فصل: فَصْلٌ: رُكْنُ الصِّيَامِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: رُكْنُ الصِّيَامِ:

وَأَمَّا رُكْنُهُ: فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلَى قَوْله «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ» أَيْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ ضَوْءُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ مِنْ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي النَّهَارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} فَدَلَّ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ مَا قُلْنَا فَلَا يُوجَدُ الصَّوْمُ بِدُونِهِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيَنْقُضُهُ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الشَّيْءِ عِنْدَ فَوَاتِ رُكْنِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً وَسَوَاءٌ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ بِعُذْرٍ وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً طَوْعًا، أَوْ كَرْهًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا نَاسِيًا وَلَا فِي مَعْنَى النَّاسِي،، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ ضِدِّ الرُّكْنِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ يَقْضِي أَيْ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْأَمْرَ لَقُلْتُ: يَقْضِي لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ» حَكَمَ بِبَقَاءِ صَوْمِهِ وَعَلَّلَ بِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ فِعْلِهِ عَنْهُ بِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَضَاءَ عَلَى النَّاسِي لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ أَوْلَى إذَا كَانَ صَحِيحًا، وَحَدِيثٌ صَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ فِيهِ مَطْعَنٌ.
وَكَذَا انْتَقَدَهُ أَبُو يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ: وَلَيْسَ حَدِيثًا شَاذًّا نَجْتَرِئُ عَلَى رَدِّهِ، وَكَانَ مِنْ صَيَارِفَةَ الْحَدِيثِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي بَاب الصَّوْمِ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَّا بِحَرَجٍ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَبَيْنَ الْجِمَاعِ نَاسِيًا، فَقَالَا: يَفْسُدُ صَوْمُهُ فِي الْجِمَاعِ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ فِي الْكُلِّ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَبَقِيَ الْجِمَاعُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّا نَقُولُ: نَعَمْ الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَافٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمْحِيصِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ قَطَعَ إضَافَتَهُ عَنْ الْعَبْدِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ،، وَالْعِلَّةُ إذَا كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِمَعْمُومِ الْعِلَّةِ وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ يُوجَدُ فِي الْكُلِّ.
وَلَوْ أَكَلَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّك صَائِمٌ وَهُوَ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ صَائِمٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا فَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ.
وَلَوْ دَخَلَ الذُّبَابُ حَلْقَهُ لَمْ يُفْطِرْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلَوْ أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ أَكْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا كَمَا لَوْ أَكَلَ التُّرَابَ.
وَلَوْ دَخَلَ الْغُبَارُ أَوْ الدُّخَانُ أَوْ الرَّائِحَةُ فِي حَلْقَةِ لَمْ يُفْطِرْهُ، لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَا لَوْ ابْتَلَعَ الْبَلَلَ الَّذِي بَقِيَ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ فِي فَمِهِ مَعَ الْبُزَاقِ أَوْ ابْتَلَعَ الْبُزَاقَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي فَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ حَلْقَهُ مُتَعَمِّدًا، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَوَفَّقَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِقْدَارَ الْحِمَّصَةِ، أَوْ أَكْثَرَ يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْمَذْكُورُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا دُونَ الْحِمَّصَةِ يَسِيرٌ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً، فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرِّيقِ، فَيُشْبِهُ النَّاسِي وَلَا كَذَلِكَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ بَيْنَ الْأَسْنَانِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا يُلْحَقُ بِالنَّاسِي.
وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ أَكَلَ مَا هُوَ مَأْكُولٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ الْمُنْتِنَ وَلَنَا أَنَّهُ أَكَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إذْ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْغِذَاءُ وَلَا الدَّوَاءُ.
فَإِنْ تَثَاءَبَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ قَطْرَةُ مَطَرٍ أَوْ مَاءٌ صُبَّ فِي مِيزَابٍ فَطَّرَهُ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مُمْكِنٌ.
وَقَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ: لَا يَفْسُدُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ هَذَا أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي لِأَنَّ النَّاسِيَ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا انْقَطَعَتْ نِسْبَتُهُ عَنْهُ شَرْعًا بِالنَّصِّ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْفِعْلُ أَصْلًا، فَكَانَ أَعْذَرَ مِنْ النَّاسِي، ثُمَّ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُ النَّاسِي فَهَذَا أَوْلَى.
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى الرُّكْنِ قَدْ فَاتَ لِوُصُولِ الْمُغَذِّي إلَى جَوْفِهِ بِسَبَبٍ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَبْقَى الصَّوْمُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّوْمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى الشُّكْرِ، وَالتَّقْوَى وَقَهْرِ الطَّبْعِ الْبَاعِثِ عَلَى الْفَسَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْغِذَاءُ إلَى جَوْفِهِ.
