فصل: تفسير الآية رقم (104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (103):

{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)}
{فَأَرَادَ} أي: فرعون. {أَن يَسْتَفِزَّهُم} كلمة (استفزَّ) سبق الكلام عنها في قوله تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ..} [الإسراء: 64] فالاستفزاز هو الإزعاج بالصوت العالي، يقوم المنَادَى ويخفّ من مكانه، وهذا الصوت أو هذه الصَّيْحة يُخرجها الفارس أو اللاعب كما نرى في لعبة الكراتيه مثلاً لِيُزعِج الخصم ويُخيفه، وأيضاً فإن هذه الصيحة تشغَل الخَصْم، وتأخذ جزءاً من تفكيره، فيقِلّ تركيزه، فيمكن التغلُّب عليه. ومن الاستفزاز قَوْل أحدِنا لابنه المتكاسل: فِزْ. أي: انهض وخِفّ للقيام.
إذن: المعنى: فأراد فرعون أنْ يستفزّهم ويخدعهم خديعة تُخرِجهم من الأرض، فتخلو له من بعدهم، وهذا دليلٌ على غباء فرعون وتغفيله وحماقته، فما جاء موسى إلا ليأخذ بني إسرائيل، كما جاء في قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16-17].
فكأن غباء فرعون أعان القدر الذي جاء به موسى عليه السلام ولكن كان لله تعالى إرادة فوق إرادة فرعون، فقد أراد أن يُخرج بني إسرائيل وتخلو له الأرض، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يستفزّه هو من الأرض كلها ومن الدنيا، فأغرقه الله تعالى وأخذه أَخْذَ عزيز مقتدر، وعاجله قبل أنْ يُنفذ ما أراد.
كما يقولون في الأمثال عند أهل الريف للذي هدَّد جاره بأنْ يحرق غلّته وهي في الجرن، فإذا بالقدر يعالجه(والغلة لسه فريك) أي: يعاجله الموت قبل نُضْج الغلة التي هدد بحرقها، فأغرقه الله ومَنْ معه جميعاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض..}.

.تفسير الآية رقم (104):

{وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)}
قوله تعالى: {مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد موسى {اسكنوا الأرض} أغلب العلماء قالوا: أي الأرض المقدسة التي هي بيت المقدس، التي قال تعالى عنها: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..} [المائدة: 21] فكان ردّهم على أمر موسى بدخول بيت المقدس: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا..} [المائدة: 22].
وقالوا: {إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
لكن كلمة {الأرض} هنا جاءت مجرّدة عن الوَصْف {اسكنوا الأرض} دون أنْ يُقيِّدها بوصف، كما نقول: أرض الحرم، أرض المدينة، وإذا أردتَ أنْ تُسكِنَ إنساناً وتُوطّنه تقول: اسكن أي: استقر وتوَطّن في القاهرة أو الإسكندرية مثلاً، لكن اسكن الأرض، كيف وأنا موجود في الأرض بالفعل؟! لابد أن تُخصِّص لي مكاناً اسكن فيه.
نقول: جاء قوله تعالى: {اسكنوا الأرض} هكذا دون تقييد بمكان معين، لينسجم مع آيات القرآن التي حكمتْ عليهم بالتفرُّق في جميع أنحاء الأرض، فلا يكون لهم وطن يتجمعون فيه، كما قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً..} [الأعراف: 168].
والواقع يُؤيد هذا، حيث نراهم مُتفرقِّين في شتَّى البلاد، إلا أنهم ينحازون إلى أماكن مُحدَّدة لهم يتجمَّعون فيها، ولا يذوبون في الشعوب الأخرى، فتجد كل قطعة منهم كأنها أمة مُستقلة بذاتها لا تختلط بغيرها.
وقوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] والمراد بوَعْد الآخرة: هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل، حيث قال تعالى عن إفسادهم الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} [الإسراء: 4-5].
