فصل: الدّليل القطعيّ والدّليل الظّنّي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء الحادي والعشرون

دفع

التّعريف

1 - الدّفع‏:‏ مصدر دفع‏.‏ ومن معاني مادته في اللّغة‏:‏ التنحية والمماطلة والمحاجّة عن الغير والردّ، ويشمل ردّ القول وردّ غيره، كالوديعة مثلاً، والارتحال عن الموضع، والمجيء بمرة‏.‏ وإذا بني فعله للمفعول كان بمعنى الانتهاء إلى الشيء‏.‏

وأما معناه في الاصطلاح‏:‏ فهو كما جاء في الكلّيات‏:‏ صرف الشيء قبل الورود، وإذا عدّي فعله بإلى كان معناه الإنالة نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ‏}‏ وإذا عدّي بعن كان معناه الحماية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏‏.‏

وأما الفقهاء فإنهم يستعملون الدّفع بمعنى الإعطاء، أو الإخراج، أو الأداء كما في الزكاة‏.‏

ويستعملونه أيضاً بمعنى الردّ كما في ردّ الوديعة إلى المودع‏.‏

ويستعملونه أيضاً بمعنى اتقاء الشر ومنعه كما في دفع الصائل‏.‏

ويستعملونه أيضاً بمعنى ردّ خصومة المدعي وإبطال دعواه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - درء‏:‏

2 - ومعناه في اللّغة‏:‏ الدّفع‏.‏ قال في المصباح‏:‏ درأت الشيء بالهمزة - درءاً من باب نفع، دفعته، ودارأته دافعته، وتدارؤوا تدافعوا‏.‏

في الاصطلاح‏:‏ أيضاً معناه الدّفع‏.‏

والفقهاء يستعملونه بهذا المعنى كقولهم‏:‏ الحدود تندرىء بالشّبهات‏.‏

ب - ردّ‏:‏

3 - ومن معانيه في اللّغة‏:‏ المنع‏.‏ والرجوع، أو الإرسال‏.‏ قال في المصباح‏:‏ رددت الشيء ردّاً منعته فهومردود، وقد يوصف بالمصدر فيقال‏:‏ فهو ردّ‏.‏ ورددت عليه قوله‏.‏ ورددت إليه جوابه أي رجعت وأرسلت‏.‏ ومنه رددت عليه الوديعة أي دفعتها إليه‏.‏

ج - رفع‏:‏

4 - وهو في اللّغة‏:‏ خلاف الخفض، ومن معانيه في اللّغة أيضاً إذاعة الأمر، والشّرف في النّسب، والإسراع في السير، وقبول العمل، وهو في الأجسام حقيقة في الحركة والانتقال‏.‏ وفي المعاني محمول على ما يقتضيه المقام، ومعناه في الاصطلاح‏:‏ يقابل معنى الدّفع إذ معناه صرف الشّيء بعد وروده، والدّفع صرفه قبل وروده‏.‏

د - منع‏:‏

5 - ومن معانيه في اللّغة‏:‏ الحرمان من الأمر، والكفّ عنه، ومنازعة الشّيء، والتمنّع بالقوم‏:‏ التّقوي بهم‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ خلاف العطاء، والصّلة بينه وبين الدّفع هي أن الفقهاء يستعملون الدّفع ويريدون منه المنع كما في دفع الصائل‏.‏

الأحكام الإجمالية ومواطن البحث

5 - ذكر الفقهاء الأحكام الخاصّة بمصطلح دفع في عدد من المواطن كما يلي‏:‏

أ - الزّكاة‏:‏

6 - ذكر الفقهاء لفظ دفع في الزّكاة في أكثر من موطن وأرادوا به أكثر من معنى، فقد استعملوه بمعنى الإعطاء أو الأداء، كقولهم من يجوز أن تدفع له الصدقة ومن لايجوز، واشتراط النيّة عند دفعها، وبمعنى الإخراج كقولهم وقت دفع الزّكاة‏.‏

والتفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

ب - الوديعة‏:‏

7 - ذكر الفقهاء لفظ الدّفع أيضاً في الوديعة، وأرادوا به الردّ، أي ردّها إلى المودع ودفعها إليه، أو إلى وكيله عند طلبها‏.‏ فإن أخّرها حتّى تلفت ضمن‏.‏

والتفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وديعة‏)‏‏.‏

ج - الصّيال‏:‏

8 - يذكر الفقهاء الدّفع في الصّيال ويعنون به منع الصّائل من تحقيق غرضه واتقاء شرّه‏.‏

والصّائل هو من قصد غيره بشرّ سواء أكان الصّائل مسلماً أم ذمياً أم عبداً أم حرّاً أم صبيّاً أم مجنوناً أم بهيمة، فيجوز دفعه عن كل معصوم من نفس، أو طرف، أو منفعة، وعن البضّع، ومقدماته، وعن المال، وإن قلّ، مع رعاية التدريج في كيفية الدّفع بأن يبدأ بالأهون، فإن لم يمكنه دفعه إلا بقتله قتله‏.‏ ولا ضمان عليه بقصاص، ولا دية، ولا كفّارة، ولا قيمة‏.‏

فإن قتل المدافع كان شهيداً لخبر‏:‏ «ومن قتل دون ماله فهو شهيد» ولأنّه قتل لدفع ظالم، فكان شهيداً كالعادل إذا قتله الباغي‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏صيال‏)‏‏.‏

د - دعوى‏:‏

9 - يذكر الفقهاء الدّفع في الدّعوى ويعنون به ردّ كلام المدعي وإبطال دعواه‏.‏

ومما ذكروه في هذا الشّأن أن يقول المدعى عليه هذا الشّيء أودعنيه فلان الغائب أو رهنه عندي، أو غصبته منه، أو أعارني، أو آجرني‏.‏ وأقام على ذلك بيّنة، فحينئذ تندفع الخصومة إلا أن يكون المدّعى عليه محتالاً كما ذكر الحنفيّة‏.‏

ومما تندفع به دعوى من ادّعى على رجل بملكٍ إنكارُ المدّعى عليه لتلك الدعوى، أو يُقر به لغير المدّعي كما في التبصرة من كتب المالكية‏.‏

وممّا تندفع به دعوى الديْن أن يقول المدّعى عليه‏:‏ قضيت، أو أبرأني، كما ذكر الشّافعية‏.‏ وتندفع دعوى من ادّعى زوجية امرأة ولا بيّنة له بإنكارها، ولا يستحلف كما ذكرالحنابلة، والتفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏دعوى‏)‏‏.‏

الدّفع أقوى من الرّفع

10 - وهي قاعدة فقهية ذكرها الزركشي في المنثور‏.‏

ومن فروعها أنّ الماء المستعمل إذا بلغ قلّتين لا يعود طهوراً في وجه، وفي وجه يعود‏.‏

فأما إذا كان الماء قلّتين قبل الاستعمال فإنّه لا يصير مستعملاً به‏.‏ والفرق أنّ الماء إذا استعمل وهو قلّتان كان دافعاً للاستعمال، وإذا جمع كان رافعاً‏.‏ والدّفع أقوى من الرّفع‏.‏

ومن فروعها أيضاً أنّ السفر قبل الشروع في الصّيام يبيح الفطر‏.‏ ويدفع الصّوم‏.‏

ولو سافر في أثناء يوم من رمضان لا يبيحه‏.‏ ولا يرفع الصّوم‏.‏ والدّفع أقوى من الرّفع‏.‏

هذا ويرد ذكر الدّفع في كلام الفقهاء في كثير من أبواب الفقه ومسائله، كالصّلاة، والإحرام، والسّلم، والحوالة، والرهن، والضّمان، والكفالة، والمضاربة، والمزارعة، والوكالة، والعارية، واللّقطة، والوقف، والوصيّة، والنّفقات، والجنايات، والحدود، والجهاد، والجزية‏.‏ والتّفصيل في المصطلحات الخاصّة بتلك الأبواب و المسائل‏.‏

