فصل: تفسير الآية رقم (120):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (118):

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}
ولقائل أن يقول: أليس في ذلك الأمر إشكالٌ واضح؟. لقد ادّعى بعض أتباع عيسى أنهم أبلغوا من عيسى أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله. فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة في هذه الآية.
ونقول: إن عيسى لم يقل: (يا رب اغفر لهم) ولكنه قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي أن عيسى قد ترك الأمر لطلاقة المشيئة الإلهية، وهو كرسول من عند الله يعلم أن رحمة الله سبقت غضبه، وأن له سبحانه طلاقة القدرة، فلا قدرة تقيده فطلاقة المشيئة موجودة. وهم عباد الله باختيارهم.
إننا نعرف أن كل خلق الله هم عبيد الله. ولكن المطيعين لله والمؤمنين به خاصة هم عباد الله. إذن فالخلق نوعان: عباد الله ذهبوا لله إيماناً ومحبة وطاعة، والنوع الثاني هم العبيد الذي يُقهرون لقاهرية سيدهم، وحتى الكافر لم يكفر رغما عن الله. بل كفر بما آتاه الله من قدرة اختيار في أن يفعل أو لا يفعل، وكان الحق قادراً على أن يخلق خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به الله. وقد فعل الحق ذلك مع الملائكة.
لكن قدرة القهر تثبت لله صفة القهار على المقهور ولا تثبت صفة المحبة، فالمحبة تأتي من أن يكون المخلوق مختاراً أن يؤمن أو أن يكفر، ثم يختار الإيمان. إنه بذلك آمن بالمحبة لا بالقهر. وهكذا يريد الله خلقه المؤمنين به. إن كل الوجود- ما عدا الإنسان- مقهور، ولا يقدر على المعصية: الشمس، والقمر، والمطر، والهواء، والسحاب وكل ما في الكون مقهور لله.
إذن لو أراد الله خلقاً مقهورين على الإيمان به ما استطاع أحد من خلقه أن يكفر به، ولكن الحق أراد أن يثبت صفة القهر فيما دون الإنسان، أما في الإنسان فقد خلقه الله مختاراً بين الكفر والإيمان حتى يأتي بعض من العباد ليصنعوا ما يحبه الله ويرضاه ويتبعوا منهج الله، وهم يعلمون أن الله لم يكلفهم ما لا طاقة لهم به. فلا يكلف سبحانه أحداً بأن يموت أو يمرض، ولا يكلف فاقد آلة الاختيار وهي العقل، ولا يكلف من لم يبلغ رشد العقل؛ لأن التكليف للإنسان لا يتم إلا بوجود ثلاثة شروط: الأول: أن يوجد العقل، والثاني: أن يكون العقل في تمام النضج وهو الرشد، والثالث: ألا تكون هناك قوة تهدد حياته وتقهره على فعل ما.
وهكذا نعلم أن هناك ثلاثة يخرجون من دائرة التكليف. وهم: المجنون وغير ناضج العقل لأنه لم يبلغ الرشد، والمقهور بفعل فاعل. وقد أعطى الحق مع التكليف الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وبذلك ليس لأحد عند الله حجة، ومن دخل التكليف طائعاً فهو من عباد الله.
ومن عصى الله وخرج عن التكليف فهو من العبيد المقهورين في كل شيء فيما عدا التكاليف التي خيرّوا فيها.
إذن فالعبادة هم الذين دخلوا العبادية بأن وازنوا بين الإيمان ونقيضه الكفر.. أي بين المراد لله وغير المراد لله. فكيف إذن يقول عيسى ابن مريم على الرغم من علمه بكفرهم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}؟. ونقول: إن معنى (العباد) و(العبيد) الذي شرحناه سابقاً هو وضع الإنسان في الدنيا وما يكون عليه فيها، ولكن الحوار الذي نقرؤه في القرآن بين عيسى عليه السلام والحق سبحانه وتعالى يكون في الآخرة، وكلنا في الآخرة عباد طائعون.
وعندما نستقرئ كلمة (عباد) في القرآن نجد أن العباد هم الصفوة المختارة التي اختارت مراد الله فوق اختيارهم فاستوت مع المقهور تماماً. ومثال ذلك قول الحق سبحانه: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63].
أنه يأتي هنا بالخصال الجميلة لهذه الصفوة من العباد. والشيطان نفسه يعلن عدم استطاعته إغواء العباد المخلصين كما يقرر القرآن الكريم: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83].
