فصل: كِتَابُ الْكَفَالَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْكَفَالَةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ أَمْ لَا.
(أَمَّا) الرُّكْنُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْقَبُولُ مِنْ الطَّالِبِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُف الْآخَرُ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الرُّكْنُ هُوَ الْإِيجَابُ فَحَسْبُ (فَأَمَّا) الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقِيلَ نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ فَامْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ أَوْ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهَا» وَلَمْ يُنْقَلْ قَبُولُ الطَّالِبِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ لُغَةً وَالْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ شَرْعًا لَا تَمْلِيكٌ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجَهَالَةُ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَمَعْنَى الضَّمِّ وَالِالْتِزَامِ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَأَشْبَهَ النَّذْرَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ اضْمَنُوا عَنِّي مَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ لِغُرَمَائِي وَهُمْ غُيَّبٌ فَضَمِنُوا ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَلْزَمُهُمْ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ لَيْسَتْ بِالْتِزَامٍ مَحْضٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا نَذْكُرُ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَرِيضِ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفْت أَنَّ رُكْنَ الْكَفَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ مِنْ الْكَفِيلِ أَنْ يَقُولَ أَنَا كَفِيلٌ أَوْ ضَمِينٌ أَوْ زَعِيمٌ أَوْ غَرِيمٌ أَوْ قَبِيلٌ أَوْ حَمِيلٌ أَوْ لَك عَلَيَّ أَوْ لَك قِبَلِي أَوْ لَك عِنْدِي.
(أَمَّا) لَفْظُ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ فَصَرِيحَانِ وَكَذَلِكَ الزَّعَامَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالْغَرَامَةُ بِمَعْنَى الضَّمَانِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» أَيْ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ وَكَذَلِكَ الْقُبَالَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ أَيْضًا يُقَالُ قَبِلْت بِهِ أَقْبَلُ قُبَالَةً وَتَقَبَّلْت بِهِ أَيْ كَفَلَتْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} أَيْ كَفِيلًا يَكْفُلُونِي بِمَا يَقُولُ وَالْحَمِيلُ بِمَعْنَى الْمَحْمُولِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ وَأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ تَحَمُّلِ الضَّمَانِ وَقَوْلُهُ عَلَى كَلِمَةِ إيجَابٍ وَكَذَا قَوْلُهُ إلَيَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» وَقَوْلُهُ «قِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الْقُبَالَةِ» وَهِيَ الْكَفَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ عِنْدِي وَإِنْ كَانَتْ مُطْلِقَةً لِلْوَدِيعَةِ لَكِنَّهُ بِقَرِينَةِ الدَّيْنِ يَكُونُ كَفَالَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْيَدَ وَيَحْتَمِلُ الذِّمَّةَ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ قُرْبٍ وَحَضْرَةٍ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْيَدِ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَعِنْدَ قَرِينَةِ الدَّيْنِ يُحْمَلُ عَلَى الذِّمَّةِ أَيْ فِي ذِمَّتِي لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا الذِّمَّةُ.
(وَأَمَّا) الْقَبُولُ مِنْ الطَّالِبِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَبِلَتْ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ هَوَيْت أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
ثُمَّ رُكْنُ الْكَفَالَةِ.
فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عَنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ وَهِيَ مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا كَانَتْ الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَتَتَقَيَّدُ بِصِفَةِ الْمَضْمُونِ.
(وَأَمَّا) الْمُقَيَّدُ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِوَصْفِ التَّأْجِيلِ أَوْ بِوَصْفِ الْحُلُولِ فَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ بِأَنْ كَفَلَ إلَى شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ جَازَ ثُمَّ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى أَجَلٍ مِثْلِهِ يَتَأَجَّلُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ أَيْضًا وَإِنْ سَمَّى الْكَفِيلُ أَجَلًا أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْقَصَ جَازَ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الطَّالِبِ فَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ حَالًّا جَازَ التَّأْجِيلُ إلَى الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَأْجِيلًا فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكُونُ تَأْجِيلًا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ خَاصَّةً (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّالِبَ خَصَّ الْكَفِيلَ بِالتَّأْجِيلِ فَيَخُصُّ بِهِ كَمَا إذَا كَفَلَ حَالًّا أَوْ مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ عَنْهُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ.
(وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ يَجْعَلُ الْأَجَلَ صِفَةً لِلدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ وَهُوَ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ مُؤَجَّلًا عَلَيْهِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وَقَدْ خُصَّ بِهِ الْكَفِيلُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَكَفَلَ بِهِ مُؤَجِّلًا إلَى سَنَةٍ أَوْ مُطْلِقًا ثُمَّ مَاتَ الْأَصِيلُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ يَحِلُّ الدَّيْنُ فِي مَالِهِ وَهُوَ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ يَحِلُّ الدَّيْنُ فِي مَالِ الْكَفِيلِ وَهُوَ عَلَى الْأَصِيلِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْأَجَلِ وُجِدَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ فَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ آجَالَ النَّاسِ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالنَّيْرُوزِ وَنَحْوِهِ فَكَفَلَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فَلَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ.
(وَلَنَا) أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ فَتَحْمِلُهَا الْكَفَالَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَجَهَالَةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ يُسَامَحُ فِي أَخْذِ الْعَقْدِ مَا لَا يُسَامَحُ فِي غَيْرِهِ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ جِهَة الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ مُتَعَارَفَةٌ.
وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ حَالَّةً فَأَخَّرَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِهُ آجَالَ النَّاسِ كَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فَالْأَجَلُ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ فَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْكَفَالَةُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّأْجِيلُ فَبَطَلَ وَبَقِيَتْ الْكَفَالَةُ صَحِيحَةً وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَجَّلَهُ الطَّالِبُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ مَبِيعٍ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَسَادَ الْبَيْعِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ التَّأْخِيرِ فِي الْكَفَالَةِ وَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا هَذَا، هَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَالَّةً فَإِنْ شَرَطَ الطَّالِبُ الْحُلُولَ عَلَى الْكَفِيلِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ.
وَلَوْ كَفَلَ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الطَّالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَأَخَّرُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ إذَا قُبِلَ التَّأْخِيرُ دُونَ الْأَصْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّأْجِيلُ فِي الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصْلِ حَالًّا فَأَخَّرَهُ الطَّالِبُ إلَى مُدَّةٍ وَقَبِلَهُ الْمَطْلُوبُ جَازَ التَّأْخِيرُ وَيَكُونُ تَأْخِيرًا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ هَذَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِوَصْفٍ.
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَرْطًا سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ أَوْ لِوُجُوبِهِ أَوْ وَسِيلَةً إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ جَازَ بِأَنْ قَالَ إنْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ قُدُومَهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَكْفُولًا عَنْهُ أَوْ يَكُونَ مُضَارَبَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَلَا لِوُجُوبِهِ وَلَا وَسِيلَةَ إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ قَالَ إذَا جَاءَ الْمَطَرُ أَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ إنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ إلَّا شَرْطًا أُلْحِقَ بِهِ تَعَلُّقٌ بِالظُّهُورِ أَوْ التَّوَسُّلِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ فَيَجُوزُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَلَوْ قَالَ إنْ قَتَلَك فُلَانٌ أَوْ إنْ شَجَّك فُلَانٌ أَوْ إنْ غَصَبَك فُلَانٌ أَوْ إنْ بَايَعْت فُلَانًا فَأَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَلَوْ قَالَ إنْ غَصَبَك فُلَانٌ ضَيْعَتَك فَأَنَا ضَامِنٌ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَصْبَ الْعَقَارِ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ وَلَوْ قَالَ مَنْ قَتَلَك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ غَصَبَك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ شَجَّك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ بَايَعَكَ مِنْ النَّاسِ لَمْ يَجُزْ لَا مِنْ قِبَلِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ.
وَلَوْ قَالَ ضَمِنَتْ لَك مَا عَلَى فَلَانَ إنْ نَوَى جَازَ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى التَّوَسُّلِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَكَذَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ وَلَمْ يُعْطِك فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ جَازَ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي مَعْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَلَوْ قَالَ كَفَلَتْ لَك مَالَك عَلَى فُلَانٍ حَالًّا عَلَى أَنَّك مَتَى طَلَبْته فَلِيَ أَجَلُ شَهْرٍ جَازَ وَإِذَا طَلَبْته مِنْهُ فَلَهُ أَجَلُ شَهْرٍ ثُمَّ إذَا مَضَى الشَّهْرُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَى شَاءَ وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ حَالًّا لَمْ يَجُزْ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ مَتَى شَاءَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْجُودَ هاهنا كَفَالَتَانِ إحْدَاهُمَا حَالَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُؤَجَّلَةٌ إلَى شَهْرٍ، مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ الطَّلَبِ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ثَبَتَ التَّأْجِيلُ إلَى شَهْرٍ فَإِذَا مَضَى الشَّهْرُ انْتَهَى حُكْمُ التَّأْجِيلِ فَيَأْخُذُهُ بِالْكَفَالَةِ الْحَالَّةِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ يَأْخُذُهُ مَتَى شَاءَ بِالطَّلَبِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّأْجِيلُ بِالشَّرْطِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ التَّأْجِيلِ بِالشَّرْطِ لَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ الْمُؤَجَّلِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلُ نَفْسُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَبَطَلَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ جَازَ.
