فصل: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: (اقْتِضَاءُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَالِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏أَخْذُ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ يَقَعُ فِي الْوُجُودِ عَلَى وَجْهَيْنِ‏]‏

فَاعْلَمْ أَنَّ أَخْذَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ يَقَعُ فِي الْوُجُودِ عَلَى وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يُؤْخَذَ الدَّلِيلُ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ وَاقْتِبَاسِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحُكْمِ لِيُعْرَضَ عَلَيْهِ النَّازِلَةُ الْمَفْرُوضَةُ لِتَقَعَ فِي الْوُجُودِ عَلَى وِفَاقِ مَا أَعْطَى الدَّلِيلُ مِنَ الْحُكْمِ، أَمَّا قَبْلَ وُقُوعِهَا فَبِأَنْ تُوقَعَ عَلَى وَفْقِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِهَا فَلْيَتَلَافَى الْأَمْرَ، وَيَسْتَدْرِكِ الْخَطَأَ الْوَاقِعَ فِيهَا بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، أَوْ يَقْطَعُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَصْدُ الشَّارِعِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ شَأْنُ اقْتِبَاسِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْأَحْكَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يُؤْخَذَ مَأْخَذَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى صِحَّةِ غَرَضِهِ فِي النَّازِلَةِ الْعَارِضَةِ، أَنْ يَظْهَرَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ مُوَافَقَةُ ذَلِكَ الْغَرَضِ لِلدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَنْزِيلُ الدَّلِيلِ عَلَى وَفْقِ غَرَضِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ شَأْنُ اقْتِبَاسِ الزَّائِغِينَ الْأَحْكَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ‏.‏

وَيَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَة‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏ فَلَيْسَ مَقْصُودُهُمُ الِاقْتِبَاسَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمُ الْفِتْنَةُ بِهَا بِهَوَاهُمْ؛ إِذْ هُوَ السَّابِقُ الْمُعْتَبَرُ، وَأَخْذُ الْأَدِلَّةِ فِيهِ بِالتَّبَعِ لِتَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ فِي زَيْغِهِمْ، ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ لَيْسَ لَهُمْ هَوًى يُقَدِّمُونَهُ عَلَى أَحْكَامِ الْأَدِلَّةِ فَلِذَلِكَ ‏{‏يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا‏}‏، وَيَقُولُونَ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 8‏]‏ فَيَتَبَرَّءُونَ إِلَى اللَّهِ مِمَّا ارْتَكَبَهُ أُولَئِكَ الزَّائِغُونَ فَلِذَلِكَ صَارَ أَهْلُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مُحَكِّمِينَ لِلدَّلِيلِ عَلَى أَهْوَائِهِمْ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَتْ لِتُخْرِجَ الْمُكَلَّفَ عَنْ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَأَهْلُ الْوَجْهِ الثَّانِي يُحَكِّمُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى الْأَدِلَّةِ حَتَّى تَكُونَ الْأَدِلَّةُ فِي أَخْذِهِمْ لَهَا تَبَعًا، وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَدْ مَرَّ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏اقْتِضَاءُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَالِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ‏]‏

اقْتِضَاءُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَالِّهَا عَلَى وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الِاقْتِضَاءُ الْأَصْلِيُّ قَبْلَ طُرُوءِ الْعَوَارِضِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْمَحَلِّ مُجَرَّدًا عَنِ التَّوَابِعِ وَالْإِضَافَاتِ كَالْحُكْمِ بِإِبَاحَةِ الصَّيْدِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَسَنِّ النِّكَاحِ، وَنَدْبِ الصَّدَقَاتِ غَيْرَ الزَّكَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الِاقْتِضَاءُ التَّبَعِيُّ، وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْمَحَلِّ مَعَ اعْتِبَارِ التَّوَابِعِ وَالْإِضَافَاتِ كَالْحُكْمِ بِإِبَاحَةِ النِّكَاحِ لِمَنْ لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَوُجُوبِهِ عَلَى مَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَكَرَاهِيَةِ الصَّيْدِ لِمَنْ قَصَدَ فِيهِ اللَّهْوَ، وَكَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ لِمَنْ حَضَرَهُ الطَّعَامُ، أَوْ لِمَنْ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ الْأَصْلِيُّ لِاقْتِرَانِ أَمْرٍ خَارِجِيٍّ‏.‏

فَإِذَا تَبَيَّنَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ فَهَلْ يَصِحُّ الِاقْتِصَارُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَنِ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ أَمْ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ التَّوَابِعِ وَالْإِضَافَاتِ حَتَّى يَتَقَيَّدَ دَلِيلُ الْإِطْلَاقِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِاعْتِبَارِهَا هَذَا مِمَّا فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْصِيلٌ‏.‏

فَلَا يَخْلُو أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَدِلُّ الدَّلِيلَ عَلَى الْحُكْمِ مُفْرَدًا مُجَرَّدًا عَنِ اعْتِبَارِ الْوَاقِعِ أَوَّلًا، فَإِنْ أَخَذَهُ مُجَرَّدًا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ، وَإِنَّ أَخَذَهُ بِقَيْدِ الْوُقُوعِ، فَلَا يَصِحُّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَأْخُوذَ بِقَيْدِ الْوُقُوعِ مَعْنَاهُ التَّنْزِيلُ عَلَى الْمَنَاطِ الْمُعَيَّنِ، وَتَعْيِينُ الْمَنَاطِ مُوجَبٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّوَازِلِ إِلَى ضَمَائِمَ وَتَقْيِيدَاتٍ لَا يَشْعُرُ الْمُكَلَّفُ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ، وَإِذَا لَمْ يَشْعُرْ بِهَا لَمْ يَلْزَمْ بَيَانُهَا؛ إِذْ لَيْسَ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ بِخِلَافِ ‏[‏مَا‏]‏ إِذَا اقْتَرَنَ الْمَنَاطُ بِأَمْرٍ مُحْتَاجٍ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ‏.‏

فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 95‏]‏ لَمَّا نَزَلَتْ أَوَّلًا كَانَتْ مُقَرِّرَةً لِحُكْمٍ أَصْلِيٍّ مُنَزَّلٍ عَلَى مَنَاطٍ أَصْلِيٍّ مِنَ الْقُدْرَةِ، وَإِمْكَانِ الِامْتِثَالِ، وَهُوَ السَّابِقُ فَلَمْ يَنْزِلْ حُكْمُ أُولِي الضَّرَرِ وَلَمَّا اشْتَبَهَ ذُو الضَّرَرِ ظَنَّ أَنَّ عُمُومَ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ، يَسْتَوِي فِيهِ ذُو الضَّرَرِ وَغَيْرُهُ، فَخَافَ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلَ الرُّخْصَةَ، فَنَزَلَ‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ‏}‏‏.‏

وَلَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» بِنَاءً عَلَى تَأْصِيلِ قَاعِدَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ سَأَلَتْ عَائِشَةُ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا‏}‏ ‏[‏الِانْشِقَاق‏:‏ 8‏]‏؛ لِأَنَّهُ يُشْكِلُ دُخُولُهُ تَحْتَ عُمُومِ الْحَدِيثِ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَرْضُ لَا الْحِسَابُ الْمُنَاقَشُ فِيهِ‏.‏

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» إِلَخْ فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ هَذِهِ الْكَرَاهِيَةِ هَلْ هِيَ الطَّبِيعِيَّةُ أَمْ لَا فَأَخْبَرَهَا أَنْ لَا، وَتَبَيَّنَ مَنَاطُ الْكَرَاهِيَةِ الْمُرَادَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 238‏]‏ تَنْزِيلًا عَلَى الْمَنَاطِ الْمُعْتَادِ فَلَمَّا عُرِضَ مَنَاطٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ الْمَرَضُ بَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ حِينَ جُحِشَ شِقُّهُ‏.‏

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ»، ثُمَّ لَمَّا تَعَيَّنَ مُنَاطٌ فِيهِ نَظَرٌ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي ذَرٍّ‏:‏ «لَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»‏.‏

وَالْأَمْثِلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تُحْصَى وَاسْتِقْرَاؤُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ هَذَا التَّفْصِيلِ فَلَوْ فُرِضَ نُزُولُ حُكْمٍ عَامٍّ، ثُمَّ أَتَى كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ يَتَثَبَّتُ فِي مُقْتَضَى ذَلِكَ الْعَامِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَكَانَ الْجَوَابُ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نَظِيرَ وَصِيَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ بِشَيْءٍ، وَوَصِيَّتِهِ لِبَعْضٍ بِأَمْرٍ آخَرَ كَمَا قَالَ‏:‏ «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ»، وَقَالَ لِآخَرَ‏:‏ «لَا تَغْضَبْ»، وَكَمَا قَبِلَ مِنْ بَعْضِهِمْ جَمِيعَ مَالِهِ، وَمِنْ بَعْضِهِمْ شَطْرَهُ وَرَدَّ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ تَحْرِيضِهِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى سَائِرِ الْأَمْثَالِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَوَاضِعُ تَعَيُّنِ الْمَنَاطِ‏]‏

وَلِتَعَيُّنِ الْمَنَاطِ مَوَاضِعُ‏.‏

مِنْهَا الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِتَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَوَاضِعِ تَعَيُّنِ الْمَنَاطِ كَمَا إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ، أَوْ جَاءَ حَدِيثٌ عَلَى سَبَبٍ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَأْتِي بِحَسَبِهِ، وَعَلَى وَفَاقِ الْبَيَانِ التَّمَامُ فِيهِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 187‏]‏ إِذْ كَانَ نَاسٌ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ فَجَاءَتِ الْآيَةُ تُبِيحُ لَهُمْ مَا كَانَ مَمْنُوعًا قَبْلُ حَتَّى لَا يَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ خِيَانَةً مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 3‏]‏؛ إِذْ نَزَلَتْ عِنْدَ وُجُودِ مَظِنَّةِ خَوْفِ أَنْ لَا يُقْسِطُوا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏.‏‏.‏» الْحَدِيثَ، أَتَى فِيهِ بِتَمْثِيلِ الْهِجْرَةِ لَمَّا كَانَ هُوَ السَّبَبُ، وَقَالَ‏:‏ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَعَ أَنَّ غَيْرَ الْأَعْقَابِ يُسَاوِيهَا حُكْمًا لَكِنَّهُ كَانَ السَّبَبُ فِي الْحَدِيثِ التَّقْصِيرَ فِي الِاسْتِيعَابِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يُتَوَهَّمَ بَعْضُ الْمَنَاطَاتِ دَاخِلًا فِي حُكْمٍ عَامٍّ، أَوْ خَارِجًا عَنْهُ مِنْ مَوَاضِعِ تَعَيُّنِ الْمَنَاطِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ فَمِثَالُ الْأَوَّلِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»‏.‏

وَمِثَالُ الثَّانِي‏:‏ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُصَلِّي‏:‏ «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي؛ إِذْ دَعَوْتُكَ، وَقَدْ جَاءَ فِيمَا نَزَلَ عَلَيَّ ‏{‏اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 24‏]‏‏؟‏»‏.‏

أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ كَانَ إِنَّمَا ثَبَتَ عَلَى صَلَاتِهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ نَازِلَتَهُ الْمُعَيَّنَةَ لَا يَتَنَاوَلُهَا مَعْنَى الْآيَةِ‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَقَعَ اللَّفْظُ الْمُخَاطَبُ بِهِ مُجْمَلًا، مِنْ مَوَاضِعِ تَعَيُّنِ الْمَنَاطِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الْمَقْصُودُ بِهِ ابْتِدَاءً، فَيَفْتَقِرُ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ الْعَمَلِ إِلَى بَيَانِهِ، وَهَذَا الْإِجْمَالُ قَدْ يَقَعُ لِعَامَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَمِثَالُ الْعَامِّ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 10‏]‏، فَإِنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْمَقْصُودَ بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَجَاءَتْ أَقْوَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَفْعَالُهُ مُبَيِّنَةً لِذَلِكَ‏.‏

