فصل: مسألة: لا تحمل العاقلة عبد ولا عمد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ [والعاقلة لا تحمل العبد ولا العمد‏,‏ ولا الصلح ولا الاعتراف وما دون الثلث[

في هذه المسألة‏:‏ خمس مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏

أن العاقلة لا تحمل العبد يعني إذا قتل العبد قاتل‏,‏ وجبت قيمته في مال القاتل ولا شيء على عاقلته خطأ كان أو عمدا وهذا قول ابن عباس‏,‏ والشعبي والثوري ومكحول‏,‏ والنخعي والبتي ومالك‏,‏ والليث وابن أبي ليلى وإسحاق‏,‏ وأبي ثور وقال عطاء والزهري والحكم‏,‏ وحماد وأبو حنيفة تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله‏,‏ كالحر وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبو حنيفة في دية أطرافه ولنا‏,‏ ما روى ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا‏,‏ ولا صلحا ولا اعترافا‏)‏ وروى عن ابن عباس موقوفا عليه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا‏,‏ فيكون إجماعا ولأن الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته فلم تحمله العاقلة‏,‏ كسائر القيم ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة قيمة أطرافه فلم تحمل الواجب في نفسه‏,‏ كالفرس وبهذا فارق الحر‏.‏

المسألة الثانية‏:‏

أنها لا تحمل العمد سواء كان مما يجب القصاص فيه أو لا يجب ولا خلاف في أنها لا تحمل دية ما يجب فيه القصاص‏,‏ وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بكل حال وحكي عن مالك أنها تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها كالمأمومة والجائفة وهذا قول قتادة لأنها جناية لا قصاص فيها‏,‏ أشبهت جناية الخطأ ولنا حديث ابن عباس ولأنها جناية عمد‏,‏ فلا تحملها العاقلة كالموجبة للقصاص وجناية الأب على ابنه‏,‏ ولأن حمل العاقلة إنما يثبت في الخطأ لكون الجاني معذورا تخفيفا عنه‏,‏ ومواساة له والعامد غير معذور فلا يستحق التخفيف ولا المعاونة‏,‏ فلم يوجد فيه المقتضى وبهذا فارق العمد الخطأ ثم يبطل ما ذكروه بقتل الأب ابنه فإنه لا قصاص فيه ولا تحمله العاقلة‏.‏

فصل‏:‏

وإن اقتص بحديدة مسمومة‏,‏ فسرى إلى النفس ففيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ تحمله العاقلة لأنه ليس بعمد محض أشبه عمد الخطأ والثاني‏:‏ لا تحمله لأنه قتله بآلة يقتل مثلها غالبا‏,‏ فأشبه من لا قصاص له ولو وكل في استيفاء القصاص ثم عفا عنه فقتله الوكيل من غير علم بعفوه‏,‏ فقال القاضي‏:‏ لا تحمله العاقلة لأنه عمد قتله وقال أبو الخطاب‏:‏ تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية ومثل هذا يعد خطأ بدليل ما لو قتل في دار الحرب مسلما يظنه حربيا‏,‏ فإنه عمد قتله وهو أحد نوعي الخطأ وهذا أصح ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين‏.‏

فصل‏:‏

وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة وقال الشافعي‏,‏ في أحد قوليه‏:‏ لا تحمله لأنه عمد يجوز تأديبهما عليه فأشبه القتل من البالغ ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد‏,‏ فتحمله العاقلة كشبه العمد ولأنه قتل لا يوجب القصاص‏,‏ لأجل العذر فأشبه الخطأ وشبه العمد وبهذا فارق ما ذكروه ويبطل ما ذكروه بشبه العمد‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏

أنها لا تحمل الصلح ومعناه أن يدعي عليه القتل‏,‏ فينكره ويصالح المدعى على مال فلا تحمله العاقلة لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة‏,‏ كالذي ثبت باعترافه وقال القاضي‏:‏ معناه أن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية والتفسير الأول أولى لأن هذا عمد فيستغنى عنه بذكر العمد وممن قال‏:‏ لا تحمل العاقلة الصلح ابن عباس والزهري‏,‏ والشعبي والثوري والليث‏,‏ والشافعي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو حملته العاقلة‏,‏ أدى إلى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقا بقوله‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏

أنها لا تحمل الاعتراف وهو أن يقر الإنسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه عمد فتجب الدية عليه‏,‏ ولا تحمله العاقلة ولا نعلم فيه خلافا وبه قال ابن عباس والشعبي‏,‏ والحسن وعمر بن عبد العزيز والزهري‏,‏ وسليمان بن موسى والثوري ومالك والأوزاعي‏,‏ والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه‏,‏ ولأنه لو وجب عليهم لوجب بإقرار غيرهم ولا يقبل إقرار شخص على غيره ولأنه يتهم في أن يواطئ من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته‏,‏ فيقاسمه إياها إذا ثبت هذا فإنه يلزمه ما اعترف به وتجب الدية عليه حالة في ماله‏,‏ في قول أكثرهم وقال أبو ثور وابن عبد الحكم‏:‏ لا يلزمه شيء ولا يصح إقراره لأنه مقر على غيره لا على نفسه‏,‏ ولأنه لم يثبت موجب إقراره فكان باطلا كما لو أقر على غيره بالقتل ولنا‏,‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ ولأنه مقر على نفسه بالجناية الموجبة للمال فصح إقراره كما لو أقر بإتلاف مال‏,‏ أو بما لا تحمل ديته العاقلة ولأنه محل مضمون فيضمن إذا اعترف به‏,‏ كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل العاقلة لها فإذا لم تحملها‏,‏ وجبت عليه كجناية المرتد‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏

أنها لا تحمل ما دون الثلث وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء‏,‏ ومالك وإسحاق وعبد العزيز‏,‏ وعمرو بن أبي سلمة وبه قال الزهري وقال‏:‏ لا تحمل الثلث أيضا وقال الثوري وأبو حنيفة‏:‏ تحمل السن والموضحة‏,‏ وما فوقها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الغرة التي في الجبين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل ما دون ذلك لأنه ليس فيه أرش مقدر والصحيح عن الشافعي‏,‏ أنها تحمل الكثير والقليل لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني في العمد ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية أن لا يحمل منها شيء حتى تبلغ عقل المأمومة ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني لأنه موجب جنايته‏,‏ وبدل متلفه فكان عليه كسائر المتلفات والجنايات‏,‏ وإنما خولف في الثلث فصاعدا تخفيفا عن الجاني لكونه كثيرا يجحف به‏,‏ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏الثلث كثير‏)‏ ففي ما دونه يبقى على قضية الأصل ومقتضى الدليل وهذا حجة على الزهري لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الثلث كثيرا فأما دية الجنين‏,‏ فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من الضربة لكون ديتهما جميعا موجب جناية‏,‏ تزيد على الثلث وإن سلمنا وجوبها على العاقلة فلأنها دية آدمي كاملة‏.‏

فصل‏:‏

وتحمل العاقلة دية الطرف إذا بلغ الثلث وهو قول من سمينا في المسألة‏:‏ التي قبل هذا وحكي عن الشافعي أنه قال في القديم‏:‏ لا تحمل ما دون الدية لأن ذلك يجري مجرى ضمان الأموال‏,‏ بدليل أنه لا تجب فيه كفارة ولنا قول عمر رضي الله عنه ولأن الواجب دية جناية على حر تزيد على الثلث فحملتها العاقلة كدية النفس ولأنه كثير يجب ضمانا لحر أشبه ما ذكرنا وما ذكره يبطل بما إذا جنى على الأطراف بما يوجب الدية‏,‏ أو زيادة عليها‏.‏

فصل‏:‏

وتحمل العاقلة دية المرأة بغير خلاف بينهم فيها وتحمل من جراحها ما بلغ أرشه ثلث دية الرجل كدية أنفها وما دون ذلك كدية يدها لا تحمله العاقلة وكذلك الحكم في دية الكتابي ولا تحمل دية المجوسي لأنها دون الثلث‏,‏ ولا دية الجنين إن مات منفردا أو مات قبل موت أمه نص عليه أحمد لأنه دون الثلث وإن مات مع أمه حملتهما العاقلة نص عليه لأن وجوب ديتهما حصل في حال واحدة‏,‏ بجناية واحدة مع زيادتهما على الثلث فحملتهما العاقلة كالدية الواحدة‏.‏

فصل‏:‏

وإن كان الجاني ذميا‏,‏ فعقله على عصبته من أهل ديته المعاهدين في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وفي الأخرى لا يتعاقلون لأن المعاقلة تثبت في حق المسلم على خلاف الأصل‏,‏ تخفيفا عنه ومعونة له فلا يلحق به الكافر لأن المسلم أعظم حرمة‏,‏ وأحق بالمواساة والمعونة من الذمي ولهذا وجبت الزكاة على المسلمين مواساة لفقرائهم ولم تجب على أهل الذمة لفقرائهم‏,‏ فتبقى في حق الذمي على الأصل ووجه الرواية الأولى أنهم عصبة يرثونه فيعقلون عنه‏,‏ كعصبة المسلم من المسلمين ولا يعقل عنه عصبته المسلمون لأنهم لا يرثونه ولا الحربيون لأن الموالاة والنصرة منقطعة بينهم ويحتمل أن يعقلوا عنه إذا قلنا‏:‏ إنهم يرثونه لأنهم أهل دين واحد‏,‏ يرث بعضهم بعضا ولا يعقل يهودي عن نصراني ولا نصراني عن يهودي لأنهم لا موالاة بينهم وهم أهل ملتين مختلفتين ويحتمل أن يتعاقلا‏,‏ بناء على الروايتين في توارثهما‏.‏