وَلَوْ كَفَلَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ فَمَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ هُنَا كَفَالَتَانِ بِالنَّفْسِ وَبِالْمَالِ إلَّا أَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
(أَمَّا) الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا شَكَّ فِيهَا وَكَذَا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ مُحَقِّقٌ لِمَا شُرِعَ لَهُ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْأَصِيلِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ وَإِذَا أَدَّاهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِجَوَازِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ وَكَذَا إذَا قَالَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَمْ يُسَمِّ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى مَا عَلَيْهِ وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَوْ كَفَلَ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا إنْ لَمْ يُوَافِ الزَّوْجُ وَصَدَاقُهَا وَصِيفٌ فَالْوَصْفُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْوَصِيفِ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ الزَّوْجُ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ أَوْ الْأَلْفُ الَّتِي ادَّعَيْت وَالْمَطْلُوبُ يُنْكَرُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إيجَابُ الْمَالِ مُعَلَّقًا بِالْخَطَرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْوَاجِبِ، وَوُجُوبُ الْمَالِ ابْتِدَاءً لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِمَالٍ ثَابِتٍ فَتَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ وَلَمْ يُوجَدْ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ مُطْلَقَ الْأَلْفِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَلْفِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الْأَلْفُ الْمَضْمُونَةُ مَعَ مَا أَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ فَسَادَ الْعَقْدِ وَفِي الصَّرْفِ إلَى مَا عَلَيْهِ صِحَّتُهُ فَالصَّرْفُ إلَى مَا فِيهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوْلَى وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ إذَا ادَّعَى بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ جَازَ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَافَاةِ وَهَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْمَكْفُولُ لَهُ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فَإِنْ سَلَّمَ مَكَانَهُ بَرِئَ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الطَّلَبِ.
وَلَوْ قَالَ ائْتِنِي بِهِ عَشِيَّةً أَوْ غَدْوَةً وَقَالَ الْكَفِيلُ أَنَا آتِيك بِهِ بَعْدَ غَدٍ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي طَلَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِوُجُودِ شَرْطِ اللُّزُومِ وَإِنْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ إلَى مَا بَعْدِ غَدٍ كَمَا قَالَهُ الْكَفِيلُ فَأَتَى بِهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَبْطَلَ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ فَلَمْ يَبْقَ التَّسْلِيمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ التَّسْلِيمَ بَعْدَ غَدٍ وَقَدْ وُجِدَ وَبَرِئَ مِنْ الْمَالِ.
وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ وَقَالَ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ فَوَافَاهُ مِنْ الْغَدِ يَبْرَأُ مِنْ الْمَالِ فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَبْرَأُ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَالِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَالْبَرَاءَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكَاتُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بَلْ هُوَ جَعْلُ الْمُوَافَاةِ غَايَةً لِلْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالشَّرْطُ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَايَةِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ.
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي جَازَ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ وَيَكُونُ التَّسْلِيمُ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي مَكَان يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي تَسْلِيمًا إلَى الْقَاضِي لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ يَصِحُّ التَّقْيِيدُ بِالْمِصْرِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ حَتَّى لَوْ دَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ الْأَمِيرُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي جَازَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ.
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ مَا يَدَّعِيه الطَّالِبُ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَلْفًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى شَيْءٌ فَقَدْ أَضَافَ الِالْتِزَامُ إلَى مَا لَيْسَ بِسَبَبِ اللُّزُومِ وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِهَا الْمَطْلُوب لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْكَفِيلُ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيُؤَاخِذُ بِهِ.
