فصل: كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَسْمَاءِ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُسْكِرَةِ، وَفِي بَيَانِ مَعَانِيهَا، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِهَا، وَفِي بَيَانِ حَدِّ السُّكْرِ.
(أَمَّا) أَسْمَاؤُهَا: فَالْخَمْرُ، وَالسَّكَرُ، وَالْفَضِيخُ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ، وَالطِّلَاءُ، وَالْبَاذِقُ، وَالْمُنَصَّفُ، وَالْمُثَلَّثُ وَالْجُمْهُورِيُّ، وَقَدْ يُسَمَّى أَبُو سُقْيَا وَالْخَلِيطَانِ وَالْمِزْرُ وَالْجِعَةُ وَالْبِتْعَ.
(أَمَّا) بَيَانُ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَمَّا الْخَمْرُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ مَاءُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ فَقَدْ صَارَ خَمْرًا وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْخَمْرِ قَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَمْ يَقْذِفْ بِهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرُّكْنَ فِيهَا مَعْنَى الْإِسْكَارِ وَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَذْفِ بِالزَّبَدِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَعْنَى الْإِسْكَارِ لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ فَلَا يَصِيرُ خَمْرًا بِدُونِهِ.
(وَأَمَّا) السَّكَرُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَمْ يَقْذِفْ عَلَى الِاخْتِلَافِ.
وَأَمَّا الْفَضِيخُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْبُسْرِ الْمَنْضُوخِ وَهُوَ الْمَدْقُوقُ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَا عَلَى الِاخْتِلَاف.
(وَأَمَّا) نَقِيعُ الزَّبِيبِ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ الْمَنْقُوعِ فِي الْمَاءِ حَتَّى خَرَجَتْ حَلَاوَتُهُ إلَيْهِ وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَا عَلَى الْخِلَافِ.
(وَأَمَّا) الطِّلَاءُ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَطْبُوخِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَصَارَ مُسْكِرًا وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْبَاذَقِ وَالْمُنَصَّفِ لِأَنَّ الْبَاذَقَ هُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَالْمُنَصَّفُ هُوَ الْمَطْبُوخُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ، وَقِيلَ الطِّلَاءُ هُوَ الْمُثَلَّثُ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ مُعَتَّقًا وَصَارَ مُسْكِرًا.
(وَأَمَّا) الْجُمْهُورِيُّ فَهُوَ الْمُثَلَّثُ يُصَبُّ الْمَاءُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ قَدْرَ الذَّاهِبِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ ثُمَّ يُطْبَخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيَصِيرُ مُسْكِرًا.
(وَأَمَّا) الْخَلِيطَانِ فَهُمَا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ أَوْ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ إذَا خُلِطَا وَنُبِذَا حَتَّى غَلَيَا وَاشْتَدَّا.
(وَأَمَّا) الْمِزْرُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الذُّرَةِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا.
(وَأَمَّا) الْجِعَّةُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا.
(وَأَمَّا) الْبِتْعُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الْعَسَلِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا هَذَا بَيَانُ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاء.
(وَأَمَّا) بَيَانُ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ:- أَمَّا الْخَمْرُ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ؛.
(مِنْهَا) أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَيَسْتَوِي فِي الْحُرْمَةِ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا (وَالدَّلِيلُ) عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، وَصَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَمْرَ بِكَوْنِهَا رِجْسًا وَغَيْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُوصَفُ بِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً فِي نَفْسِهَا، وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ} الْآيَةُ فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ السُّكْرِ فَحُرِّمَتْ عَيْنُهَا وَالسُّكْرُ مِنْهَا وَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ شُرْبَهَا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَطَشِ أَوْ لِإِكْرَاهٍ قَدْرَ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ قَلِيلِهَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ الْمَحْضِ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ بِالضَّرُورَةِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَنَا فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَسْقِيَ الصَّغِيرَ الْخَمْرَ فَإِذَا سَقَاهُ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَ الصَّغِيرِ لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ يَتَنَاوَلُهُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ فَكَانَ مُنْكَرُ الْحُرْمَةِ مُنْكَرًا لِلْكِتَابِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ يُحَدُّ شَارِبُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِالْمَاءِ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهَا حَتَّى زَالَ طَعْمُهَا وَرِيحُهَا لَا يَجِبْ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ إذَا كَانَتْ لِلْخَمْرِ فَقَدْ بَقِيَ اسْمُ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهَا وَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ الْمَاءِ الْمَمْزُوجِ بِالْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ حَقِيقَةً وَكَذَا يَحْرُمُ شُرْبُ الْخَمْرِ الْمَطْبُوخِ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَوْ شَرِبَهَا يَجِبُ الْحَدُّ لِبَقَاءِ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى بَعْدَ الطَّبْخِ وَلَوْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا إذَا سَكِرَ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَمَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ مَخْلُوطًا بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُنَصَّفَ وَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ يَجِبُ حَدُّ السُّكْرِ كَمَا فِي الْمُنَصَّفِ وَيَحْرُمُ شُرْبُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ قَاءَ خَمْرًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا فَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَا حَدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ سَكِرُوا مِنْ الْخَمْرِ لِأَنَّهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمْ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا سَكِرُوا لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا.
