت البينة فإنه محكوم به من شوال‏,‏ بخلاف مسألتنا وقولهم‏:‏ إنه يتيقن أنه من شوال قلنا‏:‏ لا يثبت اليقين لأنه يحتمل أن يكون الرائي خيل إليه كما روي أن رجلا في زمن عمر قال‏:‏ لقد رأيت الهلال فقال له‏:‏ امسح عينك فمسحها‏,‏ ثم قال له‏:‏ تراه‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ لعل شعرة من حاجبك تقوست على عينك فظننتها هلالا أو ما هذا معناه‏.‏

فصل‏:

فإن رآه اثنان ولم يشهدا عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر‏,‏ إذا عرف عدالتهما ولكل واحد منهما الفطر بقولهما لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏وإذا شهد اثنان فصوموا وأفطروا‏)‏ وإن شهدا عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما‏,‏ فلمن علم عدالتهما الفطر بقولهما لأن رد الحاكم ها هنا ليس بحكم منه وإنما هو توقف لعدم علمه فهو كالوقوف عن الحكم انتظارا للبينة ولهذا لو تثبت عدالتهما بعد ذلك حكم بها‏,‏ وإن لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر إلا أن يحكم بذلك الحاكم لئلا يفطر برؤيته وحده‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير‏,‏ فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه‏,‏ وإن وافق ما قبله لم يجزه ‏]‏ وجملته أن من كان محبوسا أو مطمورا أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر‏,‏ فاشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى ويجتهد فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه‏,‏ ولا يخلو من أربعة أحوال‏:‏ أحدها أن لا ينكشف له الحال فإن صومه صحيح‏,‏ ويجزئه لأنه أدى فرضه باجتهاده فأجزأه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد الثاني‏:‏ أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا يجزئه في هاتين الحالتين لأنه صامه على الشك فلم يجزئه‏,‏ كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان وليس بصحيح لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلة إذا اشتبهت أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها‏,‏ وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد فإن الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها‏,‏ فما لم توجد لم يجز الصوم الحال الثالث‏:‏ وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء وقال بعض الشافعية‏:‏ يجزئه في أحد الوجهين‏,‏ كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا أخطأ الناس كلهم‏,‏ لعظم المشقة عليهم وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم الحال الرابع‏:‏ أن يوافق بعضه رمضان دون بعض‏,‏ فما وافق رمضان أو بعده أجزأه وما وافق قبله لم يجزئه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدة أيام شهره الذي فاته سواء وافق ما بين هلالين أو لم يوافق‏,‏ وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين ولا يجزئه أقل من ذلك وقال القاضي‏:‏ ظاهر كلام الخرقي‏:‏ أنه إذا وافق شهرا بين هلالين أجزأه سواء كان الشهران تامين أو ناقصين أو أحدهما تاما والآخر ناقصا وليس بصحيح فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ ولأنه فاته شهر رمضان‏,‏ فوجب أن يكون صيامه بعدة ما فاته كالمريض والمسافر وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب فإن قيل‏:‏ أليس إذا نذر صوم شهر يجزئه ما بين هلالين‏؟‏ قلنا‏:‏ الإطلاق يحمل على ما تناوله الاسم‏,‏ والاسم يتناول ما بين الهلالين وهاهنا يجب قضاء ما ترك فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك‏,‏ كما أن من نذر صلاة أجزأه ركعتان ولو ترك صلاة وجب قضاؤها بعدة ركعاتها كذلك ها هنا الواجب بعدة ما فاته من الأيام‏,‏ سواء كان ما صامه بين هلالين أو من شهرين فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به وإن وافق أيام التشريق‏,‏ فهل يعتد بها‏؟‏ على روايتين‏:‏ بناء على صحة صومها على الفرض‏.‏

فصل‏:‏

وإن لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام لم يجزئه وإن وافق الشهر لأنه صامه على الشك فلم يجزئه‏,‏ كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإن غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي‏:‏ عليه الصيام‏,‏ ويقضي إذا عرف الشهر كالذي خفيت عليه دلائل القبلة ويصلي على حسب حاله ويعيد وذكر أبو بكر في من خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد‏؟‏ على وجهين كذلك يخرج على قوله ها هنا وظاهر كلام الخرقي أنه يتحرى فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه‏,‏ وإن لم يبن على دليل لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد ذكرنا مثل هذا في القبلة‏.‏

فصل‏:‏

وإذا صام تطوعا فوافق شهر رمضان‏,‏ لم يجزئه نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي‏:‏ يجزئه وهذا ينبني على تعيين النية لرمضان وقد مضى القول فيه‏.‏

