فصل: فصل: قبول الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ويكون كاتبه عدلا وكذلك قاسمه ‏]‏

وجملته أنه يستحب للحاكم أن يتخذ كاتبا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استكتب زيد بن ثابت‏,‏ وغيره ولأن الحاكم تكثر أشغاله ونظره فلا يمكنه أن يتولى الكتابة بنفسه‏,‏ وإن أمكنه تولى الكتابة بنفسه جاز والاستنابة فيه أولى ولا يجوز أن يستنيب في ذلك إلا عدلا لأن الكتابة موضع أمانة ويستحب أن يكون فقيها ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام‏,‏ ويفرق بين الجائز والواجب وينبغي أن يكون وافر العقل ورعا‏,‏ نزها لئلا يستمال بالطمع ويكون مسلما لأن الله - تعالى قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا‏}‏ ويروى أن أبا موسى قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فأحضر أبو موسى شيئا من مكتوباته عند عمر‏,‏ فاستحسنه وقال‏:‏ قل لكاتبك يجيء فيقرأ كتابه قال‏:‏ إنه لا يدخل المسجد قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ إنه نصراني فانتهره عمر‏,‏ وقال‏:‏ لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى ولا تقربوهم‏,‏ وقد أبعدهم الله - تعالى ولا تعزوهم وقد أذلهم الله تعالى ولأن الإسلام من شروط العدالة‏,‏ والعدالة شرط وقال أصحاب الشافعي‏:‏ في اشتراط عدالته وإسلامه وجهان أحدهما تشترط لما ذكرنا والثاني‏,‏ لا تشترط لأن ما يكتبه لا بد من وقوف القاضي عليه فتؤمن الخيانة فيه ويستحب أن يكون جيد الخط لأنه أكمل وأن يكون حرا ليخرج من الخلاف وإن كان عبدا جاز لأن شهادة العبد جائزة ويكون القاسم على الصفة التي ذكرنا في الكاتب‏,‏ ولا بد من كونه حاسبا لأنه عمله وبه يقسم فهو كالحظ للكاتب والفقه للحاكم ويستحب للحاكم أن يجلس كاتبه بين يديه ليشاهد ما يكتبه‏,‏ ويشافهه بما يملي عليه وإن قعد ناحية جاز لأن المقصود يحصل‏,‏ فإن ما يكتبه يعرض على الحاكم فيستبرئه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا ترافع إلى الحاكم خصمان فأقر أحدهما لصاحبه‏,‏ فقال المقر له للحاكم‏:‏ أشهد لي على إقراره شاهدين لزمه ذلك لأن الحاكم لا يحكم بعلمه فربما جحد المقر فلا يمكنه الحكم عليه بعلمه‏,‏ ولو كان يحكم بعلمه احتمل أن ينسى فإن الإنسان عرضة النسيان فلا يمكنه الحكم بإقراره وإن ثبت عنده حق بنكول المدعى عليه‏,‏ أو بيمين المدعي بعد النكول فسأله المدعي أن يشهد على نفسه لزمه لأنه لا حجة للمدعي سوى الإشهاد‏,‏ وإن ثبتت عنده بينة فسأله الإشهاد ففيه وجهان أحدهما لا يلزمه لأن بالحق بينة‏,‏ فلا يجب جعل بينة أخرى والثاني يجب لأن في الإشهاد فائدة جديدة وهي إثبات تعديل بينته‏,‏ وإلزام خصمه وإن حلف المنكر وسأل الحاكم الإشهاد على براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط المطالبة مرة أخرى وفي جميع ذلك إذا سأله أن يكتب له محضرا بما جرى‏,‏ ففيه وجهان أحدهما يلزمه ذلك لأنه وثيقة له فهو كالإشهاد لأن الشاهدين ربما نسيا الشهادة‏,‏ أو نسيا الخصمين فلا يذكرهما إلا رؤية خطيهما والثاني لا يلزمه لأن الإشهاد يكفيه والأول أصح لأن الشهود تكثر عليهم الشهادات‏,‏ ويطول عليهم الأمد والظاهر أنهما لا يتحققان الشهادة تحققا يحصل به أداؤها فلا يتقيد إلا بالكتاب فإن اختار أن يكتب له محضرا‏,‏ فصفته‏:‏ حضر القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام فلان على كذا وكذا وإن كان خليفة القاضي قال‏:‏ خليفة القاضي فلان بن فلان الفلاني عبد الله قاضي الإمام بمجلس حكمه وقضائه فإن كان يعرف المدعي والمدعى عليه بأسمائهما وأنسابهما‏,‏ قال‏:‏ فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما حتى يتميز ويستحب ذكر حليتهما وإن أخل به‏,‏ جاز لأن ذكر نسبهما إذا رفع فيه أغنى عن ذكر الحلية وإن كان الحاكم لا يعرف الخصمين قال‏:‏ مدع ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه مدعى عليه ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما‏,‏ ويذكر حليتهما لأن الاعتماد عليها فربما استعار النسب ويقول‏:‏ أغم أو أنزع ويذكر صفة العينين والأنف والفم والحاجبين‏,‏ واللون والطول والقصر ما ادعى عليه كذا وكذا فأقر له ولا يحتاج أن يقول‏:‏ بمجلس حكمه لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم وإن كتب أنه شهد على إقراره شاهدان كان أوكد ويكتب الحاكم على رأس المحضر‏:‏ الحمد لله رب العالمين أو ما أحب من ذلك فأما إن أنكر المدعى عليه‏,‏ وشهدت عليه بينة قال‏:‏ فادعى عليه كذا وكذا فأنكر‏,‏ فسأل الحاكم المدعي‏:‏ ألك بينة‏؟‏ فأحضرها وسأل الحاكم سماعها ففعل وسأله أن يكتب له محضرا بما جرى‏,‏ فأجابه إليه وذلك في وقت كذا ويحتاج ها هنا أن يذكر‏:‏ بمجلس حكمه وقضائه بخلاف الإقرار لأن البينة لا تسمع إلا في مجلس الحكم والإقرار بخلافه ويكتب الحاكم في آخر المحضر‏:‏ شهدا عندي بذلك فإن كان مع المدعي كتاب فيه خط الشاهد كتب تحت خطوطهما أو تحت خط كل واحد منهما‏:‏ شهد عندي بذلك ويكتب علامته في رأس المحضر‏,‏ وإن اقتصر على ذلك دون المحضر جاز فأما إن لم تكن للمدعي بينة فاستحلف المنكر‏,‏ ثم سأل المنكر الحاكم محضرا لئلا يحلف في ذلك ثانيا كتب له مثل ما تقدم إلا أنه يقول‏:‏ فأنكر‏,‏ فسأل الحاكم المدعي‏:‏ ألك بينة‏؟‏ فلم تكن له بينة فقال‏:‏ لك يمينه فسأله أن يستحلفه فاستحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا وكذا ولا بد من ذكر تحليفه لأن الاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحكم‏,‏ ويعلم في أوله خاصة وإن نكل المدعى عليه عن اليمين قال‏:‏ فعرض اليمين على المدعى عليه فنكل عنها‏,‏ فسأل خصمه الحاكم أن يقضي عليه بالحق فقضى عليه في وقت كذا ويعلم في آخره ويذكر أن ذلك في مجلس حكمه وقضائه فهذه صفة المحضر فأما إن سأل صاحب الحق الحاكم أن يحكم له بما ثبت في المحضر‏,‏ لزمه أن يحكم له به وينفذه فيقول‏:‏ حكمت له به‏,‏ ألزمته الحق أنفذت الحكم به فإن طلبه أن يشهد له على حكمه لزمه ذلك‏,‏ لتحصل له الوثيقة به فإن طالبه أن يسجل له به وهو أن يكتب في المحضر ويشهد على إنقاذه سجل له وفي وجوب ذلك‏,‏ الوجهان المذكوران في المحضر وهذه صورة السجل‏:‏ -صلى الله عليه وسلم- هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام على كذا وكذا في مجلس حكمه وقضائه‏,‏ في موضع كذا وكذا في وقت كذا وكذا أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان ونسبهما‏,‏ وقد عرفهما بما ساغ له به قبول شهادتهما عنده بما في كتاب نسخه وينسخ الكتاب إن كان معه أو المحضر في أي حكم كان فإذا فرغ منه قال بعد ذلك‏:‏ فحكم به‏,‏ فأنفذه وأمضاه بعد أن سأله فلان بن فلان أن يحكم له به ولا يحتاج أن يذكر أنه بمحضر المدعى عليه لأن القضاء على الغائب جائز‏,‏ فإن أراد أن يذكره احتياطا قال‏:‏ بعد أن حضره من ساغ له الدعوى عليه ويكتب الحاكم بالسجل والمحضر نسختين إحداهما تكون في يد صاحب الحق والأخرى‏,‏ تكون في ديوان الحكم فإن هلكت إحداهما نابت الأخرى عنها ويختم الذي في ديوان الحكم‏,‏ ويكتب على طيه‏:‏ سجل فلان بن فلان أو محضر فلان بن فلان أو وثيقة فلان بن فلان فإن كثر ما عنده جمع ما يجتمع في كل يوم أو أسبوع أو شهر‏,‏ على قدر كثرتها وقلتها وشدها إضبارة ويكتب عليها‏:‏ أسبوع كذا من شهر كذا‏,‏ من سنة كذا ثم يضم ما يجتمع في السنة ويدعها ناحية ويكتب عليها‏:‏ كتب سنة كذا حتى إذا حضر من يطلب شيئا منها‏,‏ سأله عن السنة فيخرج كتب تلك السنة ويسهل وينبغي أن يتولى جمعها وشدها بنفسه لئلا يزور عليه‏,‏ فإن تولى ذلك ثقة من ثقاته جاز‏.‏

فصل‏:

وينبغي أن يجعل من بيت المال شيء برسم الكاغد الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات لأنه من المصالح فإنه‏,‏ يحفظ به الوثائق ويذكر الحاكم حكمه والشاهد شهادته‏,‏ ويرجع بالدرك على من رجع عليه فإن أعوز ذلك لم يلزم الحاكم ذلك‏,‏ ويقول لصاحب الحق‏:‏ إن شئت جئت بكاغد أكتب لك فيه فإنه حجة لك‏,‏ ولست أكرهك عليه‏.‏

فصل‏:

وإذا ارتفع إليه خصمان فذكر أحدهما أن حجته في ديوان الحكم فأخرجها الحاكم من ديوانه‏,‏ فوجدها مكتوبة بخطه تحت ختمه وفيها حكمه فإن ذكر ذلك‏,‏ حكم به وإن لم يذكره لم يحكم به نص عليه أحمد‏,‏ في الشهادة قاله بعض أصحابنا وهو قول أبي حنيفة‏,‏ والشافعي ومحمد بن الحسن وعن أحمد رضي الله عنه أنه يحكم به وبه قال ابن أبي ليلى وهذا الذي رأيته عن أحمد في الشهادة لأنه إذا كان في قمطره تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحا ووجه الأولى‏,‏ أنه حكم حاكم لم يعلمه فلم يجز إنفاذه إلا ببينة كحكم غيره‏,‏ ولأنه يجوز أن يزور عليه وعلى ختمه والخط يشبه الخط فإن قيل‏:‏ فلو وجد في دفتر أبيه حقا على إنسان جاز له أن يدعيه‏,‏ ويحلف عليه قلنا‏:‏ هذا يخالف الحكم والشهادة بدليل الإجماع على أنه لو وجد بخط أبيه شهادة لم يجز له أن يحكم بها‏,‏ ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه مكتوبا بخطه لم يجز له إنقاذه‏,‏ ولأنه يمكنه الرجوع فيما حكم به عليه إلى نفسه لأنه فعل نفسه فروعي ذلك وأما ما كتبه أبوه‏,‏ فلا يمكنه الرجوع فيما حكم به إلى نفسه فيكفي فيه الظن‏.‏