وَمِثَالُ الْخَاصِّ قِصَّةُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي فَهْمِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ حَتَّى نَزَلَ بِسَبَبِهِ ‏{‏مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 187‏]‏، وَقِصَّتُهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 31‏]‏ وَقِصَّةُ ابْنِ عُمَرَ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ إِلَى أَمْثَالٍ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٍ‏.‏

فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ وَأَشْبَاهُهَا مِمَّا يَقْتَضِي تَعْيِينَ الْمَنَاطِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَخْذِ الدَّلِيلِ عَلَى وَفْقِ الْوَاقِعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نَازِلَةٍ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَعْيِينٌ فَيَصِحُّ أَخْذُهُ عَلَى وَفْقِ الْوَاقِعِ مَفْرُوضِ الْوُقُوعِ، وَيَصِحُّ إِفْرَادُهُ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ تَوَابِعِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ‏:‏ لَا يَصِحُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ عَنْ أَمْرٍ كَيْفَ يَحْصُلُ فِي الْوَاقِعِ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، فَإِنْ أَجَابَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمَنَاطِ الْمَسْئُولِ عَنْ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَنَاطٍ مُعَيَّنٍ فَأَجَابَ عَنْ مَنَاطٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ‏.‏

لَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْمُعَيَّنَ يَتَنَاوَلُهُ الْمَنَاطُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ عَامٍّ، أَوْ مُقَيِّدٌ مِنْ مُطْلَقٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ لَيْسَ الْفَرْضُ هَكَذَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى مَنَاطٍ خَاصٍّ يَخْتَلِفُ مَعَ الْعَامِّ لِطُرُوءِ عَوَارِضَ كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ، فَإِنْ فُرِضَ عَدَمُ اخْتِلَافِهِمَا فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَقَعُ بِحَسَبِ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ، وَمَا مِثْلُ هَذَا إِلَّا مِثْلُ مَنْ سَأَلَ‏:‏ هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الدِّرْهَمِ مِنْ سِكَّةِ كَذَا بِدِرْهَمٍ فِي وَزْنِهِ مِنْ سِكَّةٍ أُخْرَى، أَوِ الْمَسْكُوكِ بِغَيْرِ الْمَسْكُوكِ، وَهُوَ فِي وَزْنِهِ‏؟‏

فَأَجَابَهُ الْمَسْئُولُ بِأَنَّ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ جَوَابُ مَسْأَلَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ؛ إِذْ لَهُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ فَهَلْ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ مِنْ قَبِيلِ الرِّبَا أَمْ لَا‏؟‏ أَمَّا لَوْ سَأَلَهُ هَلْ يَجُوزُ الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، وَهُوَ فِي وَزْنِهِ، وَسِكَّتِهِ وَطِيبِهِ‏؟‏ فَأَجَابَهُ كَذَلِكَ لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، لَكِنْ بِالْعَرَضِ لِعِلْمِ السَّائِلِ بِأَنَّ الدِّرْهَمَيْنِ مِثْلَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏.‏

فَإِذَا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ فَأَجَابَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ لَكَانَ مُصِيبًا؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى مَنَاطٍ مُطْلَقٍ فَأَجَابَهُ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ وَلَوْ فَصَّلَ لَهُ الْأَمْرَ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ لَجَازَ، وَيُحْتَمَلُ فَرْضُ صُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُصَنِّفِينَ أَهْلِ التَّفْرِيعِ وَالْبَسْطِ لِلْمَسَائِلِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ عَظُمَتْ أَجْرَامُ الدَّوَاوِينِ، وَكَثُرَتْ أَعْدَادُ الْمَسَائِلِ غَيْرَ أَنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يُجَابَ السَّائِلُ عَلَى حَدِّ سُؤَالِهِ، فَإِنْ سَأَلَ عَنْ مَنَاطٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أُجِيبَ عَلَى وَفْقِ الِاقْتِضَاءِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنْ سَأَلَ عَنْ مُعَيَّنٍ، فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي الْوَاقِعِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَقْضِيَةَ وَالْفَتَاوَى الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا عَلَى وَفْقِ هَذَا الْأَصْلِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

‏[‏النَّظَرُ الثَّانِي فِي عَوَارِضِ الْأَدِلَّةِ‏]‏

وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي فِي عَوَارِضِ الْأَدِلَّةِ فَيَنْحَصِرُ الْقَوْلُ فِيهِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ فِي الْإِحْكَامِ وَالتَّشَابُهِ

وَلَهُ مَسَائِلُ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى‏:‏ ‏[‏إِطْلَاقُ الْمُحْكَمِ عَلَى وَجْهَيْنِ عَامٌّ وَخَاصٌّ‏]‏

الْمُحْكَمُ يُطْلَقُ بِإِطْلَاقَيْن‏:‏ عَامٍّ، وَخَاصٍّ‏.‏

فَأَمَّا الْخَاصُّ فَالَّذِي يُرَادُ بِهِ خِلَافُ الْمَنْسُوخِ، وَهِيَ عِبَارَةُ عُلَمَاءِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ نَاسِخًا أَمْ لَا فَيَقُولُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَأَمَّا الْعَامُّ فَالَّذِي يَعْنِي بِهِ الْبَيِّنَ الْوَاضِحَ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ إِلَى غَيْرِهِ فَالْمُتَشَابِهُ بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَنْسُوخُ، وَبِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي‏:‏ الَّذِي لَا يُتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ لَفْظِهِ كَانَ مِمَّا يُدْرَكُ مِثْلُهُ بِالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ أَمْ لَا، وَعَلَى هَذَا الثَّانِي‏:‏ مَدَارِكُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْمُتَشَابِهِ وَالْمُحْكَمِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» فَالْبَيِّنُ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَإِنْ كَانَتْ وُجُوهُ التَّشَابُهِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ، وَإِذَا تُؤُمِّلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ وُجِدَ الْمَنْسُوخُ وَالْمُجْمَلُ وَالظَّاهِرُ وَالْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ مُبَيِّنَاتِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ كَمَا أَنَّ النَّاسِخَ، وَمَا ثَبَتَ حُكْمُهُ وَالْمُبَيَّنُ وَالْمُؤَوَّلُ وَالْمُخَصَّصُ وَالْمُقَيَّدُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ مَعْنَى الْمُحْكَمِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ ‏[‏فِي التَّشَابُهِ‏]‏

التَّشَابُهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، لَكِنَّ النَّظَرَ فِي مِقْدَارِ الْوَاقِعِ مِنْهُ هَلْ هُوَ قَلِيلٌ أَمْ كَثِيرٌ‏؟‏ وَالثَّابِتُ مِنْ ذَلِكَ الْقِلَّةُ لَا الْكَثْرَةُ لِأُمُورٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ النَّصُّ الصَّرِيحُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏ فَقَوْلُهُ فِي الْمُحْكَمَات‏:‏ ‏{‏هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ يَدُلُّ أَنَّهَا الْمُعْظَمُ وَالْجُمْهُورُ، وَأَمُّ الشَّيْءِ مُعْظَمُهُ، وَعَامَّتُهُ كَمَا قَالُوا أُمُّ الطَّرِيقِ بِمَعْنَى مُعْظَمِهِ، وَأُمُّ الدِّمَاغِ بِمَعْنَى الْجِلْدَةِ الْحَاوِيَةِ لَهُ الْجَامِعَةِ لِأَجْزَائِهِ وَنَوَاحِيهِ وَالْأُمُّ أَيْضًا الْأَصْلُ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَكَّةَ أُمُّ الْقُرَى؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا وَالْمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْقَلِيلُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَوْ كَانَ كَثِيرًا لَكَانَ الِالْتِبَاسُ وَالْإِشْكَالُ كَثِيرًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ بَيَانٌ، وَهُدًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 138‏]‏، وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيَرْفَعَ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمُشْكَلُ الْمُلْتَبِسُ إِنَّمَا هُوَ إِشْكَالٌ وَحَيْرَةٌ لَا بَيَانٌ وَهُدًى، لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا هِيَ بَيَانٌ وَهُدًى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَثِيرٍ وَلَوْلَا أَنَّ الدَّلِيلَ أَثْبَتَ أَنَّ فِيهِ مُتَشَابِهًا لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِهِ، لَكِنَّ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمُكَلَّفِينَ حُكْمٌ مِنْ جِهَتِهِ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَإِقْرَارُهُ كَمَا جَاءَ، وَهَذَا وَاضِحٌ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ الِاسْتِقْرَاءُ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا نَظَرَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ جَرَتْ لَهُ عَلَى قَانُونِ النَّظَرِ وَاتَّسَقَتْ أَحْكَامُهَا وَانْتَظَمَتْ أَطْرَافُهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 1‏]‏، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 1‏]‏، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 23‏]‏ يَعْنِي يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ، وَآخِرُهُ أَوَّلَهُ، أَعْنِي أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فِي النُّزُولِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ قَلِيلًا، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فُسِّرَ بِهِ آنِفًا، فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ مِنَ الْمَنْسُوخِ وَالْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُؤَوَّلِ كَثِيرٌ وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَحْتَوِي عَلَى تَفَاصِيلَ كَثِيرَةٍ، وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ قَالَ‏:‏ لَا عَامَّ إِلَّا مُخَصَّصٌ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 282‏]‏‏.‏

وَإِذَا نَظَرَ الْمُتَأَمِّلُ إِلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَى التَّفْصِيلِ مَعَ قَوَاعِدِهَا الْكُلِّيَّةِ أُلْفِيَتْ لَا تَجْرِي عَلَى مَعْهُودِ الِاطِّرَادِ فَالْوَاجِبَاتُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ أُوجِبَتْ عَلَى حُكْمِ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْحَاجِيَّاتُ وَالتَّكْمِيلِيَّاتُ وَالتَّحْسِينِيَّاتُ فَقَيَّدَتْهَا عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى، وَأَنْحَاءٍ لَا تَنْحَصِرُ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا ذُكِرَ مَعَ الْعَامِّ‏.‏

ثُمَّ إِنَّكَ لَا تَجِدَ الْمَسَائِلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَّا الْقَلِيلَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَاضِحٌ، وَأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ غَيْرُ وَاضِحٍ؛ لِأَنَّ مَثَارَ الِاخْتِلَافِ إِنَّمَا هُوَ التَّشَابُهُ يَقَعُ فِي مَنَاطِهِ، وَإِلَى هَذَا، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا فِي التَّكْلِيفِ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ أَوَّلًا فِي مَعْنَاهُ، ثُمَّ فِي صِيغَتِهِ، ثُمَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ لَهُ صِيغَةُ افْعَلْ، أَوْ لَا تَفْعَلْ فَاخْتُلِفَ فِي مَاذَا تَقْتَضِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكُلُّ مَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ فَرْعٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، أَوْ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَثْبُتَ تَعْيِينُهُ إِلَى جِهَةٍ بِإِجْمَاعٍ، وَمَا أَعَزَّ ذَلِكَ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي يَتَلَقَّى مَعْنَاهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا تَتَخَلَّصُ إِلَّا أَنْ تَسْلَمَ مِنَ الْقَوَادِحِ الْعَشْرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ عَسِيرٌ جِدًّا، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمُتَنَازَعٌ فِيهِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِذَا ثَبَتَ فَفِي ثُبُوتِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِاتِّفَاقِ شُرُوطٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا إِذَا تَخَلَّفَ مِنْهَا شَرْطٌ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً، أَوِ اخْتُلِفَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ الْعُمُومَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ابْتِدَاءً هَلْ لَهُ صِيغَةٌ مَوْجُودَةٌ أَمْ لَا، وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُودِهَا، فَلَا يُعْمَلُ مِنْهَا مَا يُعْمَلُ إِلَّا بِشُرُوطٍ تُشْتَرَطُ، وَأَوْصَافٍ تُعْتَبَرُ، وَإِلَّا لَمْ يُعْتَبَرْ، أَوِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُطْلَقُ مَعَ مُقَيِّدِهِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ مُعْظَمُ الْأَدِلَّةِ غَيْرَ نُصُوصٍ، بَلْ مُحْتَمِلَةً لِلتَّأْوِيلِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِنْهَا لِلنَّاظِرِ دَلِيلٌ يُسَلَّمُ بِإِطْلَاقٍ،