مسألة‏:

قال ‏:‏ ‏(‏ ولا يصام يوما العيدين ، ولا أيام التشريق ، لا عن فرض ، ولا عن تطوع ‏.‏ فإن قصد لصيامها كان عاصيا ، ولم يجزئه عن الفرض ‏)‏ أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين منهي عنه ، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة ‏.‏ وذلك لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر ، قال ‏:‏ شهدت العيد مع عمر بن الخطاب ، فجاء فصلى ، ثم انصرف ، فخطب الناس ، فقال ‏:‏ إن هذين يومين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم ، والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم وعن أبي هريرة ، ‏{‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين ؛ يوم فطر ، ويوم أضحى ‏}‏ ‏.‏ وعن أبي سعيد مثله ‏.‏ متفق عليهما ‏.‏ والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه ‏.‏ وأما صومهما عن النذر المعين ففيه خلاف ‏.‏ نذكره بعد إن شاء الله تعالى ‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله‏,‏ -رحمه الله- رواية أخرى أنه يصومها عن الفرض ‏]‏ وجملة ذلك أن أيام التشريق منهي عن صيامها أيضا لما روى نبيشة الهذلي‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل‏)‏ متفق عليه وروي عن عبد الله بن حذافة قال‏:‏ ‏(‏بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيام منى أنادي‏:‏ أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال‏)‏ إلا أنه من رواية الواقدي‏,‏ وهو ضعيف وعن عمرو بن العاص أنه قال‏:‏ هذه الأيام التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها قال مالك‏:‏ وهي أيام التشريق رواه أبو داود ولا يحل صيامها تطوعا‏,‏ في قول أكثر أهل العلم وعن ابن الزبير أنه كان يصومها وروي نحو ذلك عن ابن عمر الأسود بن يزيد وعن أبي طلحة أنه كان لا يفطر إلا يومي العيدين والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيامها ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره وقد روى أبو مرة مولى أم هانئ‏,‏ أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاما فقال‏:‏ كل‏,‏ فقال‏:‏ إني صائم فقال عمرو‏:‏ كل فهذه الأيام التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها والظاهر أن عبد الله بن عمرو أفطر لما بلغه نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما صومها للفرض‏,‏ ففيه روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ لا يجوز لأنه منهي عن صومها فأشبهت يومي العيد والثانية‏:‏ يصح صومها للفرض لما روي عن ابن عمرو وعائشة‏,‏ أنهما قالا‏:‏ لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي أي‏:‏ المتمتع إذا عدم الهدي وهو حديث صحيح رواه البخاري ويقاس عليه كل مفروض‏.‏

فصل‏:

ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم‏,‏ إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه مثل من يصوم يوما ويفطر يوما فيوافق صومه يوم الجمعة ومن عادته صوم أول يوم من الشهر‏,‏ أو آخره أو يوم نصفه ونحو ذلك نص عليه أحمد‏,‏ في رواية الأثرم قال‏:‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ صيام يوم الجمعة‏؟‏ فذكر حديث النهي أن يفرد ثم قال‏:‏ إلا أن يكون في صيام كان يصومه وأما أن يفرد فلا قال‏:‏ قلت‏:‏ رجل كان يصوم يوما ويفطر يوما‏,‏ فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت‏,‏ فصام الجمعة مفردا‏؟‏ فقال‏:‏ هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة وقال أبو حنيفة ومالك‏:‏ لا يكره إفراد الجمعة لأنه يوم‏,‏ فأشبه سائر الأيام ولنا ما روى أبو هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده‏)‏ وقال محمد بن عباد‏:‏ سألت جابرا ‏(‏أنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم الجمعة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏ متفق عليهما وعن جويرية بنت الحارث‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال‏:‏ ‏(‏أصمت أمس‏؟‏ قالت‏:‏ لا قال‏:‏ أتريدين أن تصومي غدا‏؟‏ قالت‏:‏ لا قال‏:‏ فأفطري‏)‏ رواه البخاري وفيه أحاديث سوى هذه‏,‏ وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تتبع وهذا الحديث يدل على أن المكروه إفراده لأن نهيه معلل بكونها لم تصم أمس ولا غدا