فصل‏:‏

فإن ادعى رجل على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي فذكر الحاكم حكمه‏,‏ أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم إنما هو إمضاء لحكمه السابق وإن لم يذكره القاضي‏,‏ فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولها وإمضاء القضاء وبه قال ابن أبي ليلى‏,‏ ومحمد بن الحسن قال القاضي‏:‏ هذا قياس قول أحمد لأنه قال‏:‏ يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي‏:‏ لا يقبل لأنه يمكنه الرجوع إلى الإحاطة والعلم‏,‏ فلا يرجع إلى الظن كالشاهد إذا نسي شهادته فشهد عنده شاهدان أنه شهد‏,‏ لم يكن له أن يشهد ولنا أنهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكم نفسه‏,‏ ولأنهما شهدا بحكم حاكم وما ذكروه لا يصح لأن ذكر ما نسيه ليس إليه ويخالف الشاهد لأن الحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته‏,‏ وإنما يمضيها الحاكم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته ‏]‏

وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة قال مسروق‏:‏ إذا قبل القاضي الهدية‏,‏ أكل السحت وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر وقد روى أبو حميد الساعدي‏,‏ قال‏:‏ بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فقال‏:‏ هذا لكم‏,‏ وهذا أهدي إلي فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏ما بال العامل نبعثه‏,‏ فيجيء فيقول‏:‏ هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أمه‏,‏ فينظر أيهدى إليه أم لا‏؟‏ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدا منكم فيأخذ شيئا‏,‏ إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار‏,‏ أو شاة تيعر فرفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه فقال‏:‏ اللهم هل بلغت ثلاثا‏؟‏‏)‏ متفق عليه ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه‏,‏ فلم يجز قبولها منه كالرشوة فأما إن كان يهدى إليه قبل ولايته جاز قبولها منه بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبل الولاية‏,‏ بدليل وجودها قبلها قال القاضي‏:‏ ويستحب له التنزه عنها وإن أحس أنه يقدمها بين يدي خصومه أو فعلها حال الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لأنها كالرشوة وهذا كله مذهب الشافعي وروي عن أبي حنيفة وأصحابه‏,‏ أن قبول الهدية مكروه غير محرم وفيما ذكرناه دلالة على التحريم‏.‏

فصل‏:‏

فأما الرشوة في الحكم ورشوة العامل فحرام بلا خلاف قال الله تعالى ‏{‏أكالون للسحت‏}‏ قال الحسن‏,‏ وسعيد بن جبير في تفسيره‏:‏ هو الرشوة وقال‏:‏ إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به إلى الكفر وروى عبد الله بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة‏,‏ وزاد‏:‏ ‏"‏ في الحكم ‏"‏ ورواه أبو بكر في ‏"‏ زاد المسافر ‏"‏ وزاد‏:‏ ‏"‏ والرائش ‏"‏ وهو السفير بينهما ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق‏,‏ أو ليوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم قال مسروق‏:‏ سألت ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ و ‏{‏الظالمون‏}‏ و ‏{‏الفاسقون‏}‏ ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة‏,‏ فيهدي لك فلا تقبل وقال قتادة‏:‏ قال كعب‏:‏ الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل‏,‏ أو يدفع عنه حقا فهو ملعون وإن رشاه ليدفع ظلمه‏,‏ ويجزيه على واجبه فقد قال عطاء وجابر بن زيد‏,‏ والحسن‏:‏ لا بأس أن يصانع عن نفسه قال جابر بن زيد‏:‏ ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها فعليه ردها إلى أربابها لأنه أخذها بغير حق‏,‏ فأشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر ابن اللتبية بردها على أربابها وقد قال أحمد‏:‏ إذا أهدى البطريق لصاحب الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر‏:‏ يكونون فيه سواء‏.‏

فصل‏:

ولا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه لما روى أبو الأسود المالكي عن أبيه‏,‏ عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا‏)‏ ولأنه يعرف فيحابى فيكون كالهدية‏,‏ ولأن ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما بويع أخذ الذراع وقصد السوق فقالوا‏:‏ يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يسعك أن تشتغل عن أمور المسلمين قال‏:‏ فإني لا أدع عيالي يضيعون قالوا‏:‏ فنحن نفرض لك ما يكفيك ففرضوا له كل يوم درهمين فإن باع واشترى‏,‏ صح البيع لأن البيع تم بشروطه وأركانه وإن احتاج إلى مباشرته ولم يكن له من يكفيه جاز ذلك‏,‏ ولم يكره لأن أبا بكر رضي الله عنه قصد السوق ليتجر فيه حتى فرضوا له ما يكفيه ولأن القيام بعياله فرض عين‏,‏ فلا يتركه لوهم مضرة وأما إذا استغنى عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره له لما ذكرنا من المعنيين وينبغي أن يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابى وهذا مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة‏,‏ أنه قال‏:‏ لا يكره له البيع والشراء وتوكيل من يعرف لما ذكرنا من قضية أبي بكر رضي الله عنه ولنا ما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال‏:‏ شرط علي عمر حين ولاني القضاء أن لا أبيع‏,‏ ولا أبتاع ولا أرتشي ولا أقضي وأنا غضبان وقضية أبي بكر حجة لنا فإن الصحابة أنكروا عليه‏,‏ فاعتذر بحفظ عياله عن الضياع فلما أغنوه عن البيع والشراء بما فرضوا لهم قبل قولهم‏,‏ وترك التجارة فحصل الاتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز للحاكم حضور الولائم لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحضرها ويأمر بحضورها‏,‏ وقال‏:‏ ‏(‏من لم يجب فقد عصى الله ورسوله‏)‏ فإن كثرت وازدحمت تركها كلها ولم يجب أحدا لأن ذلك يشغله عن الحكم الذي قد تعين عليه‏,‏ لكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل ولا يجيب بعضا دون بعض لأن في ذلك كسرا لقلب من لم يجبه‏,‏ إلا أن يختص بعضها بعذر يمنعه دون بعض مثل أن يكون في إحداهما منكر أو تكون في مكان بعيد‏,‏ أو يشتغل بها زمنا طويلا والأخرى بخلاف ذلك فله الإجابة إليها دون الأولى لأن عذره ظاهر في التخلف عن الأولى‏.‏

فصل‏:‏

وله عيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، وإتيان مقدم الغائب ، وزيارة إخوانه والصالحين من الناس ؛ لأنه قربة وطاعة ، وإن كثر ذلك ، فليس له الاشتغال به عن الحكم ؛ لأن هذا تبرع ، فلا يشتغل به عن الفرض ، وله حضور البعض دون البعض ؛ لأن هذا يفعله لنفع نفسه لتحصيل الأجر ، والقربة له ، والولائم يراعى فيها حق الداعي ، فينكسر قلب من لم يجبه إذا أجاب غيره ‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس‏,‏ والخطاب ‏]‏

