فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرَائِطُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَيْسَ بِبَيْعٍ وَلَا بِمَعْنَى الْبَيْعِ حَتَّى لَا تَجِبَ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ بِالشُّفْعَةِ يَمْلِكُ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِمِثْلِ مَا مَلَكَ هُوَ فَإِذَا انْعَدَمَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَلَوْ أَخَذَ الشَّفِيعُ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِالْقِيمَةِ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْقِيمَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عَلَى التَّبَرُّعِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَامْتَنَعَ الْأَخْذُ أَصْلًا.
وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنْ تَقَابَضَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ التَّقَابُضِ وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا شُفْعَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ عِنْدَنَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً وَعِنْدَهُ مُعَاوَضَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ نَذْكُرُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ وَهَبَ عَقَارًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ عَوَّضَهُ مِنْ ذَلِكَ دَارًا فَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارَيْنِ لَا فِي دَارِ الْهِبَةِ وَلَا فِي دَارِ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ دَارِ الْعِوَضِ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ إلَّا أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِالْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عِوَضًا حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَعَوَّضَهُ بِخَمْسَةٍ جَازَ وَلَوْ كَانَ عِوَضًا حَقِيقَةً لَمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ رِبًا دَلَّ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الْأَوَّلِ حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُعَاوَضَةً بَلْ كَانَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَمْ تَجِبْ بِهِ الشُّفْعَةُ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ سَوَاءٌ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الدَّارِ عَنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.
(أَمَّا) فِي الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَلَكَ الْمُدَّعَى فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَانَتْ الدَّارُ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ مِلْكٍ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي هَذَا الصُّلْحِ.
(وَأَمَّا) فِي الصُّلْحِ عَنْ إنْكَارِ فُلَانٍ عِنْدَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَخَذَ الدَّارَ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ الثَّابِتِ فَكَانَ الصُّلْحُ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّهِ وَكَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ وَكَذَا فِي الصُّلْحِ عَنْ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا كَانَ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ فِي زَعْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي زَعْمِهِ وَكَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ الْمُصَالَحِ عَنْهَا عَنْ إقْرَارٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي هَذَا الصُّلْحِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا.
(وَأَمَّا) عَنْ إنْكَارٍ فَلَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الدَّارَ الْمُدَّعَاةَ مِلْكُهُ وَإِنَّمَا بَذَلَ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ الْبَاطِلَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ لِلْحَالِ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُدَّعِي فِي إقَامَةِ الْحُجَّةِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لَلْمُدَّعِي أَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُعَاوَضَةً حَقِيقَةً وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ الْحُجَّةُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ الْمُصَالَحِ عَنْهَا عَنْ سُكُوتٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ كَانَ الصُّلْحُ مُعَاوَضَةً فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا لَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ شَرْطِهِ لَا يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ الشَّكِّ فِي شَرْطِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَلَوْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ مَنَافِعَ فَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الْمُصَالَحِ عَنْهَا سَوَاءٌ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ أَوْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الصُّلْحُ مُعَاوَضَةَ عَيْنِ الْمَالِ بِعَيْنِ الْمَالِ وَهَذَا مِنْ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّارَ وَيُعْطِيَهُ دَارًا أُخْرَى فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ تَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ الدَّارِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ إذَا كَانَ عَنْ إنْكَارٍ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مُعَاوَضَةِ دَارٍ بِدَارٍ وَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُ الْمُدَّعِي وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الرَّدِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُرَدُّ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ بَلْ هُوَ فَسْخٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَرَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَيَعُودُ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ وَكَذَا لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مُطْلَقٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ.
وَكَذَا الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْقِسْمَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْإِقْرَارِ وَالتَّمْيِيزِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ فَلَمْ تَكُنْ مُعَاوَضَةً مُطْلَقَةً فَلَا تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ كَمَا إذَا صَالَحَ عَنْ دَمِ عَمْدٍ عَلَى دَارٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ.
(وَمِنْهَا) مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا تَجِبُ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَلَوْ وَجَبَتْ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ بِالْقِصَاصِ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِقِيمَةِ الدَّارِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَتَمَلَّكْ بِهِ فَامْتَنَعَ التَّمَلُّكُ أَصْلًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا صَالَحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى دَارٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ تُوجَدْ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَكَذَا لَوْ صَالَحَ مِنْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عَلَى دَارٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ صَالَحَ مِنْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْأَرْشَ دُونَ الْقِصَاصِ عَلَى دَارٍ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ بِالْأَرْشِ لِوُجُودِ مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَلَى دَارٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ تُوجَدْ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ.