دفع الصّائل

انظر‏:‏ صيال‏.‏

دفّ

انظر‏:‏ ملاهي‏.‏

دفن

التّعريف

1 - الدّفن في اللّغة بمعنى المواراة والسّتر‏.‏ يقال‏:‏ دفن الميّت واراه، ودفن سرّه‏:‏ أي كتمه‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ مواراة الميّت في التّراب‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - دفن المسلم فرض كفايةٍ إجماعاً إن أمكن‏.‏ والدّليل على وجوبه‏:‏ توارث النّاس من لدن آدم عليه السّلام إلى يومنا هذا مع النّكير على تاركه‏.‏

وأوّل من قام بالدّفن هو قابيل الّذي أرشده اللّه إلى دفن أخيه هابيل، لمّا جاء في قوله تعالى ‏{‏فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ‏}‏‏.‏

وإذا لم يمكن‏:‏ كما لو مات في سفينةٍ، غسّل وكفّن وصلّي عليه ثمّ ألقي في البحر إن لم يكن قريباً من البرّ‏.‏ وتقدير القرب‏:‏ بأن يكون بينه وبين البرّ مدّة لا يتغيّر فيها الميّت‏.‏ وصرّح بعض الفقهاء أنّه يثقّل بشيءٍ ليرسب، وقال الشّافعيّ‏:‏ يثقّل إن كان قريباً من دار الحرب، وإلاّ يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى السّاحل، فربّما وقع إلى قومٍ يدفنونه‏.‏

أفضل مكان للدّفن

3 - المقبرة أفضل مكان للدّفن، وذلك للاتّباع، ولنيل دعاء الطّارقين، وفي أفضل مقبرةٍ بالبلد أولى‏.‏ وإنّما دفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته، لأنّ من خواصّ الأنبياء أنّهم يدفنون حيث يموتون‏.‏

ويكره الدّفن في الدّار ولو كان الميّت صغيراً‏.‏ وقال ابن عابدين‏:‏ وكذلك الدّفن في مدفنٍ خاصٍّ كما يفعله من يبني مدرسةً ونحوها ويبني له بقربه مدفناً‏.‏

وأمّا الدّفن في المساجد، فقد صرّح المالكيّة بأنّه يكره دفن الميّت في المسجد الّذي بني للصّلاة فيه‏.‏

ويرى الحنابلة أنّه يحرم دفنه في مسجدٍ ونحوه كمدرسةٍ، ورباطٍ لتعيين الواقف الجهة لغير ذلك فينبش عندهم من دفن بمسجدٍ تداركاً للعمل بشرط الواقف‏.‏

كما يحرم دفنه في ملك غيره بلا إذن ربّه للعدوان، وللمالك إلزام دافنه بإخراجه ونقله ليفرغ له ملكه عمّا شغله به بغير حقٍّ‏.‏ والأولى له تركه حتّى يبلى لما فيه من هتك حرمته‏.‏

نقل الميّت من مكان إلى آخر

4 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الميّت من مكان إلى آخر بعد الدّفن مطلقاً‏.‏ وأفتى بعض المتأخّرين من الحنفيّة بجوازه إلاّ أنّ ابن عابدين ردّه فقال نقلاً عن الفتح‏:‏ اتّفاق مشايخ الحنفيّة في امرأةٍ دفن ابنها وهي غائبة في غير بلدها فلم تصبر، وأرادت نقله على أنّه لا يسعها ذلك، فتجويز بعض المتأخّرين لا يلتفت إليه‏.‏

وأمّا نقل يعقوب ويوسف عليهما السلام من مصر إلى الشّام، ليكونا مع آبائهما الكرام فهو شرع من قبلنا، ولم يتوفّر فيه شروط كونه شرعاً لنا‏.‏

وأمّا قبل دفنه فيرى الحنفيّة وهو رواية عن أحمد أنّه لا بأس بنقله مطلقاً، وقيل إلى ما دون مدّة السّفر، وقيّده محمّد بقدر ميلٍ أو ميلين‏.‏

وذهب جمهور الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الميّت قبل الدّفن من بلدٍ إلى آخر إلاّ ‏;‏ لغرضٍ صحيحٍ‏.‏ وبه قال الأوزاعيّ وابن المنذر‏.‏

قال عبد اللّه بن أبي مليكة‏:‏ «توفّي عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ بالحبشة، فحمل إلى مكّة فدفن، فلمّا قدمت عائشة رضي الله تعالى عنها أتت قبره، ثمّ قالت‏:‏ واللّه لو حضرتك ما دفنت إلاّ حيث متّ، ولو شهدتك ما زرتك»‏.‏

ولأنّ ذلك أخفّ لمؤنته، وأسلم له من التّغيير، وأمّا إن كان فيه غرض صحيح جاز‏.‏

قال الشّافعيّ رحمه الله‏:‏ لا أحبّه إلاّ أن يكون بقرب مكّة، أو المدينة، أو بيت المقدس‏.‏ فيختار أن ينقل إليها لفضل الدّفن فيها، وقال بعض الشّافعيّة‏:‏ يكره نقله، وقال صاحب ‏"‏ التّتمّة ‏"‏ وآخرون‏:‏ يحرم نقله‏.‏

وأمّا المالكيّة فيجوز عندهم نقل الميّت قبل الدّفن وكذا بعده من مكان إلى آخر بشروطٍ هي‏:‏ - أن لا ينفجر حال نقله

- أن لا تنتهك حرمته

- وأن يكون لمصلحةٍ‏:‏ كأن يخاف عليه أن يأكله البحر، أو تُرجى بركة الموضع المنقول إليه، أو ليدفن بين أهله، أو لأجل قرب زيارة أهله، أو دفن من أسلم بمقبرة الكفّار، فيتدارك بإخراجه منها، ودفنه في مقبرة المسلمين‏.‏

فإن تخلّف شرط من هذه الشّروط الثّلاثة كان النّقل حراماً‏.‏

واتّفق الأئمّة على أنّ الشّهيد يستحبّ دفنه حيث قتل‏.‏ لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحدٍ أن يردّوا إلى مصارعهم»‏.‏ وأنّه ينزع عنه الحديد والسّلاح، ويترك عليه خفّاه، وقلنسوته ‏;‏ لما روي عن ابن عبّاسٍ‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحدٍ أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم»‏.‏

ودفن الشّهيد بثيابه حتم عند الحنفيّة والمالكيّة عملاً بظاهر الحديث، وأولى عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ فللوليّ أن ينزع عنه ثيابه، ويكفّنه بغيرها‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏شهيد، وتكفين‏)‏‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بأنّ الكافر إن مات في الحجاز، وشقّ نقله منه لتقطّعه، أو بُعد المسافة من غير الحجاز أو نحو ذلك دفن ثَمَّ، أمّا الحربيّ فلا يجب دفنه، وفي وجهٍ لا يجوز، فإن دفن فيترك‏.‏

وأمّا في حرم مكّة فينقل منه ولو دفن، لأنّ المحلّ غير قابلٍ لذلك، وإن كان بإذنٍ من الإمام، لأنّ إذن الإمام لا يؤثّر في ذلك‏.‏ ولأنّ بقاء جيفته فيه أشدّ من دخوله حيّاً إلاّ إذا تهرّى وتقطّع بعد دفنه ترك‏.‏ وليس حرم المدينة كحرم مكّة فيما ذكر لاختصاص حرم مكّة بالنّسك‏.‏

دفن الأقارب في مقبرةٍ واحدةٍ

5 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يجوز جمع الأقارب في الدّفن في مقبرةٍ واحدةٍ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا دفن عثمان بن مظعونٍ‏:‏ «أدفن إليه من مات من أهلي»‏.‏

ولأنّ ذلك أسهل لزيارتهم وأكثر للتّرحّم عليهم، ويسنّ تقديم الأب، ثمّ من يليه في السّنّ والفضيلة إن أمكن‏.‏