ثُمَّ أَخْبَارُ الْآحَادِ هِيَ عُمْدَةُ الشَّرِيعَةِ، وَهَى أَكْثَرُ الْأَدِلَّةِ، وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأَسَانِيدِ ضَعْفٌ حَتَّى إِنَّهَا مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا حُجَّةً أَمْ لَا، وَإِذَا كَانَتْ حُجَّةً فَلَهَا شُرُوطٌ أَيْضًا إِنِ اخْتَلَّتْ لَمْ تَعْمَلْ، أَوِ اخْتُلِفَ فِي إِعْمَالِهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُقْتَنَصُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ الْمَفْهُومُ، وَكُلُّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَا مَسْأَلَةَ تَتَفَرَّعُ عَنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ‏.‏

ثُمَّ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْقِيَاسِ أَتَى الْوَادِي بِطَمِّهِ عَلَى الْقُرَى بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي أَصْنَافِهِ، ثُمَّ فِي مَسَالِكِ عِلَلِهِ، ثُمَّ فِي شُرُوطِ صِحَّتِهِ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ يَسْلَمَ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ اعْتِرَاضًا، وَمَا أَبْعَدَ هَذَا مِنَ التَّخَلُّصِ حَتَّى يَصِيرَ مُقْتَضَاهُ حُكْمًا ظَاهِرًا جَلِيًّا‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ اسْتِدْلَالٍ شَرْعِيٍّ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ‏.‏

إِحْدَاهُمَا شَرْعِيَّةٌ، وَفِيهَا مِنَ النَّظَرِ مَا فِيهَا، وَمُقَدِّمَةٌ نَظَرِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنَاطٍ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ، بَلِ الْغَالِبُ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ، فَقَدْ صَارَ غَالِبُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ نَظَرِيَّةً، وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّ الْمَسَائِلَ النَّظَرِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ فِيهَا عَادَةً، وَهُوَ رَأْيُ الْقَاضِي أَيْضًا وَالنَّظَرِيَّةُ غَيْرُ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِيهَا فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ أَمَّا الْمُتَشَابِهُ بِحَسَبِ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ كُلِّهَا الَّتِي مَدَارُ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا، فَلَا تَشَابُهَ فِيهَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ؛ إِذْ هِيَ قَدْ فُسِّرَتْ بِالْعُمُومِ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ قَدْ نُصِبَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، وَبُيِّنَ الْمُرَادُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا عَامَّ إِلَّا مُخَصَّصٌ فَأَيُّ تَشَابُهٍ فِيهِ، وَقَدْ حَصَلَ بَيَانُهُ، وَمِثْلُهُ سَائِرُ الْأَنْوَاعِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَشَابِهًا عِنْدَ عَدَمِ بَيَانِهِ وَالْبُرْهَانُ قَائِمٌ عَلَى الْبَيَانِ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ قَبْلَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ لَا يَقْتَصِرُ ذُو الِاجْتِهَادِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْعَامِّ مَثَلًا حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ مُخَصِّصِهِ، وَعَلَى الْمُطْلَقِ حَتَّى يَنْظُرَ هَلْ لَهُ مُقَيِّدٌ أَمْ لَا إِذَا كَانَ حَقِيقَةُ الْبَيَانِ مَعَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَالْعَامُّ مَعَ خَاصِّهِ هُوَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ فُقِدَ الْخَاصُّ صَارَ الْعَامُّ مَعَ إِرَادَةِ الْخُصُوصِ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ وَصَارَ ارْتِفَاعُهُ زَيْغًا وَانْحِرَافًا عَنِ الصَّوَابِ‏.‏

وَلِأَجْلِ ذَلِكَ عُدَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ حَيْثُ اتَّبَعُوا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 40‏]‏، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وَتَرَكُوا مُبَيِّنَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏التَّكْوِير‏:‏ 29‏]‏ وَاتَّبَعَ الْخَوَارِجُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 40‏]‏، وَتَرَكُوا مُبَيِّنَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 95‏]‏، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 35‏]‏ وَاتَّبَعَ الْجَبْرِيَّةُ نَحْوَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 96‏]‏، وَتَرَكُوا بَيَانَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 82، 95‏]‏، وَمَا أَشْبَهَهُ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الْأَطْرَافَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِيمَا وَرَاءَهَا وَلَوْ جَمَعُوا بَيْنَ ذَلِكَ، وَوَصَلُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ لَوَصَلُوا إِلَى الْمَقْصُودِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْبَيَانُ مُقْتَرِنٌ بِالْمُبَيَّنِ، فَإِذَا أُخِذَ الْمُبَيَّنُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ صَارَ مُتَشَابِهًا وَلَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا، بَلِ الزَّائِغُونَ أَدْخَلُوا فِيهِ التَّشَابُهَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَضَلُّوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَبَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى يَتَقَرَّرُ بِفَرْضِ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ ‏[‏الْمُتَشَابِهُ الْوَاقِعُ فِي الشَّرِيعَةِ حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ‏]‏

وَهِيَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْوَاقِعَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

‏[‏الْأَوَّلُ‏:‏ الْمُتَشَابِهُ الْحَقِيقِيُّ‏]‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ حَقِيقِيٌّ وَالْآخَرُ إِضَافِيٌّ، وَهَذَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهَا نَفْسِهَا، وَثَمَّ ضَرْبٌ آخَرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَنَاطِ الَّذِي تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ‏.‏

فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لَنَا سَبِيلٌ إِلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ وَلَا نُصِبَ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، فَإِذَا نَظَرَ الْمُجْتَهِدُ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَتَقَصَّاهَا وَجَمَعَ أَطْرَافَهَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا مَا يَحْكُمُ لَهُ مَعْنَاهُ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهِ، وَمَغْزَاهُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ قَلِيلٌ لَا كَثِيرٌ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ السَّابِقَةُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ سِوَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي فَصْلِ الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ، وَفِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا نَزَلَتْ آيَةُ آلِ عِمْرَانَ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏ حِينَ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْهُمْ جُمْلَةً، وَوَصَفَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ مَعَ اخْتِلَافٍ مِنْ أَمْرِهِمْ يُرِيدُ فِي شَأْنِ عِيسَى يَقُولُونَ هُوَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَ يُبْرِئُ الْأَسْقَامَ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، ثُمَّ يَنْفَحُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا، وَيَقُولُونَ هُوَ وَلَدُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْلَمُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ بِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعْهُ وَلَدُ آدَمَ قَبْلَهُ، وَيَقُولُونَ هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ فَعَلْنَا وَأَمَرْنَا وَخَلَقْنَا وَقَضَيْنَا وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمَا قَالَ‏:‏ إِلَّا فَعَلْتُ، وَقَضَيْتُ، وَأَمَرْتُ، وَخَلَقْتُ وَلَكِنَّهُ هُوَ وَعِيسَى وَمَرْيَمَ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَفِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ يَعْنِي صَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 64‏]‏ فَفِي الْحِكَايَةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ؛ إِذْ قَاسُوهُ بِالْعَبِيدِ فَنَسَبُوا لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَأَثْبَتُوا لِلْمَخْلُوقِ مَالَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْخَالِقِ، وَنَفَوْا عَنِ الْخَالِقِ الْقُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ إِنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا، بَلْ حَكَمُوا عَلَى الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ بِمُقْتَضَى آرَائِهِمْ فَزَاغُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ‏.‏

‏[‏الثَّانِي‏:‏ الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ‏]‏

وَالثَّانِي‏:‏ وَهُوَ الْإِضَافِيُّ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي صَرِيحِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى دَاخِلًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُتَشَابِهًا مِنْ حَيْثُ وُضِعَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ بَيَانُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّ النَّاظِرَ قَصَّرَ فِي الِاجْتِهَادِ، أَوْ زَاغَ عَنْ طَرِيقِ الْبَيَانِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ الِاشْتِبَاهُ إِلَى الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى النَّاظِرِينَ التَّقْصِيرُ، أَوِ الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ الْأَدِلَّةِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ حُصُولِ الْبَيَانِ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ مَعَ عَدَمِهِ فَلِهَذَا قِيلَ‏:‏ إِنَّهُمْ دَاخِلُونَ بِالْمَعْنَى فِي حُكْمِ الْآيَةِ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ، وَغَيْرِهِمْ، وَمِثْلُهُ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ جَابِرَ بْنَ يَزِيدَ الْجُعْفِيَّ عَنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 80‏]‏ فَقَالَ جَابِرٌ‏:‏ لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏ قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ وَكَذَبَ‏.‏ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ‏:‏ فَقُلْنَا لِسُفْيَانَ‏:‏ مَا أَرَادَ بِهَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ الرَّافِضَةَ تَقُولُ إِنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ، فَلَا يَخْرُجُ يَعْنِي مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ وَلَدِهِ حَتَّى يُنَادِيَ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ يُرِيدُ عَلِيًّا أَنَّهُ يُنَادِي-‏:‏ اخْرُجُوا مَعَ فُلَانٍ يَقُولُ جَابِرٌ فَذَا تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَبَ، كَانَتْ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ‏.‏

فَهَذِهِ الْآيَةُ أَمْرُهَا وَاضِحٌ، وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ الْآيَةِ، وَمَا بَعْدَهَا كَمَا دَلَّ الْخَاصُّ عَلَى مَعْنَى الْعَامِّ، وَدَلَّ الْمُقَيَّدُ عَلَى مَعْنَى الْمُطْلَقُ فَلَمَّا قَطَعَ جَابِرٌ الْآيَةَ عَمَّا قَبْلَهَا، وَمَا بَعْدَهَا كَمَا قَطَعَ غَيْرُهُ الْخَاصَّ عَنِ الْعَامِّ وَالْمُقَيَّدَ عَنِ الْمُطْلَقِ صَارَ الْمَوْضِعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّوَقُّفُ لَكِنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ هَوَاهُ فَزَاغَ عَنْ مَعْنَى الْآيَةِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَالتَّشَابُهُ فِيهِ لَيْسَ بِعَائِدٍ عَلَى الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنَاطِ الْأَدِلَّةِ فَالنَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَاضِحٌ وَالْإِذْنُ فِي أَكْلِ الذَّكِيَّةِ كَذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَيْتَةُ بِالذَّكِيَّةِ حَصَلَ الِاشْتِبَاهُ فِي الْمَأْكُولِ لَا فِي الدَّلِيلِ عَلَى تَحْلِيلِهِ، أَوْ تَحْرِيمِهِ، لَكِنْ جَاءَ الدَّلِيلُ الْمُقْتَضِي لِحُكْمِهِ فِي اشْتِبَاهِهِ، وَهُوَ الِاتِّقَاءُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ لَا تَشَابُهَ فِيهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا دَخَلَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِمَّا يَكُونُ مَحَلُّ الِاشْتِبَاهِ فِيهِ الْمَنَاطَ لَا نَفْسَ الدَّلِيلِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ‏.‏

