فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ:

وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ: فَفَسَادُ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ: فَالْإِثْمُ إذَا أَفْسَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عَمَلَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَذَلِكَ إلَّا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ،، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَا يَأْثَمُ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِالْعُذْرِ فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ.
الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْإِثْمِ، وَالْمُؤَاخِذَةِ فَنُبَيِّنُهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ: هِيَ الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْإِكْرَاهُ، وَالْحَبَلُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْجُوعُ، وَالْعَطَشُ، وَكِبَرُ السِّنِّ، لَكِنْ بَعْضُهَا مُرَخِّصٌ، وَبَعْضُهَا مُبِيحٌ مُطْلَقٌ لَا مُوجِبٌ، كَمَا فِيهِ خَوْفُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ دُونَ خَوْفِ الْهَلَاكِ، فَهُوَ مُرَخِّصٌ وَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ فَهُوَ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ بَلْ مُوجِبٌ فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: أَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ أَنْ يَزْدَادَ بِالصَّوْمِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ خَافَ إنْ لَمْ يُفْطِرْ أَنْ تَزْدَادَ عَيْنَاهُ وَجَعًا، أَوْ حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي يُبِيحُ الْإِفْطَارَ هُوَ مَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، أَوْ زِيَادَةُ الْعِلَّةِ كَائِنًا مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ يُبَاحُ لَهُ أَدَاءُ صَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرَ، وَالْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ لِأَنَّ فِيهِ إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ لَا لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَالْوُجُوبُ لَا يَبْقَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ الْإِفْطَارُ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا وَأَمَّا السَّفَرُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ مُطْلَقُ السَّفَرِ الْمُقَدَّرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، دَلَّ أَنَّ الْمَرَضَ، وَالسَّفَرَ سَبَبَا الرُّخْصَةِ ثُمَّ السَّفَرُ، وَالْمَرَضُ وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَهُمَا فِي الْآيَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمُقَيَّدُ لِأَنَّ مُطْلَقَ السَّفَرِ لَيْسَ بِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السَّفَرِ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ، أَوْ الظُّهُورِ، وَذَا يَحْصُلُ بِالْخُرُوجِ إلَى الضَّيْعَةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّخْصَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَخِّصَ سَفَرٌ مُقَدَّرٌ بِتَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ عَلَى قَصْدِ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَقْدِيرِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا مُطْلَقُ الْمَرَضِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلرُّخْصَةِ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ تَيْسِيرًا لَهُمَا وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِمَا عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} وَمِنْ الْأَمْرَاضِ مَا يَنْفَعُهُ الصَّوْمُ وَيُخِفُّهُ وَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَرِيضِ أَسْهَلَ مِنْ الْأَكْلِ، بَلْ الْأَكْلُ يَضُرُّهُ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَمِنْ التَّعَبُّدِ التَّرَخُّصُ بِمَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَرِيضِ تَحْصِيلُهُ، وَالتَّضْيِيقُ بِمَا يَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ مَعَ أَنَّهُمَا أَفْطَرَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى غَيْرِ ذِي الْعُذْرِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ سَفَرَ طَاعَةٍ، أَوْ مُبَاحًا، أَوْ مَعْصِيَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ،، وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَسَوَاءٌ سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ بَعْدَهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ فَيُفْطِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ عَلِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إذَا أَهَلَّ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَهَلَّ فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ صَوْمُ الشَّهْرِ حَتْمًا فَهُوَ بِالسَّفَرِ يُرِيدُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَالْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ، إنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، كَذَا هَذَا وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} جَعَلَ اللَّهُ مُطْلَقَ السَّفَرِ سَبَبَ الرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ وَإِنَّهَا تُوجَدُ فِي الْحَالَيْنِ فَتَثْبُتُ الرُّخْصَةُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ بِالْإِهْلَالِ فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، فَنَقُولُ: نَعَمْ إذَا أَقَامَ، أَمَّا إذَا سَافَرَ يَلْزَمُهُ صَوْمُ السَّفَرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْآيَتَيْنِ.
فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَخَلَ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ حَتْمًا.
فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي، وَالثَّالِثُ فَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ، وَلِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ الْإِقَامَةِ.
وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيهِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ السَّفَرِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ لَمْ يَتَرَخَّصْ الْمُسَافِرُ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَحَكَى الْقُدُورِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَجُوزُ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَامَ فِي رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يَصُمْ إذْ الْإِفْطَارُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ وَقْتَ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيَّامًا أُخَرَ وَإِذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ فَقَدْ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي مَنْعِ لُزُومِ الْقَضَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ»، وَالْمَعْصِيَةُ مُضَادَّةٌ لِلْعِبَادَةِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» فَقَدْ حَقَّقَ لَهُ حُكْمَ الْإِفْطَارِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَفْطَرَ» كَذَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَامُوا فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَهُوَ يَسِيرُ إلَى نَهْرَوَانَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ، وَالسَّفَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ لِلْإِفْطَارِ تَيْسِيرًا وَتَخْفِيفًا عَلَى أَرْبَابِهَا وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فَلَوْ تَحَتَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ وَلَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِيهِ تَعْسِيرٌ وَتَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يُضَادُّ مَوْضُوعَ الرُّخْصَةِ وَيُنَافِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ فَلَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ لَصَارَ مَا هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ سَبَبَ زِيَادَةِ فَرْضٍ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ غَيْرِ صَاحِبِ الْعُذْرِ وَهُوَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فَيَتَنَاقَضُ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْخِلَافُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لَا يُمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي، بَلْ الْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ فِي الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَتَقْدِيرُهَا: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَجْرِي ذِكْرُ الرُّخْصِ عَلَى أَنَّهُ ذِكْرُ الْحَظْرِ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} أَيْ: مَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ لِأَنَّهُ لَا إثْمَ يَلْحَقُهُ بِنَفْسِ الِاضْطِرَارِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} أَيْ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَأَحْلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى النُّسُكِ مِنْ الْحَجِّ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْلَالُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ وَدَفَعَ الْأَذَى عَنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَيُضْعِفُهُ فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ فِي السَّفَرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَارَ كَاَلَّذِي أَفْطَرَ فِي الْحَضَرِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِفْطَارُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمَا فِي الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ إلْقَاءِ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ، ثُمَّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ عِنْدَنَا، إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ وَلَمْ يُضْعِفْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ، وَالْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُ مَذْهَبِهِ وَاحْتُجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الصِّيَامَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامًّا أَيْ: مَفْرُوضٌ إذْ الْكِتَابَةُ هِيَ الْفَرْضُ لُغَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ فِي الْآدَابِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} أَيْ: يُرِيدُ الْإِذْنَ لَكُمْ بِالْإِفْطَارِ لِلْعُذْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ لِلِامْتِنَانِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ مَعْنًى لِأَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ فِي صَوْمِ النَّفْلِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» شَرَطَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ دَلِيلُ لُزُومِ حِفْظِ الْمَتْرُوكِ لِئَلَّا يَدْخُلَ التَّقْصِيرُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ تَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ» أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِفْطَارُ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ، فَكَانَ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَعْنَى الْعَزِيمَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسَافِرُ إنْ أَفْطَرَ فَرُخْصَةٌ وَإِنْ يَصُمْ فَهُوَ أَفْضَلُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَا يَجِبُ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا يُحْمَلَانِ عَلَى حَالِ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ صَامَ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا وُجُوبَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ وَهُوَ التَّيْسِيرُ، وَالسُّهُولَةُ فِي الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ أَكْمَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَظْرِ، وَالْمُؤَاخَذَةِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَاشْتَغَلَ بِالْعَزِيمَةِ يَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، لَكِنْ مَعَ هَذَا؛ الصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا الْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ مِنْ السَّفَرِ فَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، وَالْإِفْطَارُ فِي مِثْلِهِ وَاجِبٌ فَضْلًا عَنْ الْإِبَاحَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرَضِ.
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى إفْطَارِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فَمُرَخَّصٌ، وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِفْطَارِ حَتَّى قُتِلَ يُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي الْإِكْرَاهِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ بِالتَّرْكِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ بَلْ بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا، وَالتَّرْكُ حَرَامًا وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِفْطَارُ حَرَامًا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا، فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ فَكَانَ مُجَاهِدًا فِي دِينِهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ فَالْإِكْرَاهُ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ فِي حَقِّهِمَا بَلْ مُوجِبٌ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِفْطَارُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَقُتِلَ يَأْثَمُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْوُجُوبُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلًا فَإِذَا جَاءَ بِالْإِكْرَاهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ أَثَرُهُ فِي إثْبَاتِ رُخْصَةِ التَّرْكِ لَا فِي إسْقَاطِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْوُجُوبُ قَائِمًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا فَكَانَ بِالِامْتِنَاعِ بَاذِلًا نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ فَالْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فلابد وَأَنْ يَكُونَ لِلْإِكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا إسْقَاطَ الْوُجُوبِ رَأْسًا وَإِثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَبَلُ الْمَرْأَةِ وَإِرْضَاعُهَا: إذَا خَافَتَا الضَّرَرَ بِوَلَدِهِمَا فَمُرَخَّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ كِنَايَةً عَنْ أَمْرٍ يَضُرُّ الصَّوْمُ مَعَهُ.