فقد جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم في المدينة، وفي بني قريظة وبني قَيْنُقاع، وبني النضير، وأجلاهم إلى أَذْرُعَات بالشام، ثم انقطعت الصلة بين المسلمين واليهود فترة من الزمن.
ثم يقول تعالى عن الإفسادة الثانية لبني إسرائيل: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} [الإسراء: 7].
وهذه الإفسادة هي ما نحن بصدده الآن، حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وَعْد الله بالقضاء عليهم، وهل يستطيع المسلمون أن ينقضُّوا على اليهود وهم في شتيت الأرض؟ لابد أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمُّع في وطن قومي لهم كما يقولون، حتى إذا أراد أَخْذهم لم يُفلتوا، ويأخذهم أخْذ عزيز مقتدر.
وهذا هو المراد من قوله تعالى: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] أي: مجتمعين بعضكم إلى بعض من شَتّى البلاد، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين.
ثم يقول الحق سبحانه: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ...}.

.تفسير الآية رقم (105):

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)}
قوله تعالى: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ..} [الإسراء: 105].
الحق من حقَّ الشيء. أي: ثبت، فالحقّ هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير أبداً، أما الباطل فهو مُتغير مُتلوّن لأنه زَهُوق، والباطل له ألوان متعددة، والحق ليس له إلا لون واحد.
لذلك لما ضرب الله لنا مثلاً للحق والباطل، قال سبحانه: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].
فإنْ رأيت في عَصْر من العصور خَوَرَاً يصيب أهل الحق، وعُلُواً يحالف أهل الباطل فلا تغتر به، فهو عُلُوّ الزَّبَد يعلو صَفْحة الماء، ولا ينتفع الناس به، وسرعان ما تُلقِى به الريح هنا وهناك لتجلوَ صفحة الماء الناصعة المفيدة، أما الزَّبَد فيذهب جُفَاءً دون فائدة، ويمكث في الأرض الماء الصافي الذي ينتفع الناس به في الزراعة ونحوها.
وهكذا الباطل مُتغيِّر مُتقلِّب لا ينتفع به، والحق ثابت لا يتغير لأنه مَظْهرية من مَظْهريات الحق الأعلى سبحانه، وهو سبحانه الحق الأعلى الذي لا تتناوله الأغيار.
وقوله: {أَنْزَلْنَاهُ..} [الإسراء: 105].
ونلاحظ هنا أن ضمير الغائب في {أَنْزَلْنَاهُ} لم يتقدَّم عليه شيء يُوضِّح الضمير ويعود إليه، صحيح أن الضمير أعْرفُ المعارف، لكن لابد له من مرجع يرجع إليه. وهنا لم يُسبق الضمير بشيء، كما سُبق بمرجع في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ..} [الإسراء: 88].
فهنا يعود الضمير في {بِمِثْلِهِ} إلى القرآن الذي سبق ذكره.
نقول: إذا لم يسبق ضمير الغائب بشيء يرجع إليه، فلابد أن يكون مرجعه مُتعيّناً لا يختلف فيه اثنانِ، كما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].
فهو ضمير للغائب لم يسبق بمرجع له؛ لأنه لا يرجع إلا إلى الله تعالى، وهذا أمر لا يُختَلفُ عليه.
كذلك في قوله تعالى: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ..} [الإسراء: 105].
أي: القرآن؛ لأنه شيء ثابت مُتعيّن لا يُختَلف عليه. وجاء الفعل أنزل للتعدية، فكأن الحق سبحانه كان كلامه وهو القرآن محفوظاً في اللوح المحفوظ، إلى أنْ يأتيَ زمان مباشرة القرآن لمهمته، فأنزله الله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1].
وهذا هو المراد من قوله {أَنزَلْنَاهُ} ثم نُنزِّله مُنَجَّماً حَسْب الأحداث في ثلاث وعشرين سنة مُدَّة الدعوة كلها، فكلما حدث شيء نزل القسط أو النجم الذي يعالج هذه الحالة.