فَصْلٌ‏[‏الْمُتَشَابِهُ هُوَ الْحَقِيقِيُّ فَقَطْ‏]‏

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ بَاقِي السُّؤَالِ فَنَقُولُ‏:‏ قَدْ ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّشَابُهَ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الْأَدِلَّةِ مَعَ مَا يُعَارِضُهَا كَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ قَلِيلٌ، وَأَنَّ مَا عُدَّ مِنْهُ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْهُ التَّشَابُهُ الْحَقِيقِيُّ خَاصَّةً‏.‏

وَأَمَّا مَسَائِلُ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَثُرَتْ فَلَيْسَتْ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ فِيهَا مَا هُوَ مِنْهَا، وَهُوَ نَادِرٌ كَالْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِيمَا أَمْسَكَ عَنْهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ فَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِغَيْرِ التَّسْلِيمِ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِغَيْبَةِ الْمَحْجُوبِ أَمْرُهُ عَنِ الْعِبَادِ كَمَسَائِلِ الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالضَّحِكِ وَالْيَدِ وَالْقَدَمِ وَالْوَجْهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

وَحِينَ سَلَكَ الْأَوَّلُونَ فِيهَا مَسْلَكَ التَّسْلِيمِ، وَتُرِكَ الْخَوْضُ فِي مَعَانِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ فِيهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يُحَاطُ بِهِ جَهْلٌ وَلَا تَكْلِيفَ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهَا، وَمَا سِوَاهَا مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ تَشَابُهِ أَدِلَّتِهَا، فَإِنَّ الْبُرْهَانَ قَدْ دَلَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ جِهَةِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فِي مَخَارِجِهَا، وَمَنَاطَاتِهَا وَالْمُجْتَهِدُ لَا تَجِبِ إِصَابَتُهُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ بِمِقْدَارِ وُسْعِهِ وَالْأَنْظَارُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالتَّبَحُّرِ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ فَلِكُلٍّ مَأْخَذٌ يَجْرِي عَلَيْهِ وَطَرِيقٌ يَسْلُكُهُ بِحَسَبِهِ لَا بِحَسَبِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَخَرَجَ الْمَنْصُوصُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا قُصَارَاهُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى التَّشَابُهِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ الثَّانِي، أَوْ إِلَى التَّشَابُهِ الثَّالِثِ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ تَأْخُذُ كُلَّ عَالِمٍ فِي نَفْسِهِ، وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، فَلَا تَجِدُ عِنْدَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَشَابِهَةِ وَالنُّصُوصِ الْمُجْمَلَةِ إِلَّا النَّادِرَ الْقَلِيلَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الشَّرِيعَةَ مَأْخَذًا اطَّرَدَتْ لَهُ فِيهِ وَاسْتَمَرَّتْ أَدِلَّتُهَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَلَوْ كَانَ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِي الْمَسَائِلِ يَسْتَلْزِمُ تَشَابُهَ أَدِلَّتِهَا لَتَشَابَهَتْ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهَا بِالْبَيَانِ إِلَّا الْقَلِيلُ وَالْأَمْرُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَمَا مِنْ مُجْتَهِدٍ إِلَّا وَهُوَ مُقِرٌّ بِوُضُوحِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَإِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسَائِلِهَا، وَمُعْتَرِفٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِيهِ فَيَسْتَقْرِئُ مِنْ هَذَا إِجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ فِي الشَّرِيعَةِ قَلِيلٌ‏:‏ وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِكَثْرَةِ الْخِلَافِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ خِلَافٍ وَاقِعٍ لَا يَسْتَمِرُّ أَنْ يُعَدَّ فِي الْخِلَافِ أَمَّا أَوَّلًا فَلَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفِرَقَ الْخَارِجَةَ عَنِ السُّنَّةِ حِينَ لَمْ تَجْمَعْ بَيْنَ أَطْرَافِ الْأَدِلَّةِ تَشَابَهَتْ عَلَيْهَا الْمَآخِذُ فَضَلَّتْ، وَمَا ضَلَّتْ إِلَّا وَهَى غَيْرُ مُعْتَبِرَةِ الْقَوْلِ فِيمَا ضَلَّتْ فِيهِ فَخِلَافُهَا لَا يُعَدُّ خِلَافًا، وَهَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَاهَا فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْجَادَّةِ، وَإِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنَ الْخِلَافِ مَا هُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْوِفَاقِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ فَسَقَطَ بِسَبَبِهِ كَثِيرٌ مِمَّا يُعَدُّ فِي الْخِلَافِ، وَإِذَا رُوجِعَ مَا هُنَالِكَ تَبَيَّنَ مِنْهُ هَذَا الْمَقْصِدُ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ قَدْ أُدْخِلَ فِيهَا وَصَارَ مِنْ مَسَائِلِهَا وَلَوْ فُرِضَ رَفْعُهُ مِنَ الْوُجُودِ رَأْسًا لَمَا اخْتَلَّ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ شَئٌ بِدَلِيلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي فَهْمِهَا- دَعِ الْعَرَبَ الْمَحْفُوظَةَ اللِّسَانِ كَالصَّحَابَةِ، وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ مَنْ وُلِدَ بَعْدَ مَا فَسَدَ اللِّسَانُ فَاحْتَاجَ إِلَى عِلْمِ كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ قَبْلَهُمْ، أَوْ بَعْدَهُمْ وَأَمْثَالِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ وَقَعَ الْخِلَافُ بِسَبَبِهَا وَلَوْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْخِلَافُ‏.‏

وَمَنِ اسْتَقْرَأَ مَسَائِلَ الشَّرِيعَةِ وَجَدَ مِنْهَا فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ تِلْكَ الطَّبَقَةِ كَثِيرًا، وَقَدْ مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنَ الْعُلُومِ الْمُعِينَةِ لَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ، فَإِذَا جَمَعْتَ هَذِهِ الْأَطْرَافَ تَبَيَّنَ مِنْهَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ قَلِيلٌ، وَأَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الْأَمْرُ الْعَامُّ الْغَالِبُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏التَّشَابُهُ لَا يَقَعُ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ‏]‏

التَّشَابُهُ لَا يَقَعُ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الِاسْتِقْرَاءُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْأُصُولَ لَوْ دَخَلَهَا التَّشَابُهُ لَكَانَ أَكْثَرُ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ‏.‏

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ يَصِحُّ بِصِحَّتِهِ، وَيَفْسُدُ بِفَسَادِهِ، وَيَتَّضِحُ بِاتِّضَاحِهِ، وَيَخْفَى بِخَفَائِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ مُثْبَتٌ فِي الْفَرْعِ؛ إِذْ كُلُّ فَرْعٍ فِيهِ مَا فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْفُرُوعَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأُصُولِ الْمُتَشَابِهَةِ مُتَشَابِهَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُصُولَ مَنُوطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي التَّفْرِيعِ عَلَيْهَا فَلَوْ وَقَعَ فِي أَصْلٍ مِنَ الْأُصُولِ اشْتِبَاهٌ لَزِمَ سَرَيَانُهُ فِي جَمِيعِهَا، فَلَا يَكُونُ الْمُحْكَمُ أُمَّ الْكِتَابِ لَكِنَّهُ كَذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكِتَابِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا، فَإِنَّ أَكْثَرَ الزَّائِغِينَ عَنِ الْحَقِّ إِنَّمَا زَاغُوا فِي الْأُصُولِ لَا فِي الْفُرُوعِ وَلَوْ كَانَ زَيْغُهُمْ فِي الْفُرُوعِ لَكَانَ الْأَمْرُ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُصُولِ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ كَانَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ، أَوْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ الْكُلِّيَّةِ لَا الْجُزْئِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّشَابُهَ وَقَعَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا ‏[‏وَقَعَ‏]‏ فِي فُرُوعِهَا؛ فَالْآيَاتُ الْمُوهِمَةُ لِلتَّشْبِيهِ وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ مِثْلُهَا فَرُوعٌ عَنْ أَصْلِ التَّنْزِيهِ الَّذِي هُوَ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ كَمَا أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ، وَتَشَابُهَهَا وَاقِعٌ ذَلِكَ فِي بَعْضِ فُرُوعٍ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، بَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي التَّشَابُهِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمَنَاطِ، فَإِنَّ الْإِشْكَالَ الْحَاصِلَ فِي الذَّكِيَّةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالْمَيْتَةِ مِنْ بَعْضِ فُرُوعِ أَصْلِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْمَنَاطَاتِ الْبَيِّنَةِ، وَهِيَ الْأَكْثَرُ، فَإِذَا اعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى؛ لَمْ يُوجَدِ التَّشَابُهُ فِي قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا فِي أَصْلٍ عَامٍّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤْخَذَ التَّشَابُهُ عَلَى أَنَّهُ الْإِضَافِيُّ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ حَصَلَ فِي الْعَقَائِدِ الزَّيْغُ وَالضَّلَالُ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا وَلَا هُوَ مَقْصُودٌ صَرِيحُ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏ فَأَثْبَتَ فِيهِ مُتَشَابِهًا، وَمَا هُوَ رَاجِعٌ لِغَلَطِ النَّاظِرِ لَا يُنْسَبُ إِلَى الْكِتَابِ حَقِيقَةً، وَإِنْ نُسِبَ إِلَيْهِ فَبِالْمَجَازِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ ‏[‏التَّأْوِيلُ فِي الْمُتَشَابِهِ الْإِضَافِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ‏]‏

تَسْلِيطُ التَّأْوِيلِ عَلَى التَّشَابُهِ فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْحَقِيقِيِّ، أَوْ مِنَ الْإِضَافِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْإِضَافِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ إِذَا تَعَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَمَا بُيِّنَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ بِالْمُقَيَّدِ وَالضَّرُورِيُّ بِالْحَاجِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَهُمَا هُوَ الْمُحْكَمُ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْحَقِيقِيِّ فَغَيْرُ لَازِمٍ تَأْوِيلُهُ؛ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي بَابِ الْإِجْمَالِ وَالْبَيَانِ أَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بَيَانُهُ بِالْقُرْآنِ الصَّرِيحِ، أَوْ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ وَقَعَ بَيَانُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّشَابُهِ، وَهُوَ الْإِضَافِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالْكَلَامُ فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَسَوُّرٌ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيِنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ لَمْ يَعْرِضُوا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَا تَكَلَّمُوا فِيهَا بِمَا يَقْتَضِي تَعْيِينُ تَأْوِيلٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُمُ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏، وَقَدْ ذَهَبَ جُمْلَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُمَّةِ إِلَى تَسْلِيطِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهَا أَيْضًا رُجُوعًا إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ اتِّسَاعِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا مِنْ جِهَةِ الْكِنَايَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاتِّسَاعِ تَأْنِيسًا لِلطَّالِبِينَ، وَبِنَاءً عَلَى اسْتِبْعَادِ الْخِطَابِ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعَ إِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ وَلَكِنَّ الصَّوَابَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْغَزَّالِيُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِأُمُورٍ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِـ ‏(‏إِلْجَامُ الْعَوَامِّ‏)‏ فَطَالِعْهُ مِنْ هُنَالِكَ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ ‏[‏مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُؤَوَّلِ بِهِ أَوْ مَا يُرَاعَى فِي وَصْفِهِ‏]‏