الأحقّ بالدّفن

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأولى بدفن المرأة محارمها الرّجال الأقرب فالأقرب وهم الّذين كان يحلّ لهم النّظر إليها في حياتها ولها السّفر معهم، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قام عند منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين توفّيت زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها، فقال‏:‏ ألا إنّي أرسلت إلى النّسوة من يدخلها قبرها، فأرسلن‏:‏ من كان يحلّ له الدّخول عليها في حياتها، فرأيت أن قد صدقن‏.‏

ولأنّ امرأة عمر رضي الله تعالى عنهما لمّا توفّيت قال لأهلها‏:‏أنتم أحقّ بها‏.‏

ولأنّهم أولى النّاس بولايتها حال الحياة، فكذا بعد الموت، ثمّ زوجها، لأنّه أشبه بمحرمها من النّسب من الأجانب، ولو لم يكن فيهم ذو رحمٍ فلا بأس للأجانب وضعها في قبرها، ولا يحتاج إلى إحضار النّساء للدّفن، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين ماتت ابنته أمر أبا طلحة، فنزل في قبر ابنته»‏.‏ وهو أجنبيّ، ومعلوم أنّ محارمها كنّ هناك، كأختها فاطمة ولأنّ تولّي النّساء، لذلك لو كان مشروعاً لفعل في عصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعصر خلفائه، ولم ينقل‏.‏ ثمّ يقدّم خصيّ، ثمّ شيخٌ، ثمّ أفضل ديناً ومعرفةً‏.‏ فإن لم يكن، فقد روي عن أحمد أنّه قال‏:‏ إنّه أحبّ إليّ أن يدخلها النّساء، لأنّه مباح لهنّ النّظر إليها وهنّ أحقّ بغسلها، القربى فالقربى كالرّجال‏.‏

واستثنى الشّافعيّة الزّوج، فإنّه أحقّ من غيره، لأنّ منظوره أكثر‏.‏

ونصّ المالكيّة بأنّ الميّت إن كان رجلاً فيضعه في قبره الرّجال، وإن كانت امرأةً فيتولّى ذلك زوجها من أسفلها ومحارمها من أعلاها، فإن لم يكن فصالحوا المؤمنين، فإن وجد من النّساء من يتولّى ذلك فهو أولى من الأجانب‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ الأولى بدفن الرّجال أولاهم بغسله والصّلاة عليه، فلا ينزل القبر إلاّ الرّجال متى وجدوا، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحده العبّاس وعليّ وأسامة رضي الله عنهم»، وهم الّذين كانوا تولّوا غسله، ولأنّ المقدّم بغسله أقرب إلى ستر أحواله، وقلّة الاطّلاع عليه، ثمّ أقرب العصبة، ثمّ ذوو أرحامه الأقرب فالأقرب، ثمّ الرّجال الأجانب، ثمّ من محارمه من النّساء، ثمّ الأجنبيّات، للحاجة إلى دفنه وعدم غيرهنّ‏.‏

أمّا دفن القاتل للمقتول‏:‏ فقد صرّح الحنابلة بأنّه لا حقّ له في دفنه، لمبالغته في قطيعة الرّحم‏.‏

دفن المسلم للكافر

7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجوز للمسلم أن يدفن كافراً ولو قريباً إلاّ لضرورةٍ، بأن لا يجد من يواريه غيره فيواريه وجوباً‏.‏ «لأنّه صلى الله عليه وسلم لمّا أخبر بموت أبي طالبٍ قال لعليٍّ رضي الله عنه‏:‏ اذهب فواره» وكذلك قتلى بدرٍ أُلقوا في القليب، أو لأنّه يتضرّر بتركه ويتغيّر ببقائه‏.‏ ولا يستقبل به قبلتنا لأنّه ليس من أهلها، ولا قبلتهم لعدم اعتبارها، فلا يقصد جهةً مخصوصةً، بل يكون دفنه من غير مراعاة السّنّة‏.‏

وكذلك لا يُترك ميّت مسلم لوليّه الكافر فيما يتعلّق بتجهيزه ودفنه، إذ لا يؤمن عليه من دفنه في مقبرة الكفّار واستقباله قبلتهم، وغير ذلك‏.‏

كيفيّة الدّفن

8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ أن يدخل الميّت من قِبل القبلة بأن يوضع من جهتها، ثمّ يحمل فيلحد، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ‏.‏

وروي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه‏.‏ وقال النّخعيّ‏:‏ حدّثني من رأى أهل المدينة في الزّمن الأوّل يدخلون موتاهم من قبل القبلة، وأنّ السّلّ شيء أحدثه أهل المدينة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّه لا بأس أن يدخل الميّت في قبره من أيّ ناحيةٍ كان والقبلة أولى‏.‏

ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه يستحبّ السّلّ، بأن يوضع الميّت عند آخر القبر ثمّ يسلّ من قبل رأسه منحدراً‏.‏

وروي ذلك عن ابن عمر وأنسٍ، وعبد اللّه بن يزيد الأنصاريّ، والشّعبيّ‏.‏

واستدلّوا بما روي عن ابن عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلّ من قبل رأسه سلاً»‏.‏

والخلاف بين الفقهاء هنا خلافٌ في الأولى، وعلى هذا فإن كان الأسهل عليهم أخذه من القبلة أو من رأس القبر فلا حرج، لأنّ استحباب أخذه من أسفل القبر إنّما كان طلباً للسّهولة عليهم والرّفق بهم، فإن كان الأسهل غيره كان مستحبّاً، قال أحمد رحمه الله‏:‏ كلّ لا بأس به‏.‏

ثمّ يوضع على شقّه الأيمن متوجّهاً إلى القبلة، ويقول واضعه‏:‏ بسم اللّه وعلى ملّة رسول اللّه، لما ورد عن عبد اللّه بن عمر «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميّت في القبر، قال مرّةً‏:‏ بسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه‏.‏ وقال مرّةً‏:‏ بسم اللّه وباللّه وعلى سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم»

ومعنى بسم اللّه، وعلى ملّة رسول اللّه‏:‏ بسم اللّه وضعناك،وعلى ملّة رسول اللّه سلّمناك‏.‏

وقال الماتريديّ‏:‏ هذا ليس دعاءً للميّت، لأنّه إن مات على ملّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يبدّل حاله، وإن مات على غير ذلك لم يبدّل أيضاً، ولكنّ المؤمنين شهداء اللّه في أرضه، فيشهدون بوفاة الميّت على الملّة، وعلى هذا جرت السّنّة‏.‏

وفيها أقوال أخرى ذكرت في كتب الفقه‏.‏

ثمّ تحلّ عقد الكفن للاستغناء عنها، ويسوّى اللّبن على اللّحد، وتسدّ الفرج بالمدر والقصب أو غير ذلك كي لا ينزل التّراب منها على الميّت، ويكره وضع الآجُرّ المطبوخ إلاّ إذا كانت الأرض رخوةً، لأنّها تستعمل للزّينة، ولا حاجة للميّت إليها، ولأنّه ممّا مسّته النّار‏.‏

قال مشايخ بخارى‏:‏ لا يكره الآجُرّ في بلادنا للحاجة إليه لضعف الأراضي، وكذلك الخشب‏.‏

ويستحبّ حثيه من قبل رأسه ثلاثاً‏:‏ لما روي عن أبي هريرة‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى على جنازةٍ، ثمّ أتى القبر فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً»‏.‏

ويقول في الحثية الأولى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ‏}‏، وفي الثّانية‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏، وفي الثّالثة‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ يقول في الأولى‏:‏ اللّهمّ جاف الأرض عن جنبيه، وفي الثّانية‏:‏ اللّهمّ افتح أبواب السّماء لروحه، وفي الثّالثة‏:‏ اللّهمّ زوّجه من الحور العين، وللمرأة‏:‏ اللّهمّ أدخلها الجنّة برحمتك‏.‏ ثمّ يهال التّراب عليه، وتكره الزّيادة عليه، لأنّه بمنزلة البناء‏.‏