وَقَدْ وُجِدَ هاهنا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُفْطِرُ الْمَرِيضُ، وَالْحُبْلَى إذَا خَافَتْ أَنْ تَضَعَ وَلَدَهَا، وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتْ الْفَسَادَ عَلَى وَلَدِهَا».
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَعَنْ الْحُبْلَى، وَالْمُرْضِعِ الصِّيَامَ» وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، وَالْفِدْيَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْحَسَنِ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَلَا يَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُجَاهِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ إنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَيَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وَالْحَامِلُ، وَالْمُرْضِعُ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَدَخَلَتَا تَحْتَ الْآيَةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} الْآيَةُ، أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقَضَاءَ فَمَنْ ضَمَّ إلَيْهِ الْفِدْيَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ غَيْرَهُ دَلَّ أَنَّهُ كُلُّ حُكْمٍ لِحَادِثَةٍ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ صُورَةَ الْمَرَضِ بَلْ مَعْنَاهُ.
وَقَدْ وُجِدَ فِي الْحَامِلِ، وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدِهِمَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ الْآيَةِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِهِ مَعْنًى يَضُرُّهُ الصَّوْمُ أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} فَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ إنَّ لَا مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أَيْ: لَا تَضِلُّوا فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ فِيهَا شَرْعُ الْفِدَاءِ مَعَ الصَّوْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ دُونَ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِوُجُوبِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَعِنْدَهُ يَجِبُ الصَّوْمُ، وَالْفِدَاءُ جَمِيعًا دَلَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا وَلِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ يَحْصُلُ بِالْقَضَاءِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ.
وَأَمَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ: فَمُبِيحٌ مُطْلَقٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا كِبَرُ السِّنِّ حَتَّى يُبَاحَ لِلشَّيْخِ الْفَانِي أَنْ يُفْطِرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الصَّوْمِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمُطِيقِ لِلصَّوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَهُوَ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَلَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبُوا الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الشَّيْخُ الْفَانِي إمَّا عَلَى إضْمَارِ حَرْفِ لَا فِي الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِمَّا عَلَى إضْمَارِ كَانُوا أَيْ: وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ أَيْ: الصَّوْمَ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا فَاتَهُ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ وَتَعَذَّرَ جَبْرُهُ بِالصَّوْمِ فَيُجْبَرُ بِالْفِدْيَةِ، وَتُجْعَلُ الْفِدْيَةُ مِثْلًا لِلصَّوْمِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ كَالْقِيمَةِ فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِقْدَارُ الْفِدْيَةِ مِقْدَارُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهُوَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ.
ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْذَارُ كَمَا تُرَخِّصُ، أَوْ تُبِيحُ الْفِطْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُرَخِّصُ، أَوْ تُبِيحُ فِي الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ وَقْتُ الصَّوْمِ وَهُوَ مَرِيضٌ مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّوْمَ، أَوْ يَسْتَطِيعُ مَعَ ضَرَرٍ أَفْطَرَ وَقَضَى.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ.
فَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَسَادِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، أَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ: فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَسْتَدْعِي فَوَاتَ الصَّوْمِ لَا غَيْرَ، وَالْفَوَاتُ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ بِالْقَضَاءِ، لِيَقُومَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ مَعْنًى.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِفْطَارُ الْكَامِلُ بِوُجُودِ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبِيحٍ وَلَا مُرَخِّصٍ وَلَا شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ، وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَمَعْنَاهُمَا: إيصَالَ مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي إلَى جَوْفِهِ مِنْ الْفَمِ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ.
وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْجِمَاعِ وَمَعْنَاهُ: إيلَاجَ الْفَرْجِ فِي الْقُبُلِ لِأَنَّ كَمَالَ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُلِ بِالْجِمَاعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، هَلَكْتُ، وَأَهْلَكْتُ، فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ لَهُ: مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً».