وَكَذَا النَّائِمَةُ الصَّائِمَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَنْتَبِهْ أَوْ الْمَجْنُونَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا فَسَدَ صَوْمُهَا عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ،، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ تَمَضْمَضَ أَوْ اسْتَنْشَقَ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ وَدَخَلَ جَوْفَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَوْ شَرِبَ لَمْ يَفْسُدْ، فَهَذَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ كَانَ وُضُوءُهُ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ يُفْسِدْ وَإِنْ كَانَ لِلتَّطَوُّعِ فَسَدَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْسِدُ أَيُّهُمَا كَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ تَمَضْمَضَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يَفْسُدْ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَسَدَ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرْضٌ، فَكَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ، وَالِاسْتِنْشَاقَ مِنْ ضَرُورَاتِ إكْمَالِ الْفَرْضِ، فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا عُذْرًا بِخِلَافِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِمَا، وَالثَّلَاثُ فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا مِنْ ضَرُورَاتِ إقَامَةِ السُّنَّةِ فَكَانَ عَفْوًا.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فَمِنْ بَابِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ زَادَ، أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ» فَلَمْ يُعْذَرْ فِيهِ، وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِكْرَاهِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْبِقُ الْحَلْقَ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ عَادَةً إلَّا عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا، وَالْمُبَالَغَةُ مَكْرُوهَةٌ فِي حَقِّ الصَّائِمِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ «بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» فَكَانَ فِي الْمُبَالَغَةِ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ يُعْذَرْ بِخِلَافِ النَّاسِي.
وَلَوْ احْتَلَمَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَيَكُونُ كَالنَّاسِي.
وَلَوْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ وَتَفَكَّرَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَتَابَعَ نَظَرُهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي النَّظَرِ كَالْمُبَاشَرَةِ.
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْجِمَاعُ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ.
وَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ أَوْ قَطَعَ الْمَاءَ، أَوْ كَانَ يَتَسَحَّرُ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ يَشْرَبُ الْمَاءَ فَقَطَعَهُ، أَوْ يَأْكُلُ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِعَدَمِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ، وَالطُّلُوعِ.
وَلَوْ كَانَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فِي النَّهَارِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَتَذَكَّرَ فَنَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ، أَوْ كَانَ يُجَامِعُ فِي اللَّيْلِ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُخَالِطٌ فَنَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ.
وَقَالَ زُفَرُ: فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ جُزْءًا مِنْ الْجِمَاعِ حَصَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالتَّذَكُّرِ، وَإِنَّهُ يَكْفِي لِفَسَادِ الصَّوْمِ لِوُجُودِ الْمُضَادَّةِ لَهُ، وَإِنْ قَلَّ وَلَنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُ بَعْدَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ هُوَ النَّزْعُ، وَالنَّزْعُ تَرْكُ الْجِمَاعِ وَتَرْكُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُحَصِّلًا لَهُ بَلْ يَكُونُ اشْتِغَالًا بِضِدِّهِ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجِمَاعُ بَعْدَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ رَأْسًا، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْسُدْ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ كَذَا فِي الْجِمَاعِ، وَهَذَا إذَا نَزَعَ بَعْدَ مَا تَذَكَّرَ، أَوْ بَعْدَ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْزِعْ وَبَقِيَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ فَقَالَ: فِي الطُّلُوعِ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِي التَّذَكُّرِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ وُجِدَ الْجِمَاعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمَّدًا لِوُجُودِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالتَّذَكُّرِ فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ أَنَّ فِي الطُّلُوعِ ابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كَانَ عَمْدًا، وَالْجِمَاعُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ، وَالْجِمَاعُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.
وَأَمَّا فِي التَّذَكُّرِ: فَابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كَانَ نَاسِيًا وَجِمَاعُ النَّاسِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَبَقَاؤُهُ فِي الْجِمَاعِ يَمْنَعُ وُجُودَ الصَّوْمِ فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُودُهُ اسْتَحَالَ الْإِفْسَادُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لِانْعِدَامِ صَوْمِهِ الْيَوْمَ لَا لِإِفْسَادِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا جِمَاعٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِابْتِدَائِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكُلَّ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَلَهُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِمَا نَذْكُرُهُ.
وَلَوْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا صَوْمَ لَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ رَاوِي الْحَدِيثِ وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ، وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ» أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِذَا كَانَ الْجِمَاعُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يُبْقِي الرَّجُلَ جُنُبًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا مَحَالَةَ فَدَلَّ أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَضُرُّ الصَّوْمَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ رَدَّتْهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ» وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ قِرَافٍ» أَيْ: جِمَاعٍ مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ.