ويحرم أن يوضع تحت الميّت عند الدّفن مخدّة أو حصير أو نحو ذلك، لأنّه إتلاف مالٍ بلا ضرورةٍ، بل المطلوب كشف خدّه، والإفضاء إلى التّراب استكانةً وتواضعاً، ورجاءً لرحمة اللّه‏.‏ وما روي «أنّه جعل في قبره صلى الله عليه وسلم قطيفةً»، قيل‏:‏ لأنّ المدينة سبخة، وقيل‏:‏ إنّ العبّاس وعليّاً رضي الله عنهما تنازعا فبسطها شقران تحته لقطع التّنازع‏.‏ وقيل‏:‏ كان عليه الصلاة والسلام يلبسها ويفترشها، فقال شقران‏:‏ واللّه لا يلبسك أحد بعده أبداً فألقاها في القبر، ولكنّه لم يشتهر ليكون إجماعاً منهم، بل ثبت عن غيره خلافه كما رواه التّرمذيّ أنّ ابن عبّاسٍ كره أن يلقى تحت الميّت شيء عند الدّفن‏.‏

وعن أبي موسى قال‏:‏ ‏"‏ لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً ‏"‏‏.‏

ولا تعيين في عدد من يدخل القبر عند جمهور الفقهاء، فعلى هذا يكون عددهم على حسب حال الميّت، وحاجته، وما هو أسهل في أمره‏.‏

وذهب الشّافعيّة، وهو قول القاضي من الحنابلة، إلى أنّه يستحبّ أن يكون وتراً، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألحده ثلاثة‏.‏

ولو مات أقارب الشّخص دفعةً واحدةً، وأمكنه دفن كلّ واحدٍ في قبرٍ، بدأ بمن يخشى تغيّره، ثمّ الّذي يليه في التّغيير، فإن لم يخش تغيّر بدأ بأبيه، ثمّ أمّه، ثمّ الأقرب فالأقرب، فإن كانا أخوين فأكبرهما، وإن كانتا زوجتين أقرع بينهما‏.‏

أقلّ ما يجزئ في الدّفن

9 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّ أقلّ ما يجزئ في الدّفن حفرة تكتم رائحة الميّت، وتحرسه عن السّباع، لعسر نبش مثلها غالباً، وقدّر الأقلّ بنصف القامة، والأكثر بالقامة، ويندب عدم تعميقه أكثر من ذلك، وصرّح المالكيّة بأنّه لا حدّ لأكثره وإن كان النّدب عدم عمقه‏.‏ ويجوز الدّفن في الشّقّ واللّحد، فاللّحد‏:‏ أن يحفر حائط القبر مائلاً عن استوائه من أسفله قدر ما يوضع فيه الميّت من جهة القبلة‏.‏ والشّقّ‏:‏ أن يحفر وسطه كالنّهر، ويسقّف‏.‏

فإن كانت الأرض صلبةً فاللّحد أفضل، وإلاّ فالشّقّ، وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏قبر‏)‏‏.‏

تغطية القبر حين الدّفن

10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يستحبّ تغطية قبر المرأة حين الدّفن لأنّها عورة، ولأنّه لا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون، وبناء أمرها على السّتر، والخنثى في ذلك كالأنثى احتياطاً‏.‏

واختلفوا في تغطية قبر الرّجل، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يكره تغطية قبر الرّجل إلاّ لعذرٍ من مطرٍ وغيره، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه، أنّه مرّ بقومٍ وقد دفنوا ميّتاً، وقد بسطوا على قبره الثّوب، فجذبه وقال‏:‏ إنّما يصنع هذا بالنّساء، مع ما فيه من اتّباع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويرى الشّافعيّة في المذهب أنّه يستحبّ ذلك، سواء كان رجلاً أو امرأةً، والمرأة آكد‏.‏

لأنّه ربّما ينكشف عند الاضطجاع وحلّ الشّداد، فيظهر ما يستحبّ إخفاؤه‏.‏

اتّخاذ التّابوت

11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يكره الدّفن في التّابوت إلاّ عند الحاجة كرخاوة الأرض، وذلك، لأنّه لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضوان اللّه تعالى عليهم، وفيه تشبّه بأهل الدّنيا، والأرض أنشف لفضلاته‏.‏ ولأنّ فيه إضاعة المال‏.‏

وفرّق الحنفيّة بين الرّجل والمرأة، فقالوا‏:‏ لا بأس باتّخاذ التّابوت لها مطلقاً، لأنّه أقرب إلى السّتر، والتّحرّز عن مسّها عند الوضع في القبر‏.‏

الدّفن ليلاً وفي الأوقات المكروهة

12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو المذهب لدى الحنابلة إلى أنّه لا يكره الدّفن ليلاً، لأنّ أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه دفن ليلاً، وعليّ دفن فاطمة رضي الله تعالى عنها ليلاً، وممّن دفن ليلاً عثمان بن عفّان، وعائشة، وابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنهم‏.‏ ورخّص فيه عقبة بن عامرٍ، وسعيد بن المسيّب، وعطاء، والثّوريّ، وإسحاق، ولكنّه يستحبّ أن يكون نهاراً إن أمكن، لأنّه أسهل على متّبعي الجنازة، وأكثر للمصلّين عليها، وأمكن لاتّباع السّنّة في دفنه‏.‏

وكرهه أحمد في روايةٍ، والحسن، لما ورد «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفّن في كفنٍ غير طائلٍ، وقبر ليلاً، فزجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه أن يقبر الرّجل باللّيل إلاّ أن يضطرّ إنسان إلى ذلك»‏.‏

أمّا الدّفن في الأوقات المكروهة فصرّح المالكيّة والحنابلة بأنّه يكره الدّفن عند طلوع الشّمس، وعند غروبها، وعند قيامها، لقول عقبة بن عامرٍ الجهنيّ‏:‏ «ثلاث ساعاتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا‏:‏ حين تطلع الشّمس بازغةً حتّى ترتفع، وحين يقوم قائم الظّهيرة، وحين تضيّف الشّمس للغروب حتّى تغرب»‏.‏

ويرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّه لا يكره الدّفن في الأوقات الّتي نهي عن الصّلاة فيها، وإن كان الدّفن في غيرها أفضل‏.‏

الدّفن قبل الصّلاة عليه ومن غير غسلٍ وبلا كفنٍ

13 - إن دفن الميّت من غير غسلٍ، فذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏"‏

إلى أنّه ينبش ويغسّل، إلاّ أن يخاف عليه أن يتفسّخ، فيترك، وبه قال أبو ثورٍ‏.‏

وقال الحنفيّة وهو قول لدى الشّافعيّة‏:‏ إنّه لا ينبش، لأنّ النّبش مثلة وقد نهي عنها‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏نبش‏)‏‏.‏

أمّا إن دفن قبل الصّلاة عليه، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة، وهو رواية عن الحنابلة اختارها القاضي أنّه يصلّى على القبر ولا ينبش، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على قبر المسكينة، ولم ينبشها»‏.‏

ويرى المالكيّة، وهو رواية عن أحمد أنّه ينبش ويصلّى عليه، لأنّه دفن قبل واجبٍ فينبش، كما لو دفن من غير غسلٍ، وهذا إذا لم يتغيّر، أمّا إنّ تغيّر فلا ينبش بحالٍ‏.‏

وإن دفن بغير كفنٍ، فالأصحّ عند الشّافعيّة وهو وجه عند الحنابلة، أنّه يترك اكتفاءً بستر القبر، وحفظاً، لحرمته، ولأنّ القصد بالكفن السّتر وقد حصل‏.‏

ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة وهو وجه آخر عند الحنابلة ينبش، ثمّ يكفّن، ثمّ يدفن، لأنّ التّكفين واجب فأشبه الغسل‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏كفن‏)‏‏.‏

