فصل: الرابع: أوساط الناس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.الرابع: أوساط الناس:

يراعون العدل في معاملاتهم وأروش جناياتهم بالأنصاف، فهم يكافؤون الحسنة بالحسنة والسيئة بمثلها.

.الخامس: القائمون بسياسة نفوسهم:

وتعديل قواهم وضبط جوارحهم وانخراطهم في سلك العدول، لأن كل فرد من أفراد الإنسان مسؤول عن رعايا رعيته التي هي جوارحه وقواه كما ورد: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، كما قيل: صاحب الدار مسؤول عن أهل بيته وحاشيته. ولا تؤثر عدالة الشخص في غيره ما لم تؤثر أولاً في نفسه إذ التأثير في البعيد قبل القريب بعيد. وقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}، دليل على ذلك، والإنسان متصف بالخلافة لقوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. ولا تصح خلافا الله ألا بطهارة النفس كما أن أشرف العبادات لا تصح ألا بطهارة الجسم، فما اقبح بالمرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبيح نفسه، كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه: أما البيت فحسن وأما ساكنه فقبيح. وطهارة النفس شرط في صحة الخلافة وكمال العبادة، ولا يصح نجس النفس لخلافة الله تعالى ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه ألا من كان طاهر النفس قد أزيل رجسه ونجسه. فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة، فنجاسة البدن يمكن إدراكها بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك ألا بالبصيرة، كما أشار له بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}. فإن الخلافة هي الطاعة والاقتدار على قدر طاقة الإنسان في اكتساب الكمالات النفسية والاجتهاد بالإخلاص في العبودية والتخلق بأخلاق الربوبية، ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر الفعل. فكل أناء بالذي فيه ينضح. ولهذا قيل: من طابت نفسه طاب عمله ومن خبثت نفسه خبث عمله. وقيل في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب»، أنه أشار بالبيت إلى القلب وبالكلب إلى النفس الإمارة بالسوء أو إلى الغضب والحرص والحسد وغيرها من الصفات الذميمة الراسخة في النفس، ونبه بان نور الله لا يدخل القلب إذا كان فيه ذلك الكلب. وإلى الطهارتين أشار بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. وأما الذي تطهر به النفس حتى تصلح للخلافة وتستحق به ثوابه فهو العلم والعبادة الموظفة اللذان هما سبب الحياة.

.توضيح:

اعلم أن الإنسان من حيث الصورة التخطيطية كصورة في جدار وإنما فضيلته بالنطق والعلم. ولهذا قيل: ما الإنسان لولا اللسان ألا بهمة مهملة أو صورة، فبقوة العلم والنطق والفهم يضارع الملك، وبقوة الأكل والشرب والشهوة والنكاح والغضب يشبه الحيوان. فمن صرف همته كلها إلى تربية القوة الفكرية بالعلم والعمل فقد لحق بأفق الملك فيسمى ملكا وربانيا كما قال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}. ومن صرف همته كله إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فحقيق أن يلحق بالبهائم أما غمراً كثور أو شرهاً كخنزير أو عقوراً ككلب أو حقوداً كجمل أو متكبراً كنمر أو ذا حيلة ومكر كثعلب أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}. وقد يكون كثير من الناس من صورته صورة إنسان وليس هو في الحقيقة ألا كبعض الحيوان. قال الله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.
مثل لبهائم جهلا جل خالقهم ** لهم تصاوير لم يقرن بهن جحا

.من نصائح الرشاد لمصالح العباد:

اعلم أن سبب هلاك الملوك اطراح ذوي الفضائل، واصطناع ذوي الرذائل، والاستفاف بعظة الناصح، والاغترار بتزكية المادح، من نظر في العواقب سلم من النوائب، وزوال الدول اصطناع السفل، ومن استغنى بعقله ضل ومن اكتفى برأيه زل، ومن أستشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب، ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول، من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه، عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الرمان، الملك يبقى على الكفر والعدل لا يبقى على الجور والأيمان. ويقال: حق على من ملكه الله على عباده وحكمه في بلاده أن يكون لنفسه مالكاً وللهوى تاركاً وللغيظ كاظماً وللظلم هاضماً وللعدل في حالتي الرضى والغضب مظهراً وللحق في السر والعلانية مؤثراً، وإذا كان كذلك الزم النفوس طاعته والقلوب محبته وأشرق بنور عدله زمانه وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه. ولقد صدق من قال:
يا أيها الملك الذي ** بصلاحه صلح الجميع