(وَمِنْهَا) مُعَاوَضَةُ عَيْنِ الْمَالِ بِعَيْنِ الْمَالِ فَلَا تَجِبُ فِي مُعَاوَضَةِ عَيْنِ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِعَيْنِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّمَلُّكَ بِمَا تَمَلَّكَهُ بِهِ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالتَّمَلُّكُ بِعَيْنِ الْمَالِ لَيْسَ تَمَلُّكًا بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ أَصْلًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا جَعَلَ الدَّارَ مَهْرًا بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَى دَارٍ أَوْ جَعَلَهَا بَدَلَ الْخُلْعِ بِأَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى دَارٍ أَوْ جَعَلَهَا أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بِدَارٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِجَارَةِ ثَبَتَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَكَذَا حُكْمُ النِّكَاحِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ النِّكَاحِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْبُضْعِ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَفِي الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ تُقَامُ قِيمَتُهُ مَقَامَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِتَعَذُّرِ الْأَخْذِ بِمِثْلِهِ إذْ لَا مِثْلَ لَهُ فَتَقُومُ قِيمَتُهُ مَقَامَهُ كَذَا هاهنا وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِلَا خِلَافٍ فَتُقَامُ قِيمَةُ الْعِوَضِ مَقَامَهُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْأَصْلِ لَا قِيمَةَ لَهَا عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِنَا وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ فِي الْأَصْلِ وَالْعَرَضُ لَا يُمَاثِلُ الْعَيْنَ وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ إلَّا أَنَّهَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يَظْهَرُ تَقَوُّمُهَا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ أَلْفًا فَلَا شُفْعَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّارَ بَعْضُهَا مَهْرٌ وَبَعْضُهَا مَبِيعٌ فَلَئِنْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الشُّفْعَةِ فِي حِصَّةِ الْمَهْرِ أَمْكَنَ إيجَابُهَا فِي حِصَّةِ الْمَبِيعِ فَتَجِبُ فِي حِصَّتِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الشُّفْعَةِ فِي حِصَّةِ الْمَبِيعِ إلَّا بَعْدَ قِسْمَةِ الدَّارِ وَفِي قِسْمَتِهَا تَقْوِيمُ الْمَنَافِعِ وَلَا قِيمَةَ لَهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِي الدَّارِ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا دَفَعَتْ الْأَلْفَ لِتُسَلَّمَ لَهَا الدَّارُ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ فِي الْأَصْلِ فَكَيْفَ تَجِبُ فِي التَّابِعِ؟ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَ دَارِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ الْمَهْرِ أَوْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَ دَارِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَبِيعٌ مُبْتَدَأٌ فَتَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مُسَمًّى ثُمَّ فَرَضَ لَهَا دَارِهِ مَهْرًا لَا تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ بَلْ هُوَ تَقْدِيرُ الْمَهْرِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَقَارًا وَمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي السُّفُنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ السَّفِينَةَ أَحَدُ الْمَسْكَنَيْنِ فَتَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ كَمَا تَجِبُ فِي الْمَسْكَنِ الْآخَرِ وَهُوَ الْعَقَارُ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا شُفْعَةَ إلَّا فِي رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ»؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الْعَقَارِ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهِ مَسْكَنًا وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِخَوْفِ أَذَى الدَّخِيلِ وَضَرَرِهِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْعَقَارِ وَلَا تَجِبُ إلَّا فِي الْعَقَارِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْعُلُوُّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ الْعَقَارُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَا وَالْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ وَالدُّورِ الصِّغَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ إلَّا فِي عَقَارٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ أَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا وَجَبَتْ مَعْلُولَةً بِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ وَأَذَاهُ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ عَلَى السَّوَاءِ وَعِنْدَهُ وَجَبَتْ مَعْلُولَةً بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وَهُوَ ضَرَرُ الْقِسْمَةِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِمَنْعِ التَّعْدِيَةِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَإِذَا بِيعَ سُفْلُ عَقَارٍ دُونَ عُلُوِّهِ أَوْ عُلُوُّهُ دُونَ سُفْلِهِ أَوْ بِيعَا جَمِيعًا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ أَمَّا السُّفْلُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَقَارٌ وَأَمَّا الْعُلُوُّ بِدُونِ السُّفْلِ فَتَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا كَانَ الْعُلُوُّ قَائِمًا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبِنَاءِ عَلَى السُّفْلِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فَصَارَ بِمَعْنَى الْعَقَارِ فَتَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَوْ انْهَدَمَ الْعُلُوُّ ثُمَّ بِيعَ السُّفْلُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا شُفْعَةَ لَهُ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبِنَاءَ وَإِنْ بَطَلَ فَحَقُّ الْبِنَاءِ قَائِمٌ وَأَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْبُقْعَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّأْبِيدِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبُقْعَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إمَّا بِالشَّرِكَةِ فِي الْمِلْكِ أَوْ الْحُقُوقِ أَوْ بِجِوَارِ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمَّا الشَّرِكَةُ فَظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ وَكَذَا الْجِوَارُ؛ لِأَنَّ الْجِوَارَ كَانَ بِالْبِنَاءِ وَقَدْ زَالَ الْبِنَاءُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ بَاعَ عُلُوًّا فَاحْتَرَقَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ الْبَيْعُ هَكَذَا ذَكَرَ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ هَذَا قَوْلُهُ.
(فَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَرْصَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ الْعَرْصَةَ مَعَ الْبِنَاءِ فَاحْتَرَقَ الْبِنَاءُ.
(وَمِنْهَا) زَوَالُ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا مَلَكَ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْبَائِعِ اسْتَحَالَ تَمَلُّكُ الْمُشْتَرِي فَاسْتَحَالَ تَمَلُّكُ الشَّفِيعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَبِيعِ بِشَرْطِ خِيَارِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى لَوْ أَسْقَطَ خِيَارَهُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَبِيعَ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ حِينِ وُجُودِ الْمَبِيعِ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَلْمُشْتَرِي تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَقِفُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِأَجْلِ خِيَارِ الْبَائِعِ وَلَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلشَّفِيعِ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ فَإِنْ أَجَازَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ ابْتِدَاءً وَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ وَالْحِيلَةُ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَفْسَخَ وَلَا يُجِيزَ حَتَّى يُجِيزَ الْبَائِعُ أَوْ يُجَوِّزَ هُوَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ وَخِيَارُ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ.
(وَمِنْهَا) زَوَالُ حَقِّ الْبَائِعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا؛؛ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ النَّقْضِ وَالرَّدِّ إلَى مِلْكِهِ رَدًّا لِلْفَسَادِ، وَفِي إيجَابِ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ حَتَّى لَوْ سَقَطَ حَقُّ الْفَسْخِ بِأَسْبَابٍ مُسْقِطَةٍ لِلْفَسْخِ كَالزِّيَادَةِ وَزَوَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قِيَامُ الْفَسْخِ وَقَدْ زَالَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ ثُمَّ أَسْقَطَ الْخِيَارَ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْخِيَارُ فَكَذَا هَذَا وَلَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا بَيْعًا صَحِيحًا فَجَاءَ الشَّفِيعُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ؛ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ ثَابِتٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشَرَائِطِهِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ.
غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي أَخَذَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ أَخَذَ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي تَمَلَّكَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ صَحِيحٌ، وَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْمُسَمَّى وَهُوَ الثَّمَنُ، وَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ تَمَلَّكَ الْمَبِيعَ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ؛ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا شِرَاءً فَاسِدًا فَبَنَى عَلَيْهَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْقَبْضِ قَدْ زَالَ بِالْبِنَاءِ وَبَطَلَ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْبِنَاءِ فَكَانَ الْمَانِعُ قَائِمًا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَرِيضِ إذَا بَاعَ الدَّارَ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا وَشَفِيعُهَا أَجْنَبِيٌّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لِوَارِثِهِ فَاسِدٌ عِنْدَهُ إلَّا إذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إلَّا إذَا أَجَازَ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ.