فصل‏:‏

وإن تنصر يهودي أو تهود نصراني وقلنا‏:‏ إنه يقر عليه عقل عنه عصبته من أهل الدين الذي انتقل إليه وهل يعقل عنه الذين انتقل عن دينهم‏؟‏ على وجهين وإن قلنا‏:‏ لا يقر لم يعقل عنه أحد لأنه كالمرتد‏,‏ والمرتد لا يعقل عنه أحد لأنه ليس بمسلم فيعقل عنه المسلمون ولا ذمي فيعقل عنه أهل الذمة وتكون جنايته في ماله وكذلك كل من لا تحمل عاقلته جنايته‏,‏ يكون موجبها في ماله كسائر الجنايات التي لا تحملها العاقلة‏.‏

فصل‏:‏

ولو رمى ذمي صيدا ثم أسلم‏,‏ ثم أصاب السهم آدميا فقتله لم يعقله المسلمون لأنه لم يكن مسلما حال رميه ولا المعاهدون لأنه قتله وهو مسلم‏,‏ فيكون في مال الجاني وهكذا لو رمى وهو مسلم ثم ارتد ثم قتل السهم إنسانا لم يعقله أحد ولو جرح ذمي ذميا‏,‏ ثم أسلم الجارح ومات المجروح وكان أرش جراحه يزيد على الثلث فعقله على عصبته من أهل الذمة‏,‏ وما زاد على أرش الجرح لا يحمله أحد ويكون في مال الجاني لما ذكرنا وإن لم يكن أرش الجرح مما تحمله العاقلة فجميع الدية على الجاني وكذلك الحكم إذا جرح مسلم ثم ارتد ويحتمل أن تحمل الدية كلها العاقلة في المسألتين لأن الجناية وجدت وهو ممن تحمل العاقلة جنايته ولهذا وجب القصاص في المسألة‏:‏ الأولى إذا كان عمدا ويحتمل أن لا تحمل العاقلة شيئا لأن الأرش إنما يستقر باندمال الجرح أو سرايته‏.‏

فصل‏:‏

إذا تزوج عبد معتقة‏,‏ فأولدها أولادا فولاؤهم لمولى أمهم فإن جنى أحدهم‏,‏ فالعقل على مولى أمه لأنه عصبته ووارثه فإن أعتق أبوه ثم سرت الجناية أو رمى بسهم فلم يقع السهم حتى أعتق أبوه‏,‏ لم يحمل عقله أحد لأن موالي الأم قد زال ولاؤهم عنه قبل قتله وموالي الأب لم يكن لهم عليه ولاء حال جنايته فتكون الدية عليه في ماله إلا أن يكون أرش الجرح مما تحمله العاقلة منفردا‏,‏ فيخرج فيه مثل ما قلنا في المسألة‏:‏ التي قبلها‏.‏

فصل‏:‏

وإن جنى الرجل على نفسه خطأ أو على أطرافه ففيه روايتان قال القاضي‏:‏ أظهرهما أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه‏,‏ أو أرش جرحه لنفسه إذا كان أكثر من الثلث وهذا قول الأوزاعي وإسحاق لما روي أن رجلا ساق حمارا فضربه بعصا كانت معه فطارت منها شظية‏,‏ فأصابت عينه ففقأتها فجعل عمر ديته على عاقلته وقال‏:‏ هي يد من أيدي المسلمين‏,‏ لم يصبها اعتداء على أحد ولم نعرف له مخالفا في عصره ولأنها جناية خطأ فكان عقلها على عاقلته كما لو قتل غيره فعلى هذه الرواية‏,‏ إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء لأنه لا يجب للإنسان شيء على نفسه وإن كان بعضهم وارثا‏,‏ سقط عنه ما يقابل نصيبه وعليه ما زاد على نصيبه وله ما بقي إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه والرواية الثانية‏,‏ جنايته هدر وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة ومالك‏,‏ والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وهي أصح لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه‏,‏ فمات ولم يبلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بدية ولا غيرها ولو وجبت لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأنه جنى على نفسه‏,‏ فلم يضمنه غيره كالعمد ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني‏,‏ وتخفيفا عنه وليس على الجاني ها هنا شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة فيه فلا وجه لإيجابه ويفارق هذا ما إذا كانت الجناية على غيره‏,‏ فإنه لو لم تحمله العاقلة لأجحف به وجوب الدية لكثرتها فأما إن كانت الجناية على نفسه شبه عمد فهل تجري مجرى الخطأ‏؟‏ على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ هي كالخطأ لأنها تساويه فيما إذا كانت على غيره والثاني‏,‏ لا تحمله العاقلة لأنه لا عذر له فأشبه العمد المحض‏.‏