أنت الزمان فإن عدلت ** فكله أبدا ربيع

وقال عمرو بن العاص: ملك عادل خير من مطر وابل، من كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه.
موعظة: كل محنة إلى زوال وكل نعمة إلى انتقال:
رأيت الدهر مختلفا يدور ** فلا حزن يدوم ولا سرور

وشيدت الملوك به قصوراً ** فما بقي الملوك ولا القصور

وقال المأمون:
يبقى الثناء وتنفذ الأموال ** ولكل وقت دولة ورجال

من كبرت همته كثرت قيمته. لا تثق بالدولة فإنها ظل زائل ولا تعتمد على النعمة فأنها ضيف راحل. فإن الدنيا لا تصفو لشارب ولا تفي لصاحب.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري: انصحني، فكتب إليه: أن الذي يصحبك لا ينصحك والذي ينصحك لا يصحبك،وسأل معاوية الأحنف بن قيس وقال له: كيف الزمان؟ فقال أنت الزمان أن صلحت صلح الزمان وأن فسدت فسد الزمان. آفة الملوك سوء السيرة وآفة الوزراء خبث السريرة، وآفة الجند مخالفة القادة وآفة الرعية مخالفة السادة، وآفة الرؤساء ضعف السياسة وآفة العلماء حب الرياسة، وآفة القضاة شدة الطمع وآفة العدول قلة الورع، وآفة القوي استضعاف الخصم وآفة الجريء إضاعة الحزم، وآفة المنعم قبح المن وآفة المذنب حسن الظن، والخلافة لا يصلحها ألا التقوى، والرعية لا يصلحها ألا العدل، فمن جارت قضيته ضاعت رعيته، ومن ضعفت سياسته بطلت رياسته. ويقال: شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر: السلطان والرعية.
ومن كلام بعض البلغاء: خير الملوك من كفى وكف وعفا وعف.
قال وهب بن منبه: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به أدخل الله النقص في أهل مملكته، حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء، وإذا هم بالخير أو عمل به أدخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء، ويعم البلاد والعباد. ولنقبض عنان العبارات والنقلية في أرض الإشارات العقلية المقتطفة من نظم السلوك في مسامرة الملوك وغرر الخصائص وغرر النقائص، وهو باب واسع كثير المنافع وملاك الأمر في ذلك حسن القابلية وأن تكون مرآة القلب غير صدية، كما قيل:
إذا كان الطباع طباع سوء ** فليس بنافع أدب الأديب

وقيل: إن الأخلاق وإن كانت غريزية فإنه يمكن تطبعها بالرياضة والتدريب والعادة، والفرق بين الطبع والتطبع أن الطبع جاذب مفتعل والتطبع مجذوب منفعل، تتفق نتائجهما مع التكلف ويفترق تأثيرهما مع الاسترسال. وقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادة الحسنة ولا الأخلاق الجميلة، ونفسه مع ذلك تتشوق إلى المنقبة وتتأنف من المثلبة. لكن سلطان طبعه يأبى عليه ويستعصي عن تكليف ما ندب إليه، يختار العطل منها على التحلي ويستبدل الحزن على فواتها بالتسلي، فلا ينفعه التأنيب ولا يردعه التأديب، وسبب ذلك ما قرره المتكلمون في الأخلاق من أن الطبع المطبوع أملك للنفس التي هي محله لاستيطانه إياها وكثرة إعانته لها.
وأما الذي يجمع الفضائل والرذائل فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم، وقد تكتسب الأخلاق من معاشرة الأخلاء إما بالصالح أو بالفساد، فرب طبع كريم أفسدته معاشرة الأشرار وطبع لئيم أصلحته مصاحبة الأخيار. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل». وقال علي رضي الله عنه لولده الحسن: الأخ رقعة في ثوبك فانظر بمن ترقعه. وقال بعض الحكماء في وصيته لولده: يا بني احذر مقارنة ذوي الطباع المزدولة لئلا تسرق طباعك طباعهم وأنت لا تشعر. وأما إذا كان الخليل كريم الأخلاق شريف الأعراق، حسن السيرة طاهر السريرة فبه في محاسن الشيم يقتدى وبنجم رشده في طريق المكارم يهتدى، وإذا كان سيء الأعمال خبيث الأقوال كان المغتبط به كذلك، ومع هذا فواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه. وقال عمرو بن العاص المرء حيث يجعل نفسه أن رفعها ارتفعت وأن وضعها اتضعت. وقال بعض الحكماء: النفس عروف عزوف ونفور الوف، متى ردعتها ارتدعت ومتى حملتها حملت، وأن أصلحتها صلحت وأن أفسدتها فسدت. وقال الشاعر:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ** فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت

وقالوا: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه، والمنهج القويم الموصل إلى الثناء الجميل أن يستعمل الإنسان فكره وتميزه فيما ينتج عن الأخلاق المحمودة والمذمومة منه ومن غيره، فيأخذ نفسه بما استحسن منها واستملح ويصرفها عما استهجن منها واستقبح. فقد قيل: كفاك تأديبا ترك ما كرهه الناس من غيرك.
اللهم بحرمة سيد الأنام يسر لنا حسن الختام واصرف عنا سوء القضاء وانظر لنا بعين الرضاء وهذا أوان انشقاق كمائم طلع الشماريخ عن زهر مجمل التاريخ.

.أول خليفة في الأرض:

أول خليفة جعل في الأرض آدم عليه الصلاة والسلام بمصداق قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. ثم توالت الرسل بعده لكنها لم تكن عامة الرسالة بل كل رسول أرسل إلى فرقة، فهؤلاء الرسل عليهم السلام مقررون شرائع الله بين عباده وملزموهم بتوحيد وامتثال أوامره ونواهيه، ليترتب على ذلك انتظام أمور معاشهم في الدنيا وفوزهم بالنعيم السرمدي إذا امتثلوا في الآخرة، إلى أن جاء ختامهم الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأمره بالصدع والإعلان والتطهير من عبادة الأوثان. وآمن به من آمن من الصحابة رضوان الله عليهم وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون. ولم يزل هذا الدين القويم من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينمو ويتعالى ويسمو حتى تم ميقاته وقربت من النبي وفاته. وأنزل الله عليه اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
ولما قبض صلى الله عليه وسلم قام بالأمر بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم علي كرم الله وجهه، ولم تصف له الخلافة بمغالبة معاوية رضوان الله عليهم أجمعين في الأمر وبموت علي رضي الله عنه تمت مدة الخلافة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً»، وبخلافة معاوية كان ابتداء دولة الأمويين، وانقرضت بظهور أبي مسلم الخراساني وإظهاره دولة بني العباس. كان أولهم السفاح وظهرت دولتهم الظهور التام وبلغت القوة الزائدة والضخامة العظيمة، ثم أخذت في الانحطاط بتغلب الأتراك والديلم ولم تزل منحطة، وليس للخلفاء في آخر الأمر إلا الاسم فقط حتى ظهرت فتنة التتار التي أبادت العالم وخرج هولاكو خان وملك بغداد وقتل الخليفة المعتصم وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد.

.ملوك مصر بعد ضعف الخلافة العباسية:

وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتتحت الديار المصرية والبلاد الشامية على يد عمر بن العاص، ولم تزل في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلافة العباسية بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين.
وتغلب على النواحي كل متملك لها فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام ثم دولة الاخشيد وبعده كافور أبو المسك. ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب فملكها من غير ممانع وأسس القاهرة وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثمائة. وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله ومعه رمم آبائه وأجداده محمولة في توابيت، وسكن بالقصرين وادعى الخلافة لنفسه دون العباسيين. وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين ومائتين فظهر عبد الله بن عبيد الملقب بالمهدي وهو جد بني عبيد الخلفاء المصريين العبيديين الروافض باليمن، وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين فحج تلك السنة واجتمع بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله فصحبهم إلى مصر، ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب فنما شأنه وشأن أولاده من بعده إلى أن حضر المعز لدين الله أبو تميم معد بن إسمعيل بن القائم ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم، فملكوا نيفا ومائتين من السنين، إلى أن ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور فتملكت الإفرنج بلاد السواحل الشامية.

.الملوك الأيوبية:

وظهر بالشام نور الدين محمود بن زنكي، فاجتهد في قتال الإفرنج واستخلص ما استولوا عليه من بلاد المسلمين، وجهز أسد الدين شيركوه بعساكر لأخذ مصر، فحاصرها نحو شهرين، فاستنجد العاضد بالإفرنج فحضروا من دمياط فرحل أسد الدين إلى الصعيد فجبى خراجه ورجع إلى الشام. وقصد الإفرنج الديار المصرية في جيش عظيم وملكوا بلبيس، وكانت إذ ذاك مدينة حصينة ووقعت حروب بين الفريقين فكانت الغلبة فيها على المصريين، وأحاطوا بالإقليم براً وبحراً وضربوا على أهله الضرائب.
ثم أن الوزير شاور أشار بحرق الفسطاط فأمر الناس بالجلاء عنها وأرسل عبيده بالشعل والنفوط فأوقدوا فيها النار فاحترقت عن آخرها واستمرت النار بها أربعة وخمسين يوما، وأرسل الخليفة العاضد يستنجد نور الدين وبعث إليه بشعور نسائه فأرسل إليه جنداً كثيفاً وعليهم أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين يوسف، فارتحل الإفرنج عن البلاد وقبض أسد الدين على الوزير شاور الذي أشار بحرق المدينة، وصلبه وخلع العاضد على أسد الدين الوزارة فلم يلبث أن مات بعد خمسة وستين يوما، فولى العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين وقلده الأمور ولقبه الملك الناصر، فبذل لله همته وأعمل حيلته وأخذ في إظهار السنة وإخفاء البدعة. فثقل أمره على الخليفة العاضد، فابطن له فتنة أثارها في جنده ليتوصل بها إلى هزيمة الأكراد وإخراجهم من بلاده، فتفاقم الأمر وانشقت العصا ووقعت حروب بين الفريقين أبلى فيها الناصر يوسف وأخوه شمس الدولة بلاء حسنا، وانجلت الحروب عن نصرتهما فعند ذلك ملك الناصر القصر وضيق على الخليفة وحبس أقاربه وقتل أعيان دولته واحتوى على ما في القصور من الذخائر والأموال والنفائس، بحيث استمر البيع فيه عشر سنين غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه.
وخطب للمستضيئ العباسي بمصر وسير البشارة بذلك إلى بغداد ومات العاضد قهراً، وأظهر الناصر يوسف الشريعة المحمدية وطهر الإقليم من البدع والتشييع والعقائد الفاسدة، وأظهر عقائد أهل السنة والجماعة وهي عقائد الأشاعرة والماتريدية، وبعث إليه أبو حامد الغزالي بكتاب ألفه له في العقائد، فحمل الناس على العمل بما فيه ومحا من الإقليم مستنكرات الشرع وأظهر الهدي ولما توفي نور الدين الشهيد انضم إليه ملك الشام وواصل الجهاد وأخذ في استخلاص ما تغلب عليه الكفار من السواحل وبيت المقدس بعد ما أقام بيد الإفرنج نيفاً وإحدى وتسعين سنة، وأزال ما أحدثه الإفرنج من الآثار والكنائس.
ولم يهدم القيامة اقتداء بعمر رضي الله عنه، وافتتح الفتوحات الكثيرة واتسع ملكه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وثمانين وخمسمائة، ولم يترك إلا أربعين درهما وهو الذي أنشأ قلعة الجبل وسور القاهرة العظيم. وكان المشد على عمائره بهاء الدين قراقوش، ثم استمر الأمر في أولاده وأولاد أخيه الملك العادل وحضر الإفرنج أيضاً إلى مصر في أيام الملك الكامل بن العادل وملكوا دمياط وهدموها، فحاربهم شهوراً حتى أجلاهم وعمرت بعد ذلك دمياط هذه الموجودة في غير مكانها، وكانت تسمى بالمنشية، والكامل هذا هو الذي أنشأ قبة الشافعي رضي الله عنه عندما دفن بجواره موتاهم، وأنشأ المدرسة الكاملية بين القصرين المعروفة بدار الحديث.
وفي أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل حضر الإفرنج وملكوا دمياط وزحفوا إلى فارسكور، واستمر الملك الصالح يحاربهم أربعة عشر شهراً وهو مريض، وانحصر جهة الشرق وأنشأ المدينة المعروفة بالمنصورة، ومات بها سنة سبع وأربعين وستمائة والحرب قائمة، وأخفت زوجته شجرة الدر موته ودبرت الأمور حتى حضر ابنه توران شاه من حصن كيفا وانهزمت الإفرنج وأسر ملكهم ريدا وكانوا طائفة الفرنسيس والملك الصالح هذا هو أول من اشترى المماليك واتخذ منهم جنداً كثيفاً وبنى لهم قلعة الروضة وأسكنهم بها وسماهم البحرية، ومقدمهم الفارس أقطاي. والملك الصالح هو الذي بنى المدارس الصالحية بين القصرين ودفن بقبة بنيت له بجانب المدرستين.
ولما انهزم الإفرنج ومات الصالح وتملك ابنه توران شاه استوحش من مماليك أبيه واستوحشوا منه، فتعصبوا عليه وقتلوه بفارسكور، وقلدوا في السلطنة شجرة الدر ثلاثة أشهر ثم خلعت، وهي آخر الدولة الأيوبية ومدة ولايتهم إحدى وثمانون سنة.