(وَمِنْهَا) أَنَّ حَدَّ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحَّدَ السُّكْرِ مُقَدَّرٌ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي الْأَحْرَارِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ حَتَّى قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ وَبِأَرْبَعِينَ فِي الْعَبِيدِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلْحَدِّ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالزِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ}.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَمْلِيكُهَا وَتَمَلُّكُهَا بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِالْخَمْرِ وَإِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَمَنْ كَتَبَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَلَا يَشْرَبْهَا وَلَا يَبِعْهَا فَسَكَبُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ» إلَّا أَنَّهَا تُوَرَّثُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْرُوثِ ثَبَتَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ، وَالْخَمْرُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مَالٌ عِنْدَنَا فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا إذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي حَقِّهِ وَإِتْلَافُ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ يَضْمَنْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْغَصْبِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهَا نَجِسَةٌ غَلِيظَةٌ حَتَّى لَوْ أَصَابَ ثَوْبًا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّاهَا رِجْسًا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} وَلَوْ بَلَّ بِهَا الْحِنْطَةَ فَغُسِلَتْ وَجُفِّفَتْ وَطُحِنَتْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا طَعْمُ الْخَمْرِ وَرَائِحَتُهَا يَحِلَّ أَكْلُهُ وَإِنْ وُجِدَ لَا يَحِلَّ لِأَنَّ قِيَامَ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ دَلِيلُ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ، وَزَوَالَهَا دَلِيلُ زَوَالِهَا وَلَوْ سُقِيَتْ بَهِيمَةٌ مِنْهَا ثُمَّ ذُبِحَتْ فَإِنْ ذُبِحَتْ سَاعَةَ مَا سُقِيَتْ بِهِ تَحِلَّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِأَنَّهَا فِي أَمْعَائِهَا بَعْدُ فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ تَحِلَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تَفَرَّقَتْ فِي الْعُرُوقِ وَالْأَعْصَابِ.
(وَمِنْهَا) إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَلِّ بِلَا خِلَافِ لِقَوْلِهِ:- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّخَلُّلُ بِالتَّغَيُّرِ مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا مَرَارَةٌ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ الْمَرَارَةِ لَا يَحِلُّ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ قَلِيلِ الْحُمُوضَةِ فِيهَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَصِيرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يَصِيرُ خَمْرًا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ فَكَذَا الْخَمْرُ لَا يَصِيرُ خَلًّا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَلِيَّةِ فِيهِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ خَمْرًا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَمْرِيَّةِ وَيَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَلِيَّةِ فِيهِ هَذَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا، فَأَمَّا إذَا خَلَّلَهَا صَاحِبُهَا بِعِلَاجٍ مِنْ خَلٍّ أَوْ مِلْحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَالتَّخْلِيلُ جَائِزٌ وَالْخَلُّ حَلَالٌ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ وَإِنْ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ «كَانَتْ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خُمُورٌ لِأَيْتَامٍ فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَا نَصْنَعُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرِقْهَا فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفَلَا أُخَلِّلُهَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا» نَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّخْلِيلِ وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّخْلِيلِ احْتِمَالَ الْوُقُوعِ فِي الْفَسَادِ وَيَتَنَجَّسُ الظَّاهِرُ مِنْهُ ضَرُورَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ فَيَحِلُّ فَحَقَّقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّخْلِيلَ وَأَثْبَتَ حِلَّ الْخَلِّ شَرْعًا وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ فَيَكُونُ مُبَاحًا اسْتِدْلَالًا بِمَا إذَا أَمْسَكَهَا حَتَّى تَخَلَّلَتْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ أَنَّ بِهَذَا الصُّنْعِ صَارَ الْمَائِعُ حَامِضًا بِحَيْثُ لَا يَبِينُ فِي الذَّوْقِ أَثَرُ الْمَرَارَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْحُمُوضَةِ الْمَرَارَةَ مَعَ بَقَائِهَا فِي ذَاتِهَا، وَإِمَّا إنْ كَانَ لِتَغَيُّرِ الْخَمْرِ مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا حُمُوضَةَ فِي الْمِلْحِ لِتَغَلُّبِ الْمَرَارَةِ وَكَذَا بِإِلْقَاءِ حُلْوٍ قَلِيلٍ يَصِيرُ حَامِضًا فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ لَا تَتَخَلَّلُ بِنَفْسِهَا عَادَةً، وَالْقَلِيلُ لَا يَغْلِبُ الْكَثِيرَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ظُهُورَ الْحُمُوضَةِ بِإِجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَادَةَ عَلَى أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْخَلِّ يُغَيِّرُهَا مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْلِيلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ فَيَكُونُ مُبَاحًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ اكْتِسَابَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا قَالَ: أَفَلَا أُخَلِّلُهَا؟ قَالَ:- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَعَمْ» فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّخْلِيلِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ دَفْعُ عَادَةِ الْعَامَّةِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَكَانَتْ بُيُوتُهُمْ لَا تَخْلُو عَنْ خَمْرٍ وَفِي الْبَيْتِ غِلْمَانٌ وَجَوَارٍ وَصِبْيَانٌ، وَكَانُوا أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَصَارَ عَادَةً لَهُمْ وَطَبِيعَةً، وَالنُّزُوعُ عَنْ الْعَادَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ فَقَيِّمُ الْبَيْتِ إنْ كَانَ يَنْزَجِرُ عَنْ ذَلِكَ دِيَانَةً فَقَلَّ مَا يَسْلَمُ الْأَتْبَاعُ عَنْهَا لَوْ أَمَرَ بِالتَّخْلِيلِ إذْ لَا يَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهَا بَلْ بَعْدَ وَقْتٍ مُعْتَبَرٍ فَيُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْعَامَّةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي زَمَانِنَا لِيُقَرَّرَ التَّحْرِيمُ وَيَأْلَفَ الطَّبْعُ تَحْرِيمَهَا؛ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ عَنْ الدَّلِيلِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ فِيمَا قُلْنَاهُ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْفَسَادِ.
وَقَوْلُهُ: تَنْجِيسُ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ نَعَمْ لَكِنْ لِحَاجَةٍ وَإِنَّهُ لَجَائِزٌ كَدَبْغِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ مَا إذَا أَلْقَى فِيهَا شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ الْمِلْحِ أَوْ السَّمَكِ أَوْ الْخَلِّ أَوْ كَثِيرًا حَتَّى تَحِلَّ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْخَلُّ كَثِيرًا لَا يَحِلُّ، (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُلْقَى مِنْ الْخَلِّ إذَا كَانَ قَلِيلًا فَهَذَا تَخْلِيلٌ لِظُهُورِ الْحُمُوضَةِ فِيهَا بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كَثِيرًا فَهَذَا لَيْسَ بِتَخْلِيلٍ بَلْ هُوَ تَغْلِيبٌ لِغَلَبَةِ الْحُمُوضَةِ الْمَرَارَةَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَلْقَى فِيهَا كَثِيرًا مِنْ الْحَلَاوَاتِ حَتَّى صَارَ حُلْوًا، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَلْ يَتَنَجَّسُ الْكُلُّ فَكَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَخْلِيلٌ؛ أَمَّا إذَا كَانَ قَلِيلًا فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ كَثِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظُهُورَ الْحُمُوضَةِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْمِلْحِ وَالسَّمَكِ لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِانْعِدَامِ الْحُمُوضَةِ فِيهِمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ، وَفِي الْكَثِيرِ يَكُونُ أَسْرَعَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) السَّكَرُ وَالْفَضِيخُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ:- «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَأَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى النَّخْلَةِ وَالْكَرْمَةِ» وَاَلَّتِي هاهنا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِاسْمِ الْخَمْرِ فَكَانَ حَرَامًا وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ التَّدَاوِي بِالسَّكَرِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ السَّكَرُ هِيَ الْخَمْرُ لَيْسَ لَهَا كُنْيَةٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ قَالَ الْخَمْرُ أَحْيَتْهَا أَشَارَ إلَى عِلَّةِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ أَنَّ إيقَاعَ الزَّبِيبِ فِي الْمَاءِ إحْيَاءٌ لِلْخَمْرِ لِأَنَّ الزَّبِيبَ إذَا نُقِعَ فِي الْمَاءِ يَعُودُ عِنَبًا فَكَانَ نَقِيعُهُ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُتَّخَذُ إلَّا لِلسُّكْرِ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَذْكِيرِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى شُكْرِهَا فَيَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا فَالْجَوَابُ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، وَالثَّانِي إنْ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوخَةً فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّغْيِيرِ أَيْ إنَّكُمْ تَجْعَلُونَ مَا أَعْطَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ بَعْضَهَا حَرَامًا وَهُوَ الشَّرَابُ وَالْبَعْضَ حَلَالًا وَهُوَ الدِّبْسُ وَالزَّبِيبُ وَالْخَلُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}.
وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ عَلَى الْحَرَامِ لَا عَلَى الْحَلَالِ، وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا وَلَكِنْ يُضَلَّلُ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ الْخَمْرِ وَلَمْ يُوجَدْ بِالسُّكْرِ لِأَنَّ حُرْمَةَ السُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ بِالسُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَكَانَتْ حُرْمَةُ السُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ثَابِتَةً بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيز كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْحُرْمَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ».
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَرَادَ بِهِ أَصْلَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى السُّكْرِ فِي كُلِّ شَرَابٍ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحُرْمَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَكَذَا جَمَعَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِّ فَقَالَ فِيمَا أَسْكَرَ مِنْ النَّبِيذِ ثَمَانُونَ وَفِي الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ثَمَانُونَ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ أَصْلًا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ وَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْخَمْرِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} وَقَدْ وُجِدَ هاهنا لِأَنَّ الْأَشْرِبَةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَالْمَالُ اسْمٌ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ مَعَ كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا وَالنَّصُّ وَرَدَ بِاسْمِ الْخَمْرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهَا إنْسَانٌ يَضْمَنُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ.
(وَمِنْهَا) حُكْمُ نَجَاسَتِهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا لَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا كَالْخَمْرِ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ وَرُوِيَ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَصْلًا لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فَيَخْتَصُّ بِاسْمِ الْخَمْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهَا الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ كَمَا فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِانْتِفَاعِ لَكِنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يُكَفَّرَ مُسْتَحِلُّهَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خِفَّةً فِي نَجَاسَتِهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ النِّيءِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ الْمَطْبُوخِ مِنْهَا أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَهُوَ الْبَاذَقُ أَوْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَهُوَ الْمُنَصَّفُ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَيَصِحُّ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ بِالطَّبْخِ فَالْحَرَامُ فِيهِ بَانَ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي أُتِيت بِشَرَابٍ مِنْ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ فَمُرْ مَنْ قِبَلَك فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَالْقُوَّةُ الْمُسْكِرَةُ فِيهِ قَائِمَةٌ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ.
وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ وَإِذَا سَكِرَ حُدَّ وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ لِمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ، فَأَمَّا إذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ فَقَدْ حَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ حَتَّى لَوْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ.
(وَأَمَّا) الْمَطْبُوخُ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُمَا فَيَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا السُّكْرُ مِنْهُ وَهُوَ طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِالسُّكْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا أُحَرِّمُهُ وَلَكِنْ لَا أَشْرَبُ مِنْهُ، وَالْحُجَجُ تُذْكَرُ فِي الْمُثَلَّثِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَالْمُنَصَّفِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ طَبْخَ الْعَصِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَهُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الطَّبْخِ بَقِيَتْ فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ يَغْلِي وَيَشْتَدُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْلَطَ بِغَيْرِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الطَّبْخِ لَمْ يُعْمَلْ فِيهِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الطَّبْخِ فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ وَلَا يُخْلَطُ بِهِ الْمَاءُ لَمْ يَحْتَمِلْ الْغَلَيَانَ أَصْلًا، كَعَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَالْمَاءُ يَغْلِي، وَيُسْكِرُ إذَا خُلِطَ فِيهِ الْمَاءُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ بِالطَّبْخِ بِخِلَافِ الْعَصِيرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ يَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ، يَعْنِي إذَا كَانَ يَغْلِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَقَدْ بَقِيَ سُلْطَانُهُ وَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَغْلِي بِنَفْسِهِ بِأَنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ سُلْطَانُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ الْمَدْقُوقُ فِي الْمَاءِ ثُمَّ طُبِخَ نَقِيعُهُ أَدْنَى طَبْخَةٍ، فَأَمَّا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ كَمَا هُوَ وَصُفِّيَ مَاؤُهُ ثُمَّ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إنْقَاعَ الزَّبِيبِ إحْيَاءٌ لِلْعِنَبِ، فَلَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُهُ إلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِأَنَّهُ زَبِيبٌ انْتَفَخَ بِالْمَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْمُثَلَّثُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مَا دَامَ حُلْوًا لَا يُسْكِرُ يَحِلُّ شُرْبُهُ.