وَلَوْ نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا آخَرَ سِوَى النِّيَّةِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَطَلَ صَوْمُهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الصَّوْمَ لابد لَهُ مِنْ النِّيَّةِ وَقَدْ نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ فَبَطَلَ صَوْمُهُ لِبُطْلَانِ شَرْطِهِ، وَلَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْفِعْلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، أَوْ يَفْعَلُوا» وَنِيَّةُ الْإِفْطَارِ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْفِعْلُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ نِيَّةٌ اتَّصَلَ بِهَا الْفِعْلُ فَلَا تَبْطُلُ بِنِيَّةٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْفِعْلُ، عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الصَّوْمِ لَا شَرْطُ بَقَائِهِ مُنْعَقِدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْقَى مَعَ النَّوْمِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْغَفْلَةِ؟.
وَلَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْهُ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلُّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، أَوْ كَانَ مِلْءُ الْفَمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَقَوْلُهُ «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ ذَرْعَ الْقَيْءِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بَلْ يَأْتِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ بِالْقَيْءِ سَوَاءٌ ذَرَعَهُ، أَوْ تَقَيَّأَ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مُتَعَلِّقٌ بِالدُّخُولِ شَرْعًا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ، وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ» عَلَّقَ كُلَّ جِنْسِ الْفِطْرِ بِكُلِّ مَا يَدْخُلُ، وَلَوْ حَصَلَ لَا بِالدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْفِطْرِ مُعَلَّقًا بِكُلِّ مَا يَدْخُلُ لِأَنَّ الْفِطْرَ الَّذِي يَحْصُلُ بِمَا يَخْرُجُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِطْرُ حَاصِلًا بِمَا يَدْخُلُ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْفَسَادَ بِالِاسْتِقَاءِ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي الذَّرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الذَّرْعِ وَهُوَ سَبْقُ الْقَيْءِ بَلْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، فَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ النَّاسِي بِفَسَادِ الصَّوْمِ، فَكَذَا هَذَا لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا بِخِلَافِ النَّاسِي عَلَى مَا مَرَّ، فَإِنْ عَادَ إلَى جَوْفِهِ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُفْسِدُ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُفْسِدُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْعَكْسِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُفْسِدُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدِ يُفْسِدُ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ يُفْسِدُ أَنَّهُ وُجِدَ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْجَوْفِ لِأَنَّ الْقَيْءَ مِلْءَ الْفَمِ لَهُ حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ، وَالطَّهَارَةُ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا عَادَ فَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ».
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يُفْسِدُ أَنَّ الْعَوْدَ لَيْسَ صُنْعَهُ بَلْ هُوَ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمَحُّضِ يَعْنِي بِهِ مَصْنُوعَهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ رَأْسًا، فَأَشْبَهَ ذَرْعَ الْقَيْءِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا عَوْدُ الْقَيْءِ فَإِنْ أَعَادَهُ فَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ مُتَعَمَّدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْقَيْءِ مِلْءِ الْفَمِ حُكْمَ الْخُرُوجِ حَتَّى يُوجِبَ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ، فَإِذَا أَعَادَهُ فَقَدْ أَدْخَلَهُ فِي الْجَوْفِ عَنْ قَصْدٍ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُفْسِدُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وُجِدَ الدُّخُولُ إلَى الْجَوْفِ بِصُنْعِهِ فَيُفْسِدُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدُّخُولَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَقَلِيلُ الْقَيْءِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ عَدَمِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ فَلَا يُفْسِدُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَأَمَّا إذَا اسْتَقَاءَ فَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ يُفْسِدُ صَوْمَهُ بِلَا خِلَافٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا، وَلَمْ يُوجَدْ هاهنا فَلَا يُفْسَدُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَثِيرِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ كَثِيرُ الْمُسْتَقَاءِ لَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ، وَالْإِعَادَةُ لِأَنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَسَدَ بِالِاسْتِقَاءِ وَكَذَا قَلِيلُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ عِنْدَهُ فَسَدَ الصَّوْمُ بِنَفْسِ الِاسْتِقَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنْ عَادَ لَا يُفْسِدُ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَفِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ: يُفْسِدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يُفْسِدُ.
وَمَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ عَنْ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالدُّبُرِ بِأَنْ اسْتَعَطَ أَوْ احْتَقَنَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ فَوَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ فَسَدَ صَوْمُهُ، أَمَّا إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ.
وَكَذَا إذَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ لِأَنَّهُ لَهُ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْجَوْفِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ حَالَةَ الصَّوْمِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ فَسَادِ الصَّوْمِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى، وَلَوْ وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ ثُمَّ خَرَجَ لَا يُفْسِدُ بِأَنْ اسْتَعَطَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ بِالنَّهَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ، أَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهِ.