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى شَهْرٍ فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ فَمَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ الشَّهْرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ مَضَى الشَّهْرُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ الْمَكْفُولَ بِهِ إلَى الطَّالِبِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ وَيَضْرِبُ الطَّالِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ أَمَّا لُزُومُ الْمَالِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ صَحِيحٌ وَلِهَذَا لَوْ كَفَلَ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ تُعْتَبَرُ الْكَفَالَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لَا مِنْ الثُّلُثِ.
(وَأَمَّا) الضَّرْبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ فَلِاسْتِوَاءِ الدِّينَيْنِ وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ ثُمَّ مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ فَقَدْ عَجَزَ الْكَفِيلُ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهِ فَوُجِدَ شَرْطُ لُزُومِ الْمَالِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُعَلَّقَةً بِالشَّرْطِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُضَافَةً إلَى وَقْتٍ بِأَنْ ضَمِنَ مَا ادَّانَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَوْ مَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ أَوْ مَا دَايَنَ فُلَانًا أَوْ مَا أَقْرَضَهُ أَوْ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَا غَصَبَهُ أَوْ ثَمَنَ مَا بَايَعَهُ صَحَّتْ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى سَبَبِ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الضَّمَانُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ وَالْكَفَالَةُ إنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ مَحْضٍ فَجَازَ أَنْ يَحْتَمِلَ الْإِضَافَةَ.
وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا بَايَعْتَ فُلَانًا فَثَمَنُهُ عَلَيَّ أَوْ مَا بَايَعْتَ أَوْ الَّذِي بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِجَمِيعِ مَا بَايَعَهُ.
وَلَوْ قَالَ إنْ بَايَعْتَ أَوْ إذَا بَايَعْتَ أَوْ مَتَى بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ أَوَّلِ الْمُبَايَعَةِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ مَا بَايَعَهُ بَعْدَهَا لِأَنَّ كَلِمَةَ (كُلَّ) لِعُمُومِ الْأَفْعَالِ وَكَذَا كَلِمَةُ (مَا) وَاَلَّذِي لِلْعُمُومِ وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُبَايَعَةِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمُبَايَعَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِ إنْ بَايَعْتَ وَنَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
رُكْنِ الْكَفَالَةِ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْكَفَالَةِ.
فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ ثُمَّ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ.
(أَمَّا).
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ.
فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَإِنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ لِهَذَا التَّصَرُّفِ فَلَا تَنْعَقِدُ كَفَالَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا تَنْعَقِدُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ لَوْ اسْتَدَانَ دَيْنًا فِي نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَأَمَرَ الْيَتِيمَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ عَنْهُ جَازَ.
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ النَّفْسَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ ضَمَانَ الدَّيْنِ قَدْ لَزِمَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا تَأْكِيدًا فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَأَمَّا ضَمَانُ النَّفْسِ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ.
(وَمِنْهَا) الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ شَرْطُ نَفَاذِ هَذَا التَّصَرُّفِ فَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ مَا كَانَ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ بَلْ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ مِنْهُ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَحْتَمِلُ النَّفَاذَ بِالْبُلُوغِ.
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالتَّبَرُّعِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَتْ كَفَالَتُهُ وَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لِأَنَّ إذْن الْمَوْلَى لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّهِ وَصَحَّ فِي حَقِّ الْقِنِّ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلَوْ كَفَلَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ عَنْ الْمَوْلَى جَازَ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ عَلَيْهِ وَأَمَّا صِحَّةُ بَدَنِ الْكَفِيلِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ فَتَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ لَكِنْ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ.
فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِحُّ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إلَى الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا بَقِيَ إذَا مَاتَ مَلِيًّا حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَكَذَا بَقِيَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا وَإِذَا مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْهُ بِالدَّيْنِ فَكَذَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ وَالتَّبَرُّعُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ وَالْمَيِّتُ عَاجِزٌ عَنْ الْفِعْلِ فَكَانَتْ هَذِهِ كَفَالَةٌ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ فَلَا تَصِحُّ كَمَا كَفَلَ عَلَى إنْسَانٍ بِدَيْنٍ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَإِذَا مَاتَ مَلِيًّا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ وَكَذَا إذَا مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ.