وجملته أن على القاضي العدل بين الخصمين في كل شيء من المجلس‏,‏ والخطاب واللحظ واللفظ والدخول عليه والإنصات إليهما والاستماع منهما وهذا قول شريح وأبي حنيفة‏,‏ والشافعي ولا أعلم فيه مخالفا وقد روى عمر بن شبة في كتاب ‏"‏ قضاة البصرة ‏"‏ بإسناده عن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏من بلي بالقضاء بين المسلمين‏,‏ فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده‏,‏ ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر وفي رواية‏:‏ فليسو بينهم في النظر والمجلس والإشارة‏)‏ وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي‏:‏ سو بين الناس في مجلسك وعدلك‏,‏ حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع شريف في حيفك وقال سعيد ثنا هشيم‏,‏ ثنا سيار ثنا الشعبي قال‏:‏ كان بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي بن كعب بدار في شيء فجعلا بينهما زيد بن ثابت‏,‏ فأتياه في منزله فقال له عمر‏:‏ أتيناك لتحكم بيننا في بيته يؤتى الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه‏,‏ فقال‏:‏ ها هنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر‏:‏ جرت في أول القضاء ولكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبي وأنكر عمر‏,‏ فقال زيد لأبي أعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر‏,‏ ثم أقسم‏:‏ لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء ورواه عمر بن شبة وفيه‏:‏ فلما أتيا باب زيد‏,‏ خرج فقال‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك قال‏:‏ في بيته يؤتى الحكم فلما دخلا عليه قال‏:‏ ها هنا يا أمير المؤمنين قال‏:‏ بل أجلس مع خصمي فادعى أبي وأنكر عمر‏,‏ ولم تكن لأبي بينة فقال زيد‏:‏ أعف أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر‏:‏ تالله إن زلت ظالما‏,‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ها هنا يا أمير المؤمنين أعف أمير المؤمنين إن كان لي حق استحققته بيميني وإلا تركته والله الذي لا إله إلا هو‏,‏ إن النخل لنخلي وما لأبي فيها حق ثم أقسم عمر‏:‏ لا يصيب زيد وجه القضاء حتى يكون عمر وغيره من الناس عنده سواء فلما خرجا وهب النخل لأبي فقيل له‏:‏ يا أمير‏,‏ المؤمنين فهلا كان هذا قبل أن تحلف‏؟‏ قال‏:‏ خفت أن أترك اليمين فتصير سنة‏,‏ فلا يحلف الناس على حقوقهم وقال إبراهيم‏:‏ جاء رجل إلى شريح وعنده السري بن وقاص فقال الرجل لشريح‏:‏ أعني على هذا الجالس عندك فقال شريح للسري‏:‏ قم فاجلس مع خصمك قال‏:‏ إني أسمعك من مكاني قال‏:‏ لا قم فاجلس مع خصمك فأبى أن يسمع منه حتى أجلسه مع خصمه وفي رواية قال إن مجلسك يريبه‏,‏ وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر ولما تحاكم علي رضي الله عنه واليهودي إلى شريح قال علي إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولأن الحاكم إذا ميز أحد الخصمين على الآخر حصر وانكسر قلبه وربما لم تقم حجته‏,‏ فأدى ذلك إلى ظلمة وإن أذن أحد الخصمين للحاكم في رفع الخصم الآخر عليه في المجلس جاز لأن الحق له ولا ينكسر قلبه إذا كان هو الذي رفعه والسنة أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود وقال علي رضي الله عنه‏:‏ لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك ولأن ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما‏,‏ والإقبال عليهما والنظر في خصومتهما وإن كان الخصمان ذميين سوى بينهما أيضا لاستوائهما في دينهما‏,‏ وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا جاز رفع المسلم عليه لما روى إبراهيم التيمي‏,‏ قال‏:‏ وجد علي كرم الله وجهه درعه مع يهودي‏,‏ فقال‏:‏ درعي سقطت وقت كذا وكذا فقال اليهودي‏:‏ درعي وفي يدي‏,‏ بيني وبينك قاضي المسلمين فارتفعا إلى شريح فلما رآه شريح قام من مجلسه‏,‏ وأجلسه في موضعه وجلس مع اليهودي بين يديه فقال علي‏:‏ إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ‏(‏لا تساووهم في المجالس‏)‏ ذكره‏:‏ أبو نعيم‏,‏ في الحلية ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه إما أن يضيفهما معا أو يدعهما وقد روي عن علي كرم الله وجهه‏,‏ أنه نزل به رجل فقال له‏:‏ إنك خصم‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ تحل عنا فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه‏)‏ ولأن ذلك يوهم الخصم ميل الحاكم إلى من أضافه ولا يلقن أحدهما حجته‏,‏ ولا ما فيه ضرر على خصمه مثل أن يريد أحدهما الإقرار فيلقنه الإنكار‏,‏ أو اليمين فيلقنه النكول أو النكول فيجزئه على اليمين‏,‏ أو يحس من الشاهد بالتوقف فيجسره على الشهادة أو يكون مقدما على الشهادة‏,‏ فيوقفه عنها أو يقول لأحدهما وحده‏:‏ تكلم ونحو هذا مما فيه إضرار بخصمه لأن عليه العدل بينهما فإن قيل‏:‏ فقد لقن النبي -صلى الله عليه وسلم- السارق فقال‏:‏ ‏"‏ ما أخالك سرقت ‏"‏ وقال عمر لزياد‏:‏ أرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا‏:‏ لا يرد هذا الإلزام ها هنا فإن هذا في حقوق الله وحدوده‏,‏ ولا خصم للمقر ولا للمشهود عليه فليس في تلقينه حيف على أحد الخصمين‏,‏ ولا ترك للعدل في أحد الجانبين والذي قلنا في المختلفين في حق من حقوق الآدميين ولا ينبغي أن يعنت الشاهد ولا يداخله في كلامه‏,‏ ويعنفه في ألفاظه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا حضر القاضي خصوم كثيرة قدم الأول فالأول وينبغي أن يبعث من يكتب من جاء الأول فالأول فيقدمه قال ابن المنذر‏:‏ الأحسن أن يتخذ خيطا ممدودا‏,‏ طرفه يلي مجلس الحاكم والطرف الآخر مجلس الخصوم فكل من جاء كتب اسمه في رقعة‏,‏ وثقبها وأدخلها في الخيط مما يلي مجلس الخصوم حتى يأتي على آخرهم‏,‏ فإذا جلس القاضي مد يده إلى الطرف الذي يليه فأخذ الرقعة التي تليه ثم التي بعدها كذلك‏,‏ حتى يأتي على آخرها فإن بقي منها شيء وزال الوقت الذي يقضي فيه عرف الطرف الذي يليه حين يجلس‏,‏ فيتناول في المجلس الثاني الرقاع كفعله بالأمس والاعتبار بسبق المدعي لأن الحق له ومتى قدم رجلا لسبقه فحكم بينه وبين خصمه‏,‏ فقال‏:‏ لي دعوى أخرى لم يسمع منه لأنه قد قدمه بسبقه في خصومة فلا يقدمه بأخرى ويقول له‏:‏ اجلس حتى إذا لم يبق أحد من الحاضرين‏,‏ نظرت في دعواك الأخرى إن أمكن فإذا فرغ الكل فقال الأخير بعد فصل خصومته‏:‏ لي دعوى أخرى لم يسمع منه حتى يسمع دعوى الأول الثانية‏,‏ ثم يسمع دعواه وإن ادعى المدعى عليه على المدعي حكم بينهما لأننا إنما نعتبر الأول فالأول في الدعوى‏,‏ لا في المدعى عليه وإذا تقدم الثاني فادعى على المدعي الأول أو المدعى عليه الأول‏,‏ حكم بينهما وإن حضر اثنان أو جماعة دفعة واحدة أقرع بينهم‏,‏ فقدم من خرجت له القرعة لتساوي حقوقهم وإن كثر عددهم كتب أسماءهم في رقاع‏,‏ وتركها بين يديه ومد يده فأخذ رقعة رقعة واحدة بعد أخرى‏,‏ ويقدم صاحبها حسب ما يتفق‏.‏

فصل‏:‏

فإن حضر مسافرون ومقيمون وكان المسافرون قليلا بحيث لا يضر تقديمهم على المقيمين‏,‏ قدمهم لأنهم على جناح السفر يشتغلون بما يصلح للرحيل وقد خفف الله عنهم الصوم وشطر الصلاة تحقيقا عنهم‏,‏ وفي تأخيرهم ضرر بهم فإن شاء أفرد لهم يوما يفرغ من حوائجهم فيه وإن شاء قدمهم من غير إفراد يوم لهم فإن كانوا كثيرا‏,‏ بحيث يضر تقديمهم فهم والمقيمون سواء لأن تقديمهم مع القلة‏,‏ إنما كان لدفع الضرر المختص بهم فإذا آل دفع الضرر عنهم إلى الضرر بغيرهم تساووا ولا خلاف في أكثر هذه الآداب وأنها ليست شرطا في صحة القضاء‏,‏ فلو قدم المسبوق أو قدم الحاضرين أو نحوه‏,‏ كان قضاؤه صحيحا‏.‏

فصل‏:‏

وإذا تقدم إليه خصمان فإن شاء قال‏:‏ من المدعي منكما‏؟‏ لأنهما حضرا لذلك وإن شاء سكت‏,‏ ويقول القائم على رأسه‏:‏ من المدعي منكما‏؟‏ إن سكتا جميعا ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لأحدهما‏:‏ تكلم لأن في إفراده بذلك تفضيلا له وتركا للإنصاف قال عمر بن قيس‏:‏ شهدت شريحا إذا جلس إليه الخصمان ورجل قائم على رأسه يقول‏:‏ أيكما المدعي فليتكلم‏؟‏ وإن ذهب الآخر يشغب‏,‏ غمزه حتى يفرغ المدعي ثم يقول‏:‏ تكلم فإن بدأ أحدهما فادعى‏,‏ فقال خصمه‏:‏ أنا المدعي لم يلتفت الحاكم إليه وقال‏:‏ أجب عن دعواه ثم ادع بعد ما شئت فإن ادعيا معا‏,‏ فقياس المذهب أن يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر وقد تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما‏,‏ كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة واستحسن ابن المنذر أن يسمع منهما جميعا وقيل‏:‏ يرجأ أمرهما حتى يتبين المدعي منهما وما ذكرناه أولى لأنه لا يمكن الجمع بين الحكم في القضيتين معا وإرجاء أمرهما إضرار بهما وفيما ذكرنا دفع الضرر بحسب الإمكان‏,‏ وله نظير في مواضع من الشرع فكان أولى‏.‏

فصل‏:‏

ولا يسمع الحاكم الدعوى إلا محررة إلا في الوصية والإقرار لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه‏,‏ فإن اعترف به لزمه ولا يمكنه أن تلزمه مجهولة ويفارق الإقرار فإن الحق عليه فلا يسقط بتركه إثباته‏,‏ وإنما صحت الدعوى في الوصية مجهولة لأنها تصح مجهولة فإنه لو وصى له بشيء أو سهم صح فلا يمكنه أن يدعيها إلا مجهولة كما ثبت وكذلك الإقرار‏,‏ لما صح أن يقر بمجهول صح لخصمه أن يدعي عليه أنه أقر له بمجهول إذا ثبت هذا فإن كان المدعى أثمانا‏,‏ فلا بد من ذكر ثلاثة أشياء الجنس والنوع والقدر‏,‏ فيقول عشرة دنانير بصرية وإن اختلفت بالصحاح والمكسرة قال‏:‏ صحاح أو قال‏:‏ مكسرة وإن كانت الدعوى في غير الأثمان وكانت عينا تنضبط بالصفات‏,‏ كالحبوب والثياب والحيوان احتاج أن يذكر الصفات التي تشترط في السلم وإن ذكر القيمة كان آكد‏,‏ إلا أن الصفة تغني فيه كما تغني في العقد وإن كانت جواهر ونحوها مما لا ينضبط بالصفة فلا بد من ذكر قيمتها لأنها لا تنضبط إلا بها وإن كان المدعى تالفا وهو مما له مثل‏,‏ كالمكيل والموزون ادعى مثله وضبطه بصفته وإن كان مما لا مثل له‏,‏ كالنبات والحيوان ادعى قيمته لأنها تجب بتلفه وإن كان التالف شيئا محلى بفضة أو بذهب قومه بغير جنس حليته‏,‏ وإن كان محلى بذهب وفضة قومه بما شاء منهما لأنه موضع حاجة وإن كان المدعى عقارا فلا بد من بيان موضعه وحدوده‏,‏ فيدعي أن هذه الدار بحدودها وحقوقها لي وأنها في يده ظلما وأنا أطالبه بردها علي وإن ادعى عليه أن هذه الدار لي‏,‏ وأنه يمنعني منها صحت الدعوى وإن لم يقل إنها في يده لأنه يجوز أن ينازعه ويمنعه وإن لم تكن في يده وإن ادعى جراحة لها أرش معلوم كالموضحة من الحر‏,‏ جاز أن يدعي الجراحة ولا يذكر أرشها لأنه معلوم وإن كانت من عبد أو كانت من حر لا مقدر فيها فلا بد من ذكر أرشها وإن ادعى على أبيه دينا‏,‏ لم تسمع الدعوى حتى يدعي أن أباه مات وترك في يده مالا لأن الولد لا يلزمه قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج أن يذكر تركة أبيه ويحررها‏,‏ ويذكر قدرها كما يصنع في قدر الدين هكذا ذكره القاضي والصحيح أنه يحتاج إلى ذكر ثلاثة أشياء تحرير دينه وموت أبيه‏,‏ وأنه وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء لدينه وإن قال‏:‏ ما فيه وفاء لبعض دينه احتاج أن يذكر ذلك القدر والقول قول المدعى عليه في نفي تركة الأب مع يمينه وإن أنكر موت أبيه فالقول قوله مع يمينه‏,‏ ويكفيه أن يحلف على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير وقد يموت ولا يعلم به ابنه ويكفيه أن يحلف أن ما وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء حقه‏,‏ ولا شيء منه ولا يلزمه أن يحلف أن أباه لم يخلف شيئا لأنه قد يخلف تركة فلا تصل إليه فلا يلزمه الإيفاء منه‏,‏ فإن لم يحسن المدعي تحرير الدعوى فهل للحاكم أن يلقنه تحريرها‏؟‏ يحتمل وجهين أحدهما يجوز لأنه لا ضرر على صاحبه في ذلك والثاني‏,‏ لا يجوز لأن فيه إعانة أحد الخصمين في حكومته‏.‏