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهَا عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ عَلَيْهَا وَيَتَحَمَّلُهَا الرَّجُلُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عُرِفَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ.
وَكَذَا وَرَدَ بِالْوُجُوبِ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِسَبَبِ فِعْلِ الرَّجُلِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَمُّلُ كَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ، وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِيهِمَا، وَهُوَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ مَحْضٍ مُتَعَمِّدًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَمُّلِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِفِعْلِهَا وَهُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ، وَيَجِبُ مَعَ الْكَفَّارَةِ الْقَضَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ: إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الصَّوْمَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ يَجِبُ تَكْفِيرًا زَجْرًا عَنْ جِنَايَةٍ الْإِفْسَادِ، أَوْ رَفْعًا لِذَنْبِ الْإِفْسَادِ، وَصَوْمُ الْقَضَاءِ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْآخَرُ، فَلَا يَسْقُطُ صَوْمُ الْقَضَاءِ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْتَاقِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا».
وَلَوْ جَامَعَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَأَنْ تَجِبَ بِهِ الْكَفَّارَةُ أَوْلَى.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ إذَا تَوَارَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ،، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِلزَّجْرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا يَنْدُرُ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَكْرُوهٌ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْمَيْتَةِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَعْتَمِدُ إفْسَادَ الصَّوْمِ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ وَقَدْ وُجِدَ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى.
وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْبَدَنُ، أَمَّا عَلَى وَجْهِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِرَفْعِ الذَّنْبِ، وَالتَّوْبَةُ كَافِيَةٌ لِرَفْعِ الذَّنْبِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ بَابِ الْمَقَادِيرِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَهْتَدِي إلَى تَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ، وَالْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ لَيْسَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُمَا حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ دُونَهُمَا، فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْجِمَاعِ لَا يَكُونُ وَارِدًا فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ»، وَعَلَى الْمُظَاهِرِ الْكَفَّارَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ، فَكَذَا عَلَى الْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا.
وَلَنَا أَيْضًا الِاسْتِدْلَال بِالْمُوَاقَعَةِ،، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهَا، أَمَّا الِاسْتِدْلَال بِهَا فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْمُوَاقَعَةِ وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا إفْسَادًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَالْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ إفْسَادٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ فَكَانَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ هُنَاكَ إيجَابًا هاهنا دَلَالَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمُوَاقَعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مُجْمَلٌ، وَالْآخَرُ: مُفَسَّرٌ، أَمَّا الْمُجْمَلُ: فَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
وَأَمَّا الْمُفَسَّرُ: فَلِأَنَّ إفْسَادَ صَوْمِ رَمَضَانَ ذَنْبٌ وَرَفْعُ الذَّنْبِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا لِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وَالْكَفَّارَةُ تَصْلُحُ رَافِعَةً لَهُ لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ.
وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِكَوْنِ الْحَسَنَاتِ مِنْ التَّوْبَةِ، وَالْإِيمَانُ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ رَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، إلَّا أَنَّ الذُّنُوبَ مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ.
وَكَذَا الرَّوَافِعَ لَهَا لَا يَعْلَمُ مَقَادِيرَهَا إلَّا الشَّارِعُ لِلْأَحْكَامِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَتَى وَرَدَ الشَّرْعُ فِي ذَنْبٍ خَاصٍّ بِإِيجَابِ رَافِعٍ خَاصٍّ وَوُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ إيجَابًا لِذَلِكَ الرَّافِعِ فِيهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ، وَالْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُوَاقَعَةِ فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ هُنَاكَ وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ عَنْ إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ صِيَانَةً لَهُ فِي الْوَقْتِ الشَّرِيفِ، لِأَنَّهَا تَصْلُحُ زَاجِرَةً، وَالْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الزَّاجِرِ.
أَمَّا الصَّلَاحِيَّةُ فَلِأَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَلِوُجُودِ الدَّاعِي الطَّبِيعِيِّ إلَى الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَهُوَ شَهْوَةُ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَهَذَا فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْجُوعَ، وَالْعَطَشَ يُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ، فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ أَكْثَرَ، فَكَانَ شَرْعُ الزَّاجِرِ هُنَاكَ شَرْعًا هاهنا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُمْنَعُ عَدَمُ جَوَازِ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُقْتَضِيَةَ لِكَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا.