دفن أكثر من واحدٍ في قبرٍ واحدٍ

14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يدفن أكثر من واحدٍ في قبرٍ واحدٍ إلاّ لضرورةٍ كضيق مكان، أو تعذّر حافرٍ، أو تربةٍ أخرى، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدفن كلّ ميّتٍ في قبرٍ واحدٍ»‏.‏ وعلى هذا فعل الصّحابة ومن بعدهم‏.‏

فإذا دفن جماعة في قبرٍ واحدٍ‏:‏ قدّم الأفضل منهم إلى القبلة، ثمّ الّذي يليه في الفضيلة على حسب تقديمهم إلى الإمامة في الصّلاة، لما روى هشام بن عامرٍ قال‏:‏ «شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ فقلنا‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ الحفر علينا، لكلّ إنسانٍ شديد‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ احفروا وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثّلاثة في قبرٍ واحدٍ، قالوا‏:‏ فمن نقدّم يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ قدّموا أكثرهم قرآناً»‏.‏

ثمّ إن شاء سوّى بين رءوسهم، إن شاء حفر قبراً طويلاً، وجعل رأس كلّ واحدٍ من الموتى عند رجل الآخر، وبهذا صرّح أحمد‏.‏

ويجعل بين ميّتٍ وآخر حاجز من ترابٍ ويقدّم الأب على الابن، إن كان أفضل منه، لحرمة الأبوّة، وكذا تقدّم الأمّ على البنت‏.‏

ولا يجمع بين النّساء والرّجال إلاّ عند تأكّد الضّرورة، ويقدّم الرّجل وإن كان ابناً‏.‏

فإن اجتمع رجل وامرأة وخنثى وصبيّ، قدّم الرّجل، ثمّ الصّبيّ، ثمّ الخنثى، ثمّ المرأة‏.‏ ولذلك فيكره الدّفن في الفساقي، وهي كبيتٍ معقودٍ بالبناء يسع لجماعةٍ قياماً، لمخالفتها السّنّة، والكراهة فيها من وجوهٍ وهي‏:‏

عدم اللّحد، ودفن الجماعة في قبرٍ واحدٍ بلا ضرورةٍ، واختلاط الرّجال بالنّساء بلا حاجزٍ، وتجصيصها والبناء عليها، وخصوصاً إذا كان فيها ميّت لم يبل، وما يفعله جهلة الحفّارين من نبش القبور الّتي لم تبل أربابها، وإدخال أجانب عليهم، فهو من المنكر الظّاهر، وليس من الضّرورة المبيحة لدفن ميّتين فأكثر في قبرٍ واحدٍ‏.‏

ويرى بعض الفقهاء أنّه يكره ذلك حتّى إذا صار الميّت تراباً، لأنّ الحرمة باقية‏.‏

دفن أجزاء الميّت بعد دفنه

15 - إذا وجدت أطراف ميّتٍ، أو بعض بدنه لم يغسّل، ولم يصلّ عليه عند الحنفيّة، بل يدفن‏.‏

ويرى الشّافعيّة أنّه لو وجد عضو مسلمٍ علم موته يجب مواراته بخرقةٍ ودفنه، ولو لم يعلم موت صاحب العضو لم يصلّ عليه، لكن يندب دفنه، ويجب في دفن الجزء ما يجب في دفن الجملة‏.‏

أمّا الحنابلة فقالوا‏:‏ إن وجد جزء الميّت بعد دفنه غسّل، وصلّي عليه، ودفن إلى جانب القبر، أو نبش بعض القبر ودفن فيه، ولا حاجة إلى كشف الميّت، لأنّ ضرر نبش الميّت وكشفه أعظم من الضّرر بتفرقة أجزائه‏.‏

دفن المسلم في مقابر المشركين وعكسه

16 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم دفن مسلمٍ في مقبرة الكفّار وعكسه إلاّ لضرورةٍ‏.‏

أمّا لو جعلت مقبرة الكفّار المندرسة مقبرةً للمسلمين بعد نقل عظامها إن كانت جاز، كجعلها مسجداً، لعدم احترامهم‏.‏ والدّفن في غير مقبرة الكفّار المندرسة أولى إن أمكن، تباعداً عن مواضع العذاب‏.‏ ولا يجوز العكس، بأن تجعل مقبرة المسلمين المندرسة مقبرةً للكفّار، ولا نقل عظام المسلمين، لتدفن في موضعٍ آخر، لاحترامها‏.‏

أمّا المرتدّ فقد ذكر الإسنويّ نقلاً عن الماورديّ أنّه لا يدفن في مقابر المسلمين لخروجه بالرّدّة عنهم، ولا في مقابر المشركين، لما تقدّم له من حرمة الإسلام‏.‏

وأمّا من قتل حدّاً فيدفن في مقابر المسلمين، وكذلك تارك الصّلاة‏.‏

دفن كافرةٍ حاملٍ من مسلمٍ

17 - اختلف الفقهاء في دفن كافرةٍ حاملٍ من مسلمٍ على أقوالٍ‏:‏

فذهب الحنفيّة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، والمذهب لدى الحنابلة إلى أنّ الأحوط دفنها على حدةٍ، ويجعل ظهرها إلى القبلة، لأنّ وجه الولد لظهرها‏.‏

واستدلّ الحنابلة، لذلك بأنّها كافرة، فلا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذّوا بعذابها، ولا في مقبرة الكفّار، لأنّ ولدها مسلم، في تأذّى بعذابهم، وتدفن منفردةً، وقد روي مثله عن واثلة بن الأسقع‏.‏

وفي قولٍ آخر للشّافعيّة‏:‏ إنّها تدفن في مقابر المسلمين، وتنزّل منزلة صندوق الولد،وقيل‏:‏ في مقابر الكفّار، وهناك وجه رابع قطع به صاحب ‏"‏ التّتمّة ‏"‏ بأنّها تدفن على طرف مقابر المسلمين، وحكي عن الشّافعيّ‏:‏ أنّها تدفع إلى أهل دينها، ليتولّوا غسلها ودفنها‏.‏

واختلف الصّحابة في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ‏:‏ قال بعضهم‏:‏ تدفن في مقابرنا ترجيحاً لجانب الولد، وقال بعضهم‏:‏ تدفن في مقابر المشركين، لأنّ الولد في حكم جزءٍ منها ما دام في بطنها، وقال واثلة بن الأسقع‏:‏ يتّخذ لها مقبرة على حدةٍ، وهو ما أخذ به الجمهور كما سبق، وهو الأحوط، كما ذكره ابن عابدين نقلاً عن الحلية‏.‏

والظّاهر كما أفصح به بعضهم‏:‏ أنّ المسألة مصوّرة فيما إذا نفخ فيه الرّوح وإلاّ دفنت في مقابر المشركين‏.‏

الجلوس بعد الدّفن

18 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يستحبّ أن يجلس المشيّعون للميّت بعد دفنه، لدعاءٍ وقراءةٍ بقدر ما ينحر الجزور، ويفرّق لحمه، لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه، فقال‏:‏ استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت، فإنّه الآن يسأل»‏.‏ وكان ابن عمر رضي الله عنهما يستحبّ أن يقرأ على القبر بعد الدّفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها، ولما روي أنّ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لمّا حضرته الوفاة قال‏:‏ اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم، فإنّي أستأنس بكم‏.‏

أجرة الدّفن

19 - ذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‏"‏ إلى أنّه يجوز أخذ الأجرة على الدّفن، ولكن الأفضل أن يكون مجّاناً، وتدفع من مجموع التّركة، وتقدّم على ما تعلّق بذمّة الميّت من دينٍ‏.‏ ويرى الحنابلة أنّه يكره أخذ الأجرة على الدّفن، لأنّه يذهب بالأجر‏.‏