فصل‏:‏

قال أصحابنا‏:‏ يكره إفراد يوم السبت بالصوم لما روى عبد الله بن بسر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم‏)‏ أخرجه الترمذي‏,‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن وروي أيضا عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا تصوموا يوم السبت‏,‏ إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة‏,‏ فليمضغه‏)‏ أخرجه أبو داود وقال‏:‏ اسم أخت عبد الله بن بسر هجيمة أو جهيمة قال الأثرم‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ أما صيام يوم السبت يفرد به فقد جاء فيه حديث الصماء وكان يحيى بن سعيد يتقيه‏,‏ أي‏:‏ أن يحدثني به وسمعته من أبي عاصم والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوما لإنسان‏,‏ لم يكره لما قدمناه وقال أصحابنا‏:‏ ويكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان بالصوم لأنهما يومان يعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما‏,‏ فكره كيوم السبت وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم‏.‏

فصل‏:‏

ويكره إفراد رجب بالصوم قال أحمد‏:‏ وإن صامه رجل‏,‏ أفطر فيه يوما أو أياما بقدر ما لا يصومه كله ووجه ذلك ما روى أحمد‏,‏ بإسناده عن خرشة بن الحر قال‏:‏ رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول‏:‏ كلوا‏,‏ فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية وبإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب‏,‏ كرهه وقال‏:‏ صوموا منه وأفطروا وعن ابن عباس نحوه‏,‏ وبإسناده عن أبي بكرة أنه دخل على أهله وعندهم سلال جدد وكيزان‏,‏ فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ رجب نصومه قال‏:‏ أجعلتم رجبا رمضان فأكفأ السلال وكسر الكيزان قال أحمد‏:‏ من كان يصوم السنة صامه‏,‏ وإلا فلا يصومه متواليا يفطر فيه ولا يشبهه برمضان‏.‏

فصل‏:‏

وروى أبو قتادة‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏قيل‏:‏ يا رسول الله فكيف بمن صام الدهر‏؟‏ قال‏:‏ لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وعن أبي موسى‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من صام الدهر ضيقت عليه جهنم‏)‏ قال الأثرم‏:‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ فسر مسدد قول أبي موسى‏:‏ ‏"‏من صام الدهر ضيقت عليه جهنم‏"‏ فلا يدخلها فضحك وقال‏:‏ من قال هذا‏؟‏ فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك وما فيه من الأحاديث‏؟‏ قال أبو الخطاب‏:‏ إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق لأن أحمد قال‏:‏ إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس وروي نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم‏,‏ منهم أبو طلحة قيل‏:‏ إنه صام بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين سنة والذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام‏,‏ فإن صامها قد فعل محرما وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف‏,‏ وشبه التبتل المنهي عنه بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏قال لعبد الله بن عمرو‏:‏ إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم قال‏:‏ إنك إذا فعلت ذلك هجمت له عينك ونفهت له النفس لا صام من صام الدهر‏,‏ صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله قلت‏:‏ فإني أطيق أكثر من ذلك قال‏:‏ فصم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏وهو أفضل الصيام فقلت‏:‏ إني أطيق أفضل من ذلك قال‏:‏ لا أفضل من ذلك‏)‏ رواه البخاري‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا رئي الهلال نهارا‏,‏ قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة ‏]‏ وجملة ذلك أن المشهور عن أحمد أن الهلال إذا رئي نهارا قبل الزوال أو بعده‏,‏ وكان ذلك في آخر رمضان لم يفطروا برؤيته وهذا قول عمر وابن مسعود‏,‏ وابن عمر وأنس والأوزاعي‏,‏ ومالك والليث والشافعي‏,‏ وإسحاق وأبي حنيفة وقال الثوري وأبو يوسف‏:‏ إن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية‏,‏ وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه رواه سعيد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته‏)‏ وقد رأوه فيجب الصوم والفطر‏,‏ ولأن ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية وحكي هذا رواية عن أحمد ولنا ما روى أبو وائل قال‏:‏ جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين‏,‏ أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية ولأنه قول ابن مسعود‏,‏ وابن عباس ومن سمينا من الصحابة وخبرهم محمول على ما إذا رئي عشية‏,‏ بدليل ما لو رئي بعد الزوال ثم إن الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد بدليل ما لو رآه عشية فأما إن كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضا‏,‏ أنه لليلة المقبلة وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وعن أحمد رواية أخرى‏,‏ أنه للماضية فيلزم قضاء ذلك اليوم وإمساك بقيته احتياطا للعبادة‏,‏ والأول أصح لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره فهو لها في أوله كما لو رئي بعد العصر‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ والاختيار تأخير السحور‏,‏ وتعجيل الفطر ‏]‏ الكلام في هذه المسألة في فصلين‏:‏