وَلَوْ أَكَلَ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى: كَالْحَصَاةِ، وَالنَّوَاةِ، وَالتُّرَابِ، وَغَيْرِهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِفْطَارُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا إفْطَارٌ صُورَةً لَا مَعْنًى لِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ وَهُوَ: الْكَفُّ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صُورَةُ الصَّوْمِ إلَّا أَنَّا أَلْحَقْنَا الصُّورَةَ بِالْحَقِيقَةِ وَحَكَمْنَا بِفَسَادِ الصَّوْمِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ بَلَعَ جَوْزَةً صَحِيحَةً يَابِسَةً، أَوْ لَوْزَةً يَابِسَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً لَا مَعْنًى، لِأَنَّهُ لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَشْبَهَ أَكْلَ الْحَصَا.
وَلَوْ مَضَغَ الْجَوْزَةَ أَوْ اللَّوْزَةَ الْيَابِسَةَ حَتَّى يَصِلَ الْمَضْغُ إلَى جَوْفِهَا حَتَّى ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَكَلَ لُبَّهَا إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ لَوْزَةً صَغِيرَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ.
وَقَوْلُهُ فِي اللَّوْزَةِ مَحْمُولٌ عَلَى اللَّوْزَةِ الرَّطْبَةِ لِأَنَّهَا مَأْكُولَةٌ كُلُّهَا كَالْخَوْخَةِ، وَلَوْ أَكَلَ جَوْزَةً رَطْبَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي، وَالتَّدَاوِي.
وَلَوْ أَكَلَ عَجِينًا أَوْ دَقِيقًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا التَّغَذِّي وَلَا التَّدَاوِي، فَلَا يَفُوتُ مَعْنَى الصَّوْمِ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى رِوَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّقِيقِ، وَالْعَجِينِ فَقَالَ: فِي الدَّقِيقِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ وَفِي الْعَجِينِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
وَلَوْ قَضَمَ حِنْطَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ.
وَلَوْ ابْتَلَعَ إهْلِيلَجَةً، رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَا يُتَدَاوَى بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَرَوَى هِشَام عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهَذَا أَقْيَسُ عِنْدِي، لِأَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ.
وَلَوْ أَكَلَ طِينًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْمَنِيًّا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ.
وَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِيقُونَ أَيْ: يُتَدَاوَى بِهِ، قَالَ ابْنُ رُسْتُمَ: فَقُلْتُ لَهُ هَذَا الطِّينُ الَّذِي يُقْلَى يَأْكُلُهُ النَّاسُ؟ قَالَ لَا أَدْرِي مَا هَذَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهِ، أَوْ لَا.
وَلَوْ أَكَلَ وَرَقَ الشَّجَرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَكَلَ مِسْكًا أَوْ غَالِيَةً أَوْ زَعْفَرَانَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ هَذَا يُؤْكَلُ وَيُتَدَاوَى بِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَنَاوَلَ سِمْسِمَةً؟ قَالَ: فَطَّرَتْهُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، أَوْ لَا، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السِّمْسِمَةَ لَوْ كَانَتْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَابْتَلَعَهَا أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ امْتَصَّ سُكَّرَةً بِفِيهِ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى دَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ السُّكَّرَ هَكَذَا يُؤْكَلُ.
وَلَوْ مَصَّ إهْلِيلَجَةً فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ؟ قَالَ: لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى.
وَلَوْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ دَمٌ فَدَخَلَ حَلْقَهُ أَوْ ابْتَلَعَهُ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَفْسُدَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَفْسُدُ احْتِيَاطًا، وَلَوْ أَخْرَجَ الْبُزَاقَ مِنْ فِيهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا ابْتَلَعَ بُزَاقَ غَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُعَافُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ لُعَابَ حَبِيبِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحَبِيبَ لَا يَعَافُ رِيقَ حَبِيبِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ.
وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا قَدِيدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَوْ أَكَلَ شَحْمًا قَدِيدًا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ كَمَا فِي اللَّحْمِ، لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي الْجُمْلَةِ كَاللَّحْمِ الْقَدِيدِ.
وَلَوْ أَكَلَ مَيْتَةً فَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَنْتَنَتْ وَدَوَّدَتْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ.