و{أَنْزَلْنَاهُ..} [الإسراء: 105] أي: نحن، فالمراد الحق سبحانه وتعالى هو الذي حفظه في اللوح المحفوظ، وهو الذي أنزله، وأنزله على الأمين من الملائكة الذي اصطفاه لهذه المهمة.
{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] أي: جبريل عليه السلام الذي كرَّمه الله وجعله روحاً، كما جعل القرآن روحاً في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا..} [الشورى: 52].
وقال عنه أيضاً: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19].
والكريم لا يكتم شيئاً مِمّا أُوحى إليه: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20-21].
هذه صفات جبريل الذي نزل بالوحي من الحق سبحانه، ثم أوصله لمن؟ أوصله للمصطفى الأمين من البشر: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [التكوير: 22-25].
إذن: فالقرآن الذي بين أيدينا هو هو الذي نزل من اللوح المحفوظ، وهو الحق الثابت الذي لا شَكَّ فيه، والذي لم يتغيّر منه حرفٌ واحدٌ، ولن يجد فيه أحد ثُغْرة للاتهام إلى أنْ تقومَ الساعة.
ثم يقول تعالى: {وبالحق نَزَلَ..} [الإسراء: 105] الأولى كانت: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ..} [الإسراء: 105].
أي: الوسائل التي نزل بها كلمة ثابتة، وكلها حَقٌّ لا رَيْبَ فيه ولا شَكَّ {وبالحق نَزَلَ..} [الإسراء: 105] أي: مضمونه، وما جاء به منهج، معجزة حقٌّ لأنه تحدّى الفُصَحاء والبلغاء وأهل اللغة فأعجزهم في كل مراحل التحدي، والقرآن يحتوي على منهج حق.
وأول شيء في منهج القرآن أنّه تكلّم عن العقائد التي هي الأصْل الأصيل لكل دين، فقبل أنْ أقول لك: قال الله، وأَمَر الله لابد أن تعرف أولاً مَنْ هو الله، ومَنْ الرسول الذي بلَّغ عن الله، فالعقائد هي ينبوع السُّلوكيات.
إذن: تعرّض القرآن للإلهيات، وأوضح أن الله تعالى إله واحد له صفات الكمال المطلق، وتعرَّض للملائكة وللنبوات والمعجزات والمعاد واليوم الآخر، كُلُّ هذا في العقائد؛ لأن الإسلام حرصَ أولاً على تربية العقيدة، فكانت الدعوة في مكة تُركّز على هذا الجانب دون غيره من جوانب الدين لِيُربّيَ في المسلمين هذا الأصل الأصيل، وهو الاستسلام لله، وإلقاء الزمام إليه سبحانه وتعالى.
والإنسان لا يُلقي زمام حركته إلا لمَنْ يثق به، فلابد إذنْ من معرفة الله تعالى، ثم الإيمان به تعالى، ثم التصديق للمبلّغ عن الله.
وفي القرآن أيضاً أحكامٌ وشرائع ثابتة لا تتغير، ولن تُنسَخ بشريعة أخرى؛ لأنها الشريعة الخاتمة، كما قال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3].
إذن: نزل القرآن بما هو حَقٌّ من: إلهيات وملائكة ونبوّات ومعجزات وأحكام وشرائع، كلها حَقٌّ ثابت لا شَكَّ فيه، فنزل الحق الثابت من الله بواسطة مَنِ اصطفاه من الملائكة وهو جبريل على مَنِ اصطفاه من الناس وهو محمد، وفي طي ما نزل الحق الثابت الذي لا يتغير.
وصدق الحق سبحانه حين قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ونسوق هنا دليلاً عصرياً على أن كتاب الله جاء بالحق الثابت الذي لا يتغير على مَرِّ العصور، ففي ألمانيا استحدث أحد رجال القانون قانوناً للتعسف في استعمال الحق، وظنّوا أنهم جاءوا بجديد، واكتشفوا سلاحاً جديداً للقانون ليعاقب مَنْ له حَقّ ويتعسّف في استعمال حقه.