أحدهما في السحور والكلام فيه في ثلاثة أشياء أحدها‏,‏ في استحبابه ولا نعلم فيه بين العلماء خلافا وقد روى أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏تسحروا فإن في السحور بركة‏)‏ متفق عليه وعن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر‏)‏ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي‏,‏ وقال‏:‏ حديث حسن صحيح وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏السحور بركة‏,‏ فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين‏)‏ الثاني‏:‏ في وقته قال أحمد يعجبني تأخير السحور لما روى زيد بن ثابت‏,‏ قال‏:‏ تسحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قمنا إلى الصلاة قلت‏:‏ كم كان قدر ذلك‏؟‏ قال‏:‏ خمسين آية متفق عليه وروى العرباض بن سارية قال‏:‏ ‏(‏دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السحور فقال‏:‏ هلم إلى الغداء المبارك‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ والنسائي سماه غداء لقرب وقته منه ولأن المقصود بالسحور التقوي على الصوم وما كان أقرب إلى الفجر كان أعون على الصوم قال أبو داود‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه وهذا قول ابن عباس وعطاء والأوزاعي قال أحمد‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال‏,‏ ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وروى أبو قلابة قال‏:‏ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يتسحر‏:‏ يا غلام اخف الباب‏,‏ لا يفجأنا الصبح وقال رجل لابن عباس‏:‏ إني أتسحر فإذا شككت أمسكت فقال ابن عباس‏:‏ كل ما شككت حتى لا تشك فأما الجماع فلا يستحب تأخيره لأنه ليس مما يتقوى به وفيه خطر وجوب الكفارة‏,‏ وحصول الفطر به الثالث‏:‏ فيما يتسحر به وكل ما حصل من أكل أو شرب حصل به فضيلة السحور لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء‏)‏ وروى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏نعم سحور المؤمن التمر‏)‏ رواه أبو داود‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

في تعجيل الفطر وفيه أمور ثلاثة أحدها في استحبابه وهو قول أكثر أهل العلم لما روى سهل بن سعد الساعدي‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر‏)‏ متفق عليه وعن أبي عطية قال‏:‏ ‏(‏دخلت أنا ومسروق على عائشة فقال مسروق‏:‏ رجلان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدهما يعجل الإفطار ويعجل المغرب‏,‏ والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر المغرب‏؟‏ قالت‏:‏ من الذي يعجل الإفطار ويعجل المغرب‏؟‏ قال‏:‏ عبد الله قالت‏:‏ هكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع رواه‏)‏ مسلم وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ أحب عبادي إلي أسرعهم فطرا‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب وقال أنس‏:‏ ‏(‏ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء‏)‏ رواه ابن عبد البر الثاني‏:‏ فيما يفطر عليه يستحب أن يفطر على رطبات فإن لم يكن فعلى تمرات‏,‏ فإن لم يكن فعلى الماء لما روى أنس قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات‏,‏ فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء‏)‏ رواه أبو داود والأثرم والترمذي‏,‏ وقال‏:‏ حديث حسن غريب وعن سليمان بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على الماء‏,‏ فإنه طهور‏)‏ أخرجه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

الثالث‏:‏

في الوصال‏,‏ وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب وهو مكروه في قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن الزبير أنه كان يواصل اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولنا ما روى ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏واصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فواصل الناس‏,‏ فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال فقالوا‏:‏ إنك تواصل قال‏:‏ إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى‏)‏ متفق عليه وهذا يقتضي اختصاصه بذلك‏,‏ ومنع إلحاق غيره به وقوله‏:‏ ‏(‏إني أطعم وأسقى‏)‏ يحتمل أنه يريد أنه يعان على الصيام ويغنيه الله تعالى عن الشراب والطعام بمنزلة من طعم وشرب ويحتمل أنه أراد‏:‏ إني أطعم حقيقة‏,‏ وأسقى حقيقة حملا للفظ على حقيقته والأول أظهر لوجهين‏:‏ أحدهما‏,‏ أنه لو طعم وشرب حقيقة لم يكن مواصلا وقد أقرهم على قولهم‏:‏ إنك تواصل والثاني‏:‏ أنه قد روي أنه قال‏:‏ ‏(‏إني أظل يطعمني ربي ويسقيني‏)‏ وهذا يقتضي أنه في النهار ولا يجوز الأكل في النهار له ولا لغيره إذا ثبت هذا‏,‏ فإن الوصال غير محرم وظاهر قول الشافعي أنه محرم تقريرا لظاهر النهي في التحريم ولنا أنه ترك الأكل والشرب المباح فلم يكن محرما‏,‏ كما لو تركه في حال الفطر فإن قيل‏:‏ فصوم يوم العيد محرم مع كونه تركا للأكل والشرب المباح قلنا‏:‏ ما حرم ترك الأكل والشرب بنفسه وإنما حرم بنية الصوم ولهذا لو تركه من غير نية الصوم لم يكن محرما وأما النهي فإنما أتى به رحمة لهم‏,‏ ورفقا بهم لما فيه من المشقة عليهم كما نهى عبد الله بن عمرو عن صيام النهار وقيام الليل وعن قراءة القرآن في أقل من ثلاث قالت عائشة‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال‏,‏ رحمة لهم‏)‏ وهذا لا يقتضي التحريم ولهذا لم يفهم منه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- التحريم بدليل أنهم واصلوا بعده‏,‏ ولو فهموا منه التحريم لما استجازوا فعله قال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ويوما‏,‏ ثم رأوا الهلال فقال‏:‏ لو تأخر لزدتكم‏)‏ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا متفق عليه فإن واصل من سحر إلى سحر جاز لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر‏)‏ أخرجه البخاري وتعجيل الفطر أفضل‏,‏ لما قدمناه‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب تفطير الصائم لما روى زيد بن خالد الجهني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ‏(‏من فطر صائما كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