وَلَوْ أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى، إذْ الْجِمَاعُ: هُوَ الْإِيلَاجُ، فَأَمَّا الْإِنْزَالُ: فَفَرَاغٌ مِنْ الْجِمَاعِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ أَنْزَلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقُصُورٍ فِي الْجِمَاعِ لِوُجُودِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ لِقُصُورٍ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ وَنَبْوَةِ الطَّمَعِ.
وَلَوْ أَخَذَ لُقْمَةً مِنْ الْخُبْزِ لِيَأْكُلَهَا وَهُوَ نَاسٍ فَلَمَّا مَضَغَهَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَابْتَلَعَهَا وَهُوَ ذَاكِرٌ ذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَابْتَلَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا صَارَ بِحَالٍ يُعَافُ مِنْهَا وَمَا دَامَتْ فِي فِيهِ فَإِنَّهُ يَتَلَذَّذُ بِهَا.
وَلَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ طَالِعٌ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ مُتَعَمِّدًا بَلْ خَاطِئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي سَفَرِهِ ثُمَّ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ قَائِمٌ وَهُوَ السَّفَرُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا اسْتَنَدَتْ إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ اُعْتُبِرَتْ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَإِلَّا فَلَا.
وَقَدْ وُجِدَتْ هَاهُنَا، وَهِيَ صُورَةُ السَّفَرِ لِأَنَّهُ مُرَخِّصٌ أَوْ مُبِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هاهنا اسْتَنَدَتْ إلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ لِوُجُودِ الْمُضَادِّ لِلصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ لَهُ يَقْضِي.
وَكَذَا الْقَيْءُ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ عَوْدِ بَعْضِهِ مِنْ الْفَمِ إلَى الْجَوْفِ، فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَاعْتُبِرَتْ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إلَّا أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ، أَيْ: بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي وَالْقَيْءَ لَا يُفْطِرَانِ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ ظَنَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَعَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَفْسُدْ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ.
فَإِنْ احْتَجَمَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا، إنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ، وَإِنْ بَلَغَهُ خَبَرُ الْحِجَامَةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاسْتِفْتَاءُ مِنْ الْمُفْتِي لَا الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ يَكُونُ مَنْسُوخًا وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكًا، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ فَقِيهًا وَلَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى دَلِيلٍ أَصْلًا.
وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ ضَاجَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ ظَنُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ حَدِيثًا أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْطَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْفَقِيهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى يَصِيرُ شُبْهَةً.
وَلَوْ اغْتَابَ إنْسَانًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ الْحَدِيثَ هاهنا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى مَنْ لَهُ سِمَةٌ مِنْ الْفِقْهِ وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَرْوِيِّ «الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ شُبْهَةً.
وَكَذَا لَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ مُقِيمٌ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ سَافَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ مَرِضَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ مَرَضًا يُرَخِّصُ الْإِفْطَارَ أَوْ يُبِيحُهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمَرَضِ مَعْنًى يُوجِبُ تَغْيِيرَ الطَّبِيعَةِ عَنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَحْدُثُ فِي الْبَاطِنِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الظَّاهِرِ، فَلَمَّا مَرِضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الظَّاهِرِ فَكَانَ الْمُرَخِّصُ أَوْ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ، فَمَنَعَ انْعِقَادَ الْإِفْطَارِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، أَوْ وُجُودُ أَصْلِهِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، وَإِنَّهُ يُوجَدُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ وُجُودِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُرَخِّصُ أَوْ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ حَاضَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ نَفِسَتْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ مُجْتَمِعٌ فِي الرَّحِمِ يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْرُزْ فَمَنَعَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ.
وَلَوْ سَافَرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُكْرَهًا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَسْقُطُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَخِّصَ أَوْ الْمُبِيحَ وُجِدَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي.
وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَمَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا مُرَخِّصًا لِلْإِفْطَارِ أَوْ مُبِيحًا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْقُطُ.
وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَرَضَ هُنَا حَدَثَ مِنْ الْجُرْحِ وَإِنَّهَا وُجِدَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْحَالِ فَكَانَ الْمَرَضُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ حُدُوثِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ أَصْبَحَ فِي رَمَضَانَ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ فَوُجِدَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِشَرَائِطِهِ، وَعِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى فَلَمْ يُوجَدْ الصَّوْمُ فَاسْتَحَالَ الْإِفْسَادُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ.