(وَأَمَّا) الْإِبْرَاءُ وَالتَّبَرُّعُ فَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ إبْرَاءٌ عَنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ الْمُمَاطَلَةِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّبَرُّعِ بِتَخْلِيصِ الْمَيِّتِ عَنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ بِوَاسِطَةِ إرْضَاءِ الْخَصْمِ بِهِبَةِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَتَبَرُّعًا بِقَضَائِهِ حَقِيقَةً فَلَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَنْ كَفَلَ مَا عَلَى فُلَانٍ فَأَمَّا إذَا قَالَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاس أَوْ بِعَيْنٍ أَوْ بِنَفْسٍ أَوْ بِفِعْلٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْأَصِيلِ وَعَقْلُهُ وَبُلُوغُهُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونِ مَا عَلَى الْأَصْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ وَقَدْ وُجِدَ أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَيُطَالِبُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِمَا وَالْوَلِيُّ مُطَالِبٌ بِهِ فِي الْحَالِ وَيُطَالَبَانِ أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا وَعَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَدَّى وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِمْ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ غَائِبٍ أَوْ مَحْبُوسٍ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَفَالَةِ فِي الْغَالِبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ فِيهِمَا أَجْوَزَ مَا يَكُونُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ.
فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يَحْصُلُ مَا شُرِعَ لَهُ الْكَفَالَةُ وَهُوَ التَّوَثُّقُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ شَرَطَ الِانْعِقَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ حَاضِرٌ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَفَلَ لِغَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا إذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ حَاضِرٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَجْلِسَ عِنْدَهُ لَيْسَ شَرْطًا أَصْلًا لَا شَرْطَ النَّفَاذِ وَلَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رُبَّمَا يُطْلِقُ الْجَوَازَ عَلَى النَّافِذِ فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَنُسَمِّيه بَاطِلًا إلَّا أَنْ يُجِيزَ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْجَائِزَ هُوَ النَّافِذُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ جَازَ السَّهْمُ إذَا نَفَذَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ مَا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْعَقْدِ لُغَةً وَشَرْعًا وَهُوَ الضَّمُّ وَالِالْتِزَامُ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَكَانَ إيجَابُهُ كُلَّ الْعَقْدِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ أَيْضًا وَالتَّمْلِيكُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِيجَابُ وَحْدَهُ شَطْرَ الْعَقَدِ فَلَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ مَعَ مَا أَنَّا نَعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا فَنَقُولُ لِشِبْهِ الِالْتِزَامِ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ وَلِشِبْهِ التَّمْلِيكِ لَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ اعْتِبَارًا لِلشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
(وَأَمَّا) مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ جَوَازَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِطَرِيقِ الْإِيصَاءِ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ اضْمَنُوا عَنِّي إيصَاءً مِنْهُ إلَيْهِمْ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ حَتَّى لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ شَيْءٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ وَبَعْضُهُمْ أَجَازُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْكَفَالَةِ وَوَجْهُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْ غُرَمَائِهِ وَشَرْحُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ حَتَّى لَا يَنْفُذَ مِنْهُ التَّصَرُّفُ الْمُبْطِلُ لِحَقِّ الْغَرِيمِ.
وَلَوْ قَالَ أَجْنَبِيٌّ لِلْوَرَثَةِ اضْمَنُوا لِغُرَمَاءِ فُلَانٍ عَنْهُ فَقَالُوا ضَمِنَّا يُكْتَفَى بِهِ فَكَذَا الْمَرِيضُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ وَلِيِّهِمَا عَنْهُمَا لِأَنَّ الْقَبُولَ يُعْتَبَرُ مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ الْإِيجَابُ وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْإِيجَابُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَمَنْ قَبِلَ لَمْ يَقَعْ الْإِيجَابُ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ.
(وَأَمَّا) حُرِّيَّةُ الْمَكْفُولِ لَهُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ.
(وَأَمَّا).
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ.
فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا أَوْ نَفْسًا أَوْ فِعْلًا لَيْسَ بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ عَيْنٌ وَدَيْنٌ وَنَفْسٌ وَفِعْلٌ لَيْسَ بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ أَمَّا الْعَيْنُ فَنَوْعَانِ عَيْنٌ هِيَ أَمَانَةٌ وَعَيْنٌ هِيَ مَضْمُونَةٌ أَمَّا الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ أَمَانَةٌ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أَمَانَةً غَيْرَ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدَائِعِ وَمَالِ الشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ أَوْ كَانَتْ أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ كَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِي يَدِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى عَيْنِهَا وَعَيْنُهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ.
وَلَوْ كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ عَنْ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ جَازَ لِأَنَّهُمَا مَضْمُونَا التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَالَةُ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ.