فصل‏:‏

وأما خطأ الإمام والحاكم في غير الحكم والاجتهاد‏,‏ فهو على عاقلته بغير خلاف إذا كان مما تحمله العاقلة وما حصل باجتهاده‏,‏ ففيه روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ على عاقلته أيضا لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء فأجهضت جنينها فقال عمر لعلي‏:‏ عزمت عليك‏,‏ لا تبرح حتى تقسمها على قومك ولأنه جان فكان خطؤه على عاقلته كغيره والثانية‏,‏ هو في بيت المال وهو مذهب الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة‏,‏ وإسحاق لأن الخطأ يكثر في أحكامه واجتهاده فإيجاب عقله على عاقلته يجحف بهم ولأنه نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله‏,‏ فكان أرش جنايته في مال الله سبحانه وللشافعي قولان كالروايتين‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه‏,‏ فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته‏]‏

هذا في الجناية التي تودى بالمال إما لكونها لا توجب إلا المال‏,‏ وإما لكونها موجبة للقصاص فعفا عنها إلى المال فإن‏,‏ جناية العبد تتعلق برقبته إذ لا يخلو من أن تتعلق برقبته أو ذمته أو ذمة سيده‏,‏ أو لا يجب شيء ولا يمكن إلغاؤها لأنها جناية آدمي فيجب اعتبارها كجناية الحر‏,‏ ولأن جناية الصغير والمجنون غير ملغاة مع عذره وعدم تكليفه‏,‏ فجناية العبد أولى ولا يمكن تعلقها بذمته لأنه يفضي إلى إلغائها أو تأخير حق المجني عليه إلى غير غاية‏,‏ ولا بذمة السيد لأنه لم يجن فتعين تعلقها برقبة العبد ولأن الضمان موجب جنايته‏,‏ فتتعلق برقبته كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمته فما دون أو أكثر فإن كان بقدرها فما دون‏,‏ فالسيد مخير بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى الجناية فيملكه وبهذا قال الثوري ومحمد بن الحسن‏,‏ وإسحاق وروي ذلك عن الشعبي وعطاء ومجاهد‏,‏ وعروة والحسن والزهري‏,‏ وحماد لأنه إن دفع أرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه‏,‏ وإن سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق به ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها وإن طالب المجني عليه بتسليمه إليه‏,‏ وأبى ذلك سيده لم يجبر عليه لما ذكرنا وإن دفع السيد عبده فأبى الجاني قبوله‏,‏ وقال‏:‏ بعه وادفع إلى ثمنه فهل يلزم السيد ذلك‏؟‏ على روايتين وأما إن كانت الجناية أكثر من قيمته ففيه روايتان إحداهما‏:‏ أن سيده مخير بين أن يفديه بقيمته أو أرش جنايته‏,‏ وبين أن يسلمه لأنه إذا أدى قيمته فقد أدى قدر الواجب عليه فإن حق المجني عليه لا يزيد على العبد‏,‏ فإذا أدى قيمته فقد أدى الواجب عليه فلم يلزمه أكثر من ذلك‏,‏ كما لو كانت الجناية بقدر قيمته والرواية الثانية يلزمه تسليمه إلا أن يفديه بأرش جنايته بالغة ما بلغت وهذا قول مالك لأنه ربما إذا عرض للبيع رغب فيه راغب بأكثر من قيمته‏,‏ فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه وللشافعي قولان كالروايتين ووجه الرواية الأولى أن الشرع قد جعل له فداءه‏,‏ فكان له فداؤه فكان الواجب قدر قيمته كسائر المتلفات‏.‏

فصل‏:‏

فإن كانت الجناية موجبة للقصاص‏,‏ فعفا ولي الجناية على أن يملك العبد لم يملكه بذلك لأنه إذا لم يملكه بالجناية فلأن لا يملكه بالعفو أولى ولأنه أحد من عليه القصاص‏,‏ فلا يملكه بالعفو كالحر ولأنه إذا عفا عن القصاص انتقل حقه إلى المال‏,‏ فصار كالجاني جناية موجبة للمال وفيه رواية أخرى أنه يملكه لأنه مملوك استحق إتلافه فاستحق إبقاءه على ملكه‏,‏ كعبده الجاني عليه‏.‏