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ بِفَرْضِ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا قَبْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْوِيَ فَإِذَا أَكَلَ فَقَدْ أَبْطَلَ الْفَرْضِيَّةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا فَكَانَ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ مَعْنًى بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَقَعْ إبْطَالًا لِلْفَرْضِيَّةِ لِبُطْلَانِهَا قَبْلَ الْأَكْلِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ لَا يَنْوِي صَوْمًا ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ جَامَعَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ؟ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ سَوَاءً، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَكَذَا إذَا جَامَعَ فِي آخِرِهِ لِأَنَّ الْيَوْمَ فِي كَوْنِهِ مَحَلَّا لِلصَّوْمِ وَلَا يَتَجَزَّأُ أَوْ يُوجِبُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي آخِرِ الْيَوْمِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى فِيمَنْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْفِطْرَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْكَلَامُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِرَارًا بِأَنْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ جَامَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ فِي الثَّالِثِ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَعَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ، وَلَوْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ جِمَاعٍ كَفَّارَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْجِمَاعُ عِنْدَهُ، وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا، وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فِيهِ ضَرُورَةٌ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ الْحُدُودُ لِمَا فِي التَّكَرُّرِ مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ وَلَمْ يُوجَدْ هاهنا فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ وَلِهَذَا تَكَرَّرَ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَالْيَمِينِ، وَالظِّهَارِ.
وَلَنَا حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ وَاقَعْتُ يَحْتَمِلُ الْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ وَلِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ لَازِمٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ أَعْنِي كَفَّارَةَ الْإِفْطَارِ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا بِالْعَمْدِ الْمَخْصُوصِ فِي الْجِنَايَةِ الْخَالِصَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَامَعَ بَعْدَ مَا كَفَّرَ عُلِمَ أَنَّ الزَّجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأَوَّلِ.
وَلَوْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَعْتَقَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الْأُولَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُجْزِئُ عَنْ الْأُولَى.
وَكَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الثَّالِثَةَ تُجْزِئُ عَنْ الثَّانِيَةِ وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّالِثَةُ فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يُجْزِئُ عَمَّا تَأَخَّرَ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ أَيْضًا فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى أَيْضًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِشَيْءٍ مِنْهَا فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَجْزَأَتْ عَنْ الْأُولَى، وَالْأَصْلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ الثَّانِي يُجْزِئُ عَمَّا قَبْلَهُ، وَلَا يُجْزِئُ عَمَّا بَعْدَهُ.
وَأَمَّا صِيَامُ غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِ شَيْءٍ مِنْهُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ، وَأَنَّهُ صَوْمٌ شَرِيفٌ فِي وَقْتٍ شَرِيفٍ لَا يُوَازِيهِمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصِّيَامِ وَالْأَوْقَاتِ فِي الشَّرَفِ وَالْحُرْمَةِ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَأَمَّا الصِّيَامُ الْمَفْرُوضُ: فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالْمَنْذُورِ مُتَتَابِعًا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ لِفَوَاتِ الشَّرَائِطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ وَالنَّذْرِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهِ عَمَّا عَلَيْهِ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، وَعَلَيْهِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَفِي الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَسَدَ.
وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ: فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إلَيْنَا حَيْسٌ فَأَكَلْنَا مِنْهُ فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي وُجُوبِ الْمُضِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّوْمِ الْمَظْنُونِ إذَا أَفْسَدَهُ بِأَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ.
وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ يَظُنُّ أَنَّهَا عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَرَعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي خِلَالِهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَرَعَ فِي النَّفْلِ وَلِهَذَا نُدِبَ إلَى الْمُضِيِّ فِيهِ، وَالشُّرُوعُ فِي النَّفْلِ مُلْزَمٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا كَانَ الشُّرُوعُ فِي الْحَجِّ الْمَظْنُونِ مُلْزَمًا كَذَا الصَّوْمُ وَلَنَا أَنَّهُ شَرَعَ مُسْقِطًا لَا مُوجِبًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالشُّرُوعِ إسْقَاطَ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَصْدًا، وَالشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ لِشُرُوعِهِ فِي الْعِبَادَةِ فِي زَعْمِهِ وَتَشَبُّهِهِ بِالشَّارِعِ فِي الْعِبَادَةِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ كَمَا يُثَابُ الْمُتَشَبِّهُ بِالصَّائِمِينَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ إذَا أَفْطَرَ بِعُذْرٍ، وَالِاشْتِبَاهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي بَابِ الصَّوْمِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، فَإِنَّ وُقُوعَ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ فِي بَابِ الْحَجِّ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَكُونُ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.