(وَأَمَّا) الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ فَنَوْعَانِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَمَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالرَّهْنِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ حَالَ قِيَامِهِ وَرَدُّ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ حَالَ هَلَاكِهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْكَفِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَلَا تَصِحُّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ لَا بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَكَذَا الرَّهْنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالدَّيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ الرَّاهِنِ بِقَدْرِهِ.
(وَأَمَّا) الْفِعْلُ فَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْبَائِعِ وَالرَّهْنَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَكَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْكَفِيلِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحَمْلِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بِعَيْنِهَا لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبَ عَلَى الْآجِرِ فِعْلُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ دُونَ الْحَمْلِ، فَلَمْ تَكُنْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَمْ تَجُزْ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْحَمْلِ دُونَ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِفِعْلٍ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَجَازَتْ وَعَلَى هَذَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَفِعْلُ التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَجَازَ وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِرَأْسِهِ أَوْ بِوَجْهِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِنِصْفِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَنَحْوِهَا جَازَتْ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِلْبَدَنِ كَمَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَكَذَا إذَا أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَا جَازَتْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ وَالنَّفْسُ فِي حَقِّ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا تَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا ذِكْرٌ لِكُلِّهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِذَا أَضَافَهَا إلَى الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ مُتَجَزِّئَةٌ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِجَمِيعِ الْبَدَنِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
وَلَوْ قَالَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ هُوَ عَلَيَّ جَازَ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْتِزَامِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِوَجْهِهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ جُزْءٌ جَامِعٌ.
وَلَوْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ قَالَ لِلطَّالِبِ أَنَا ضَامِنٌ لَك لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَصْلًا ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَالْفِعْلِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ عَلَيْهَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهَا فَلَا تَصِحُّ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ فَكَانَ مَحِلَّهَا الدَّيْنُ فَلَمْ تُوجَدْ، وَالتَّصَرُّفُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ بَاطِلٌ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْطُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْإِعْتَاقِ لَا تَتَحَقَّقُ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلَمْ يُغَيِّرْ وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ وَلِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى زَمَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ الْإِنْكَارُ خُرُوجًا عَنْ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ وَقَوْلُهُ الْكَفَالَةُ الْتِزَامُ الدَّيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا وَالْعَيْنُ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ كَالدَّيْنِ عَبْدٌ مُقَرٌّ بِالرِّقِّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَخَذَ مِنْهُ الْمَوْلَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَأَبَقَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَكَذَا لَوْ كَفَلَ بَعْدَ إبَاقِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا شَيْءَ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ ثَالِثٍ فَقَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك قِيمَةَ هَذَا إنْ اسْتَحْقَقْتَهُ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونِ صَبِيٍّ فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَضَمِنَ لَهُ إنْسَانٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَدْ مَاتَ الصَّبِيُّ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَضْمُونٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ غَصَبَهُ عَبْدًا فَقَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ قَالَ رَجُلٌ أَنَا ضَامِنٌ بِالْعَبْدِ الَّذِي يَدَّعِي فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْعَبْدِ فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي فَإِنْ هَلَكَ وَاسْتَحَقَّهُ بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ بِعَيْنٍ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ غَضَبُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَاسْتَهْلَكَهَا أَوْ عَبْدًا وَمَاتَ فِي يَدِهِ فَقَالَ رَجُلٌ خَلِّهِ فَأَنَا ضَامِنُ الْمَالِ أَوْ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ يَأْخُذُهُ بِهِ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَا يَقِفُ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَنَا ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ أَقَرَّ بِكَوْنِ الْقِيمَةِ وَاجِبَةً عَلَى الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا عُرِفَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا، وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَاهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ بِمَضْمُونٍ وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَبِحَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ إذَا بَذَلَهَا الْمَطْلُوبُ فَأَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ إعْطَاءِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الطَّلَبِ هَلْ يَجْبُرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجْبُرُهُ وَقَالَ، أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجْبُرُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّلَبِ كَنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ثُمَّ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَيُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَ الطَّلَبِ فَكَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يُنَاسِبُهَا التَّوْثِيقُ بِالْجَبْرِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَبْسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ قَبْلَ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَالْحَبْسُ تَوْثِيقٌ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ لَا لِلتَّوْثِيقِ لِأَنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ لَا تَخْلُو عَنْ إيرَاثِ تُهْمَةٍ فَكَانَ الْحَبْسُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ دُونَ التَّوْثِيقِ وَيَجُوزُ الْجَبْرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِي التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَبْدِ.