فصل‏:‏

قال أبو طالب سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ إذا أمر غلامه فجنى فعليه ما جنى وإن كان أكثر من ثمنه‏,‏ إن قطع يد حر فعليه دية يد الحر وإن كان ثمنه أقل‏,‏ وإن أمره سيده أن يجرح رجلا فما جنى فعليه قيمة جنايته‏,‏ وإن كانت أكثر من ثمنه لأنه بأمره وكان علي وأبو هريرة يقولان‏:‏ إذا أمر عبده أن يقتل فإنما هو سوطه ويقتل المولى‏,‏ ويحبس العبد وقال أحمد حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا قتادة‏,‏ عن خلاس أن عليا قال‏:‏ إذا أمر الرجل عبده فقتل إنما هو كسوطه أو كسيفه‏,‏ يقتل المولى والعبد يستودع السجن ولأنه فوت شيئا بأمره فكان على السيد ضمانه‏,‏ كما لو استدان بأمره‏.‏

فصل‏:‏

فإن جنى جنايات بعضها بعد بعض فالجاني بين أولياء الجنايات بالحصص وبهذا قال الحسن‏,‏ وحماد وربيعة وأصحاب الرأي‏,‏ والشافعي وروي عن شريح أنه قال‏:‏ يقضي به لآخرهم وبه قال الشعبي وقتادة لأنها جناية وردت على محل مستحق‏,‏ فقدم صاحبه على المستحق قبله كالجناية على المملوك الذي لم يجن وقال شريح في عبد شج رجلا‏,‏ ثم آخر ثم آخر فقال شريح‏:‏ يدفع إلى الأول‏,‏ إلا أن يفديه مولاه ثم يدفع إلى الثاني ثم يدفع إلى الثالث‏,‏ إلا أن يفديه الأوسط ولنا أنهم تساووا في سبب تعلق الحق به فتساووا في الاستحقاق‏,‏ كما لو جنى عليهم دفعة واحدة بل لو قدم بعضهم كان الأول أولى لأن حقه أسبق‏,‏ ولا يصح القياس على الملك فإن حق المجني عليه أقوى بدليل أنهما لو وجدا دفعة واحدة‏,‏ قدم حق المجني عليه ولأن حق المجني عليه ثبت بغير رضي صاحبه عوضا وحق المالك ثبت برضاه أو بغير عوض‏,‏ فافترقا‏.‏

فصل‏:‏

وإن أعتق السيد عبده الجاني عتق وضمن ما تعلق به من الأرش لأنه أتلف محل الجناية على من تعلق حقه به‏,‏ فلزمه غرامته كما لو قتله وينبني قدر الضمان على الروايتين فيما إذا اختار إمساكه بعد الجناية لأنه امتنع من تسليمه بإعتاقه‏,‏ فهو بمنزلة امتناعه من تسليمه باختيار فدائه ونقل ابن منصور عن أحمد أنه إن أعتقه عالما بجنايته‏,‏ فعليه الدية يعني دية المقتول وإن لم يكن عالما بجنايته‏,‏ فعليه قيمة العبد وذلك لأنه إذا أعتقه مع العلم كان مختارا لفدائه بخلاف ما إذا لم يعلم‏,‏ فإنه لم يختر الفداء لعدم علمه به فلم يلزمه أكثر من قيمة ما فوته‏.‏

فصل‏:‏

فإن باعه أو وهبه صح بيعه لما ذكرنا في البيع ولم يزل تعلق الجناية عن رقبته فإن كان المشتري عالما بحاله فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وينتقل الخيار في فدائه وتسليمه إليه كالسيد الأول وإن لم يعلم فله الخيار بين إمساكه ورده كسائر المعيبات‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏والعاقلة العمومة وأولادهم وإن سفلوا‏,‏ في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله والرواية الأخرى الأب والابن‏,‏ والإخوة وكل العصبة من العاقلة‏]‏