دفن السّقط

20 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنّ السّقط إذا استبان بعض خلقه يجب أن يدرج في خرقةٍ ويدفن‏.‏

دفن الشّعر والأظافر والدّم

21 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يستحبّ أن يدفن ما يزيله الشّخص من ظفرٍ وشعرٍ ودمٍ، لما روي عن ميل بنت مشرحٍ الأشعريّة، قالت‏:‏ «رأيت أبي يقلّم أظفاره، ويدفنه ويقول‏:‏ رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك»‏.‏

وعن ابن جريح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كان يعجبه دفن الدّم»‏.‏

وقال أحمد‏:‏ كان ابن عمر يفعله‏.‏ وكذلك تدفن العلقة والمضغة الّتي تلقيها المرأة‏.‏

دفن المصحف

22 - صرّح الحنفيّة والحنابلة بأنّ المصحف إذا صار بحالٍ لا يقرأ فيه، يدفن كالمسلم، فيجعل في خرقةٍ طاهرةٍ، ويدفن في محلٍّ غير ممتهنٍ لا يوطأ، وفي الذّخيرة‏:‏ وينبغي أن يلحد له ولا يشقّ له، لأنّه يحتاج إلى إهالة التّراب عليه، وفي ذلك نوع تحقيرٍ إلاّ إذا جعل فوقه سقفاً بحيث لا يصل التّراب إليه فهو حسن أيضاً‏.‏ ذكر أحمد أنّ أبا الجوزاء بلي له مصحف، فحفر له في مسجده، فدفنه‏.‏ ولما روي أنّ عثمان بن عفّان دفن المصاحف بين القبر والمنبر‏.‏ أمّا غيره من الكتب فالأحسن كذلك أن تدفن‏.‏

القتل بالدّفن

23 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو مقتضى قواعد المالكيّة ومحمّد من الحنفيّة، إلى أنّ من دفن حيّاً فمات أنّه يجب فيه القصاص‏.‏ ويرى الحنفيّة ما عدا محمّدًا أنّ فيه الدّية‏.‏

دليل

التّعريف

1 - الدّليل لغةً‏:‏ هو المرشد والكاشف، من دللت على الشّيء ودللت إليه‏.‏

والمصدر دلولة ودلالة، بكسر الدّال وفتحها وضمّها‏.‏ والدّالّ وصف للفاعل‏.‏

والدّليل ما يتوصّل بصحيح النّظر فيه إلى العلم بمطلوبٍ خبريٍّ ولو ظنّاً، وقد يخصّه بعضهم بالقطعيّ‏.‏ ولذلك كان تعريف أصول الفقه بأنّه ‏"‏ أدلّة الفقه ‏"‏ جارياً على الرّأي الأوّل القائل بالتّعميم في تعريف الدّليل بما يشمل الظّنّيّ، لأنّ أصول الفقه الّتي هي أدلّة الفقه الإجماليّة تشمل ما هو قطعيّ، كالكتاب والسّنّة المتواترة، وما هو ظنّيّ كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب‏.‏

ومن هنا عرّفه في المحصول وفي المعتمد بأنّه‏:‏ ‏"‏ طرق الفقه ‏"‏، ليشمل القطعيّ والظّنّيّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الأمارة‏:‏

2 - الأمارة في اللّغة‏:‏ العلامة وزناً ومعنىً - كما في المصباح - وهي عند الأصوليّين‏:‏ ما أوصل إلى مطلوبٍ خبريٍّ ظنّيٍّ‏.‏

ولم يفرّق الفقهاء بين الأمارة والدّليل‏.‏ وعند المتكلّمين‏:‏ الأمارة ما يؤدّي النّظر الصّحيح فيه إلى الظّنّ، سواء أكان عقليّاً أم شرعيّاً‏.‏ أمّا الفقهاء فالأمارات العقليّة عندهم أدلّة كذلك‏.‏

ب - البرهان‏:‏

3 - البرهان‏:‏ الحجّة والدّلالة، ويطلق خاصّةً على ما يقتضي الصّدق لا محالةً‏.‏

وهو عند الأصوليّين ما فصل الحقّ عن الباطل، وميّز الصّحيح من الفاسد بالبيان الّذي فيه‏.‏

ج - الحجّة‏:‏

4 - الحجّة‏:‏ البرهان اليقينيّ، وهو ما تثبت به الدّعوى من حيث الغلبة على الخصم‏.‏ والحجّة الإقناعيّة، هي الّتي تفيد القانعين القاصرين عن تحصيل المطالب بالبراهين القطعيّة العقليّة وربّما تفضي إلى اليقين بالاستكثار‏.‏

الأدلّة المثبتة للأحكام

5 - الأدلّة المثبتة للأحكام نوعان‏:‏ متّفق عليه ومختلف فيه‏.‏

فالمتّفق عليه أربعة وهي‏:‏ الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس، الّتي ترجع إليها أدلّة الفقه الإجماليّة، والمختلف فيه كثير جمعها القرافيّ في مقدّمة الذّخيرة، منها‏:‏ الاستحسان، والمصالح المرسلة، وسدّ الذّريعة، والعرف، وقول الصّحابيّ، وشرع من قبلنا، والاستصحاب، وإجماع أهل المدينة، وغيرها‏.‏

ويقصد بالأحكام‏:‏ الأحكام التّكليفيّة الخمسة‏:‏ الوجوب، والنّدب، والإباحة، والكراهة، والحرمة‏.‏ والأحكام الوضعيّة‏:‏ كالشّرط، والمانع، والسّبب ونحوها‏.‏

الدّليل الإجماليّ والدّليل التّفصيليّ

6 - عرّف الأصوليّون أصول الفقه لقباً بأنّه ‏"‏ أدلّة الفقه الإجماليّة ‏"‏ من حيث إنّ موضوعه الأدلّة الإجماليّة، وهي الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس، وهي الأدلّة المتّفق عليها، وما يتبعها من أدلّةٍ مختلفٍ فيها إلاّ أنّها ترجع إلى الأربعة المتّفق عليها، وهي الاستحسان، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، وقول الصّحابيّ، والاستصلاح‏.‏

وعلم أصول الفقه يبحث في إثبات حجّيّة الأدلّة وطرق دلالتها على الأحكام‏.‏

والدّليل إن نظر إليه من حيث هو مع قطع النّظر عمّا يتعلّق به من الأحكام كان دليلاً إجماليّاً، وإن نظر إليه من حيث ما يتعلّق به من الأحكام كان دليلاً تفصيليّاً‏.‏ ومثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ فمن حيث إنّه أمر، وأنّ الأمر يفيد الوجوب، كان دليلاً إجماليّاً‏.‏

ومن حيث إنّه أمر يتعلّق بوجوب الصّلاة على وجه الخصوص كان دليلًا تفصيليًّا‏.‏

الدّليل القطعيّ والدّليل الظّنّي

7 - تنقسم الأدلّة السّمعيّة إلى أربعة أقسامٍ من حيث الثّبوت والدّلالة‏:‏

أ - قطعيّ الثّبوت والدّلالة، كبعض النّصوص المتواترة الّتي لم يختلف فيها، كقوله تعالى

‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏‏.‏

ب - وقطعيّ الثّبوت ظنّيّ الدّلالة، كبعض النّصوص المتواترة الّتي يختلف في تأويلها‏.‏

ج - وظنّيّ الثّبوت قطعيّ الدّلالة، كأخبار الآحاد ذات المفهوم القطعيّ‏.‏

د - وظنّيّ الثّبوت والدّلالة، كأخبار الآحاد الّتي مفهومها ظنّيّ‏.‏

ورتّب أصوليّو الحنفيّة على هذا التّقسيم ثبوت الحكم بقدر دليله‏:‏

فبالقسم الأوّل يثبت الفرض، وبالقسم الثّاني والثّالث يثبت الوجوب، وبالقسم الرّابع يثبت الاستحباب والسّنّيّة‏.‏