(وَأَمَّا) الْمُعَتَّقُ الْمُسْكِرُ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي وَقَالَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ الْمُسْكِرَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ وَقُعُودُهُ لِذَلِكَ وَالْمَشْيُ إلَيْهِ حَرَامٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ» إنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِكَوْنِهِ مُخَامِرًا لِلْعَقْلِ، وَمَعْنَى الْمُخَامَرَةِ يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا احْتَجَّا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
(أَمَّا) الْحَدِيثُ فَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ وَجْهَهُ لِشِدَّتِهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَشَرِبَ مِنْهُ».
(وَأَمَّا) الْآثَارُ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ الشَّدِيدَ، وَيَقُولُ: إنَّا لَنَنْحَرُ الْجَزُورَ وَإِنَّ الْعِتْقَ مِنْهَا لِآلِ عُمَرَ وَلَا يَقْطَعُهُ إلَّا النَّبِيذُ الشَّدِيدُ.
(وَمِنْهَا) مَا رَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنِّي أُتِيتُ بِشَرَابٍ مِنْ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ، فَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ، نَصَّ عَلَى الْحِلِّ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ زَوَالُ الشِّدَّةِ الْمُسْكِرَةِ بِقَوْلِهِ وَيَذْهَبُ رِيحُ جُنُونِهِ، وَنَدَبَ إلَى الشُّرْبِ بِقَوْلِهِ فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ.
(وَمِنْهَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَضَافَ قَوْمًا فَسَقَاهُمْ فَسَكِرَ بَعْضُهُمْ فَحَدَّهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: تَسْقِينِي ثُمَّ تَحِدُّنِي، فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّمَا أَحِدُّكَ لِلسُّكْرِ وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ النَّبِيذِ: اشْرَبْ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، فَإِذَا خِفْت السُّكْرَ فَدَعْ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِحْلَالُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَالْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيقِهِمْ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلِهَذَا عَدَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إحْلَالَ الْمُثَلَّثِ مِنْ شَرَائِطِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَالَ فِي بَيَانِهَا: أَنْ يُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ، وَيُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ، وَأَنْ يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنْ لَا يَحْرُمَ نَبِيذَ الْخَمْرِ لِمَا أَنَّ فِي الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ تَفْسِيقَ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَالْكَفُّ عَنْ تَفْسِيقِهِمْ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الطَّعْنِ فِيهِمْ مِنْ شَرَائِطِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
(وَأَمَّا) مَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَارِ فَفِيهَا طَعْنٌ، ثُمَّ بِهَا تَأْوِيلٌ، ثُمَّ قَوْلٌ بِمُوجَبِهَا.
(أَمَّا) الطَّعْنُ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ رَدَّهَا، وَقَالَ: لَا تَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ مِنْ نَقَلَةِ الْأَحَادِيثِ، فَطَعْنُهُ يُوجِبُ جَرْحًا فِي الْحَدِيثَيْنِ.
(وَأَمَّا) التَّأْوِيلُ فَهُوَ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الشُّرْبِ لِلتَّلَهِّي تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ.
(وَأَمَّا) الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْكِرَ عِنْدَنَا حَرَامٌ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْكَارُ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْقَدَحِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ حَرَامٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهَذَا قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْأَحَادِيثِ إنْ ثَبَتَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ خَمْرٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَمْرِ فِيهَا، وَهُوَ صِفَةُ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ قُلْنَا: اسْمُ الْخَمْرِ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا حَقِيقَةٌ، وَلِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْكَارِ وَالْمُخَامَرَةِ فِيهِ كَامِلٌ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ نَاقِصٌ فَكَانَ حَقِيقَةً لَهُ مَجَازًا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً لِغَيْرِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُشْتَرَكًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا عَامًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِاشْتِرَاكِ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى، فَالِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ مَا يَقَعُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ، كَاسْمِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَهَاهُنَا مَا اخْتَلَفَ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعُمُومِ: أَنْ تَكُونَ أَفْرَادُ الْعُمُومِ مُتَسَاوِيَةً فِي قَبُولِ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ لَا مُتَفَاوِتَةً، وَلَمْ يُوجَدْ التَّسَاوِي هَاهُنَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْخَمْرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْجُمْهُورِيُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ؛ لِأَنَّهُ مُثَلَّثٌ يَرِقُّ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُطْبَخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِئَلَّا يَفْسُدَ.