العاقلة‏:‏ من يحمل العقل والعقل‏:‏ الدية تسمى عقلا لأنها تعقل لسان ولي المقتول وقيل‏:‏ إنما سميت العاقلة‏,‏ لأنهم يمنعون عن القاتل والعقل‏:‏ المنع ولهذا سمي بعض العلوم عقلا لأنه يمنع من الإقدام على المضار ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات‏,‏ وأن غيرهم من الإخوة من الأم وسائر ذوي الأرحام والزوج‏,‏ وكل من عدا العصبات ليس هم من العاقلة واختلف في الآباء والبنين هل هم من العاقلة أو لا وعن أحمد في ذلك روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أن كل العصبة من العاقلة‏,‏ يدخل فيه آباء القاتل وأبناؤه وإخوته‏,‏ وعمومته وأبناؤهم وهذا اختيار أبي بكر والشريف أبي جعفر وهو مذهب مالك‏,‏ وأبي حنيفة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها‏,‏ وإن قتلت فعقلها بين ورثتها‏)‏ رواه أبو داود ولأنهم عصبة فأشبهوا الإخوة يحققه أن العقل موضوع على التناصر‏,‏ وهم من أهله ولأن العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب‏,‏ وآباؤه وأبناؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا أولى بتحمل عقله والرواية الثانية ليس آباؤه وأبناؤه من العاقلة‏,‏ وهو قول الشافعي لما روى أبو هريرة قال‏:‏ ‏(‏اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى‏,‏ فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم‏)‏ متفق عليه وفي رواية‏:‏ ‏(‏ثم ماتت القاتلة‏,‏ فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ميراثها لبنيها والعقل على العصبة‏)‏ رواه أبو داود والنسائي وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ ‏(‏فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دية المقتولة على عاقلتها‏,‏ وبرأ زوجها وولدها قال‏:‏ فقالت عاقلة المقتولة‏:‏ ميراثها لنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ميراثها لزوجها وولدها‏)‏ رواه أبو داود إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لأنه في معناه ولأن مال ولده ووالده كماله ولهذا لم تقبل شهادتهما له‏,‏ ولا شهادته لهما ووجب على كل واحد منهما الإنفاق على الآخر إذا كان محتاجا والآخر موسرا‏,‏ وعتق عليه إذا ملكه فلا تجب في ماله دية كما لم يجب في مال القاتل وظاهر كلام الخرقي‏,‏ أن في الإخوة روايتين كالولد والوالد وغيره من أصحابنا يجعلونهم من العاقلة بكل حال‏,‏ ولا أعلم فيه عن غيرهم خلافا‏.‏

فصل‏:‏

فإن كان الولد ابن ابن عم أو كان الوالد أو الولد مولى أو عصبة مولى فإنه يعقل‏,‏ في ظاهر كلام أحمد قاله القاضي وقال أصحاب الشافعي‏:‏ لا يعقل لأنه والد أو ولد فلم يعقل كما لو لم يكن كذلك ولنا‏,‏ أنه ابن ابن عم أو مولى فيعقل كما لو يكن ولدا وذلك لأن هذه القرابة أو الولاء سبب يستقل بالحكم منفردا‏,‏ فإذا وجد مع ما لا يثبت به الحكم أثبته كما لو وجد مع الرحم المجرد ولأنه يثبت حكمه مع القرابة الأخرى‏,‏ بدليل أنه يلي نكاحها مع أن الابن لا يلي النكاح عندهم‏.‏

فصل‏:‏

وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب والمولى وعصبته‏,‏ ومولى المولى وعصبته وغيرهم وبهذا قال عمر بن عبد العزيز والنخعي‏,‏ وحماد ومالك والشافعي‏,‏ ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في العقل كالقريب ولا يعتبر أن يكونوا وارثين في الحال‏,‏ بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا لا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها ولأن الموالى من العصبات فأشبهوا المناسبين‏.‏

فصل‏:‏

ولا يدخل في العقل من ليس بعصبة‏,‏ ولا يعقل المولى من أسفل وبه قال أبو حنيفة وأصحاب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ يعقل لأنهما شخصان يعقل أحدهما صاحبه‏,‏ فيعقل الآخر عنه كالأخوين ولنا أنه ليس بعصبة له ولا وارث‏,‏ فلم يعقل عنه كالأجنبي وما ذكروه يبطل بالذكر مع الأنثى والكبير مع الصغير‏,‏ والعاقل مع المجنون‏.‏

فصل‏:‏

ولا يعقل مولى الموالاة وهو الذي يوالي رجلا يجعل له ولاءه ونصرته ولا الحليف‏,‏ وهو الرجل يحالف الآخر على أن يتناصرا على دفع الظلم ويتضافرا على من قصدهما أو قصد أحدهما ولا العديد‏,‏ وهو الذي لا عشيرة له ينضم إلى عشيرة فيعد نفسه معهم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يعقل مولى الموالاة ويرث وقال مالك‏:‏ إذا كان الرجل في غير عشيرته‏,‏ فعقله على القوم الذي هو معهم ولنا أنه معنى يتعلق بالعصبة فلا يستحق بذلك‏,‏ كولاية النكاح‏.‏

فصل‏:‏

ولا مدخل لأهل الديوان في المعاقلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يتحملون جميع الدية فإن عدموا فالأقارب حينئذ يعقلون لأن عمر رضي الله عنه جعل الدية على أهل الديوان في الأعطية في ثلاث سنين ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بالدية على العاقلة ولأنه معنى لا يستحق به الميراث‏,‏ فلم يحمل به العقل كالجوار واتفاق المذاهب وقضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى من قضاء عمر على أنه إن صح ما ذكر عنه‏,‏ فيحتمل أنهم كانوا عشيرة القاتل‏.‏