وَأَمَّا مَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ عَنْ غَيْرِ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ دَاوَى الْجَائِفَةَ، وَالْآمَةَ، فَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ يَابِسٍ لَا يُفْسِدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَصَلَ يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ رَطْبٍ يُفْسِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُفْسِدُ هُمَا اعْتَبَرَا الْمَخَارِقَ الْأَصْلِيَّةَ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَمِنْ غَيْرِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا نَحْكُمُ بِالْفَسَادِ مَعَ الشَّكِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الدَّوَاءَ إذَا كَانَ رَطْبًا فَالظَّاهِرُ هُوَ الْوُصُولُ لِوُجُودِ الْمَنْفَذِ إلَى الْجَوْفِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ فَلَا يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُ، قِيلَ: إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بِنَاءٌ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ خُرُوجِ الْبَوْلِ مِنْ الْإِحْلِيلِ فَعِنْدَهُمَا أَنَّ خُرُوجَهُ مِنْهُ لِأَنَّ لَهُ مَنْفَذًا فَإِذَا قَطَرَ فِيهِ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ فِي الْأُذُنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ التَّرَشُّحِ كَتَرَشُّحِ الْمَاءِ مِنْ الْخَزَفِ الْجَدِيدِ فَلَا يَصِلُ بِالْإِقْطَارِ فِيهِ إلَى الْجَوْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَوْلَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجَ الشَّيْءِ مِنْ مَنْفَذِهِ كَمَا قَالَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَمَدَ أُسْتَاذِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَقَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ فَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ لِمَثَانَتِهَا مَنْفَذًا فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ فِي الْأُذُنِ.
وَلَوْ طُعِنَ بِرُمْحٍ فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ إلَى دِمَاغِهِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَعَ النَّصْلِ لَمْ يُفْسِدْ وَإِنْ بَقِيَ النَّصْلُ فِيهِ يُفْسِدُ.
وَكَذَا قَالُوا فِيمَنْ ابْتَلَعَ لَحْمًا مَرْبُوطًا عَلَى خَيْطٍ ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنْ سَاعَتِهِ؟ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَإِنْ تَرَكَهُ فَسَدَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الصَّائِمِ إذَا أَدْخَلَ خَشَبَةً فِي الْمَقْعَدَةِ؟ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ إلَّا إذَا غَابَ طَرَفُ الْخَشَبَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّاخِلِ فِي الْجَوْفِ شَرْطُ فَسَادِ الصَّوْمِ، وَلَوْ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي دُبُرِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُفْسِدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ لَيْسَتْ بِآلَةِ الْجِمَاعِ فَصَارَتْ كَالْخَشَبِ.
وَلَوْ اكْتَحَلَ الصَّائِمُ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَفْسُدُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ لَمَّا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَقَدْ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ كُحْلًا كَحَّلَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ» وَلِأَنَّهُ لَا مَنْفَذَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَمَا وَجَدَ مِنْ طَعْمِهِ فَذَاكَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ، وَأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ كَالْغُبَارِ، وَالدُّخَانِ.
وَكَذَا لَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ أَعْضَاءَهُ فَتَشَرَّبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الْأَثَرُ لَا الْعَيْنُ.
وَلَوْ أَكَلَ حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ خَشَبًا أَوْ حَشِيشًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ قِوَامُ الْبَدَنِ يَفْسُدُ صَوْمَهُ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً.
وَلَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ فَأَنْزَلَ يَفْسُدُ صَوْمَهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَتْ الْمَرْأَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْمَسُّ بِخِلَافِ النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِمَاعٍ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَضَاءٍ لِلشَّهْوَةِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الشَّهْوَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ «إيَّاكُمْ، وَالنَّظْرَةَ فَإِنَّهَا تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ».
وَلَوْ عَالَجَ ذَكَرَهُ فَأَمْنَى اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَفْسُدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، وَالْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لِوُجُودِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ فَكَانَ جِمَاعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي امْرَأَتِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ ثُمَّ خَشِيَ الصُّبْحَ فَانْتَزَعَ مِنْهَا فَأَمْنَى بَعْدَ الصُّبْحِ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِلَامِ.
وَلَوْ جَامَعَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْقُصُورِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ، وَلَوْ جَامَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ.
وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَنَفِسَتْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَسَدَ صَوْمُهَا لِأَنَّ الْحَيْضَ، وَالنِّفَاسَ مُنَافِيَانِ لِلصَّوْمِ لِمُنَافَاتِهِمَا أَهْلِيَّةَ الصَّوْمِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا جُنَّ إنْسَانٌ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ إنَّ صَوْمَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجُنُونَ، وَالْإِغْمَاءَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا يُنَافِيَانِ النِّيَّةَ بِخِلَافِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.