(وَأَمَّا) الْخَلِيطَانِ فَحُكْمُهُمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَا هُوَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ مِنْ النِّيءِ عَنْهُمَا وَالْمَطْبُوخِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ شُرْبِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا وَالزَّهْوِ وَالرُّطَبِ جَمِيعًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّيءِ وَالسُّكْرِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ نَبِيذِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا وَلَوْ طُبِخَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ صُبَّ قَدَحٌ مِنْ النِّيءِ فِيهِ أَفْسَدَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ خِلَافِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَيَغْلِبُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَلَوْ خُلِطَ الْعَصِيرُ بِالْمَاءِ فَإِنْ تُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ، لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَفِيهِ نَظَرٌ: إنْ كَانَ الْمَاءُ هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ أَوَّلًا بِالطَّبْخِ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ قَدْرُ الْمَاءِ، ثُمَّ يُطْبَخُ الْعَصِيرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيَحِلُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ وَالْعَصِيرُ يَذْهَبَانِ مَعًا بِالطَّبْخِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْجُمْلَةِ فَلَا يَحِلُّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْمِزْرُ وَالْجِعَةُ وَالْبِتْعُ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ السُّكَّرِ وَالتِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ نِيئًا، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ وَإِنْ سَكِرَ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ كَالْمُثَلَّثِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَمَا يَبْلُغُ عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ ذَلِكَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ أَنَّ بَقَاءَهُ وَعَدَمَ فَسَادِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ دَلِيلُ شِدَّتِهِ، وَشِدَّتَهُ دَلِيلُ حُرْمَتِهِ، (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحُرْمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَمْرِيَّةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشِدَّةٍ، وَالشِّدَّةُ لَا تُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى انْعِدَامِ الْخَمْرِيَّةِ أَيْضًا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَمْرَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ فَاقْتَضَى اقْتِصَارَ الْخَمْرِيَّةِ عَلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْ الشَّجَرَتَيْنِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ سُكْرٌ حَصَلَ بِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مُبَاحٍ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالسُّكْرِ الْحَاصِلِ مِنْ تَنَاوُلِ الْبَنْجِ وَالْخُبْزِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكِرَ بِشُرْبِ الْمُثَلَّثِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ هُنَاكَ حَصَلَ بِتَنَاوُلِ الْمَحْظُورِ وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ.
(وَأَمَّا) ظُرُوفُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَيُبَاحُ الشُّرْبُ مِنْهَا إذَا غُسِلَتْ إلَّا الْخَزَفَ الْجَدِيدَ الَّذِي يُتَشَرَّبُ فِيهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ، أَلَا فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ» فَإِنَّ الظُّرُوفَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ حَدِّ السُّكْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَلَا يَعْقِلُ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَالرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ السَّكْرَانُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى كَلَامِهِ الْهَذَيَانُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَيُسْتَقْرَأُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَتِهَا فَهُوَ سَكْرَانٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا وَسَيِّدَنَا سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَأَكَلُوا وَسَقَاهُمْ خَمْرًا وَكَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَحَضَرَتْهُمْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمَّهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عَلَى طَرْحِ {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}.
وَهَذَا الِامْتِحَانُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مِنْ السُّكَارَى مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ أَصْلًا، وَمَنْ تَعَلَّمَ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا فِي حَالَةِ الصَّحْوِ خُصُوصًا مَنْ لَا اعْتِنَاءَ لَهُ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ فِي حَالَةِ السُّكْرِ؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا شَرِبَ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي مَشْيِهِ وَأَطْرَافِهِ وَحَرَكَاتِهِ، فَهُوَ سَكْرَانُ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا ثَبَاتَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ وَإِنْ بَلَغَ بِهِ السُّكْرُ غَايَتَهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: شَهَادَةُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ السَّكْرَانَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ اسْمٌ لِمَنْ هَذَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ يُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَقُولُ: أَصْلُ السُّكْرِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْبَابِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلَا يُعْرَفُ بُلُوغُ السُّكْرِ غَايَتَهُ إلَّا بِمَا ذُكِرَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.