فصل‏:

روى ابن عباس‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال‏:‏ اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا‏,‏ فتقبل منا إنك أنت السميع العليم‏)‏ وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر يقول‏:‏ ذهب الظمأ‏,‏ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله‏)‏ وإسناده حسن‏,‏ ذكرهما الدارقطني‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال وإن فرقها‏,‏ فكأنما صام الدهر ‏]‏ وجملة ذلك أن صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم روي ذلك عن كعب الأحبار والشعبي وميمون بن مهران وبه قال الشافعي وكرهه مالك وقال‏:‏ ما رأيت أحدا من أهل الفقه يصومها‏,‏ ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته‏,‏ وأن يلحق برمضان ما ليس منه ولنا ما روى أبو أيوب قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال‏,‏ فكأنما صام الدهر‏)‏ رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن وقال أحمد‏:‏ هو من ثلاثة أوجه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وروى سعيد‏,‏ بإسناده عن ثوبان قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من صام رمضان شهر بعشرة أشهر‏,‏ وصام ستة أيام بعد الفطر وذلك تمام سنة‏)‏ يعني أن الحسنة بعشر أمثالها فالشهر بعشرة والستة بستين يوما فذلك اثنا عشر شهرا‏,‏ وهو سنة كاملة ولا يجري هذا مجرى التقديم لرمضان لأن يوم الفطر فاصل فإن قيل‏:‏ فلا دليل في هذا الحديث على فضيلتها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- شبه صيامها بصيام الدهر وهو مكروه قلنا‏:‏ إنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف والتشبيه بالتبتل‏,‏ لولا ذلك لكان ذلك فضلا عظيما لاستغراقه الزمان بالعبادة والطاعة والمراد بالخبر التشبيه به في حصول العبادة به‏,‏ على وجه عري عن المشقة كما قال عليه السلام ‏(‏من صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كمن صام الدهر‏)‏ ذكر ذلك حثا على صيامها‏,‏ وبيان فضلها ولا خلاف في استحبابها ونهى عبد الله بن عمرو عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث وقال‏:‏ من قرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ فكأنما قرأ ثلث القرآن أراد التشبيه بثلث القرآن في الفضل لا في كراهة الزيادة عليه إذا ثبت هذا‏,‏ فلا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة في أول الشهر أو في آخره لأن الحديث ورد بها مطلقا من غير تقييد ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما‏,‏ والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله‏,‏ وهذا المعنى يحصل مع التفريق والله أعلم‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ وصيام عاشوراء كفارة سنة ويوم عرفة كفارة سنتين ‏]‏ وجملته أن صيام هذين اليومين مستحب لما روى أبو قتادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ‏(‏صيام عرفة‏:‏ إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده‏)‏ وقال في صيام عاشوراء‏:‏ ‏(‏إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله‏)‏ أخرجه مسلم إذا ثبت هذا فإن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وهذا قول سعيد بن المسيب‏,‏ والحسن لما روى ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم‏)‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح وروي عن ابن عباس‏,‏ أنه قال‏:‏ التاسع وروي ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم التاسع‏)‏ أخرجه مسلم بمعناه وروى عنه عطاء أنه قال‏:‏ ‏(‏صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود‏,‏‏)‏ إذا ثبت هذا فإنه يستحب صوم التاسع والعاشر لذلك نص عليه أحمد وهو قول إسحاق قال أحمد‏:‏ فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر‏.‏