ثم سافر إلى هناك محام من بني سويف للدراسة، فقرأ عن القانون الجديد الذي ادعَوْا السبق إليه، فأخبرهم أن هذا القانون الذي تدَّعُونه لأنفسكم قانون إسلامي ثابت وموجود في سُنّة رسول الله، فعمدوا إلى كتب السيرة، فوجدوا قصة الرجل الذي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً له نخلة يمتلكها داخل بيته، أو أنها تميل في بيته، فأخذها ذريعة وجعل منها مسمار جحا، وأخذ يقتحم على صاحب البيت بيته بحجة أنه يباشر نخلته، فماذا كان حكم الرسول في هذه المسألة؟
هذا الرجل له حَقٌّ في النخلة، فهي مِلْكٌ له لكنه تعسَّف في استعمال حقه، وأتى بما لا يليق من المعاملة، فالمفروض ألاَّ يذهب إلى نخلته إلا لحاجة، مثل: تقليمها، أو تلقيحها، أو جمع ثمارها.
لقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل وقال له: (إما أن تهبَ له هذه النخلة، وإما أنْ تبيعها له، وإما قطعناها).
أليس ذلك من الحق الذي سبق به الإسلام؟ وأليس دليلاً على استيعاب شرع الله لكل كبيرة وصغيرة في حياة الناس؟
أَضِفْ إلى ذلك ما قاله بعض العلماء من أهل الإشراقات في معنى: {وبالحق نَزَلَ} أي: وعلى الحق الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل القرآن كما تقول: ذهبت إلى القاهرة ونزلت بفلان. أي: نزلت عنده أو عليه.
ثم يقول تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105].
والبشارة تكون بالخير، والنذارة تكون بالشر، ويُشترط في التبشير والإنذار أن تُعطَى للمبشَّر أو للمُنْذَر فرصة يراجع فيها نفسه، ويُعدّل من سلوكه، وإلا فلا فائدة، ولا جدوى منهما، فتُبشّر بالجنة وتُنذَر بالنار في مُتَّسَع من الوقت ليتمكن هذا من العمل للجنة، ويتمكن هذا من الإقلاع عن سبيل النار.
ومثال ذلك: أنك تُبشِّر ولدك بالنجاح والمستقبل الباهر إن اجتهد، وتحذره من الفشل إن أهمل، وهذا بالطبع لا يكون ليلة الامتحان، بل في مُتَّسَع أمامه من الوقت لينفذ ما تريد.
والحق سبحانه وتعالى هنا يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بحقيقة مهمته كرسول عليه البلاغ بالبشارة والنذارة، فلا يُحمِّل نفسه فوق طاقتها؛ لأنه ليس مُلْزَماً بإيمان القوم، كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6].
أي: مُهلكها حُزْناً على عدم إيمانهم، وفي آية أخرى قال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
فكأنه سبحانه يُخفِّف العِبْءَ عن رسوله، ويدعوه ألاَّ يُتعِب نفسه في دعوتهم، فما عليه إلا البلاغ، وعلى الله تبارك وتعالى الهداية للإيمان.
لكن حِرْص رسول الله على هداية قومه نابع من قضية تحكمه وتستولي عليه لخَّصها في قوله: (والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
فالنبي صلى الله عليه وسلم كامل الإيمان، ويحب لقومه أن يكونوا كذلك، حتى أعداؤه الذين وقفوا في وجه دعوته كان إلى آخر لحظة في الصراع يرجو لهم الإيمان والنجاة؛ لذلك لما مُكِّن منهم لم يعالجهم بالعقوبة، بل قال: (بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يُشرك به شيئاً).
وفعلاً صدق الله ورسوله، وجاء من ذريات هؤلاء مَنْ حملوا راية الدين، وكانوا سيوفاً على أعدائه، أمثال عكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وكثير من المسلمين كانوا حريصين على قَتْل هؤلاء حال كفرهم في معارك الإسلام الأولى، وهم لا يعلمون أن الله لم يُمكِّنهم من هؤلاء لحكمة، إنهم سوف يكونون معك من سيوف الإسلام وقادته.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس...}.