إِذَا تَسَلَّطَ التَّأْوِيلُ عَلَى الْمُتَشَابِهِ فَيُرَاعَى فِي الْمُؤَوَّلِ بِهِ أَوْصَافٌ ثَلَاثَةٌ‏:‏ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَعْنًى صَحِيحٍ فِي الِاعْتِبَارِ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ الْمُؤَوَّلُ قَابِلًا لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمُؤَوَّلَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَقْبَلَهُ اللَّفْظُ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ فَاللَّفْظُ نَصٌّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ، فَلَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَإِنْ قَبِلَهُ اللَّفْظُ فَإِمَّا أَنْ يَجْرِيَ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ أَوَّلًا، فَإِنْ جَرَى عَلَى ذَلِكَ، فَلَا إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَابِلٌ لَهُ وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ اللَّفْظِ لَا يَأْبَاهُ فَاطِّرَاحُهُ إِهْمَالٌ لِمَا هُوَ مُمْكِنُ الِاعْتِبَارِ قَصْدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى إِهْمَالِهِ، أَوْ مَرْجُوحِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْمِلَهُ اللَّفْظُ عَلَى حَالٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مَعَ تَرْكِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ رُجُوعًا إِلَى الْعَمَى، وَرَمْيًا فِي جَهَالَةٍ، فَهُوَ تَرْكٌ لِلدَّلِيلِ لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَبَاطِلٌ‏.‏

هَذَا وَجْهٌ‏.‏

وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى الدَّلِيلِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَالنَّاظِرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُبْطِلَ الْمَرْجُوحَ جُمْلَةً اعْتِمَادًا عَلَى الرَّاجِحِ وَلَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ الْجَمْعَ، وَهَذَا نَظَرٌ يُرْجَعُ إِلَى مِثْلِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُبْطِلَهُ، وَيَعْتَمِدَ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ، فَذَلِكَ الْوَجْهُ إِنْ صَحَّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ نَقْضُ الْغَرَضِ؛ لِأَنَّهُ رَامَ تَصْحِيحَ دَلِيلِهِ الْمَرْجُوحِ لِشَيْءٍ لَا يَصِحُّ، فَقَدْ أَرَادَ تَصْحِيحَ الدَّلِيلِ بِأَمْرٍ بَاطِلٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ عِنْدَ مَا رَامَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، هَذَا خُلْفٌ‏.‏

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ تَأْوِيلَ الدَّلِيلِ مَعْنَاهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَلِيلًا فِي الْجُمْلَةِ فَرَدُّهُ إِلَى مَا يَصِحُّ رُجُوعٌ إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ لَا يَصِحُّ عَلَى وَجْهٍ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَمِثَالُهُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ لَفَظَ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 125‏]‏ بِالْفَقِيرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيَّ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ غَوَى مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ أَنَّهُ مِنْ غَوِيَ الْفَصِيلُ لِعَدَمِ صِحَّةِ غَوَى بِمَعْنَى غَوِيَ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْوِيلُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَمِثَالُ مَا تَخَلَّفَتْ فِيهِ الْأَوْصَافُ تَأْوِيلُ بَيَانِ بْنِ سَمْعَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 138‏]‏‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏جَرَيَانُ مَا سَبَقَ عَلَى بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ‏]‏

وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِبَابِ التَّأْوِيلِ، بَلْ هُوَ جَارٍ فِي بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ، فَإِنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ قَدْ يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فَيَفْتَقِرُ إِلَى التَّرْجِيحِ فِيهِمَا فَذَلِكَ ثَانٍ عَنْ صِحَّةِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لَهُمَا وَصِحَّتِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَالدَّلِيلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّانِي‏:‏ فِي الْإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ

وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى‏:‏ ‏[‏الْقَوَاعِدُ الْمَكِّيَّةُ وَالْأَحْكَامُ الْمَدَنِيَّةُ‏]‏

اعْلَمْ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ هِيَ الْمَوْضُوعَةُ أَوَّلًا وَالَّذِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ تَبِعَهَا أَشْيَاءُ بِالْمَدِينَةِ كَمُلَتْ بِهَا تِلْكَ الْقَوَاعِدُ الَّتِي وُضِعَ أَصْلُهَا بِمَكَّةَ، وَكَانَ أَوَّلُهَا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ثُمَّ تَبِعَهُ مَا هُوَ مِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ؛ كَالصَّلَاةِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا هُوَ كُفْرٌ، أَوْ تَابِعٌ لِلْكُفْرِ كَالِافْتِرَاءَاتِ الَّتِي افْتَرَوْهَا مِنَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا جُعِلَ لِلَّهِ وَلِلشُّرَكَاءِ الَّذِينَ ادَّعَوْهُمُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَسَائِرُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَوْ أَوْجَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مِمَّا يَخْدِمُ أَصْلَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا كَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِ وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَنَحْوِهَا، وَنَهَى عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، وَالْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالتَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَالزِّنَا وَالْقَتْلِ وَالْوَأْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ سَائِرًا فِي دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْمَشْرُوعَاتُ بِمَكَّةَ قَلِيلَةً وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ كَانَتْ فِي النُّزُولِ وَالتَّشْرِيعِ أَكْثَرُ‏.‏

ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْإِسْلَامِ كَمُلَتْ هُنَالِكَ الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى تَدْرِيجٍ كَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، وَتَحْرِيمِ الْمُسْكِرَاتِ، وَتَحْدِيدِ الْحُدُودِ الَّتِي تَحْفَظُ الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ، وَمَا يُكَمِّلُهَا، وَيُحَسِّنُهَا وَرَفْعِ الْحَرَجِ بِالتَّخْفِيفَاتِ وَالرُّخَصِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ تَكْمِيلٌ لِلْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ‏.‏

فَالنَّسْخُ إِنَّمَا وَقَعَ مُعْظَمَهُ بِالْمَدِينَةِ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي تَمْهِيدِ الْأَحْكَامِ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُ مُعْظَمَ النُّسَخِ إِنَّمَا هُوَ لِمَا كَانَ فِيهِ تَأْنِيسٌ أَوَّلًا لِلْقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَاسْتِئْلَافٌ لَهُمْ، مِثْلَ كَوْنِ الصَّلَاةِ كَانَتْ صَلَاتَيْنِ، ثُمَّ صَارَتْ خَمْسًا، وَكَوْنِ إِنْفَاقِ الْمَالِ مُطْلَقًا بِحَسَبِ الْخِيَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ صَارَ مَحْدُودًا مُقَدَّرًا، وَأَنَّ الْقِبْلَةَ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَارَتِ الْكَعْبَةَ، وَكَحِلِّ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، ثُمَّ تَحْرِيمِهِ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ، ثُمَّ صَارَ ثَلَاثًا وَالظِّهَارُ كَانَ طَلَاقًا، ثُمَّ صَارَ غَيْرَ طَلَاقٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ أَصْلُ الْحُكْمِ فِيهِ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أُزِيلَ، أَوْ كَانَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ قَرِيبًا خَفِيفًا، ثُمَّ أُحْكِمَ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ ‏[‏النَّسْخُ فِي الْكُلِّيَّاتِ مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ لَا يَقَعُ‏]‏

لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ بِمَكَّةَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ فِي الدِّينِ عَلَى غَالِبِ الْأَمْرِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ فِيهَا قَلِيلٌ لَا كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي الْكُلِّيَّاتِ، وُقُوعًا، وَإِنْ أَمْكَنَ عَقْلًا‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ إِنَّمَا أَتَى بِالْمَدِينَةِ مَا يُقَوِّيهَا، وَيُحْكِمُهَا، وَيُحَصِّنُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخٌ لِكُلِّيٍّ أَلْبَتَّةَ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ كُتُبَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ تَحَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّمَا يَكُونُ النَّسْخُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ مِنْهَا، وَالْجُزْئِيَّاتُ الْمَكِّيَّةُ قَلِيلَةٌ‏.‏

وَإِلَى هَذَا، فَإِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ الْفَرْعِيَّةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَقِيَ مُحْكَمًا قَلِيلَةٌ، وَيَقْوَى هَذَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمَنْسُوخَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَغَيْرَ الْمَنْسُوخِ مِنَ الْمُحْكِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

فَدُخُولُ النُّسَخِ فِي الْفُرُوعِ الْمَكِّيَّةِ قَلِيلٌ، وَ هِيَ قَلِيلَةٌ فَالنُّسَخُ فِيهَا قَلِيلٌ فِي قَلِيلٍ، فَهُوَ إِذًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ نَادِرٌ‏.‏

وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا ثَبَتَتْ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَادِّعَاءُ النَّسْخِ فِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوَّلًا مُحَقَّقٌ؛ فَرَفْعُهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ؛ وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ وَلَا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْمَقْطُوعِ بِهِ بِالْمَظْنُونِ فَاقْتَضَى هَذَا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ يَدَّعِي نَسْخَهُ لَا يَنْبَغِي قَبُولُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِيهِ إِلَّا مَعَ قَاطِعٍ بِالنَّسْخِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَا دَعْوَى الْإِحْكَامِ فِيهِمَا‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏إِسْقَاطُ كَثِيرٍ مِنَ النَّسْخِ الْمُدَّعَى عَلَى جُمْلَةِ آيَاتٍ وَأَحْكَامٍ‏]‏

وَهَكَذَا يُقَالُ‏:‏ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مَكِّيَّةٌ كَانَتْ، أَوْ مَدَنِيَّةٌ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ مَا ادُّعِيَ فِيهِ النَّسْخُ إِذَا تَأَمَّلْ وَجَدْتَهُ مُتَنَازِعًا فِيهِ، وَمُحْتَمَلًا، وَقَرِيبًا مِنَ التَّأْوِيلِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ كَوْنِ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، أَوْ تَخْصِيصًا لِعُمُومٍ، أَوْ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ الْإِحْكَامِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي‏.‏

وَقَدْ أَسْقَطَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ كَثِيرًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فُرِضَتْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا‏.‏

قَالَ ابْنُ النَّحَّاس‏:‏ فَلَمَّا ثَبَتَتْ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِالْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَالَ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ حَدِيثٍ يُزِيلُهَا، وَيُبَيِّنُ نَسْخَهَا وَلَمْ يَأْتِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ‏.‏ انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ‏.‏

وَوَجْهٌ رَابِعٌ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ النَّسْخِ، وَنُدُورِهِ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا هُوَ مُبَاحٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ كَالْخَمْرِ وَالرِّبَا، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُمَا بَعْدَ مَا كَانَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لَا يُعَدُّ نَسْخًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي حَدِّ النَّسْخِ إِنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ، وَمِثْلُهُ رَفْعُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِدَلِيلٍ‏.‏

وَقَدْ كَانُوا فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى أَنْ نَزَلَ ‏{‏وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 238‏]‏ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْتَفِتُونَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 2‏]‏ قَالُوا، وَهَذَا إِنَّمَا نَسَخَ أَمْرًا كَانُوا عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ، مَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ فَهُوَ مِمَّا لَا يُعَدُّ نَسْخًا، وَهَكَذَا كُلُّ مَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ‏.‏

فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ، وَنَظَرْتَ إِلَى الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَتَخَلَّصْ فِي يَدِكَ مِنْ مَنْسُوخِهَا إِلَّا مَا هُوَ نَادِرٌ عَلَى أَنَّ هَاهُنَا مَعْنًى يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ لِيُفْهَمَ اصْطِلَاحُ الْقَوْمِ فِي النَّسْخِ، وَهِيَ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ ‏[‏مَعَانِي النَّسْخِ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ‏]‏

وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ النَّسْخَ عِنْدَهُمْ فِي الْإِطْلَاقِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَدْ يُطْلِقُونَ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ نَسْخًا، وَعَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ، أَوْ مُنْفَصِلٍ نَسْخًا، وَعَلَى بَيَانِ الْمُبْهَمِ وَالْمُجْمَلِ نَسْخًا كَمَا يُطْلِقُونَ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ نَسْخًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُشْتَرِكٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِ اقْتَضَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا جِيءَ بِهِ آخِرًا؛ فَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ؛ وَالثَّانِي‏:‏ هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ‏.‏

وَهَذَا الْمَعْنَى جَارٍ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ مَعَ مُقَيِّدِهِ، فَلَا إِعْمَالَ لَهُ فِي إِطْلَاقِهِ، بَلِ الْمُعْمَلُ هُوَ الْمُقَيَّدُ، فَكَأَنَّ الْمُطْلَقَ لَمْ يُفِدْ مَعَ مُقَيِّدِهِ شَيْئًا فَصَارَ مِثْلَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَكَذَلِكَ الْعَامُّ مَعَ الْخَاصِّ؛ إِذْ كَانَ ظَاهِرُ الْعَامِّ يَقْتَضِي شُمُولَ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فَلَمَّا جَاءَ الْخَاصُّ أَخْرَجَ حُكْمَ ظَاهِرِ الْعَامِّ عَنِ الِاعْتِبَارِ فَأَشْبَهَ النَّاسِخَ الْمَنْسُوخَ إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَمْ يُهْمَلْ مَدْلُولُهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا أُهْمِلَ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَاصُّ، وَبَقِيَ السَّائِرُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَالْمُبَيَّنُ مَعَ الْمُبْهَمِ كَالْمُقَيَّدِ مَعَ الْمُطْلَقِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اسْتُسْهِلَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّسْخِ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِرُجُوعِهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 18‏]‏‏:‏ إِنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وَعَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقٍ إِذَا كَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ مُطْلَقًا، وَمَعْنَاهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى‏:‏ ‏{‏لِمَنْ نُرِيدُ‏}‏، وَإِلَّا فَهُوَ إِخْبَارٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 224- 226‏]‏‏:‏ هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 227‏]‏‏.‏

قَالَ مَكِّيٌّ‏:‏ وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنْسُوخٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُرْتَبِطٌ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَيْنَهُ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ عَمَّهُمُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ، وَالنَّاسِخُ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْمَنْسُوخِ رَافِعٌ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ بِغَيْرِ حَرْفٍ‏.‏

هَذَا مَا قَالَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ النَّسْخِ، إِذْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 27‏]‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النُّور‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وَلَيْسَ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏ يُثْبِتُ أَنَّ الْبُيُوتَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْمَسْكُونَةُ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 41‏]‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 122‏]‏ وَالْآيَتَانِ فِي مَعْنَيَيْنِ وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ لَا يَجِبَ النَّفِيرُ عَلَى الْجَمِيعِ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 1‏]‏ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 41‏]‏، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بَيَانٌ لِمُبْهَمٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏

وَقَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 69‏]‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 140‏]‏، وَآيَةُ الْأَنْعَامِ خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَخْبَارُ لَا تَنْسَخُ وَلَا تُنْسَخُ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 8‏]‏‏:‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ‏.‏

وَقَالَ مِثْلَهُ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ نَسَخَهُ الْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ‏.‏

وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مُمْكِنٌ لِاحْتِمَالِ ‏[‏حَمْلِ‏]‏ الْآيَةِ عَلَى النَّدْبِ وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْقُرْبَى مَنْ لَا يَرِثُ بِدَلِيلِ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَضَرَ‏}‏ فَقَيَّدَ كَمَا تَرَى الرِّزْقَ بِالْحُضُورِ، ‏[‏فَدَلَّ أَنَّ‏]‏ الْمُرَادَ غَيْرُ الْوَارِثِينَ، وَبَيَّنَ الْحَسَنُ أَنَّ الْمُرَادَ النَّدْبُ أَيْضًا بِدَلِيلِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَهُوَ مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبْهَمِ‏.‏

وَقَالَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 284‏]‏‏:‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏، مَعَ أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي وُسْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏ بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْآيَةَ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ؛ إِذْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 283‏]‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 284‏]‏ فَحَصَلَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، أَوْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 31‏]‏‏:‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النُّور‏:‏ 60‏]‏ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُمُومِ‏.‏

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 5‏]‏ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 121‏]‏، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ طَعَامَهُمْ حَلَالٌ بِشَرْطِ التَّسْمِيَةِ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ، لَكِنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ هِيَ آيَةُ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَفِي الثَّانِي بِالْعَكْسِ‏.‏

وَقَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 16‏]‏‏:‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 65‏]‏ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ، وَبَيَانٌ لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُوَلِّهِمْ‏}‏ فَكَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى‏:‏ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَكَانُوا مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَعَارُضَ وَلَا نَسْخَ بِالْإِطْلَاقِ الْأَخِيرِ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 24‏]‏‏:‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ‏.‏

وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 5‏]‏‏:‏ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي غَافِرٍ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏غَافِرٍ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ آيَةَ غَافِرٍ مُبَيِّنَةٌ لِآيَةِ الشُّورَى؛ إِذْ هُوَ خَبَرٌ مَحْضٌ وَالْأَخْبَارُ لَا نَسْخَ فِيهَا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاس‏:‏ هَذَا لَا يَقَعُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ، وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نُسْخَةِ تِلْكَ الْآيَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَإِحْدَاهُمَا تُبَيِّنُ الْأُخْرَى‏.‏

قَالَ‏:‏ وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُتَأَوَّلَ لِلْعُلَمَاءِ وَلَا يُتَأَوَّلُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ الْعَظِيمُ إِذَا كَانَ لِمَا قَالُوهُ وَجْهٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 5‏]‏ قَالَ‏:‏ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ‏.‏

وَعَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ شِهَابٍ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 34‏]‏ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 103‏]‏، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا يُسَمَّى كَنْزًا، وَأَنَّ الْمَالَ إِذَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ لَا يُسَمَّى كَنْزًا، وَبَقِيَ مَا لَمْ يُزَكَّ دَاخِلًا تَحْتَ التَّسْمِيَةِ، فَلَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ‏.‏

وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 102‏]‏‏:‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التَّغَابُن‏:‏ 16‏]‏، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ، وَهَذَا مِنَ الطِّرَازِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ مَدَنِيَّتَانِ وَلَمْ تَنْزِلَا إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ الدِّينَ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ مَرْفُوعٌ فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 102‏]‏ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التَّغَابُن‏:‏ 16‏]‏ فَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالنَّسْخِ أَنَّ إِطْلَاقَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مُقَيَّدٌ بِسُورَةِ التَّغَابُنِ‏.‏

وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 228‏]‏‏:‏ إِنَّهُ نَسَخَ مِنْ ذَلِكَ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 49‏]‏ وَالَّتِي يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ بَعْدُ وَالْحَامِلَ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 40‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 29‏]‏، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏التَّكْوِير‏:‏ 28‏]‏‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التَّكْوِير‏:‏ 29‏]‏، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ مَعْنَى لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ فَالْمُرَادُ أَنَّ إِسْنَادَ الْمَشِيئَةِ لِلْعِبَادِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 97‏]‏، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 98‏]‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 99‏]‏، وَهَذَا مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يَصِحُّ نَسْخُهَا وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُمُومَ الْأَعْرَابِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ كَفَرَ دُونَ مَنْ آمَنَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ، وَغَيْرُهُ إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 4‏]‏ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النُّور‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ‏.‏

وَقِيلَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 53‏]‏ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 48‏]‏، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 93‏]‏، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ‏.‏

وَفِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 98‏]‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 101‏]‏، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مَرْيَمَ‏:‏ 71‏]‏ مَنْسُوخٌ بِهَا أَيْضًا، وَهُوَ إِطْلَاقُ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ‏.‏

قَالَ مَكِّيٌّ‏:‏ وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَوْ نُسِخَ لَوَجَبَ زَوَالُ حُكْمِ دُخُولِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كُلِّهِمُ النَّارَ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِزَالَةُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَحُلُولُ الثَّانِي مَحَلَّهُ وَلَا يَجُوزُ زَوَالُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا بِكُلِّيَّتِهِ إِنَّمَا زَالَ بَعْضُهُ فَهُوَ تَخْصِيصٌ، وَبَيَانٌ‏.‏

وَفِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 25‏]‏ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 25‏]‏، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِشَرْطِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ‏.‏

وَالْأَمْثِلَةُ هُنَا كَثِيرَةٌ تُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ النَّسْخِ بَيَانُ مَا فِي تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مُجَرَّدِ ظَاهِرِهِ إِشْكَالٌ وَإِيهَامٌ لِمَعْنًى غَيْرِ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ إِطْلَاقِ الْأُصُولِيِّينَ فَلْيُفْهَمْ هَذَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ وَمَا يَحْفَظُهَا ثَابِتَةٌ لَا يَدْخُلُهَا نَسْخٌ‏]‏

الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ لَمْ يَقَعْ فِيهَا نَسْخٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ فِي أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ بِدَلِيلِ الِاسْتِقْرَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يَعُودُ بِالْحِفْظِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ ثَابِتٌ، وَإِنْ فُرِضَ نَسْخُ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْحِفْظِ، وَإِنْ فُرِضَ النَّسْخُ فِي بَعْضِهَا إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَأَصْلُ الْحِفْظِ بَاقٍ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ رَفْعُ الْجِنْسِ‏.‏

بَلْ زَعَمَ الْأُصُولِيُّونَ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ مُرَاعَاةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَوْجُهُ الْحِفْظِ بِحَسَبِ كُلِّ مِلَّةٍ، وَهَكَذَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ فِي الْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 90‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وَكَثِيرٌ مِنَ الْآيَاتِ أُخْبِرَ فِيهَا بِأَحْكَامٍ كُلِّيَّةٍ كَانَتْ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ فِي شَرِيعَتِنَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 183‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏الْقَلَم‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 45‏]‏ إِلَى سَائِرٍ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الضَّرُورِيَّاتِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْحَاجِيَّاتُ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا بِمَا لَا يُطَاقُ، هَذَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ كُلِّفُوا بِأُمُورٍ شَاقَّةٍ فَذَلِكَ لَا يَرْفَعُ أَصْلَ اعْتِبَارِ الْحَاجِيَّاتِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّحْسِينِيَّاتُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 29‏]‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 90‏]‏ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ دُخُولَ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 48‏]‏، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ مَعَانِي الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، فَإِذَا كَانَتِ الشَّرَائِعُ قَدِ اتَّفَقَتْ فِي الْأُصُولِ مَعَ وُقُوعِ النَّسْخِ فِيهَا، وَثَبَتَتْ وَلَمْ تُنْسَخْ، فَهِيَ فِي الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ الْجَامِعَةِ لِمَحَاسِنِ الْمِلَلِ أَوْلَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّالِثُ‏:‏ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي

وَفِيهِ مَسَائِلُ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى‏:‏ ‏[‏الطَّلَبُ وَالْإِرَادَةُ مِنَ الْآمِرِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ‏]‏

الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَسْتَلْزِمُ طَلَبًا وَإِرَادَةً مِنَ الْآمِرِ؛ فَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِرَادَةَ إِيقَاعِهِ وَالنَّهْيُ يَتَضَمَّنُ طَلَبًا لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِرَادَةً لِعَدَمِ إِيقَاعِهِ، وَمَعَ هَذَا فَفِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَتَضَمَّنَانِ، أَوْ يَسْتَلْزِمَانِ إِرَادَةً بِهَا يَقَعُ الْفِعْلُ، أَوِ التَّرْكُ، أَوْ لَا يَقَعُ‏.‏