فصل‏:‏

واختلف في صوم عاشوراء هل كان واجبا‏؟‏ فذهب القاضي إلى أنه لم يكن واجبا وقال‏:‏ هذا قياس المذهب واستدل بشيئين أحدهما ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر من لم يأكل‏)‏ بالصوم والنية في الليل شرط في الواجب والثاني‏:‏ أنه لم يأمر من أكل بالقضاء‏,‏ ويشهد لهذا ما روى معاوية قال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏يقول‏:‏ إن هذا يوم عاشوراء لم يكتب الله عليكم صيامه فمن شاء فليصم‏,‏ ومن شاء فليفطر‏)‏ وهو حديث صحيح وروي عن أحمد أنه كان مفروضا لما روت عائشة ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صامه وأمر بصيامه فلما افترض رمضان كان هو الفريضة‏,‏ وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه‏)‏ وهو حديث صحيح وحديث معاوية محمول على أنه أراد‏:‏ ليس هو مكتوبا عليكم الآن وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر بقضائه‏,‏ فيحتمل أن نقول‏:‏ من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه قضاؤه كما قلنا في من أسلم وبلغ في أثناء يوم من رمضان على أنه قد روى أبو داود ‏(‏أن أسلم أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ صمتم يومكم هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فأتموا بقية يومكم واقضوه‏)‏‏.‏

فصل‏:

فأما يوم عرفة‏:‏ فهو اليوم التاسع من ذي الحجة سمي بذلك‏,‏ لأن الوقوف بعرفة فيه وقيل‏:‏ سمي يوم عرفة لأن إبراهيم عليه السلام أري في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه فأصبح يومه يتروى‏,‏ هل هذا من الله أو حلم‏؟‏ فسمي يوم التروية فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضا فأصبح يوم عرفة فعرف أنه من الله‏,‏ فسمي يوم عرفة وهو يوم شريف عظيم وعيد كريم وفضله كبير وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أن صيامه يكفر سنتين‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

وأيام عشر ذي الحجة كلها شريفة مفضلة يضاعف العمل فيها‏,‏ ويستحب الاجتهاد في العبادة فيها لما روى ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا‏:‏ يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله‏؟‏ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ولا الجهاد في سبيل الله‏,‏ إلا رجلا خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء‏)‏ وهو حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏ما من أيام أحب إلى الله عز وجل أن يتعبد له فيها‏,‏ من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر‏)‏ وهذا حديث غريب‏,‏ أخرجه الترمذي وروى أبو داود بإسناده عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء‏)‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم‏,‏ ليتقوى على الدعاء ‏]‏ أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه وقال قتادة‏:‏ لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء وقال عطاء‏:‏ أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء‏,‏ فإذا قوي عليه أو كان في الشتاء لم يضعف‏,‏ فتزول الكراهة ولنا ما روي عن أم الفضل بنت الحارث ‏(‏أن ناسا تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم‏:‏ صائم وقال بعضهم‏:‏ ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفات فشربه النبي -صلى الله عليه وسلم-‏)‏ متفق عليه وقال ابن عمر‏:‏ ‏(‏حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-‏,‏ فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه‏,‏ وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه‏)‏ أخرجه الترمذي‏,‏ وقال‏:‏ حديث حسن وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة‏)‏ ولأن الصوم يضعفه‏,‏ ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف‏,‏ الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه به‏,‏ فكان تركه أفضل‏.‏

فصل‏:

روي عن أبي هريرة‏:‏ قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم‏)‏ رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن

فصل‏:‏

وأفضل الصيام أن تصوم يوما وتفطر يوما لما روى عبد الله بن عمرو‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏قال له‏:‏ صم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود‏,‏ وهو أفضل الصيام فقلت‏:‏ إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ لا أفضل من ذلك‏)‏ متفق عليه فصل‏:‏