فصل‏:‏

إذا حرر المدعي دعواه فللحاكم أن يسأل خصمه الجواب قبل أن يطلب منه المدعي ذلك لأن شاهد الحال يدل عليه‏,‏ لأن إحضاره الدعوى إنما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله فيقول لخصمه‏:‏ ما تقول فيما يدعيه‏؟‏ فإن أقر لزمه‏,‏ وليس للحاكم أن يحكم عليه إلا بمسألة‏:‏ المقر له لأن الحكم عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة‏:‏ مستحقة هكذا ذكر أصحابنا ويحتمل أن يجوز له الحكم عليه قبل مسألة المدعي لأن الحال تدل على إرادته ذلك‏,‏ فاكتفى بها كما اكتفى بها في مسألة المدعى عليه الجواب ولأن كثيرا من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك‏,‏ فيترك مطالبته به لجهله فيضيع حقه فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته وعلى القول الأول‏,‏ إن سأله الخصم فقال‏:‏ احكم لي حكم عليه والحكم أن يقول‏:‏ قد ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول‏:‏ اخرج له منه فمتى قال له أحد هذه الثلاثة‏,‏ كان حكما بالحق وإن أنكر فقال‏:‏ لا حق لك قبلي فهذا موضع البينة قال الحاكم‏:‏ ألك بينة‏؟‏ لما روي ‏(‏أن رجلين اختصما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حضرمي وكندي‏,‏ فقال الحضرمي‏:‏ يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي‏:‏ هي أرضي وفي يدي‏,‏ وليس له فيها حق فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي‏:‏ ألك بينة‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فلك يمينه‏)‏ وهو حديث حسن صحيح وإن كان المدعي عارفا بأنه موضع البينة فالحاكم مخير بين أن يقول‏:‏ ألك بينة‏؟‏ وبين أن يسكت فإذا قال له‏:‏ ألك بينة‏؟‏ فذكر أن له بينة حاضرة‏,‏ لم يقل له الحاكم‏:‏ أحضرها لأن ذلك حق له فله أن يفعل ما يرى وإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يسأله ولا يتصرف فيه من غير إذنه‏,‏ فإذا سأله المدعي سؤالها قال‏:‏ من كانت عنده شهادة فليذكرها إن شاء‏؟‏ ولا يقول لهما‏:‏ اشهدا لأنه أمر وكان شريح يقول للشاهدين‏:‏ ما أنا دعوتكما‏,‏ ولا أنهاكما أن ترجعا وما يقضي على هذا المسلم غيركما وإني بكما أقضي اليوم‏,‏ وبكما أتقي يوم القيامة وإن رأى الحاكم عليهما ما يوجب رد شهادتهما ردها كما روي عن شريح أنه شهد عنده شاهد‏,‏ وعليه قباء مخروط الكمين فقال له شريح‏:‏ أتحسن أن تتوضأ‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاحسر عن ذراعيك فذهب يحسر عنهما فلم يستطع‏,‏ فقال له شريح‏:‏ قم فلا شهادة لك وإن أديا الشهادة على غير وجهها مثل أن يقولا‏:‏ بلغنا أن عليه ألفا‏,‏ أو سمعنا ذلك ردت شهادتهما وشهد رجل عند شريح فقال‏:‏ أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات فقال شريح‏:‏ أتشهد أنه قتله‏؟‏ قال‏:‏ أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات قال أتشهد أنه قتله قال أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات قال‏:‏ قم لا شهادة لك وإن كانت شهادة صحيحة‏,‏ وعرف الحاكم عدالتهم قال للمشهود عليه‏:‏ قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهما‏,‏ فبينه عندي فإن سأل الإنظار أنظره اليومين والثلاثة فإن لم يجرح حكم عليه لأن الحق قد وضح على وجه لا إشكال فيه وإن ارتاب بشهادتهم فرقهم‏,‏ فسأل كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول‏:‏ كنت أول من شهد أو كتبت‏,‏ أو لم تكتب وفي أي مكان شهدت وفي أي شهر‏,‏ وأي يوم‏؟‏ وهل كنت وحدك أو معك غيرك‏؟‏ فإن اختلفوا سقطت شهادتهم‏,‏ وإن اتفقوا بحث عن عدالتهم ويقال‏:‏ أول من فعل هذا دنيال ويقال‏:‏ فعله سليمان وهو صغير وروي عن علي رضي الله عنه أن سبعة نفر خرجوا ففقد واحد منهم‏,‏ فأتت زوجته عليا فدعا الستة فسألهم عنه‏,‏ فأنكروا ففرقهم وأقام كل واحد عند سارية‏,‏ ووكل به من يحفظه ودعا واحدا منهم فسأله فأنكر‏,‏ فقال‏:‏ الله أكبر فظن الباقون أنه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للأول‏:‏ قد شهدوا عليك‏,‏ وأنا قاتلك فاعترف فقتلهم وإن لم يعرف عدالتهما بحث عنها‏,‏ فإن لم تثبت عدالتهما قال للمدعي‏:‏ زدني شهودا وإن لم تكن له بينة عرفه الحاكم أن لك يمينه وليس للحاكم أن يستحلفه قبل مسألة المدعي لأن اليمين حق له‏,‏ فلم يجز استيفاؤها من غير مطالبة مستحقها كنفس الحق فإن استحلفه من غير مسألة أو بادر المنكر فحلف‏,‏ لم يعتد بيمينه لأنه أتى بها في غير وقتها وإذا سألها المدعي أعادها له لأن الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف المدعى عليه ثم أراد إحلافه بالدعوى المتقدمة‏,‏ جاز لأنه لم يسقط حقه منها وإنما أخرها وإن قال‏:‏ أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لا يسقط بالإبراء من اليمين فإن استأنف الدعوى‏,‏ فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى‏,‏ ولم يكن للمدعي أن يحلفه يمينا أخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره وإن كان الحق لجماعة فرضوا بيمين واحدة‏,‏ جاز وسقطت دعواهم باليمين لأنها حقهم ولأنه لما جاز ثبوت الحق ببينة واحدة لجماعة جاز سقوطه بيمين واحدة قال القاضي‏:‏ ويحتمل أن لا يصح حتى يحلف لكل واحد يمينا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اليمين حجة في حق الواحد‏,‏ فإذا رضي بها اثنان صارت الحجة في حق كل واحد منهما ناقصة والحجة الناقصة لا تكمل برضى الخصم‏,‏ كما لو رضي أن يحكم عليه بشاهد واحد والصحيح الأول لأن الحق لهما فإذا رضيا به جاز‏,‏ ولا يلزم من رضاهما بيمين واحدة أن يكون لكل واحد بعض اليمين كما أن الحقوق إذا قامت بها بينة واحدة‏,‏ لا يكون لكل حق بعض البينة فأما إن حلفه لجميعهم يمينا واحدة بغير رضاهم لم تصح يمينه بلا خلاف نعلمه وقد حكى الإصطخري‏,‏ أن إسماعيل بن إسحاق القاضي حلف رجلا بحق لرجلين يمينا واحدة فخطأه أهل عصره وإن قال المدعي‏:‏ لي بينة غائبة قال له الحاكم‏:‏ لك يمينه‏,‏ فإن شئت فاستحلفه وإن شئت أخرته إلى أن تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل‏,‏ ولا ملازمته حتى تحضر البينة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك‏)‏ فإن أحلفه ثم حضرت بينته‏,‏ حكم بها ولم تكن مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فإذا وجدت البينة بطلت اليمين‏,‏ وتبين كذبها وإن قال‏:‏ لي بينة حاضرة وأريد يمينه ثم أقيم بينتي لم يملك ذلك وقال أبو يوسف‏:‏ يستحلفه وإن نكل قضى عليه لأن في الاستحلاف فائدة‏,‏ وهو أنه ربما نكل فقضى عليه فأغنى عن البينة ولنا‏,‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك‏)‏ و ‏"‏ أو ‏"‏ للتخيير بين شيئين فلا يكون له الجمع بينهما‏,‏ ولأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها مع إرادة المدعي إقامتها وحضورها كما لو لم يطلب يمينه‏,‏ ولأن اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها كسائر الأبدال مع مبدلاتها‏,‏ وإن قال المدعي‏:‏ لا أريد إقامتها وإنما أريد يمينه أكتفي بها استحلف لأن البينة حقه فإذا رضي بإسقاطها‏,‏ وترك إقامتها فله ذلك كنفس الحق فإن حلف المدعى عليه‏,‏ ثم أراد المدعي إقامة بينته فهل يملك ذلك‏؟‏ يحتمل وجهين أحدهما له ذلك لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف‏,‏ كما لو كانت غائبة والثاني ليس له ذلك لأنه قد أسقط حقه من إقامتها ولأن تجويز إقامتها‏,‏ يفتح باب الحيلة لأنه يقول‏:‏ لا أريد إقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها فإن كان له شاهد واحد في الأموال‏,‏ عرفه الحاكم أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق فإن قال‏:‏ لا أحلف أنا‏,‏ وأرضى بيمينه استحلف له فإذا حلف سقط الحق عنه‏,‏ فإن عاد المدعي بعدها فقال‏:‏ أنا أحلف مع شاهدي لم يستحلف ولم يسمع منه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين فعله وهو قادر عليها‏,‏ فأمكنه أن يسقطها بخلاف البينة وإن عاد قبل أن يحلف المدعى عليه فبذل اليمين‏,‏ فقال القاضي‏:‏ ليس له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا‏:‏ يستحلف المدعى عليه فإن الحاكم يقول له‏:‏ إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك ثلاثا‏,‏ فإن حلف وإلا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك فإن سكت عن جواب الدعوى فلم يقر ولم ينكر‏,‏ حبسه الحاكم حتى يجيب ولا يجعله بذلك ناكلا ذكره القاضي في المجرد وقال أبو الخطاب‏:‏ يقول له الحاكم‏:‏ إن أجبت‏,‏ وإلا جعلتك ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك عليه فإن أجاب وإلا جعله ناكلا‏,‏ وحكم عليه لأنه ناكل عما توجه عليه الجواب فيه فيحكم عليه بالنكول عنه كاليمين‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا حكم على رجل في عمل غيره فكتب بإنفاذ القضاء عليه إلى قاضي ذلك البلد قبل كتابه وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق ‏]‏