وهذا التّقسيم جارٍ على اصطلاح الحنفيّة في التّفريق بين الفرض والواجب، خلافاً للجمهور‏.‏ وينظر في تفصيل ما تقدّم‏:‏ الملحق الأصوليّ في مواضعه‏.‏ وكذلك مصطلح‏:‏ ‏(‏استدلال، وترجيح‏)‏‏.‏

دم

التّعريف

1 - الدّم بالتّخفيف، هو ذلك السّائل الأحمر الّذي يجري في عروق الحيوانات، وعليه تقوم الحياة‏.‏ واستعمله الفقهاء بهذا المعنى، وكذلك عبّروا به عن القصاص والهدي في قولهم‏:‏ مستحقّ الدّم ‏"‏ يعني وليّ القصاص ‏"‏ وقولهم‏:‏ يلزمه دم‏.‏ كما أطلقوه على ما تراه المرأة في الحيض، والاستحاضة، والنّفاس أيضاً‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الصّديد‏:‏

2 - صديد الجرح‏:‏ ماؤه الرّقيق المختلط بالدّم‏.‏ وقيل‏:‏ هو القيح المختلط بالدّم، والصّديد في القرآن الكريم‏:‏ معناه‏:‏ ما يسيل من جلود أهل النّار من الدّم والقيح، كما قال أبو إسحاق في تفسير قوله تعالى ‏{‏وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ‏}‏‏.‏

ب - القيح‏:‏

3 - القيح‏:‏ المدّة الخالصة لا يخالطها دم‏.‏

وقيل‏:‏ هو الصّديد الّذي كأنّه الماء، وفيه شكلة دمٍ‏.‏

الحكم الإجماليّ

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الدّم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، وقد حمل المطلق في سورة البقرة على المقيّد في سورة الأنعام، في‏:‏ ‏{‏أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً‏}‏‏.‏

واختلفوا في يسيره على أقوالٍ‏.‏ كما اختلفوا في تعريف اليسير‏.‏

وتفصيل ذلك في كتب الفقه‏.‏ ور‏:‏ مصطلح‏:‏ ‏(‏أطعمة، ووضوء، ونجاسة‏)‏‏.‏

مواطن البحث

5 - تتعلّق بالدّم أمور كثيرة بحثها الفقهاء في مواضعها‏:‏

فمسألة نقض الوضوء بخروج الدّم تطرّق إليه الفقهاء في الوضوء عند الحديث عن نواقض الوضوء، وكونه نجسًا تجب إزالته عن بدن المصلّي وثوبه ومكانه بحث في باب النّجاسات عند الكلام عن إزالة النّجاسات‏.‏ وفي باب الصّلاة عند الحديث عن شروط صحّتها، واعتباره حيضاً أو استحاضةً أو نفاساً، فصّل الكلام عليه في أبواب الحيض والاستحاضة والنّفاس‏.‏ وكونه من مفسدات الصّوم في باب الصّوم عند الحديث عن المفطرات‏.‏

وانظر في الموسوعة المصطلحات الآتية‏:‏ ‏(‏حدث، ونجاسة، وطهارة، وحيض، واستحاضة، ونفاس، وحجامة‏)‏‏.‏

وكونه بمعنى الهدي الّذي يترتّب على ارتكاب محظورٍ من محظورات الإحرام قد بحث في الحجّ عند الكلام عن محظورات الإحرام، ووجوب الهدي في التّمتّع، والقران، والإحصار وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرام، وإحصار، وهدي، وقران‏)‏‏.‏

وكونه ممّا يحرم أكله أو يحلّ في الأطعمة‏.‏

كما تطرّق إليه الفقهاء في الذّكاة، والعقيقة، والقصاص، وغير ذلك‏.‏

دنانير

التّعريف

1 - الدّنانير جمع دينارٍ، وهو فارسيّ معرّب‏.‏

والدّينار اسم القطعة من الذّهب المضروبة المقدّرة بالمثقال، ويرادف الدّينار المثقال في عرف الفقهاء، فيقولون‏:‏ نصاب الذّهب عشرون مثقالاً، ونقل ابن عابدين عن الفتح‏:‏ أنّ المثقال اسم للمقدار المقدّر به، والدّينار اسم للمقدّر به بقيد كونه ذهباً‏.‏

والدّنانير أصلاً من ضرب الأعاجم‏.‏ وكان وزنه عشرين قيراطاً على ما ذكره البلاذريّ وابن خلدونٍ والماورديّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الدّراهم‏:‏

2 - الدّراهم جمع درهمٍ وهو فارسيّ معرّب، وهو نوع من النّقد ضرب من الفضّة‏.‏ انظر‏:‏ ‏(‏دراهم‏)‏‏.‏

ب - النّقد

3 - النّقد ما ضرب من الدّراهم والدّنانير والفلوس وهو أعمّ من الدّينار‏.‏

ج - الفلوس‏:‏

4 - الفلوس ما ضرب من المعادن من غير الذّهب والفضّة‏.‏

د - سكّة‏:‏

5 - السّكّة ما يضرب بها النّقد‏.‏

تعامل العرب بالدّينار وموقف الإسلام منه

6 - ذكر البلاذريّ في رواية عبد اللّه بن ثعلبة بن صعيرٍ أنّ دنانير هرقل كانت ترد على أهل مكّة في الجاهليّة، وكانوا لا يتبايعون بها إلاّ على أنّها تبر، وكان المثقال عندهم معروف الوزن، وزنه اثنان وعشرون قيراطاً إلاّ كسراً، «وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقرّ أهل مكّة على هذا الوزن»‏.‏ وأقرّه أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ ومعاوية‏.‏

ونقل النّوويّ عن أبي سليمان الخطّابيّ أنّ عبد الملك بن مروان لمّا أراد ضرب الدّنانير، سأل عن أوزان الجاهليّة، فأجمعوا له على أنّ المثقال اثنان وعشرون قيراطاً إلاّ حبّةً بالشّاميّ فضربها كذلك‏.‏

الدّينار الشّرعيّ

7 - الدّينار الّذي ضربه عبد الملك بن مروان هو الدّينار الشّرعيّ، لمطابقته للأوزان المكّيّة الّتي أقرّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والصّحابة‏.‏ ووزنه كما ذكرت الرّوايات اثنان وعشرون قيراطاً إلاّ حبّةً بالشّاميّ، وهو أيضاً بزنة اثنتين وسبعين حبّة شعيرٍ من حبّات الشّعير المتوسّطة الّتي لم تقشّر وقد قطع من طرفيها ما امتدّ‏.‏

وقال ابن خلدونٍ‏:‏ الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصّحابة والتّابعين أنّ الدّرهم الشّرعيّ‏:‏ هو الّذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذّهب، وهو على هذا سبعة أعشار الدّينار، ووزن المثقال من الذّهب اثنتان وسبعون حبّةً من الشّعير‏.‏

وبهذا قال جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏‏.‏

وخالفهم في ذلك الحنيفة فهو عندهم مائة شعيرةٍ‏.‏ والظّاهر أنّ منشأ هذا الاختلاف هو في تقدير القيراط‏.‏ فقد ذكر ابن عابدين أنّ وزن المثقال عشرون قيراطاً، وأنّ القيراط خمس شعيراتٍ، فالمثقال مائة شعيرةٍ‏.‏

وممّا يؤيّد هذا هو ما ذكره المالكيّة من أنّ المثقال أربعة وعشرون قيراطاً، وأنّ القيراط ثلاث حبّاتٍ من متوسّط الشّعير، فيكون وزن المثقال اثنتين وسبعين حبّةً‏.‏

وقد ذكر ابن عابدين أنّ المذكور في كتب الشّافعيّة والحنابلة أنّ المثقال اثنتان وسبعون شعيرةً معتدلةً لم تقشّر وقطع من طرفيها ما دقّ وطال، وهو لم يتغيّر جاهليّةً ولا إسلاماً‏.‏ ثمّ قال وقد ذكرت أقوال كثيرة في تحديد القيراط‏.‏