وروى أبو داود بإسناده عن أسامة بن زيد أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كان يصوم يوم الاثنين والخميس‏,‏ فسئل عن ذلك فقال‏:‏ إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس‏)‏ ‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وأيام البيض التي حض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صيامها هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ‏]‏ وجملة ذلك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب‏,‏ لا نعلم فيه خلافا وقد روى أبو هريرة قال‏:‏ ‏(‏أوصاني خليلي بثلاث‏:‏ صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى‏,‏ وأن أوتر قبل أن أنام‏)‏ وعن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له‏:‏ ‏(‏صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر‏)‏ متفق عليهما ويستحب أن يجعل هذه الثلاثة أيام البيض لما روى أبو ذر‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر إذا صمت من الشهر فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة‏,‏ وخمس عشرة‏)‏ أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن وروى النسائي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏قال لأعرابي‏:‏ كل قال‏:‏ إني صائم قال‏:‏ صوم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ صوم ثلاثة أيام من الشهر قال‏:‏ إن كنت صائما فعليك بالغر البيض ثلاث عشرة‏,‏ وأربع عشرة وخمس عشرة‏)‏ وعن ملحان القيسي قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله عليه السلام يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة‏,‏ وأربع عشرة وخمس عشرة وقال‏:‏ هو كهيئة الدهر‏)‏ أخرجه أبو داود وسميت أيام البيض لابيضاض ليلها كله بالقمر والتقدير‏:‏ أيام الليالي البيض وقيل‏:‏ إن الله تاب على آدم فيها‏,‏ وبيض صحيفته ذكره أبو الحسن التميمي‏.‏

فصل‏:‏

ويجب على الصائم أن ينزه صومه عن الكذب والغيبة والشتم قال أحمد‏:‏ ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري ويصون صومه‏,‏ كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا‏:‏ نحفظ صومنا ولا يغتاب أحدا ولا يعمل عملا يجرح به صومه وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من لم يدع قول الزور‏,‏ والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه‏)‏ وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏كل عمل ابن آدم له إلا الصيام‏,‏ فإنه لي وأنا أجزي به الصيام جنة‏,‏ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله‏,‏ فليقل‏:‏ إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما‏,‏ إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه‏)‏ متفق عليهما‏.‏

فصل‏:‏

في ليلة القدر‏:‏ وهي ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ليلة القدر خير من ألف شهر‏}‏ قيل‏:‏ معناه العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏ متفق عليه وقيل‏:‏ إنما سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة‏,‏ ورزق وبركة يروى ذلك عن ابن عباس قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏}‏ وسماها مباركة فقال تعالى ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين‏}‏ وهي ليلة القدر بدليل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏}‏ يروى أن جبريل نزل به من بيت العزة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر‏,‏ ثم نزل به على النبي -صلى الله عليه وسلم- نجوما في ثلاث وعشرين سنة وهي باقية لم ترفع لما روى أبو ذر قال ‏(‏قلت‏:‏ يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ باقية إلى يوم القيامة قلت‏:‏ في رمضان أو في غيره‏؟‏ فقال‏:‏ في رمضان فقلت‏:‏ في العشر الأول‏,‏ أو الثاني أو الآخر‏؟‏ فقال‏:‏ في العشر الآخر‏)‏ وأكثر أهل العلم على أنها في رمضان وكان ابن مسعود يقول‏:‏ من يقم الحول يصبها يشير إلى أنها في السنة كلها وفي كتاب الله تعالى ما يبين أنها في رمضان لأن الله أخبر أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وأنه أنزله في رمضان‏,‏ فيجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يتناقض الخبران ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أنها في رمضان في حديث أبي ذر وقال‏:‏ ‏(‏التمسوها في العشر الأواخر‏,‏ في كل وتر‏)‏ متفق عليه وقال أبي بن كعب‏:‏ والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان ولكنه كره أن يخبركم فتتكلوا إذا ثبت هذا فإنه يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان‏,‏ وفي العشر الأواخر آكد وفي ليالي الوتر منه آكد وقال أحمد‏:‏ هي في العشر الأواخر وفي وتر من الليالي‏,‏ لا يخطئ إن شاء الله كذا روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين‏,‏ أو سبع بقين أو تسع بقين‏)‏ وروى سالم عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر‏,‏ فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها‏)‏ متفق عليه وقالت عائشة ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل‏,‏ وأيقظ أهله وشد المئزر‏)‏ متفق عليه قالت‏:‏ ‏(‏وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها‏)‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوقظ أهله في العشر الأواخر‏)‏ وقالت عائشة ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجاور في العشر الأواخر من رمضان‏)‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏(‏تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان‏)‏ وكل هذه الأحاديث صحيحة‏.‏