ثم الأصل في كتاب القاضي إلى القاضي والأمير إلى الأمير‏,‏ الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو علي وأتوني مسلمين‏}‏ وأما السنة ‏(‏فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي‏,‏ وملوك الأطراف وكان يكتب إلى ولاته ويكتب لعماله وسعاته‏,‏ وكان في كتابه إلى قيصر‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم أما بعد‏,‏ فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرا عظيما فإن توليت‏,‏ فإن عليك إثم الأريسيين ‏{‏ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏}‏‏)‏ وروى الضحاك بن سفيان قال ‏(‏كتب إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها‏)‏ وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي ولأن الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده‏,‏ ولا يمكنه إتيانه والمطالبة به إلا بكتاب القاضي‏,‏ فوجب قبوله إذا ثبت هذا فإن كتاب القاضي يقبل في الأموال وما يقصد به المال‏,‏ ولا يقبل في الحدود كحق الله - تعالى وهل يقبل فيما عدا هذا‏؟‏ على وجهين وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أصحاب الشافعي‏:‏ يقبل في كل حق لآدمي من الجراح وغيرها‏,‏ وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى‏؟‏ على قولين وتمام الكلام في هذا الفصل يذكر في الشهادة على الشهادة -إن شاء الله تعالى- والكتاب على ضربين أحدهما أن يكتب بما حكم به‏,‏ وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق فيغيب قبل إيفائه أو يدعي حقا على غائب‏,‏ ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم عليه‏,‏ ويسأله أن يكتب له كتابا يحمله إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب فيكتب له إليه أو تقوم البينة على حاضر‏,‏ فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحق الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتابا بحكمه ففي هذه الصور الثلاث‏,‏ يلزم الحاكم إجابته إلى الكتابة ويلزم المكتوب إليه قبوله سواء كانت بينهما مسافة بعيدة أو قريبة‏,‏ حتى لو كانا في جانبي بلد أو مجلس لزمه قبوله وإمضاؤه سواء كان حكما على حاضر أو غائب لا نعلم في هذا خلافا لأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حاكم الضرب الثاني‏,‏ أن يكتب يعلمه بشهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل أن تقوم البينة عنده بحق لرجل على آخر ولم يحكم به‏,‏ فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتابا بما حصل عنده فإنه يكتب له أيضا قال القاضي‏:‏ ويكون في كتابه‏:‏ شهد عندي فلان وفلان بكذا وكذا ليكون المكتوب إليه هو الذي يقضي به ولا يكتب‏:‏ ثبت عندي لأن قوله‏:‏ ثبت عندي حكم بشهادتهما‏,‏ فهذا لا يقبله المكتوب إليه إلا في المسافة البعيدة التي هي مسافة القصر‏,‏ ولا يقبله فيما دونها لأنه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يجوز أن يقبله في بلده وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا وقال بعض المتأخرين من أصحابه‏:‏ الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز ذلك في الشهادة على الشهادة واحتج من أجازه بأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده‏,‏ فجاز قبوله مع القرب ككتابه بحكمه ولنا أن ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب إليه‏,‏ فلم يجز مع القرب كالشهادة على الشهادة ويفارق كتابه بالحكم فإن ذلك ليس بنقل‏,‏ وإنما هو خبر وكل موضع يلزمه قبول الكتاب فإنه يأخذ المحكوم عليه بالحق الذي حكم عليه به‏,‏ فيبعث إليه فيستدعيه فإن اعترف بالحق‏,‏ أمره بأدائه وألزمه إياه وإن قال‏:‏ لست المسمى في هذا الكتاب فالقول قوله مع يمينه إلا أن يقيم المدعي بينة أنه المسمى في الكتاب وإن اعترف أن هذا الاسم اسمه‏,‏ والنسب نسبه والصفة صفته إلا أن الحق ليس هو عليه‏,‏ إنما هو على آخر يشاركه في الاسم والنسب والصفة فالقول قول المدعي في نفي ذلك لأن الظاهر عدم المشاركة في هذا كله فإن أقام المدعى عليه بينة بما ادعاه من وجود مشارك له في هذا كله‏,‏ أحضره الحاكم وسأله عن الحق فإن اعترف به‏,‏ ألزمه به وتخلص الأول وإن أنكره‏,‏ وقف الحكم ويكتب إلى الحاكم الكاتب يعلمه الحال وما وقع من الإشكال‏,‏ حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنده بما يتميز به المشهود عليه منهما وإن ادعى المسمى أنه كان في البلد من يشاركه في الاسم والصفة وقد مات‏,‏ نظرنا فإن كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان ممن لم يعاصره المحكوم عليه أو المحكوم له‏,‏ لم يقع إشكال وكان وجوده كعدمه وإن كان موته بعد الحكم أو بعد المعاملة‏,‏ وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له معاملة فقد وقع الإشكال كما لو كان حيا لجواز أن يكون الحق على الذي مات‏.‏

فصل‏:‏

وإذا كتب الحاكم بثبوت بينة‏,‏ أو إقرار بدين جاز وحكم به المكتوب إليه‏,‏ وأخذ المحكوم عليه به وإن كان ذلك عينا كعقار محدود أو عين مشهودة‏,‏ لا تشتبه بغيرها كعبد معروف مشهور أو دابة كذلك‏,‏ حكم به المكتوب إليه أيضا وألزم تسليمه إلى المحكوم له به وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة‏,‏ كعبد غير مشهود أو غيره من الأعيان التي لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان أحدهما‏,‏ لا يقبل كتابه وبه قال أبو حنيفة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوصف لا يكفي بدليل أنه لا يصح أن يشهد لرجل بالوصف والتحلية كذلك المشهود به والثاني‏,‏ يجوز لأنه ثبت في الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه الدين ويخالف المشهود له‏,‏ فإنه لا حاجة إلى ذلك فيه فإن الشهادة له لا تثبت إلا بعد دعواه ولأن المشهود عليه يثبت بالصفة والتحلية‏,‏ فكذلك المشهود به فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وإن كان عبد أو أمة ختم في عنقه‏,‏ وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد الشاهدان على عينه فإن شهدا عليه‏,‏ دفع إلى المشهود له به وإن لم يشهدا على عينه أو قال‏:‏ المشهود به غير هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه‏,‏ ويكون حكمه حكم المغصوب في ضمانه وضمان نقصه ومنفعته فيلزمه أجره إن كان له أجر من يوم أخذه‏,‏ إلى أن يصل إلى صاحبه لأنه أخذه من صاحبه قهرا بغير حق‏.‏

فصل‏:

ومن استوفى الحق من المحكوم عليه فقال للحاكم عليه‏:‏ اكتب لي محضرا بما جرى لئلا يلقاني خصمي في موضع آخر فيطالبني به مرة أخرى ففيه وجهان أحدهما‏,‏ تلزمه إجابته ليخلص من المحذور الذي يخافه والثاني لا تلزمه لأن الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به‏,‏ فأما استئناف ابتداء فيكفيه فيه الإشهاد فيطالبه أن يشهد على نفسه بقبض الحق لأن الحق ثبت عليه بالشهادة والأول أصح لأنه قد حكم عليه بهذا الحق‏,‏ ويخاف الضرر بدون المحضر فأشبه ما حكم به ابتداء وإن طالب المحكوم له بدفع الكتاب الذي ثبت به الحق لم يلزمه دفعه إليه لأنه ملكه‏,‏ فلا يجب عليه دفعه إلى غيره وكذلك كل من له كتاب بدين فاستوفاه أو عقار فباعه‏,‏ لا يلزمه دفع الكتاب لأنه ملكه ولأنه يجوز أن يخرج ما قبضه مستحقا فيعود إلى ماله‏.‏

فصل‏:‏

ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر وإلى قاضي قرية‏,‏ ومن قاضي قرية إلى قاضي قرية وقاضي مصر ومن القاضي إلى خليفته ومن خليفته إليه لأنه كتاب من قاض إلى قاض‏,‏ فأشبه ما لو استويا ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى من وصله كتابي من قضاة المسلمين وحكامهم من غير تعيين‏,‏ ويلزم من وصله قبوله وبهذا قال أبو ثور واستحسنه أبو يوسف وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز أن يكتب إلى غير معين ولنا أنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم‏,‏ فلزمه قبوله كما لو كان الكتاب إليه بعينه‏.‏

فصل‏:‏

وصفة الكتاب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم سبب هذا الكتاب أطال الله بقاء من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم أنه ثبت عندي في مجلس حكمي وقضائي‏,‏ الذي أتولاه بمكان كذا وإن كان نائبا قال‏:‏ الذي أنوب فيه عن القاضي فلان بمحضر من خصمين مدع‏,‏ ومدعى عليه جاز استماع الدعوى منهما وقبول البينة من أحدهما على الآخر‏,‏ بشهادة فلان وفلان وهما من الشهود المعدلين عندي عرفتهما‏,‏ وقبلت شهادتهما بما رأيت معه قبولها معرفة فلان بن فلان الفلاني بعينه واسمه ونسبه فإن كان في إثبات أسر أسير قال‏:‏ وإن الفرنج‏,‏ خذلهم الله أسروه بمكان كذا في وقت كذا‏,‏ وأخذوه إلى مكان كذا وهو مقيم تحت حوطتهم أبادهم الله‏,‏ وإنه رجل فقير من فقراء المسلمين ليس له شيء من الدنيا ولا يقدر على فكاك نفسه‏,‏ ولا على شيء منه وإنه مستحق للصدقة على ما يقتضيه كتاب المحضر المشار إليه‏,‏ المتصل أوله بآخر كتابي هذا المؤرخ بكذا وإن كان في إثبات دين كتب‏:‏ وإنه استحق في ذمة فلان بن فلان الفلاني - ويرفع في نسبه ويصفه بما يتميز به من الدين - كذا وكذا‏,‏ دينا عليه حالا وحقا واجبا لازما وإنه يستحق مطالبته واستيفاءه منه وإن كان في إثبات عين‏,‏ كتب‏:‏ وإنه مالك لما في يدي فلان من الشيء الفلاني - ويصفه صفة يتميز بها - مستحق لأخذه وتسليمه على ما يقتضيه كتاب المحضر المتصل بآخر كتابي هذا المؤرخ بتاريخ كذا‏,‏ وقال الشاهدان المذكوران‏:‏ إنهما بما شهدا به منه عالمان وله محققان وإنهما لا يعلمان خلاف ما شهدا به إلى حين أقاما الشهادة عندي‏,‏ فأمضيت ما ثبت عندي من ذلك وحكمت بموجبه بسؤال من جازت مسألته وسألني من جاز سؤاله‏,‏ وسوغت الشريعة المطهرة إجابته المكاتبة بذلك إلى القضاة والحكام فأجبته إلى ملتمسه لجوازه له شرعا وتقدمت بهذا الكتاب فكتب‏,‏ وبإلصاق المحضر المشار إليه فألصق فمن وقف عليه منهم وتأمل ما ذكرته‏,‏ وتصفح ما سطرته واعتمد في إنفاذه والعمل بموجب ما يوجبه الشرع المطهر أحرز من الأجر أجزله وكتب من مجلس الحكم المحروس‏,‏ من مكان كذا في وقت كذا ولا يشترط أن يذكر القاضي اسمه في العنوان ولا ذكر اسم المكتوب إليه في باطنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا لم يذكر اسمه‏,‏ فلا يقبل لأن الكتاب ليس إليه ولا يكفي ذكر اسمه في العنوان دون باطنه لأن ذلك لم يقع على وجه المخاطبة ولنا أن المعول فيه على شهادة الشاهدين على القاضي الكاتب بالحكم‏,‏ وذلك لا يقدح فيها ولو ضاع الكتاب أو امتحا سمعت شهادتهما‏,‏ وحكم بها‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدلين يقولان‏:‏ قرأه علينا أو قرئ عليه بحضرتنا‏,‏ فقال‏:‏ اشهدا علي أنه كتابي إلى فلان ‏]‏