تقدير الدّينار الشّرعيّ في العصر الحاضر

8 - تبيّن ممّا سبق أنّ الدّينار الّذي ضربه عبد الملك بن مروان هو الدّينار الشّرعيّ، لمطابقته لأوزان العرب في الجاهليّة وهي الأوزان الّتي أقرّها النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة، وأنّ السّلف الصّالح رأوا دينار عبد الملك وأقرّوه ولم ينكروه، وتبايعوا به‏.‏ إلاّ أنّ السّكك اختلفت بعد ذلك، يقول ابن خلدونٍ‏:‏ وقع اختيار أهل السّكّة في الدّول على مخالفة المقدار الشّرعيّ في الدّينار والدّرهم، واختلفت في كلّ الأقطار والآفاق‏.‏

لذلك كان السّبيل الوحيد لتقدير الدّينار الشّرعيّ هو معرفة الدّينار الّذي ضرب في عهد عبد الملك بن مروان‏.‏

وقد توصّل إلى ذلك بعض الباحثين، عن طريق الدّنانير المحفوظة في دور الآثار الغربيّة وثبت أنّ دينار عبد الملك بن مروان يزن ‏"‏25 /4 ‏"‏ أربعة جراماتٍ وخمسةً وعشرين من المائة من الجرام ‏"‏ من الذّهب‏.‏ وبذلك يكون هذا الوزن هو الأساس في تقدير الحقوق الشّرعيّة من زكاةٍ ودياتٍ وغير ذلك‏.‏

تقدير بعض الحقوق الشّرعيّة بالدّينار

حدّد الإسلام مقادير معيّنةً بالدّينار في بعض الحقوق الشّرعيّة ومن ذلك‏:‏

أ - الزّكاة‏:‏

9 - اتّفق الفقهاء على أنّ نصاب الذّهب الّذي يجب فيه الزّكاة عشرون ديناراً، فإذا تمّت ففيها ربع العشر، لما ورد عن عمر وعائشة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كلّ عشرين ديناراً فصاعداً نصف دينارٍ ومن الأربعين ديناراً»‏.‏ وروى سعيد والأثرم عن عليٍّ‏:‏ في كلّ أربعين دينارًا دينار وفي كلّ عشرين ديناراً نصف دينارٍ‏.‏

هذا مع الاختلاف هل لا بدّ أن تكون قيمتها مائتي درهمٍ أو أنّ الزّكاة تجب من غير اعتبار قيمتها بالدّراهم‏.‏ وينظر تفصيل ذلك وغيره في مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

ب - الدّية‏:‏

10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الدّية إن كانت من الذّهب فإنّها تقدّر بألف مثقالٍ، وذلك لما روى عمرو بن حزمٍ في كتابه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وأنّ في النّفس المؤمنة مائةً من الإبل وعلى أهل الذّمّة ألف دينارٍ»‏.‏

وهذا بالنّسبة للرّجل الحرّ المسلم‏.‏ وينظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏ديات‏)‏‏.‏

ج - السّرقة‏:‏

11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ النّصاب الّذي يقطع به السّارق بالنّسبة، للذّهب ربع دينارٍ، أو ما قيمته ربع دينارٍ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقطع يد السّارق إلاّ في ربع دينارٍ فصاعداً»‏.‏ وإجماع الصّحابة على ذلك‏.‏

أمّا عند الحنفيّة فنصاب السّرقة دينار أو عشرة دراهم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا تقطع اليد إلاّ في دينارٍ أو في عشرة دراهم»‏.‏

وفي الموضوع تفصيلات كثيرة تنظر في‏:‏ ‏(‏سرقة‏)‏‏.‏

ما يتعلّق بالدّنانير من أحكامٍ

12 - يتعلّق بالدّنانير بعض الأحكام الشّرعيّة من حيث حكم كسرها وقطعها، واتّخاذها حليةً، وكذلك حكم مسّ المحدث الدّنانير الّتي عليها شيء من القرآن، أو حملها حين دخول الخلاء‏.‏ وقد ذكرت هذه الأحكام في مصطلح دراهم، وهي نفس الأحكام الّتي تتعلّق بالدّنانير، فتنظر في‏:‏ ‏(‏دراهم، ف /7، 9، 10‏)‏‏.‏

أمّا ما يتعلّق بها من حيث الحكم في إجارتها، أو رهنها، أو وقفها، أو غير ذلك فتنظر في أبوابها ومصطلحاتها‏.‏

دَهريّ

التّعريف

1 - الدّهريّ في اللّغة‏:‏ منسوب إلى الدّهر، والدّهر يطلق على الأبد والزّمان، ويقال للرّجل الّذي يقول بقدم الدّهر ولا يؤمن بالبعث‏:‏ دهريّ، بالفتح على القياس‏.‏

وأمّا الرّجل المسنّ إذا نسب إلى الدّهر يقال له‏:‏ ‏"‏ دُهريّ ‏"‏ بالضّمّ على غير قياسٍ‏.‏ والدّهريّون في الإصلاح فرقة من الكفّار ذهبوا إلى قدم الدّهر وإسناد الحوادث إليه، منكرين وجود الصّانع المختار سبحانه، كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ‏}‏‏.‏

يقول الرّازيّ في تفسير الآية‏:‏ يزعمون أنّ الموجب للحياة والموت تأثيرات الطّبائع، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار‏.‏

وهذا إنكار منهم للآخرة وتكذيب للبعث وإبطال للجزاء، كما يقول القرطبيّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الزّنديق‏:‏

2 - عرّف أكثر الفقهاء الزّنديق بأنّه هو من يبطن الكفر ويظهر الإسلام‏.‏

وهو بهذا المعنى قريب من المنافق‏.‏ وقيل هو من لا ينتحل ديناً، أي لا يستقرّ عليه‏.‏

ب - الملحد‏:‏

3 - الملحد‏:‏ هو من يطعن في الدّين مع ادّعاء الإسلام أو التّأويل في ضرورات الدّين، لإجراء الأهواء‏.‏

وعرّفه ابن عابدين بأنّه من مال عن الشّرع القويم إلى جهةٍ من جهات الكفر‏.‏

ج - المنافق‏:‏

4 - المنافق‏:‏ هو من يضمر الكفر اعتقاداً، ويظهر الإسلام قولاً‏.‏ أو الّذي أظهر الإسلام لأهله، وأضمر غير الإسلام‏.‏ ومحلّ النّفاق القلب‏.‏

د - المرتدّ‏:‏

5 - المرتدّ‏:‏ هو الرّاجع عن دين الإسلام بإجراء كلمة الكفر على اللّسان، أو فعلٍ يتضمّنه بعد الإيمان، فالارتداد كفر بعد الإسلام‏.‏ وجميع هؤلاء يشتركون مع الدّهريّ في الكفر‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

6 - الدّهريّ إذا كان كافر الأصل، أي لم يسبق له أن اعتنق الإسلام، فإمّا أن يعيش في دار الحرب، فهو حربيّ ينظر حكمه في مصطلح‏:‏ ‏(‏أهل الحرب‏)‏‏.‏

أو يعيش في دار الإسلام بأمانٍ مؤقّتٍ فهو مستأمن،حكمه في مصطلحي‏:‏ ‏(‏أمان ومستأمن‏)‏‏.‏

أو يعيش في دار الإسلام بأمانٍ مؤبّدٍ، أي بعقد الذّمّة فهو ذمّيّ، وحكمه في مصطلح‏:‏ ‏(‏أهل الذّمّة‏)‏‏.‏

أمّا إذا كان مسلماً، ثمّ كفر بقوله بقدم الدّهر وإنكار إسناد الحوادث إلى الصّانع المختار سبحانه وتعالى فهو مرتدّ‏.‏ وحكمه في مصطلح‏:‏ ‏(‏ردّة‏)‏‏.‏