(وَأَمَّا) الدَّيْنُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَاهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ فَلَوْ أَجَزْنَا الْكَفَالَةَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَكَانَ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ يَمْلِكَ الْكَفِيلُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يَمْلِكُ الْأَصِيلُ (وَإِمَّا) أَنْ لَا يَمْلِكَ فَإِنْ مَلَكَ لَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْتِزَامَ مَا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ كَفَالَةً وَلِأَنَّا لَوْ أَجَزْنَا هَذِهِ الْكَفَالَةَ لَكَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ أَلْزَمَ مِنْهُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَاجِزًا بَطَلَ عَنْهُ الدَّيْنُ.
وَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ عَاجِزًا مُفْلِسًا لَمْ يَبْطُلْ عَنْهُ الدَّيْنُ فَكَانَ الْحَقُّ عَلَى الْكَفِيلِ أَلْزَمَ مِنْهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهَذَا خِلَافُ مَا تُوجِبُهُ الْأُصُولُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ فَلَا تَجُوزُ فِيمَا لَا عُرْفَ فِيهِ وَلَا عُرْفَ فِي الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ سِوَى دَيْنِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الدُّيُونِ إنَّمَا وَجَبَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمَشِيئَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا لُزُومُ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ فَكَانَ دَيْنُ الْكِتَابَةِ أَصْلًا لِوُجُوبِ دَيْنٍ آخَرَ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْأَصْلِ فَلَأَنْ لَا تَجُوزَ بِالْفَرْعِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ السِّعَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَوْنُ الْمَكْفُولِ بِهِ مَعْلُومَ الذَّاتِ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ أَوْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فِي الدَّيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَفَلَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ بِأَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ جَازَ وَعَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مَقْدُورَةُ الدَّفْعِ بِالْبَيَانِ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْكَفَالَةِ وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ أَوْ بِنَفْسِ رَجُلٍ آخَرَ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ جَازَ وَيَبْرَأُ بِدَفْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الطَّالِبِ.
وَلَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُهُ فِي هَذَا الْبَيْعِ جَازَ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ الْكَفَالَةَ بِحِمْلِ الْبَعِيرِ مَعَ أَنَّ الْحِمْلَ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ ضَمَانُ الدَّرْكِ وَهُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعُهْدَةَ تَحْتَمِلُ الدَّرْكَ وَتَحْتَمِلُ الصَّحِيفَةَ وَهُوَ الصَّكُّ وَأَحَدُهُمَا وَهُوَ الصَّكُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَدَارَتْ الْكَفَالَةُ بِالْعُهْدَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ هُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ يُخَاصِمُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَوَّلًا فَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْكَفِيلِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْكَفِيلَ أَوَّلًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ الْكَفِيلُ يَكُونُ خَصْمًا هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَا سِوَى الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَظَهَر أَنَّهُ حُرٌّ بِالْبَيِّنَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخَاصِمَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَوْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا سِوَى الِاسْتِحْقَاقِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الدَّرْكِ.
وَلَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي رَهْنًا بِالدَّرْكِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَالْفَرْقُ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ بِنَاءً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ وَنُقِضَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ بِنَائِهِ مَبْنِيًّا إذَا سَلَّمَ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَا يَرْجِعْ عَلَيْهِ إلَّا بِالثَّمَنِ خَاصَّةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالتَّالِفِ وَلَوْ سَلَّمَ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ بِهِمَا جَمِيعًا إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا مِنْ الْكَفِيلِ بِالدَّرْكِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْبَائِعِ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ جَعَلَ الطَّحَاوِيُّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الدَّرَكِ ضَمَانُ الْمُشْتَرِي فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ فَلَا تَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ دَاخِلَةً تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَفَلَ بِمَا لَهُ عَلَى فُلَانٍ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ ضَمِنَهَا الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يُقِرُّ بِهِ أَمَّا الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْقَدْرِ الْمُلْتَزَمِ كَمَا إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ مَجْهُولٍ وَأَمَّا الْيَمِينُ فَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الزِّيَادَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ فِي الشَّرْعِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى كَفِيلِهِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُدَّعٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ الْمُدَّعِي إلَّا بِحُجَّةٍ.