وجملته أنه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة أحدها أن يشهد به شاهدان عدلان ولا يكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب‏,‏ وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول أئمة الفتوى وحكي عن الحسن‏,‏ وسوار والعنبري أنهم قالوا‏:‏ إذا كان يعرف خطه وختمه‏,‏ قبله وهو قول أبي ثور والإصطخري ويتخرج لنا مثله بناء على قوله في الوصية إذا وجدت بخطه لأن ذلك تحصل به غلبة الظن فأشبه شهادة الشاهدين ولنا‏,‏ أن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كإثبات العقود ولأن الخط يشبه الخط‏,‏ والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط‏,‏ كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما ذكروه إذا ثبت هذا فإن القاضي إذا كتب الكتاب‏,‏ دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما‏,‏ والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرآه فإن لم ينظرا جاز لأنه لا يستقرئ إلا ثقة‏,‏ فإذا قرئ عليهما قال‏:‏ اشهدا علي أن هذا كتابي إلى فلان وإن قال‏:‏ اشهدا علي بما فيه كان أولى وإن اقتصر على قوله‏:‏ هذا كتابي إلى فلان فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ لأنه يحملهما الشهادة فاعتبر فيه أن يقول‏:‏ اشهدا علي كالشهادة على الشهادة وقال القاضي‏:‏ يجزئ وهو مذهب الشافعي ثم إن كان ما في الكتاب قليلا‏,‏ اعتمد على حفظه وإن كثر فلم يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه‏,‏ وقابل بها لتكون معه يذكر بها ما يشهد به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع إليهما غيره‏,‏ فإذا وصل الكتاب معهما إليه قرأه الحاكم أو غيره عليهما فإذا سمعاه قالا‏:‏ نشهد أن هذا كتاب فلان القاضي إليك‏,‏ أشهدنا على نفسه بما فيه لأنه قد يكون كتابه غير الذي أشهدهما عليه قال أبو الخطاب‏:‏ ولا يقبل إلا أن يقولا‏:‏ نشهد أن هذا كتاب فلان لأنها أداء شهادة فلا بد فيها من لفظ الشهادة ويجب أن يقولا‏:‏ من عمله لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل من مجلس عمله وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم مقبولا أو غير مقبول لأن الاعتماد على شهادتهما‏,‏ لا على الخط والختم فإن امتحا الكتاب وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما أن يشهدا بذلك‏,‏ وإن لم يحفظا ما فيه لم تمكنهما الشهادة وقال أبو حنيفة وأبو ثور‏:‏ لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي ولنا ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابا إلى قيصر‏,‏ ولم يختمه فقيل له‏:‏ إنه لا يقرأ كتابا غير مختوم فاتخذ الخاتم‏)‏ واقتصاره على الكتاب دون الختم‏,‏ دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول وإنما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقرءوا كتابه ولأنهما شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه‏,‏ فوجب قبوله كما لو وصل مختوما وشهدا بالختم إذا ثبت هذا فإنه إنما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب‏,‏ وما يتعلق به الحكم قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر‏؟‏ قال‏:‏ إذا حفظ فليشهد قيل‏:‏ كيف يحفظ‏,‏ وهو كلام كثير قال‏:‏ يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع قلت‏:‏ يحفظ المعنى‏؟‏ قال‏:‏ نعم قيل له‏:‏ والحدود والثمن وأشباه ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم ولو أدرج الكتاب وختمه وقال‏:‏ هذا كتابي‏,‏ اشهدا علي بما فيه أو قد‏:‏ أشهدتكما على نفسي بما فيه لم يصح هذا التحمل وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو يوسف‏:‏ إذا ختمه بختمه وعنوانه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا‏,‏ فإذا وصل الكتاب شهدا عنده أنه كتاب فلان ويتخرج لنا مثل هذا لأنهما شهدا بما في الكتاب فجاز وإن لم يعلما تفصيله‏,‏ كما لو شهدا لرجل بما في هذا الكيس من الدراهم جازت الشهادة وإن لم يعرفا قدرها ولنا‏,‏ أنهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو شهدا أن لفلان على فلان مالا وفارق ما ذكره‏,‏ فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها وها هنا الشهادة على ما في الكتاب دون الكتاب وهما لا يعرفانه الشرط الثاني‏,‏ أن يكتبه القاضي من موضع ولايته وحكمه فإن كتبه من غير ولايته لم يسغ قبوله لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو فيه كالعامي الشرط الثالث‏,‏ أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته فإن وصله في غيره لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته ولو ترافع إليه خصمان في غير موضع ولايته‏,‏ لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته إلا أن يتراضيا به فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به‏,‏ وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا ولو ترافع إليه خصمان وهو في موضع ولايته من غير أهل ولايته‏,‏ كان له الحكم بينهما لأن الاعتبار بموضعهما إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان‏,‏ فيكون الأمر على ما أذن فيه ومنع منه لأن الولاية بتوليته فيكون الحكم على وفقها‏.‏

فصل‏:‏

في تغيير حال القاضي‏:‏ ولا يخلو من أن يتغير حال الكاتب أو المكتوب إليه أو حالهما معا‏,‏ فإن تغيرت حال الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب‏,‏ وأشهد على نفسه لم يقدح في كتابه وكان على من وصله الكتاب قبوله‏,‏ والعمل به سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من يده أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يعمل به في الحالين وقال أبو يوسف‏:‏ إن مات قبل خروجه من يده‏,‏ لم يعمل به وإن مات بعد خروجه من يده عمل به لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة‏,‏ لأنه ينقل شهادة شاهدي الأصل فإذا مات قبل وصول الكتاب صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبل أداء شهادتهما ولنا‏,‏ أن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن يقبل كتابه كما لو لم يمت‏,‏ ولأن كتابه إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بموته وعزله وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة‏,‏ فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهد الأصل‏,‏ وما ذكروه حجة عليهم لأن الحاكم قد أشهد على نفسه وإنما يشهد عند المكتوب إليه شاهدان عليه وهما حيان‏,‏ وهما شاهدا الفرع وليس موته مانعا من شهادتهما فلا يمنع قبولها‏,‏ كموت شاهدي الأصل وإن تغيرت حاله بفسق قبل الحكم بكتابته لم يجز الحكم به لأن حكمه بعد فسقه لا يصح فكذلك لا يجوز الحكم بكتابه‏,‏ ولأن بقاء عدالة شاهدي الأصل شرط في صحة الحكم بشاهدي الفرع فكذلك بقاء عدالة الحاكم لأنه بمنزلة شاهدي الأصل وإن فسق بعد الحكم بكتابه لم يتغير كما لو حكم بشيء ثم بان فسقه‏,‏ فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه كهذا ها هنا وأما إن تغيرت حال المكتوب إليه بأي حال كان من موت أو عزل‏,‏ أو فسق فلمن وصل إليه الكتاب ممن قام مقامه قبول الكتاب‏,‏ والعمل به وبه قال الحسن حكي عنه أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولى الحسن‏,‏ فعمل به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يعمل به لأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة عند المكتوب إليه وإذا شهد شاهدان عند قاض لم يحكم بشهادتهما غيره ولنا‏,‏ أن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأول أو ثبوت الشهادة عنده‏,‏ وقد شهدا عند الثاني فوجب أن يقبل كالأول وقولهم‏:‏ إنه شهادة عند الذي مات ليس بصحيح فإن الحاكم الكاتب ليس بفرع ولو كان فرعا لم يقبل وحده‏,‏ وإنما الفرع الشاهدان اللذان شهدا عليه وقد أديا الشهادة عند المتجدد ولو ضاع الكتاب‏,‏ فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب إليه قبل فدل ذلك على أن الاعتبار بشهادتهما دون الكتاب‏,‏ وقياس ما ذكرناه أن الشاهدين لو حملا الكتاب إلى غير المكتوب إليه في حال حياته وشهدا عنده‏,‏ عمل به لما بيناه وإن كان المكتوب إليه خليفة للكاتب فمات الكاتب أو عزل‏,‏ انعزل المكتوب إليه لأنه نائب عنه فينعزل بعزله وموته كوكلائه وقال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ لا ينعزل خليفته‏,‏ كما لا ينعزل القاضي الأصلي بموت الإمام ولا عزله ولنا ما ذكرناه‏,‏ ويفارق الإمام لأن الإمام يعقد القضاء والإمارة للمسلمين فلم يبطل ما عقده لغيره كما لو مات الولي في النكاح‏,‏ لم يبطل النكاح ولهذا ليس للإمام أن يعزل القاضي من غير تغير حاله ولا ينعزل إذا عزله‏,‏ بخلاف نائب الحاكم فإنه تنعقد ولايته لنفسه نائبا عنه فملك عزله‏,‏ ولأن القاضي لو انعزل بموت الإمام لدخل الضرر على المسلمين لأنه يفضي إلى عزل القضاة في جميع بلاد المسلمين وتتعطل الأحكام‏,‏ وإذا ثبت أنه لا ينعزل فليس له قبول الكتاب لأنه حينئذ ليس بقاض‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا تقبل الترجمة عن أعجمي تحاكم إليه إذا لم يعرف لسانه‏,‏ إلا من عدلين يعرفان لسانه ‏]‏

وجملته أنه إذا تحاكم إلى القاضي العربي أعجميان لا يعرف لسانهما أو أعجمي وعربي‏,‏ فلا بد من مترجم عنهما ولا تقبل الترجمة إلا من اثنين عدلين وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنها تقبل من واحد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز‏,‏ وابن المنذر وقول أبي حنيفة وقال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت‏,‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يتعلم كتاب يهود قال‏:‏ فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا ولأنه مما لا يفتقر إلى لفظ الشهادة فأجزأ فيه الواحد‏,‏ كأخبار الديانات ولنا أنه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتخاصمين‏,‏ فوجب فيه العدد كالشهادة ويفارق أخبار الديانات فإنها لا تتعلق بالمتخاصمين‏,‏ ولا نسلم أنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كعدمه فإذا ترجم له‏,‏ كان كنقل الإقرار إليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا ها هنا فعلى هذه الرواية‏,‏ تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بذلك الحق فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص‏,‏ اعتبر فيه الحرية ولم يكف إلا شاهدان ذكران وإن كان مما لا يتعلق بها كفى فيه ترجمة رجل وامرأتين ولم تعتبر الحرية فيه وإن كان في حد زنى‏,‏ خرج في الترجمة فيه وجهان أحدهما لا يكفي فيه أقل من أربعة رجال أحرار عدول والثاني يكفي فيه اثنان بناء على الروايتين في الشهادة على الإقرار به‏,‏ ويعتبر فيه لفظ الشهادة لأنه شهادة وإن قلنا‏:‏ يكفي فيه واحد فلا بد من عدالته ولا ولا تقبل من كافر ولا فاسق وتقبل من العبد لأنه من أهل الشهادة والرواية وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تقبل من العبد لأنه ليس من أهل الشهادة ولنا أنه خبر يكفي فيه قول الواحد‏,‏ فيقبل فيه خبر العبد كأخبار الديانات ولا نسلم أن هذه شهادة‏,‏ ولا أن العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا الأصل ينبغي أن تقبل ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها مقبولة‏.‏

فصل‏:‏

والحكم في التعريف ، والرسالة ، والجرح والتعديل ، كالحكم في الترجمة ، وفيها من الخلاف ما فيها ‏.‏ ذكره الشريف أبو جعفر ، وأبو الخطاب وقد ذكرنا الجرح والتعديل فيما مضى ‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا عزل‏,‏ فقال‏:‏ كنت حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحق قبل قوله وأمضي ذلك الحق ‏]‏