فصل‏:‏

ويشترك في العقل الحاضر والغائب وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك‏:‏ يختص به الحاضر لأن التحمل بالنصرة وإنما هي بين الحاضرين ولأن في قسمته على الجميع مشقة وعن الشافعي كالمذهبين ولنا‏,‏ الخبر وأنهم استووا في التعصيب والإرث فاستووا في تحمل العقل‏,‏ كالحاضرين ولأنه معنى يتعلق بالتعصيب فاستوى فيه الحاضر والغائب‏,‏ كالميراث والولاية‏.‏

فصل‏:‏

ويبدأ في قسمته بين العاقلة بالأقرب فالأقرب يقسم على الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم‏,‏ ثم أعمام الأب ثم بنيهم ثم أعمام الجد ثم بنيهم‏,‏ كذلك أبدا حتى إذا انقرض المناسبون فعلى المولى المعتق‏,‏ ثم على عصباته ثم على مولى المولى ثم على عصباته‏,‏ الأقرب فالأقرب كالميراث سواء وإن قلنا‏:‏ الآباء والأبناء من العاقلة بدئ بهم لأنهم أقرب ومتى اتسعت أموال قوم للعقل‏,‏ لم يعدهم إلى من بعدهم لأنه حق يستحق بالتعصيب فيقدم الأقرب فالأقرب كالميراث وولاية النكاح وهل يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب‏؟‏ على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ يقدم لأنه يقدم في الميراث‏,‏ فقدم في العقل كتقديم الأخ على ابنه والثاني يستويان لأن ذلك يستفاد بالتعصيب‏,‏ ولا أثر للأم في التعصيب والأول أولى -إن شاء الله تعالى- لأن قرابة الأم تؤثر في الترجيح والتقديم وقوة التعصيب لاجتماع القرابتين على وجه لا تنفرد كل واحدة بحكم‏,‏ وذلك لأن القرابتين تنقسم إلى ما تنفرد كل واحدة منهما بحكم كابن العم إن كان أخا من أم فإنه يرث بكل واحدة من القرابتين ميراثا منفردا‏,‏ يرث السدس بالأخوة ويرث بالتعصيب ببنوة العم وحجب إحدى القرابتين لا يؤثر في حجب الأخرى‏,‏ فهذا لا يؤثر في قوة ولا ترجيح ولذلك لا يقدم ابن العم الذي هو أخ من أم على غيره وما لا ينفرد كل واحد منهما بحكم‏,‏ كابن العم من أبوين مع ابن عم من أب لا تنفرد إحدى القرابتين بميراث عن الأخرى فتؤثر في الترجيح وقوة التعصيب ولذلك أثرت في التقديم في الميراث‏,‏ فكذلك في غيره وبما ذكرناه قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يسوي بين القريب والبعيد ويقسم على جميعهم ‏(‏لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل دية المقتولة على عصبة القاتلة‏)‏ ولنا أنه حكم تعلق بالتعصيب‏,‏ فوجب أن يقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث والخبر لا حجة فيه لأننا نقسمه على الجماعة إذا لم يف به الأقرب‏,‏ فنحمله على ذلك‏.‏

فصل‏:‏

ولا يحمل العقل إلا من يعرف نسبه من القاتل أو يعلم أنه من قوم يدخلون كلهم في العقل ومن لا يعرف ذلك منه لا يحمل‏,‏ وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشيا لم يلزم قريشا كلهم التحمل‏,‏ فإن قريشا وإن كانوا كلهم يرجعون إلى أب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل قوم ينتسبون إلى أب يتميزون به‏,‏ فيعقل عنهم من يشاركهم في نسبهم إلى الأب الأدنى ألا ترى أن الناس كلهم بنو آدم فهم راجعون إلى أب واحد‏,‏ لكن إن كان من فخذ واحد يعلم أن جميعهم يتحملون وجب أن يحمل جميعهم‏,‏ سواء عرف أحدهم نسبه أو لم يعرف للعلم بأنه متحمل على أي وجه كان وإن لم يثبت نسب القاتل من أحد فالدية في بيت المال لأن المسلمين يرثونه إذا لم يكن له وارث بمعنى أنه يؤخذ ميراثه لبيت المال‏,‏ فكذلك يعقلونه على هذا الوجه وإن وجد له من يحمل بعض العقل فالباقي في بيت المال كذلك‏.‏