وَلَوْ بَاعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا وَالْوَارِثُ شَفِيعُهَا لَا شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ عِنْدَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ الْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِتَحَوُّلِ مِلْكِ الصَّفْقَةِ إلَيْهِ أَوْ لِتَقْدِيرِ صَفْقَةٍ أُخْرَى مَعَ الْوَارِثِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ، هَذَا إذَا بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَأَمَّا إذَا بَاعَ وَحَابَى بِأَنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ؛ فَإِنْ بَاعَهَا مِنْ الْوَارِثِ وَشَفِيعُهَا أَجْنَبِيٌّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَاسِدٌ عِنْدَهُ فَبِالْمُحَابَاةِ أَوْلَى وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَعِنْدَهُمَا الْبَيْعُ جَائِزٌ وَلَكِنْ يَدْفَعُ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ.
وَلَوْ بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَكَذَلِكَ لَا شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِتِلْكَ الصَّفْقَةِ بِالتَّحَوُّلِ إلَيْهِ أَوْ بِصَفْقَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مُقَدَّرَةٍ بَيْنَهُمَا فَكَانَ بَيْعًا مِنْ الْوَارِثِ بِالْمُحَابَاةِ، وَسَوَاءٌ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مَحَلُّهَا الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ، وَالشِّرَاءُ وَقَعَ نَافِذًا مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ قَدْرُ الثُّلُثِ وَهِيَ نَافِذَةٌ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَلَغَتْ الْإِجَازَةُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَتَلْغُو فِي حَقِّ الشَّفِيعِ أَيْضًا.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ؛ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ لَا شُفْعَةَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَصَايَا لَهُ الشُّفْعَةُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ تُعْرَفُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَمِنْهَا) مِلْكُ الشَّفِيعِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فِي الدَّارِ الَّتِي يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ جِوَارُ الْمِلْكِ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالِانْعِقَادُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْوُجُودِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الْبَيْعِ كَيْفَ يَنْعَقِدُ سَبَبًا؟ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِدَارٍ يَسْكُنُهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ، وَلَا بِدَارٍ بَاعَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا، وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا وَقْفًا، وَقَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْوَقْفَ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا لَا إلَى أَحَدٍ.
وَمِنْهَا ظُهُورُ مِلْكِهِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِنْكَارِ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ؛ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ شَرْطُ ظُهُورِ الْحَقِّ لَا شَرْطُ ثُبُوتِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي كَوْنَ الدَّارِ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا مَمْلُوكَةً لِلشَّفِيعِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةِ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ، وَمَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ وَلِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَأَى شَيْئًا فِي يَدِ إنْسَانٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ دَلَّ أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَكَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلشَّفِيعِ ظَاهِرًا.
(وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ وَإِنَّمَا الْبَقَاءُ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ؛ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ وَحُرِّيَّةِ الشُّهُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْحَاجَةُ هاهنا إلَى إلْزَامِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَظْهَرُ الْمِلْكُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي.
وَقَوْلُهُ: الْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ قُلْنَا: إنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَالثَّابِتُ بِالْيَدِ مِلْكٌ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ لَا فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْحَاجَةُ هاهنا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَكْفِي الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِظَاهِرِ الْيَدِ، وَذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ دَارًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالدَّارِ فَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ بِهَا شُفْعَةَ دَارٍ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لَمْ يَجْعَلْ الْقَضَاءَ بِالْيَدِ قَضَاءً بِالْمِلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ بِهِ الشُّفْعَةَ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي حَائِطٍ بَيْنَ دَارَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ خَشَبَةٌ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْخَشَبَةِ فَبِيعَتْ إحْدَى الدَّارَيْنِ أَنَّهُ إنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً لَمْ أَجْعَلْهُ شَرِيكًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْخَشَبَةِ، وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ بِمِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ لَا يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ، قَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا لَمْ أَجْعَلْ لَهُ بِهَذَا شُفْعَةً بِمَنْزِلَةِ دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَرَّ أَنَّهَا لِآخَرَ فَبِيعَتْ إلَى جَنْبِهَا دَارٌ فَطَلَبَ الْمُقَرُّ لَهُ الشُّفْعَةَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ دَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ خَاصَّةً وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْمُشْتَرِي.
وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ فِي يَدِهِ دَارٌ عَرَفَ الْقَاضِي أَنَّهَا لَهُ، فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ دَارِهِ فَقَالَ- الشَّفِيعُ بَعْدَ بَيْعِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَةُ-: دَارِي هَذِهِ لِفُلَانٍ وَقَدْ بِعْتُهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَقَالَ: هَذَا فِي وَقْتٍ يَقْدِرُ عَلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ طَلَبِهَا لِنَفْسِهِ، قَالَ: لَا شُفْعَةَ لَهُ فِي الدَّارِ حَتَّى يُقِيمَ الْمُقَرُّ لَهُ بَيِّنَةً عَلَى الْمُشْتَرِي.
(أَمَّا) الْمُقِرُّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَقْتَ الْبَيْعِ فِي الدَّارِ بِإِقْرَارِهِ بِالْبَيْعِ قَبْلَهُ.
(وَأَمَّا) الْمُقَرُّ لَهُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً قَاصِرَةً فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُشْتَرِي.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَقَرَّ بِسَهْمٍ مِنْ الدَّارِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ بَاعَ مِنْهُ بَقِيَّةَ الدَّارِ أَنَّ الْجَارَ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكَ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ السَّهْمِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَطَّأَ الْخَصَّافَ فِي هَذَا وَقَالَ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَثْبُتْ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْبَائِعِ، وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْجَارِ فَكَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِمَسْأَلَةِ الْحَائِطِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا تَكُونَ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ مِلْكًا لِلشَّفِيعِ وَقْتَ الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِاسْتِحَالَةِ تَمَلُّكِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ دَارًا وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا شُفْعَةَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ كَالْوَكِيلِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ.
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَكَذَا إذَا بَاعَ الْمَوْلَى دَارًا وَالْمَأْذُونُ شَفِيعُهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَشِرَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ يَقَعُ تَمَلُّكًا لِلْمَوْلَى، وَتَمَلُّكُ الْمَوْلَى مُحَالٌ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ دَارًا وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا؛ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلِمَوْلَاهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَقَعْ لِلْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لَهُ وَكَذَا إذَا اشْتَرَى الْمَوْلَى دَارًا وَالْمَأْذُونُ شَفِيعُهَا فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِمَا قُلْنَا.
(وَأَمَّا) الْمُكَاتَبُ إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى دَارًا وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَعَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِمَوْلَاهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَكَانَ فِي حَقِّ مَا فِي يَدِهِ مُلْحَقًا بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) عَدَمُ الرِّضَا مِنْ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ وَحُكْمِهِ، فَإِنْ رَضِيَ بِالْبَيْعِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا رَضِيَ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ الرِّضَا قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً.
(أَمَّا) الصَّرِيحُ فَلَا يُشْكِلُ.
(وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَنَحْوَ أَنْ يَبِيعَ الشَّفِيعُ الدَّارَ الْمَشْفُوعَ فِيهَا بِأَنْ وَكَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ بِبَيْعِهَا فَبَاعَهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الشَّفِيعِ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْعَقْدِ، وَثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا بَاعَ دَارًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا بِدَارٍ لَهُ أُخْرَى فَلَا شُفْعَةَ لِرَبِّ الدَّارِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الدَّارِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
(أَمَّا) إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ؛ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ وَالرِّضَا بِالتَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ رِضًا بِالْبَيْعِ وَحُكْمِهِ ضَرُورَةً وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ.
(أَمَّا) فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فِي حِصَّتِهِ.
(وَأَمَّا) فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ؛ فَلِأَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ- فَلَوْ ثَبَتَ فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ- لَأَدَّى إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكًا لِلْمُضَارِبِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ وَكِيلًا بِشِرَاءِ الدَّارِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا فَاشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ، وَالشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الدَّارَ الْمَشْفُوعَ فِيهَا ثُمَّ حَضَرَ شَفِيعٌ آخَرُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ بِالشُّفْعَةِ، فَالشِّرَاءُ لِغَيْرِهِ لَأَنْ لَا يَمْنَعَ الْوُجُوبَ أَوْلَى وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ- وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا- بِدَارٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَفَاءٌ بِثَمَنِ الدَّارِ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ إذْ ذَاكَ يَقَعُ لِرَبِّ الْمَالِ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ دَلَالَةُ الرِّضَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَلَا شُفْعَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ يَقَعُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِسُقُوطِ حَقِّهِ.