فصل‏:‏

واختلف أهل العلم في أرجى هذه الليالي‏,‏ فقال أبي بن كعب وعبد الله بن عباس‏:‏ هي ليلة سبع وعشرين قال زر بن حبيش قلت لأبي بن كعب‏:‏ أما علمت أبا المنذر أنها ليلة سبع وعشرين‏؟‏ قال‏:‏ بلى ‏(‏أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع فعددنا‏,‏ وحفظنا‏)‏ والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ولكنه كره أن يخبركم‏,‏ فتتكلوا قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح وروى أبو ذر في حديث فيه طول ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم في رمضان حتى بقي سبع فقام بهم حتى مضى نحو من ثلث الليل‏,‏ ثم قام بهم في ليلة خمس وعشرين حتى مضى نحو من شطر الليل حتى كانت ليلة سبع وعشرين‏,‏ فجمع نساءه وأهله واجتمع الناس قال‏:‏ فقام بهم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح‏)‏ يعني السحور متفق عليه وحكي عن ابن عباس‏,‏ أنه قال‏:‏ ‏"‏سورة القدر ثلاثون كلمة السابعة والعشرون منها‏:‏ هي‏"‏ وروى أبو داود بإسناده عن معاوية‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة القدر ‏(‏قال ليلة سبع وعشرين‏)‏ وقيل‏:‏ آكدها ليلة ثلاث وعشرين لأنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أن عبد الله بن أنيس سأله فقال‏:‏ يا رسول الله‏,‏ إني أكون ببادية يقال لها الوطأة وإني بحمد الله أصلي بهم فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها في المسجد‏,‏ فأصليها فيه فقال‏:‏ انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه‏,‏ وإن أحببت أن تستتم آخر هذا الشهر فافعل وإن أحببت فكف فكان إذا صلى العصر دخل المسجد فلم يخرج إلا في حاجة‏,‏ حتى يصلي الصبح فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد‏)‏ رواه أبو داود مختصرا وقيل‏:‏ آكدها ليلة أربع وعشرين لأنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏ليلة القدر أول ليلة من السبع الأواخر‏)‏ وروي عن بعض الصحابة‏,‏ أنه قال‏:‏ لم نكن نعد عددكم هذا وإنما كنا نعد من آخر الشهر يعني أن السابعة والعشرين هي أول ليلة من السبع الأواخر وروى أبو ذر قال‏:‏ ‏(‏صمنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان‏,‏ فلم يقم بنا حتى كانت ليلة سبع بقيت فقام بنا نحوا من ثلث الليل ثم لم يقم ليلة ست‏,‏ فلما كانت ليلة خمس قام بنا النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوا من نصف الليل فقلنا‏:‏ يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة‏؟‏ فقال‏:‏ إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف‏,‏ كتب له قيام ليلة فلما كانت ليلة ثلاث قام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح فقلت‏:‏ وما الفلاح‏؟‏ قال‏:‏ السحور وأيقظ في تلك الليلة أهله ونساءه وبناته‏)‏ رواه سعيد وقيل‏:‏ آكدها ليلة إحدى وعشرين لما روى أبو سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏رأيت ليلة القدر‏,‏ ثم أنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر‏,‏ وإني رأيت إني أسجد في صبيحتها في ماء وطين قال‏:‏ فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل‏,‏ فأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الماء والطين في جبهته‏)‏ وفي حديث‏:‏ ‏(‏في صبيحة إحدى وعشرين‏)‏ متفق عليه قال الترمذي‏:‏ قد روي أنها ليلة إحدى وعشرين‏,‏ وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين‏,‏ وليلة تسع وعشرين وآخر ليلة وقال أبو قلابة‏:‏ إنها تنتقل في ليالي العشر قال الشافعي‏:‏ كان هذا عندي - والله أعلم - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجيب على نحو ما يسأل فعلى هذا كانت في السنة التي رأى أبو سعيد النبي -صلى الله عليه وسلم- يسجد في الماء والطين ليلة إحدى وعشرين وفي السنة التي أمر عبد الله بن أنيس ليلة ثلاث وعشرين‏,‏ وفي السنة التي رأى أبي بن كعب علامتها ليلة سبع وعشرين وقد ترى علامتها في غير هذه الليالي قال بعض أهل العلم‏:‏ أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ويجدوا في العبادة في الشهر كله طمعا في إدراكها‏,‏ كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كله وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات‏,‏ ليجتهدوا في جمعها وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل‏,‏ حذرا منهما

فصل‏:‏

فأما علامتها فالمشهور فيها ما ذكره أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ‏(‏الشمس تطلع من صبيحتها بيضاء لا شعاع لها‏)‏ وفي بعض الأحاديث‏:‏ ‏(‏بيضاء مثل الطست‏)‏ وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أنه قال‏:‏ بلجة سمحة‏,‏ لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب أن يجتهد فيها في الدعاء ويدعو فيها بما روي عن عائشة‏,‏ أنها قالت‏:‏ يا رسول الله إن وافقتها بم أدعو‏؟‏ قال‏:‏ قولي‏:‏ ‏(‏اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني‏)‏‏.‏