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِرَادَةَ جَاءَتْ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الْإِرَادَةُ الْخَلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكُلِّ مُرَادٍ فَمَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ كَانَ، وَمَا أَرَادَ أَنْ لَا يَكُونَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِهِ، أَوْ تَقُولُ، وَمَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْإِرَادَةُ الْأَمْرِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِطَلَبِ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَعَدَمِ إِيقَاعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ أَنَّهُ يُحِبُّ فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَرْضَاهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمَأْمُورُ، وَيَرْضَاهُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ يُحِبُّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَرْضَاهُ‏.‏

فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ؛ فَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي بِالْأَمْرِ؛ إِذِ الْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُهَا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ إِلْزَامِ الْمُكَلَّفِ الْفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِلْزَامُ مُرَادًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إِلْزَامًا وَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ‏.‏

وَأَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ الْإِلْزَامَ مَعَ الْعُرُوِّ عَنْ إِرَادَةِ إِيقَاعِ الْمُلْزَمِ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَ أَهْلَ الطَّاعَةِ فَكَانَ أَيْضًا مُرِيدًا لِوُقُوعِ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ فَوَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْقَدَرِيُّ وَلَمْ يَعْنِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يُرِدْ وُقُوعَ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ فَكَانَ الْوَاقِعُ التَّرْكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْإِرَادَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَسْتَلْزِمُهَا الْأَمْرُ، فَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ، وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ، وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يُرِيدُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا لَا يُرِيدُ‏.‏

وَالْإِرَادَةُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ قَدْ جَاءَتْ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَقَالَ تَعَالَى فِي الْأُولَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

وَفِي حِكَايَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 253‏]‏، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا‏.‏

وَقَالَ فِي الثَّانِيَة‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 26- 28‏]‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 33‏]‏، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا أَيْضًا‏.‏

وَلِأَجْلِ عَدَمِ التَّنَبُّهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ وَقَعَ الْغَلَطُ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَرُبَّمَا نَفَى بَعْضُ النَّاسِ الْإِرَادَةَ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقًا، وَرُبَّمَا نَفَاهَا بَعْضُهُمْ عَمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مُطْلَقًا، وَأَثْبَتَهَا فِي الْأَمْرِ مُطْلَقًا، وَمَنْ عَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَحَاصِلُ الْإِرَادَةِ الْأَمْرِيَّةِ أَنَّهَا إِرَادَةُ التَّشْرِيعِ وَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهَا بِإِطْلَاقٍ، وَالْإِرَادَةُ الْقَدَرِيَّةُ هِيَ إِرَادَةُ التَّكْوِينِ، فَإِذَا رَأَيْتَ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقَصْدِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى الشَّارِعِ فَإِلَى مَعْنَى الْإِرَادَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ أُشِيرُ، وَهِيَ أَيْضًا إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ شَهِيرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا إِرَادَةَ التَّكْوِينِ، وَيَعْنُونَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ، وَيَعْنُونَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي يَجْرِي ذِكْرُهُ بِلَفْظِ الْقَصْدِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ ‏[‏الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقَاتِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى إِيقَاعِهَا‏]‏

الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقَاتِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى إِيقَاعِهَا كَمَا أَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لِتَرْكِ إِيقَاعِهَا‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ وَاقْتِضَاءُ التَّرْكِ، وَمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ الطَّلَبُ وَالطَّلَبُ يَسْتَلْزِمُ مَطْلُوبًا وَالْقَصْدُ لِإِيقَاعِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ وَلَا مَعْنَى لِلطَّلَبِ إِلَّا هَذَا‏.‏

وَوَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ طَلَبٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ لِإِيقَاعِ الْمَطْلُوبِ لَأَمْكَنَ أَنْ يَرِدَ أَمْرٌ مَعَ الْقَصْدِ لِعَدَمِ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَأَنْ يَرِدَ نَهْيٌ مَعَ الْقَصْدِ لِإِيقَاعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ أَمْرًا وَلَا النَّهْيُ نَهْيًا، هَذَا خُلْفٌ، وَلَصَحَّ انْقِلَابُ الْأَمْرِ نَهْيًا، وَبِالْعَكْسِ وَلَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ فِعْلٍ، أَوْ عَدِمَهُ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ، أَوِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُبَاحًا، أَوْ مَسْكُوتًا عَنْ حُكْمِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ‏.‏

وَالثَّالِثُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ كَلَامُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ بِاتِّفَاقٍ وَالْأَمْرُ فِي هَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ مَقْصُودًا إِلَى إِيقَاعِهِ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، فَإِنَّ جَوَازَهُ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الْقَصْدِ إِلَى إِيقَاعِهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ مَا لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهُ عَبَثٌ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ إِلَى الْأَمْرِ بِمَا لَا يُطَاقُ عَبَثًا، وَتَجْوِيزُ الْعَبَثِ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ؛ فَكُلُّ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ مُحَالٌ، وَذَلِكَ اسْتِلْزَامُ الْقَصْدِ إِلَى الْإِيقَاعِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْإِيقَاعِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحْظُورٌ عَقْلِيٌّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَلْزَمُ فِي السَّيِّدِ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهَ بِحَضْرَةِ مَلِكٍ قَدْ تَوَعَّدَ السَّيِّدَ عَلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ، وَطَلَبَ تَمْهِيدَ عُذْرِهِ بِمُشَاهَدَةِ الْمَلِكِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الْعَبْدَ، وَهُوَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لِإِهْلَاكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَصْدُرُ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا وَهُوَ آمِرٌ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ آمِرٍ قَاصِدًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ حَرْفًا بِحَرْفٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ نَحْوَ ‏{‏فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 15‏]‏، وَفِي أَمْرِ التَّهْدِيدِ نَحْوَ ‏{‏اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 40‏]‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْجِزَ وَالْمُهَدِّدَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي تِلْكَ الصِّيغَةِ‏.‏

فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى إِيقَاعِ مَا لَا يُطَاقُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ حُصُولُهُ؛ إِذِ الْقَصْدُ إِلَى الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِرَادَةَ الشَّيْءِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ الْأَمْرَ إِرَادَةُ الْفِعْلِ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ‏.‏

وَأَمَّا الْأَشَاعِرَةُ فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْإِرَادَةِ، وَإِلَّا وَقَعَتِ الْمَأْمُورَاتُ كُلُّهَا، وَأَيْضًا لَوْ فُرِضَ فِي تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ عَدَمُ الْقَصْدِ إِلَى إِيقَاعِهِ لَمْ يَكُنْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِلْزَامُ فِعْلِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِلْزَامُ الْفِعْلِ هُوَ الْقَصْدُ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ، أَوْ لَازَمَ الْقَصْدَ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ، فَلَا تَكْلِيفَ بِهِ فَهُوَ طَلَبٌ لِلتَّحْصِيلِ لَا طَلَبٌ لِلْحُصُولِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَاضِحٌ‏.‏

وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَسْئِلَةِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ، فَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَطْلُبْ حُصُولَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ طَلَبِ التَّحْصِيلِ وَطَلَبِ الْحُصُولِ‏.‏

وَأَمَّا أَمْرُ التَّعْجِيزِ وَالتَّهْدِيدِ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِأَمْرٍ، وَإِنْ قِيلَ‏:‏ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَجَازِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ إِذِ الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ مَجَازِيًّا فَيَسْتَلْزِمُ قَصْدًا بِهِ يَكُونُ أَمْرًا فَيُتَصَوَّرُ وَجْهُ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ أَمْرًا دُونَ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِوَجْهٍ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ ‏[‏الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ‏]‏

الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهُ لَوِ اسْتَلْزَمَ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ لَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْمُطْلَقِ‏.‏

وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ، هَذَا خُلْفٌ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ‏:‏ أَعْتِقْ رَقَبَةً فَمَعْنَاهُ أَعْتِقْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَلَوْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَعْتِقِ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ الْفُلَانِيَّةَ، فَلَا يَكُونُ أَمْرًا بِمُطْلَقٍ أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ بَابِ الثُّبُوتِ، وَثُبُوتُ الْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأَخَصِّ فَالْأَمْرُ بِالْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْأَخَصِّ، وَهَذَا عَلَى اصْطِلَاحِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْكُلِّيَّاتِ الذِّهْنِيَّةَ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا بِالْمُقَيَّدِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَزِمَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وُقُوعًا، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيَّنْ فِي النَّصِّ وَلَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْمُورٍ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَازِمٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِمَجْهُولٍ وَالْمَجْهُولُ لَا يُتَحَصَّلُ بِهِ امْتِثَالٌ؛ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ مُحَالٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُقَيَّدِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ قَصْدُ الشَّارِعِ مُتَعَلِّقًا بِالْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقَيَّدٌ، فَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا لَهُ؛ لِأَنَّا قَدْ فَرَضْنَا أَنَّ قَصْدَهُ إِيقَاعَ الْمُطْلَقِ فَلَوْ كَانَ لَهُ قَصْدٌ فِي إِيقَاعِ الْمُقَيَّدِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ إِيقَاعَ الْمُطْلَقِ، هَذَا خُلْفٌ لَا يُمْكِنُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مُعَارَضٌ بِأَمْرَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِهِ مُحَالًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ، وَالْمُكَلَّفُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ فِي الْخَارِجِ؛ إِذْ لَا يَقَعُ بِهِ الِامْتِثَالُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِهِ فِي الْخَارِجِ، وَإِذْ ذَاكَ يَصِيرُ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا، فَلَا يَكُونُ بِإِيقَاعِهِ مُمْتَثِلًا وَالذِّهْنِيُّ لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهُ فِي الْخَارِجِ، فَلَا يَكُونُ التَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْأَمْرِ بِالْمُقَيَّدِ، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ الْأَمْتِثَالُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، بَلِ الْقَوْلُ بِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْمُقَيَّدَ لَوْ لَمْ يُقْصَدْ فِي الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ لَمْ يَخْتَلِفِ الثَّوَابُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْرَادِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ عَلَى تَسَاوٍ؛ فَكَانَ يَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى تَسَاوٍ أَيْضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَقَعُ الثَّوَابُ عَلَى مَقَادِيرِ الْمُقَيَّدَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ فَالْمَأْمُورُ بِالْعِتْقِ إِذَا أَعْتَقَ أَدْوَنَ الرِّقَابِ كَانَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، وَإِذَا أَعْتَقَ الْأَعْلَى كَانَ ثَوَابُهُ أَعْظَمَ‏.‏

وَقَدْ سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ‏:‏ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»‏.‏

وَأَمَرَ بِالْمُغَالَاةِ فِي أَثْمَانِ الْقُرُبَاتِ كَالضَّحَايَا، وَبِإِكْمَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهَا أَعْظَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَصْدَ الْأَعْلَى فِي أَفْرَادِ الْمُطْلَقَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَفْضَلُ، وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي أَفْرَادِ الْمُطْلَقَاتِ مُوجِبًا لِلتَّفَاوُتِ فِي الدَّرَجَاتِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمُقَيَّدَاتِ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ، وَإِنْ حَصَلَ الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقَاتِ‏.‏

فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُطْلَقِ عِنْدَ الْعَرَبِ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّكْلِيفَ بِأَمْرٍ ذِهْنِيٍّ، بَلْ مَعْنَاهُ التَّكْلِيفُ بِفَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ، أَوِ الَّتِي يَصِحُّ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ مُطَابِقًا لِمَعْنَى اللَّفْظِ ‏[‏بِحَيْثُ‏]‏ لَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ صُدِّقَ، وَهُوَ الِاسْمُ النَّكِرَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِذَا قَالَ‏:‏ أَعْتِقْ رَقَبَةً فَالْمُرَادُ طَلَبُ إِيقَاعِ الْعِتْقِ بِفَرْدٍ مِمَّا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُضَعْ لَفَظُ الرَّقَبَةِ إِلَّا عَلَى فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ غَيْرِ مُخْتَصٍّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ، هَذَا هُوَ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ أَمْرٌ بِوَاحِدٍ كَمَا فِي الْخَارِجِ، وَلِلْمُكَلَّفِ اخْتِيَارُهُ فِي الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ‏.‏

وَعَنِ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ الَّذِي الْتَفَتَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ إِلَيْهِ مَفْهُومًا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْمُطْلِقِ، أَوْ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْوُجُوبِ، أَوِ النَّدْبِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّفَاوُتُ فِي أَمْرٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْ مُقْتَضَى مَفْهُومِ ‏[‏الْمُطْلَقِ‏]‏، وَهَذَا صَحِيحٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مُسَلَّمٌ؛ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ إِنَّمَا فُهِمَ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ كَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الرِّقَابِ أَعْلَاهَا، وَأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى جَمِيعِ آدَابِهَا الْمَطْلُوبَةِ أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي نَقَصَ مِنْهَا بَعْضُ ذَلِكَ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ نَدْبًا لَا وُجُوبًا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَفْهُومِهِ، فَإِذَا الْقَصْدُ إِلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ عَلَى بَعْضٍ يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْأَفْرَادِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ، بَلْ ‏[‏بِدَلِيلٍ مِنْ‏]‏ خَارِجٍ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقَيَّدٌ‏.‏

بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، فَإِنَّ أَنْوَاعَهُ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ بِالْإِذْنِ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْمُكَلَّفُ رَقَبَةً، أَوْ ضَحَّى بِأُضْحِيَةٍ، أَوْ صَلَّى صَلَاةً، وَمِثْلُهَا مُوَافِقٌ لِلْمُطْلَقِ فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمُطْلَقِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ فَضْلٌ زَائِدٌ فَيُثَابُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى النَّدْبِ الْخَارِجِيِّ، وَهُوَ مُطْلَقٌ أَيْضًا، وَإِذَا كَفَّرَ بِعِتْقٍ فَلَهُ أَجْرُ الْعِتْقِ، أَوْ أَطْعَمَ فَأَجْرُ الْإِطْعَامِ، أَوْ كَسَا فَأَجْرُ الْكِسْوَةِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَ، لَا لِأَنَّ لَهُ أَجْرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا كَفَرَ ‏[‏بِهِ‏]‏، فَإِنَّ تَعْيِينَ الشَّارِعِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ يَقْتَضِي قَصْدَهُ إِلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فِي الْمُطْلَقَاتِ يَقْتَضِي عَدَمَ قَصْدِهِ إِلَى ذَلِكَ‏.‏

وَقَدِ انْدَرَجَ هُنَا أَصْلٌ آخَرُ، وَهِيَ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏الْأَمْرُ الْمُخَيَّرُ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى أَفْرَادِهِ الْمُطْلَقَةِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا‏]‏

وَتَرْجَمَتُهَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُخَيَّرَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى أَفْرَادِهِ الْمُطْلَقَةِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ ‏[‏الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ ضَرْبَانِ‏]‏

الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ ضَرْبَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا كَانَ شَاهِدُ الطَّبْعِ خَادِمًا لَهُ، وَمُعِينًا عَلَى مُقْتَضَاهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الطَّبْعُ الْإِنْسَانِيُّ بَاعِثًا عَلَى مُقْتَضَى الطَّلَبِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوِقَاعِ وَالْبُعْدِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْقَاذُورَاتِ مِنْ أَكْلِهَا وَالتَّضَمُّخِ بِهَا، أَوْ كَانَتِ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي مَحَاسِنَ الشِّيَمِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مُوَافِقَةً لِمُقْتَضَى ذَلِكَ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ طَبِيعِيٍّ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالْحِفْظِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْحَرَمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِعَدَمِ الْمُنَازِعِ تَحَرُّزًا مِنَ الزِّنَا، وَنَحْوِهِ مِمَّا يَصُدُّ فِيهِ الطَّبْعُ عَنْ مُوَافَقَةِ الطَّلَبِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْعِبَادَاتِ مِنَ الطِّهَارَاتِ وَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ الْمُرَاعَى فِيهَا الْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ وَالْجِنَايَاتُ وَالْأَنْكِحَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِالْوَلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ، فَقَدْ يَكْتَفِي الشَّارِعُ فِي طَلَبِهِ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ، فَلَا يَتَأَكَّدُ الطَّلَبُ تَأَكُّدَ غَيْرِهِ، حَوَالَةً عَلَى الْوَازِعِ الْبَاعِثِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ دُونَ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُتَأَكِّدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ حُدُودٌ مَعْلُومَةٌ زِيَادَةً عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ‏؟‏

وَمِنْ هُنَا يُطْلِقُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ أَنَّهَا سُنَنٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، أَوْ مُبَاحَاتٌ عَلَى الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ خُولِفَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِيهَا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً لَمْ يَقَعِ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى؛ كَمَا جَاءَ فِي قَاتِلِ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي جَهَنَّمَ بِمَا قَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ»‏.‏

وَجَاءَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ نَاسِيًا، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِحْسَانًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا عَامِدًا أَعَادَ أَبَدًا مِنْ حَيْثُ خَالَفَ الْأَمْرَ الْحَتْمَ فَأَوْقَعَ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَفْظَ السُّنَّةِ اعْتِمَادًا عَلَى الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ وَالْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّةِ، فَإِذَا خَالَفَ ذَلِكَ عَمْدًا رَجَعَ إِلَى الْأَصْلِ مِنَ الطَّلَبِ الْجَزْمِ فَأَمَرَ بِالْإِعَادَةِ أَبَدًا‏.‏

وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ جَازِمٌ فِي طَلَبِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ الْوَاقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالنِّكَاحِ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ النَّسْلِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْرِضِ الْإِبَاحَةِ، أَوِ النَّدْبِ؛ حَتَّى إِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ فِي مَظِنَّةِ مُخَالَفَةِ الطَّبْعِ أُمِرَ وَأُبِيحَ لَهُ الْمُحَرَّمُ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ قَرَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي الْمُؤَكَّدَاتِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الْمُخَفَّفَاتِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ خَادِمٌ طَبْعِيٌّ بَاعِثٌ عَلَى مُقْتَضَى الطَّلَبِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ يُمَانِعُهُ، وَيُنَازِعُهُ كَالْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ تَكْلِيفٍ‏.‏

وَكَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الطَّلَبِ الْأَمْرِيِّ، كَذَلِكَ يَكُونُ فِي النَّهْيِ؛ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ عَلَى الضَّرْبَيْن‏:‏ فَالْأَوَّلُ كَتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ، وَكَشْفِ الْعَوْرَاتِ، وَتَنَاوُلِ السُّمُومِ وَاقْتِحَامِ الْمَهَالِكِ وَأَشْبَاهِهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا اقْتِحَامُ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ وَلَا بَاعِثٍ طَبْعِيٍّ؛ كَالْمَلِكِ الْكَذَّابِ وَالشَّيْخِ الزَّانِي وَالْعَائِلِ الْمُسْتَكْبِرِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا تُخَالِفُهُ الطِّبَاعُ، وَمَحَاسِنُ الْعَادَاتِ، فَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ شَهْوَةٌ وَلَا يَمِيلُ إِلَيْهِ عَقْلٌ سَلِيمٌ فَهَذَا الضَّرْبُ لَمْ يُؤَكَّدْ بِحَدٍّ مَعْلُومٍ فِي الْغَالِبِ وَلَا وُضِعَتْ لَهُ عُقُوبَةٌ مُعَيَّنَةٌ، بَلْ جَاءَ النَّهْيُ فِيهِ كَمَا جَاءَ الْأَمْرُ فِي الْمَطْلُوبَاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ الطَّبْعُ خَادِمًا لَهَا؛ إِلَّا أَنَّ مُرْتَكِبَ هَذَا لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِوَازِعِ الطَّبْعِ، وَمُقْتَضَى الْعَادَةِ إِلَى مَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ أَشْبَهَ بِذَلِكَ الْمُجَاهِرَ بِالْمَعَاصِي الْمُعَانِدَ فِيهَا، بَلْ هُوَ هُوَ فَصَارَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ أَعْظَمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي لِنَفْسِهِ حَظًّا عَاجِلًا وَلَا يَبْقَى لَهَا فِي مَجَالِ الْعُقَلَاءِ بَلِ الْبَهَائِمِ مَرْتَبَةٌ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ مِنَ الْوَعِيدِ فِي الثَّلَاثَة‏:‏ الشَّيْخُ الزَّانِي وَأَخَوَيْهِ مَا جَاءَ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ‏.‏

بِخِلَافِ الْعَاصِي بِسَبَبِ شَهْوَةٍ عَنَّتْ وَطَبْعٍ غَلَبَ نَاسِيًا لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ، وَمُغْلَقًا عَنْهُ بَابُ الْعِلْمِ بِمَآلِ الْمَعْصِيَةِ، وَمِقْدَارِ مَا جَنَى بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ‏}‏ الْآيَةَ‏:‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 17‏]‏‏.‏

أَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَاعٍ إِلَيْهَا وَلَا بَاعِثٌ عَلَيْهَا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُعَانِدِ الْمُجَاهِرِ فَصَارَ هَاتِكًا لِحُرْمَةِ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ مُسْتَهْزِئًا بِالْخِطَابِ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ أَشَدَّ، وَلَكِنْ كُلَّ مَا كَانَ الْبَاعِثُ فِيهِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ الطَّبْعَ جُعِلَ فِيهِ فِي الْغَالِبِ حُدُودٌ وَعُقُوبَاتٌ مُرَتَّبَةٌ إِبْلَاغًا فِي الزَّجْرِ عَمَّا تَقْتَضِيهِ الطِّبَاعُ‏.‏

بِخِلَافِ مَا خَالَفَ الطَّبْعَ، أَوْ كَانَ الطَّبْعُ وَازِعًا عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏هَذَا الْأَصْلُ وُجِدَ مِنْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ جُمَلٌ‏]‏

هَذَا الْأَصْلُ وُجِدَ مِنْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ جُمَلٌ؛ فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا لِيَكُونَ النَّاظِرُ فِي الشَّرِيعَةِ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ عَلَى النَّدْبِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّنْزِيهِ فِيمَا يُفْهَمُ مِنْ مَجَارِيهَا؛ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي كَوْنِهَا مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْوِقَاعِ‏.‏

وَكَذَلِكَ وَجُوهُ الِاحْتِرَاسِ مِنَ الْمُضِرَّاتِ وَالْمُهْلِكَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْحَقُ بِالضَّرُورِيَّاتِ، وَهُوَ مِنْهَا فِي الِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْرَائِيِّ شَرَعًا وَرُبَّمَا وُجِدَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ مِنْ هَذَا؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ مِنَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى بَالٍ؛ إِلَّا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ هُوَ الْحُكْمُ الْمُتَحَكِّمُ وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي لَا تَنْخَرِمُ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ وَمَا رَأَى، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا تَقَيَّدَ بِهِ هُنَا أَيْضًا، ‏[‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏]‏‏.‏