وبهذا قال إسحاق قال أبو الخطاب‏:‏ ويحتمل أن لا يقبل قوله وقول القاضي في فروع هذه المسألة‏:‏ يقتضي أن لا يقبل قوله ها هنا وهو قول أكثر الفقهاء لأن من لا يملك الحكم‏,‏ لا يملك الإقرار به كمن أقر بعتق عبد بعد بيعه ثم اختلفوا فقال الأوزاعي‏,‏ وابن المنذر وابن أبي ليلى‏:‏ هو بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد آخر قبل وقال أصحاب الرأي‏:‏ لا يقبل إلا شاهدان سواه‏,‏ يشهدان بذلك وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن شهادته على فعل نفسه لا تقبل ولنا أنه لو كتب إلى غيره ثم عزل‏,‏ ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه قبول كتابه بعد عزل كاتبه فكذلك ها هنا ولأنه أخبر بما حكم به‏,‏ وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته‏.‏

فصل‏:‏

فأما إن قال في ولايته‏:‏ كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله‏,‏ سواء قال‏:‏ قضيت عليه بشاهدين عدلين أو قال‏:‏ سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال‏:‏ قضيت عليه بنكوله أو قال‏:‏ أقر عندي فلان لفلان بحق فحكمت به وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي‏,‏ وأبو يوسف وحكي عن محمد بن الحسن‏:‏ أنه لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل لأن فيه إخبارا بحق على غيره فلم يقبل قول واحد كالشهادة ولنا‏,‏ أنه يملك الحكم فملك الإقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق‏,‏ والسيد إذا أخبر بالعتق ولأنه لو أخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به‏,‏ قبل كذا ها هنا وفارق الشهادة‏,‏ فإن الشاهد لا يملك إثبات ما أخبر به فأما إن قال‏:‏ حكمت بعلمي أو بالنكول أو بشاهد ويمين في الأموال فإنه يقبل أيضا وقال الشافعي‏:‏ لا يقبل قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله‏:‏ حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز القضاء بعلمه لأنه لا يملك الحكم بذلك‏,‏ فلا يملك الإقرار به ولنا أنه أخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله‏,‏ كالصور التي تقدمت ولأنه حاكم أخبر بحكمه في ولايته‏,‏ فوجب قبوله كالذي سلمه ولأن الحاكم إذا حكم في مسألة‏,‏ يسوغ فيها الاجتهاد لم يسغ نقض حكمه ولزم غيره إمضاؤه والعمل به‏,‏ فصار بمنزلة الحكم بالبينة العادلة ولا نسلم ما ذكره وإن قال‏:‏ حكمت لفلان على فلان بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر مسألة الخرقي فإنه لم يذكر ما ثبت به الحكم‏,‏ وذلك لأن الحاكم متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله وصار بمنزلة ما أجمع عليه‏.‏

فصل‏:

وإذا أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته‏,‏ فظاهر كلام الخرقي أن قوله مقبول وخبره نافذ لأنه إذا قبل قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلأن يقبل مع بقائها في غير موضع ولايته أولى وقال القاضي‏:‏ لا يقبل قوله وقال‏:‏ لو اجتمع قاضيان في غير ولايتهما‏,‏ كقاضي دمشق وقاضي مصر اجتمعا في بيت المقدس فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به‏,‏ أو شهادة ثبتت عنده لم يقبل أحدهما قول صاحبه ويكونان كشاهدين أخبر أحدهما الآخر بما عنده‏,‏ وليس له أن يحكم به إذا رجع إلى عمله لأنه خبر من ليس بقاض في موضعه وإن كانا جميعا في عمل أحدهما كأنهما اجتمعا جميعا في دمشق فإن قاضي دمشق لا يعمل بما أخبره به قاضي مصر لأنه يخبره به في غير عمله وهل يعمل قاضي مصر بما أخبره به قاضي دمشق إذا رجع إلى مصر‏؟‏ فيه وجهان بناء على القاضي‏,‏ هل له أن يقضي بعلمه‏؟‏ على روايتين لأن قاضي دمشق أخبره به في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ها هنا‏.‏

فصل‏:‏

إذا ولى الإمام قاضيا ثم مات لم ينعزل لأن الخلفاء رضي الله عنهم ولوا حكاما في زمنهم‏,‏ فلم ينعزلوا بموتهم ولأن في عزله بموت الإمام ضررا على المسلمين فإن البلدان تتعطل من الحكام‏,‏ وتقف أحكام الناس إلى أن يولي الإمام الثاني حاكما وفيه ضرر عظيم وكذلك لا ينعزل القاضي إذا عزل الإمام لما ذكرنا فأما إن عزله الإمام الذي ولاه أو غيره ففيه وجهان‏,‏ أحدهما‏:‏ لا ينعزل وهو مذهب الشافعي لأنه عقده لمصلحة المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما لو عقد النكاح على موليته‏,‏ لم يكن له فسخه والثاني له عزله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لأعزلن أبا مريم وأولين رجلا إذا رآه الفاجر فرقه فعزله عن قضاء البصرة‏,‏ وولى كعب بن سوار مكانه وولى علي رضي الله عنه أبا الأسود ثم عزله فقال‏:‏ لم عزلتني‏,‏ وما خنت ولا جنيت‏؟‏ فقال‏:‏ إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين ولأنه يملك عزل أمرائه وولاته على البلدان فكذلك قضاته وقد كان عمر رضي الله عنه يولي ويعزل‏,‏ فعزل شرحبيل بن حسنة عن ولايته في الشام وولى معاوية فقال له شرحبيل‏:‏ أمن جبن عزلتني‏,‏ أو خيانة‏؟‏ قال‏:‏ من كل لا ولكن أردت رجلا أقوى من رجل وعزل خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة وقد كان يولي بعض الولاة الحكم مع الإمارة‏,‏ فولى أبا موسى البصرة قضاءها وإمرتها ثم كان يعزلهم هو ومن لم يعزله عزله عثمان بعده إلا القليل منهم فعزل القاضي أولى‏,‏ ويفارق عزله بموت من ولاه أو عزله لأن فيه ضررا وها هنا لا ضرر فيه لأنه لا يعزل قاضيا حتى يولي آخر مكانه ولهذا لا ينعزل الوالي بموت الإمام‏,‏ وينعزل بعزله وقد ذكر أبو الخطاب في عزله بالموت أيضا وجهين والأولى -إن شاء الله تعالى-‏,‏ ما ذكرناه فأما إن تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من القضاء‏,‏ أو اختل فيه بعض شروطه فإنه ينعزل بذلك ويتعين على الإمام عزله‏,‏ وجها واحدا‏.‏

فصل‏:‏

وللإمام تولية القضاء في بلده وغيره لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولى عمر بن الخطاب القضاء وولى عليا ومعاذا وقال عثمان بن عفان لابن عمر‏:‏ إن أباك قد كان يقضي وهو خير منك قال‏:‏ إن أبي قد كان يقضي وإن أشكل عليه شيء‏,‏ سأل عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث رواه عمر بن شبة في كتاب ‏"‏ قضاة البصرة ‏"‏ وروى سعيد في ‏"‏ سننه ‏"‏ عن عمرو بن العاص قال‏:‏ ‏(‏جاء خصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي‏:‏ يا عمرو‏,‏ اقض بينهما قلت‏:‏ أنت أولى بذلك مني يا رسول الله قال‏:‏ إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات وإن أخطأت‏,‏ فلك حسنة‏)‏ وعن عقبة بن عامر مثله ولأن الإمام يشتغل بأشياء كثيرة من مصالح المسلمين فلا يتفرغ للقضاء بينهم فإذا ولى قاضيا استحب أن يجعل له أن يستخلف لأنه قد يحتاج إلى ذلك‏,‏ فإذا أذن له في الاستخلاف جاز له بلا خلاف نعلمه وإن نهاه عنه‏,‏ لم يكن له أن يستخلف لأن ولايته بإذنه فلم يكن له ما نهاه عنه كالوكيل‏,‏ وإن أطلق فله الاستخلاف ويحتمل أن لا يكون له ذلك لأنه يتصرف بالإذن فلم يكن له ما لم يأذن فيه‏,‏ كالوكيل ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان ووجه الأول أن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين فإذا فعله بنفسه أو بغيره‏,‏ جاز كما لو أذن له ويفارق التوكيل لأن الإمام يولي القضاء للمسلمين‏,‏ لا لنفسه بخلاف التوكيل فإن استخلف في موضع ليس له الاستخلاف‏,‏ فحكمه حكم من لم يول‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز أن يولي قاضيا عموم النظر في خصوص العمل فيقلده النظر في جميع الأحكام في بلد بعينه فينفذ حكمه فيمن سكنه‏,‏ ومن أتى إليه من غير سكانه ويجوز أن يقلده خصوص النظر في عموم العمل فيقول‏:‏ جعلت إليك الحكم في المداينات خاصة في جميع ولايتي ويجوز أن يجعل حكمه في قدر من المال‏,‏ نحو أن يقول‏:‏ احكم في المائة فما دونها فلا ينفذ حكمه في أكثر منها ويجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل وخصوص النظر في خصوص العمل ويجوز أن يولي قاضيين وثلاثة في بلد واحد يجعل لكل واحد عملا‏,‏ فيولي أحدهم عقود الأنكحة والآخر الحكم في المداينات وآخر النظر في العقار ويجوز أن يولي كل واحد منهم عموم النظر في ناحية من نواحي البلد‏,‏ فإن قلد قاضيين أو أكثر عملا واحدا في مكان واحد ففيه وجهان أحدهما‏,‏ لا يجوز اختاره أبو الخطاب وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه يؤدي إلى إيقاف الحكم والخصومات لأنهما يختلفان في الاجتهاد‏,‏ ويرى أحدهما ما لا يرى الآخر والآخر يجوز ذلك وهو قول أصحاب أبي حنيفة وهو أصح -إن شاء الله تعالى- لأنه يجوز أن يستخلف في البلدة التي هو فيها‏,‏ فيكون فيها قاضيان فجاز أن يكون فيها قاضيان أصليان ولأن الغرض فصل الخصومات‏,‏ وإيصال الحق إلى مستحقه وهذا يحصل فأشبه القاضي ولأنه يجوز للقاضي أن يستخلف خليفتين في موضع واحد‏,‏ فالإمام أولى لأن توليته أقوى وقولهم‏:‏ يفضي إلى إيقاف الحكومات غير صحيح فإن كل حاكم يحكم باجتهاده بين المتخاصمين إليه وليس للآخر الاعتراض عليه‏,‏ ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده‏.‏

فصل‏:

وإذا قال الإمام‏:‏ من نظر في الحكم من فلان وفلان فقد وليته لم تنعقد الولاية لمن نظر لأنه علقها على شرط ولم يعين بالولاية أحدا منهم ويحتمل أن تنعقد الولاية لمن نظر لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏أميركم زيد‏,‏ فإن قتل فأميركم جعفر فإن قتل فأميركم عبد الله بن رواحة‏)‏ فعلق ولاية الإمارة على شرط فكذلك ولاية الحكم وإن قال‏:‏ وليت فلانا وفلانا‏,‏ فأيهما نظر فهو خليفتي انعقدت الولاية لمن نظر منهم لأنه عقد الولاية لهما جميعا‏.‏