وَلَوْ اشْتَرَى أَجْنَبِيٌّ دَارًا إلَى جَنْبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ فَيَمْلِكُ تَسْلِيمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ؛ فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الدَّارَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ خَاصَّةً وَالشُّفْعَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا بَاعَ الدَّارَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَضَمِنَ وَهُوَ حَاضِرٌ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي دَلَالَةُ الرِّضَا بِالشِّرَاءِ وَحُكْمِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ وَإِبْرَامَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُشْتَرِي الدَّارَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الشَّفِيعُ الدَّرَكَ عَنْ الْبَائِعِ فَضَمِنَ وَهُوَ حَاضِرٌ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الدَّرَكَ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فَلَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ، وَأَمَّا إسْلَامُ الشَّفِيعِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَتَجِبُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ التَّمَلُّكِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْهُ، وَالْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِذِمِّيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ فَكَتَبَ إلَى سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَأَجَازَهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا.
وَلَوْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَجِبُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ عِنْدَهُ أَصْلًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ أَصْلًا، وَمِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَعِنْدَنَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالشَّاةِ لَنَا، ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ- فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ ذِمِّيًّا أَخَذَ الدَّارَ بِمِثْلِ الْخَمْرِ وَبِقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْخَلِّ، وَالْخِنْزِيرُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بَلْ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَالشَّاةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ تَمَلُّكٌ وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَتَى تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّمَلُّكُ بِالْعَيْنِ تَمَلَّكَ بِالْقِيمَةِ؛ كَمَا لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ بِالْعَرَضِ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الْعَرَضِ كَذَا هَذَا.
وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَمُعْتَقِ الْبَعْضِ وَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ إلَّا أَنَّ الْخَصْمَ فِيمَا يَجِبُ لِلصَّبِيِّ أَوْ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ مِنْ الْأَبِ وَوَصِيِّهِ، وَالْجَدِّ لِأَبٍ وَوَصِيِّهِ، وَالْقَاضِي وَوَصِيِّ الْقَاضِي، فَإِذَا بِيعَتْ دَارٌ وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُطَالِبَ بِالشُّفْعَةِ وَيَأْخُذَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْوَلِيُّ يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ صَحَّ التَّسْلِيمُ وَلَا شُفْعَةَ لِلصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَالصَّبِيُّ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا بَلَغَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا حَقٌّ ثَبَتَ لِلصَّبِيِّ نَظَرًا فَإِبْطَالُهُ لَا يَكُونُ نَظَرًا فِي حَقِّهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالْعَفْوِ عَنْ قِصَاصٍ وَجَبَ لِلصَّبِيِّ عَلَى إنْسَانٍ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ كَفَالَتِهِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ فَتَسْلِيمُهُ امْتِنَاعٌ مِنْ الشِّرَاءِ، وَلِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: بِعْت هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ الصَّبِيِّ لَا يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الْقَبُولُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَصْلَحَةُ قَدْ تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَقَدْ تَكُونُ فِي تَرْكِهِ وَالْوَلِيُّ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُفَوَّضُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا سَكَتَ الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ عَنْ الطَّلَبِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَبْطُلُ.
وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَابْنُهُ الصَّغِيرُ شَفِيعُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يُنَافِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمَلَّكَ بِعِوَضٍ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ لِغَيْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْأَخْذَ لِابْنِهِ أَوْلَى، وَإِذَا مَلَكَ الْأَخْذَ مَلَكَ التَّسْلِيمَ؛ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنْ الْأَخْذِ، وَلَوْ بَاعَ دَارًا لِنَفْسِهِ وَابْنُهُ شَفِيعُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ وَالْبَيْعُ تَمْلِيكٌ فَيُنَافِي التَّمَلُّكَ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ لَمْ يَمْلِكْ التَّسْلِيمَ فَلَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُهُ وَتَوَقَّفَ إلَى حِينِ بُلُوغِ الصَّبِيِّ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ.
وَأَمَّا الْوَصِيُّ إذَا اشْتَرَى دَارًا لِنَفْسِهِ وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ؛ فَالصَّغِيرُ عَلَى شُفْعَتِهِ وَكَذَا إذَا بَاعَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّارَ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فَبِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ يُرِيدُ تَمْلِيكَ مَا مَلَكَهُ مِنْ الصَّغِيرِ.
وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَ مَالِ الصَّغِيرِ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ عَنْ الطَّلَبِ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ فَبَقِيَ حَقُّ الصَّغِيرِ فِي الشُّفْعَةِ يَأْخُذُهُ إذَا بَلَغَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.