فصل‏:‏

ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة لا تكلف من المال ما يجحف بها‏,‏ ويشق عليها لأنه لازم لها من غير جنايتها على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره‏,‏ ويجحف به كالزكاة ولأنه لو كان الإجحاف مشروعا‏,‏ كان الجاني أحق به لأنه موجب جنايته وجزاء فعله فإذا لم يشرع في حقه‏,‏ ففي حق غيره أولى واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم فقال أحمد‏:‏ يحملون على قدر ما يطيقون فعلى هذا لا يتقدر شرعا وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذي وهذا مذهب مالك لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف‏,‏ ولا يثبت بالرأي والتحكم ولا نص في هذه المسألة‏:‏ فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم‏,‏ كمقادير النفقات وعن أحمد رواية أخرى أنه يفرض على الموسر نصف مثقال لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة‏,‏ فكان معتبرا بها ويجب على المتوسط ربع مثقال لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه‏,‏ وقد قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ لا تقطع اليد في الشيء التافه وما دون ربع دينار لا قطع فيه وهذا اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي‏,‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم وليس لأقله حد لأن ذلك مال يجب على سبيل المواساة للقرابة فلم يتقدر أقله‏,‏ كالنفقة قال‏:‏ ويسوى بين الغني والمتوسط لذلك والصحيح الأول لما ذكرنا من أن التقدير إنما يصار إليه بتوقيف ولا توقيف فيه وأنه يختلف بالغني والتوسط‏,‏ كالزكاة والنفقة ولا يختلف بالقرب والبعد كذلك واختلف القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه قال بعضهم‏:‏ يتكرر الواجب في الأعوام الثلاثة فيكون الواجب فيها على الغني دينارا ونصفا‏,‏ وعلى المتوسط ثلاثة أرباع دينار لأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة فيتكرر بتكرر الحول كالزكاة وقال بعضهم‏:‏ لا يتكرر لأن في إيجاب زيادة على النصف‏,‏ إيجابا لزيادة على أقل الزكاة فيكون مضرا ويعتبر الغني والتوسط عند رأس الحول لأنه حال الوجوب فاعتبر الحال عنده‏,‏ كالزكاة وإن اجتمع من عدد العاقلة في درجة واحدة عدد كثير قسم الواجب على جميعهم فيلزم الحاكم كل إنسان على حسب ما يراه وإن قل وعلى الوجه الآخر يجعل على المتوسط نصف ما على الغني‏,‏ ويعم بذلك جميعهم وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر‏:‏ يخص الحاكم من شاء منهم فيفرض عليهم هذا القدر الواجب لئلا ينقص عن القدر الواجب‏,‏ ويصير إلى الشيء التافه ولأنه يشق فربما أصاب كل واحد قيراط‏,‏ فيشق جمعه ولنا أنهم استووا في القرابة فكانوا سواء كما لو قلوا‏,‏ وكالميراث وأما التعلق بمشقة الجمع فغير صحيح لأن مشقة زيادة الواجب أعظم من مشقة الجمع ثم هذا تعلق بالحكمة من غير أصل يشهد لها فلا يترك لها الدليل‏,‏ ثم هي معارضة بخفة الواجب على كل واحد وسهولة الواجب عليهم ثم لا يخلو من أن يخص الحاكم بعضهم بالاجتهاد أو بغير اجتهاد‏,‏ فإن خصه بالاجتهاد فعليه فيه مشقة وربما لم يحصل له معرفة الأولى منهم بذلك فيتعذر الإيجاب‏,‏ وإن خصه بالتحكم أفضى إلى أنه يخير بين أن يوجب على إنسان شيئا بشهوته من غير دليل وبين أن لا يوجب عليه ولا نظير له‏,‏ وربما ارتشى من بعضهم واتهم وربما امتنع من فرض عليه شيء من أدائه لكونه يرى مثله لا يؤدي شيئا مع التساوي من كل الوجوه‏.‏

فصل‏:‏

ومن مات من العاقلة أو افتقر‏,‏ أو جن قبل الحول لم يلزمه شيء لا نعلم في هذا خلافا لأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة فأشبه الزكاة‏,‏ وإن وجد ذلك بعد الحول لم يسقط الواجب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يسقط بالموت لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو مات قبل الحول ولنا‏,‏ أنه حق تدخله النيابة لا يملك إسقاطه في حياته فأشبه الديون‏,‏ وفارق ما قبل الحول لأنه لم يجب ولم يستمر الشرط إلى حين الوجوب فأما إن كان فقيرا حال القتل فاستغنى عند الحول‏,‏ فقال القاضي‏:‏ يجب عليه لأنه وجد وقت الوجوب وهو من أهله ويخرج على هذا من كان صبيا فبلغ أو مجنونا فأفاق‏,‏ عند الحول وجب عليه كذلك ويحتمل أن لا يجب لأنه لم يكن من أهل الوجوب حالة السبب فلم يثبت الحكم فيه حالة الشرط‏,‏ كالكافر إذا ملك مالا ثم أسلم عند الحول لم تلزمه الزكاة فيه‏.‏