فصل‏:

ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي ولم أعلم فيه خلافا لأن الله - تعالى قال‏:‏ ‏{‏فاحكم بين الناس بالحق‏}‏ والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط‏,‏ وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع‏.‏

فصل‏:‏

وإن فوض الإمام إلى إنسان تولية القضاء جاز لأنه يجوز أن يتولى ذلك فجاز له التوكيل فيه‏,‏ كالبيع وإن فوض إليه اختيار قاض جاز ولا يجوز له اختيار نفسه‏,‏ ولا والده ولا ولده كما لو وكله في الصدقة بمال‏,‏ لم يجز له أخذه ولا دفعه إلى هذين ويحتمل أنه يجوز له اختيارهما إذا كانا صالحين للولاية لأنهما يدخلان في عموم من أذن له في الاختيار منه‏,‏ مع أهليتهما فأشبها الأجانب‏.‏

فصل‏:‏

وليس للحاكم أن يحكم لنفسه كما لا يجوز أن يشهد لنفسه‏,‏ فإن عرضت له حكومة مع بعض الناس جاز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه أو بعض رعيته فإن عمر حاكم أبيا إلى زيد‏,‏ وحاكم رجلا عراقيا إلى شريح وحاكم على اليهودي إلى شريح وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم‏,‏ فإن عرضت حكومة لوالديه أو ولده أو من لا تقبل شهادته له‏,‏ ففيه وجهان أحدهما لا يجوز له الحكم فيها بنفسه وإن حكم‏,‏ لم ينفذ حكمه وهذا قول أبي حنيفة والشافعي لأنه لا تقبل شهادته له فلم ينفذ حكمه له كنفسه والثاني‏,‏ ينفذ حكمه اختاره أبو بكر وهو قول أبي يوسف وابن المنذر‏,‏ وأبي ثور لأنه حكم لغيره أشبه الأجانب وعلى القول الأول متى عرضت لهؤلاء حكومة‏,‏ حكم بينهم الإمام أو حاكم آخر أو بعض خلفائه‏,‏ فإن كانت الخصومة بين والديه أو ولديه أو والده وولده‏,‏ لم يجز له الحكم بينهما على أحد الوجهين لأنه لا تقبل شهادته لأحدهما على الآخر فلم يجز الحكم بينهما‏,‏ كما لو كان خصمه أجنبيا وفي الآخر يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنهما سواء عنده فارتفعت تهمة الميل‏,‏ فأشبها الأجنبيين‏.‏

فصل‏:‏

وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم بينهما‏,‏ جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما وبهذا قال أبو حنيفة وللشافعي قولان أحدهما لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به‏,‏ ولا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له‏:‏ ‏(‏إن الله هو الحكم فلم تكنى أبا الحكم‏؟‏ قال‏:‏ إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني‏,‏ فحكمت بينهم ورضي علي الفريقان قال‏:‏ ما أحسن هذا فمن أكبر ولدك‏؟‏ قال‏:‏ شريح قال‏:‏ ‏"‏فأنت أبو شريح‏"‏‏)‏ أخرجه النسائي وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏من حكم بين اثنين تراضيا به‏,‏ فلم يعدل بينهما فهو ملعون‏)‏ ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم‏,‏ ولأن عمر وأبيا تحاكما إلى زيد وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم‏,‏ ولم يكونوا قضاة فإن قيل‏:‏ فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا قلنا‏:‏ لم ينقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يصير قاضيا‏,‏ وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله فإنه يلزمه قبل المعرفة به إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض به حكم من له ولاية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ للحاكم نقضه إذا خالف رأيه لأن هذا عقد في حق الحاكم‏,‏ فملك فسخه كالعقد الموقوف في حقه ولنا أن هذا حكم صحيح لازم‏,‏ فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية وما ذكروه غير صحيح‏,‏ فإن حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفا‏؟‏ ولو كان كذلك لملك فسخه‏,‏ وإن لم يخالف رأيه ولا نسلم الوقوف في العقود إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم لأنه لا يثبت إلا برضاه‏,‏ فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان أحدهما له ذلك لأن الحكم لم يتم‏,‏ أشبه قبل الشروع والثاني ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع‏,‏ فيبطل المقصود به‏.‏

فصل‏:

قال القاضي‏:‏ وينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء النكاح واللعان والقذف‏,‏ والقصاص لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم مقامه وقال أبو الخطاب‏:‏ ظاهر كلام أحمد‏,‏ أنه ينفذ حكمه فيها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا كتب هذا القاضي بما حكم به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله‏,‏ وتنفيذ كتابه لأنه حاكم نافذ الأحكام فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ويحكم على الغائب‏,‏ إذا صح الحق عليه ‏]‏

وجملته أن من ادعى حقا على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه‏,‏ فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشرائط وبهذا قال ابن شبرمة ومالك والأوزاعي‏,‏ والليث وسوار وأبو عبيد‏,‏ وإسحاق وابن المنذر وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وعن أحمد مثله وبه قال ابن أبي ليلى والثوري‏,‏ وأبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن القاسم والشعبي إلا أن أبا حنيفة قال‏:‏ إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع‏,‏ جاز الحكم عليه واحتجوا بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعلي‏:‏ ‏(‏إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك تدري بما تقضي‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده‏,‏ فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة‏,‏ ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه ولنا ‏(‏أن هندا قالت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح‏,‏ وليس يعطيني ما يكفيني وولدي‏؟‏ قال‏:‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏ متفق عليه فقضى لها ولم يكن حاضرا‏,‏ ولأن هذا له بينة مسموعة عادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضرا وقد وافقنا أبو حنيفة في سماع البينة‏,‏ ولأن ما تأخر عن سؤال المدعي إذا كان حاضرا يقدم عليه إذا كان غائبا كسماع البينة وأما حديثهم‏,‏ فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين‏,‏ ويفارق الحاضر الغائب فإن البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته والغائب بخلافه وقد ناقض أبو حنيفة أصله‏,‏ فقال‏:‏ إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجا غائبا وله مال في يد رجل وتحتاج إلى النفقة‏,‏ فاعترف لها بذلك فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة ولو ادعى رجل على حاضر‏,‏ أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة وأقام بينة بذلك حكم له بالبيع والأخذ بالشفعة‏,‏ ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته أو حضر وكيل الغائب‏,‏ وأقام المدعي بينة بذلك حكم له بما ادعاه إذا ثبت هذا فإنه إن قدم الغائب قبل الحكم‏,‏ وقف الحكم على حضوره فإن جرح الشهود لم يحكم عليه‏,‏ وإن استنظر الحاكم أجله ثلاثا فإن جرحهم‏,‏ وإلا حكم عليه وإن ادعى القضاء أو الإبراء فكانت له بينة برئ وإلا حلف المدعي‏,‏ وحكم له وإن قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة‏,‏ بطل الحكم وإن جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقا لم يبطل الحكم‏,‏ ولم يقبله الحاكم لأنه يجوز أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه وإن طلب التأجيل أجل ثلاثا‏,‏ فإن جرحهم وإلا نفذ الحكم وإن ادعى القضاء أو الإبراء‏,‏ فكانت له به بينة وإلا حلف الآخر ونفذ الحكم‏.‏

فصل‏:‏

ولا يقضي على الغائب إلا في حقوق الآدميين فأما في الحدود التي لله تعالى‏,‏ فلا يقضي بها عليه لأن مبناها على المساهلة والإسقاط فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع‏.‏

فصل‏:‏

وإذا قامت البينة على غائب‏,‏ أو غير مكلف كالصبي والمجنون لم يستحلف المدعي مع بينته‏,‏ في أشهر الروايتين لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه‏)‏ ولأنها بينة عادلة فلم تجب اليمين معها‏,‏ كما لو كانت على حاضر والرواية الثانية يستحلف معها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون استوفى ما قامت به البينة أو ملكه العين التي قامت بها البينة‏,‏ ولو كان حاضرا فادعى ذلك لوجبت اليمين فإذا تعذر ذلك منه لغيبته‏,‏ أو عدم تكليفه يجب أن يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن دعواه ولأن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الصبي والمجنون والغائب‏,‏ لأن كل واحد منهم لا يعبر عن نفسه وهذا من الاحتياط‏.‏

فصل‏:‏

ظاهر كلام الخرقي أنه إذا قضى على الغائب بعين‏,‏ سلمت إلى المدعي وإن قضى عليه بدين ووجد له مال‏,‏ وفي منه فإنه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة أن له سهما من ضيعة في أيدي قوم‏,‏ فتواروا عنه‏:‏ يقسم عليهم شهدوا أو غابوا ويدفع إلى هذا حقه لأنه يثبت حقه بالبينة‏,‏ فيسلم إليه كما لو كان خصمه حاضرا ويحتمل أن لا يدفع إليه شيء حتى يقيم كفيلا أنه متى حضر خصمه وأبطل دعواه‏,‏ فعليه ضمان ما أخذه لئلا يأخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه‏,‏ فيبطل حجته أو يقيم بينة بالقضاء والإبراء أو تملك العين التي قامت بها البينة بعد ذهاب المدعي وغيبته أو موته‏,‏ فيضيع مال المدعى عليه وظاهر كلام أحمد الأول فإنه قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال‏:‏ هي عندي وديعة‏:‏ إذا أقيمت البينة أنها له تدفع إلى الذي أقام البينة‏,‏ حتى يجيء صاحب الوديعة فيثبت‏.‏

فصل‏:‏

فأما الحاضر في البلد أو قريب منه إذا لم يمنع من الحضور‏,‏ فلا يقضى عليه قبل حضوره في قول أكثر أهل العلم وقال أصحاب الشافعي في وجه لهم‏:‏ إنه يقضي عليه في غيبته لأنه غائب أشبه الغائب عن البلد ولنا‏,‏ أنه أمكن سؤاله فلم يجز الحكم عليه قبل سؤاله كحاضر مجلس الحاكم‏,‏ ويفارق الغائب البعيد فإنه لا يمكن سؤاله فإن امتنع من الحضور أو توارى‏,‏ فظاهر كلام أحمد جواز القضاء عليه لما ذكرنا عنه في رواية حرب وروى عنه أبو طالب في رجل وجد غلامه عند رجل‏,‏ فأقام البينة أنه غلامه فقال الذي عنده الغلام‏:‏ أودعني هذا رجل فقال أحمد‏:‏ أهل المدينة يقضون على الغائب يقولون‏:‏ إنه لهذا الذي أقام البينة وهو مذهب حسن‏,‏ وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الإعذار وهو إذا ادعى على رجل ألفا وأقام البينة‏,‏ فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي الرسول ثلاثا‏,‏ فإن جاء وإلا قد أعذروا إليه فهذا يقوي قول أهل المدينة وهو معنى حسن وقد ذكر الشريف أبو جعفر‏,‏ وأبو الخطاب أنه يقضي على الغائب الممتنع وهو قول الشافعي لأنه تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء عليه‏,‏ كالغائب البعيد بل هذا أولى لأن البعيد معذور وهذا لا عذر له وقد ذكرنا فيما تقدم شيئا من هذا‏.‏