أما في الآخرة فكلنا عباد، وها هوذا الحق سبحانه يخاطب الذين أضلوا غيرهم بقوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} [الفرقان: 17].
إن الكل عباد لله يوم القيامة، والكل ينفذ مراد الله، ولا ولاية لأحد على أي شيء من أبعاضه وجوارحه، فالعين التي كانت مسخرة للعبد في الدنيا تأتمر بأمر العبد فيختار أن يرى الحلال أو يرى الحرام، هذه العين تسترد حريتها من صاحبها فلا ولاية له عليها في اليوم الآخر، وكذلك اليد واللسان والجلد والقدم، وكل الأبعاض. وتكون النفس الإنسانية في الدنيا كقائد لكل الأبعاض والجوارح تنفذ أوامر الإنسان سواء للخير أو للشر، وسواء للطاعة أو للمعصية. لكن هذه الأبعاض والجوارح تنطلق يوم القيامة لتشهد على كل ما فعل الإنسان، فليس لأحد مراد غير مراد الله: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
لقد انتهت مرادات البشر وبقي مراد الله فصار الكل عباداً لله. وعلى هذا فليس هناك إشكال في قول عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}. ونعلم أيضاً أن كلمة (عبيد) تشملنا كلنا فيما نحن غير مخبرين فيه مثل إرادة التنفس أو ميعاد الميلاد أو ميعاد الموت، ولكن المؤمنين يرتقون من (العبيدية) إلى (العبادية) بتنفيذ منهج الله، أما الكافرون والعصاة فهم يعصون الله بما لهم من اختيار ويسيرون في درب العصيان معاندة لمنهج الله. وحتى يثبت الحق لنا جميعاً أن الكافرين مجرد عبيد فهو يصيبهم بالمرض والفاقة والآلام النفسية العميقة ولا يجرؤ واحد منهم أن يصادم مراد الله في هذه الأحداث التي يجريها عليهم.
ولذلك فالمؤمن يشكر الحق باختياره لأن الله حماه بأدوات الاختيار وجوداً ونضجاً وعدم إكراه.
ولنا أن نلحظ أننا كلنا في يوم القيامة- كما قلنا من قبل- نصير عباداً لله فلا مراد لأحد فينا على أي شيء، وكل المراد يكون لله، وقد أورد الحق سبحانه ما جاء على لسان عيسى عليه السلام فقال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} وهذا التذييل لكلمات عيسى ابن مريم لم يأت باعتذار أو طلب الحنان من الله على الذين كفروا بالله وأشركوا به، فالعزيز الحكيم هو الذي لا يغلب على أمره ولا تسيطر عليه قوة ولا تحمي هؤلاء الناس قوة من دون الله، فهو القادر العزيز، إن شاء غفر لهم فلا راد لمشيئته.
وبعض السطحيين الذين يتلمسون الأخطاء في القرآن قالوا: ألم يكن الأجدر أن يقول عيسى: إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم؟. ونرد على هؤلاء السطحيين فنقول: إن كل كلمة في القرآن جاذبة لمعناها، وكل معنى في القرآن عاشق لكلمته. ولذلك جاء التذييل في هذه الآية بما يخدم طلاقة المشيئة في تعذيبهم أو في الغفران لهم، فإن عذبهم فليس هناك قوة ثانية تستطيع أن تحميهم من عذابه؛ لأنه سبحانه عزيز، وإن غفر لهم فلا توجد قوة أعلى تسأله: كيف غفرت لهم وقد كانوا كافرين؟
إذن فسبحانه لا يسأل عما يفعل لأنه عزيز حكيم. وأيضاً فقولهم: كان الأنسب أن يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم. نقول لهم: هي تناسب قوله {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} ولكنها لا تناسب {إِن تُعَذِّبْهُمْ} فكان لابد أن يأتي تذييل الآية بما يناسب {إِن تُعَذِّبْهُمْ} وبما يناسب قوله تعالى: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ}.
والحق بعد ذلك يقول: {قَالَ الله هذا يَوْمُ...}.

.تفسير الآية رقم (119):

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}
نعرف أن هناك صدقاً ينفع يوم القيامة وهو الصدق الموصول بصدق الدنيا. وهناك صدق لا ينفع يوم القيامة ومثال ذلك قول إبليس اللعين كما يحكي القرآن الكريم: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22].
مثل هذا الصدق لا ينفع أحداً؛ لأن الآخرة ليست دار التكليف. لكن الصدق الموصول بصدق الدنيا هو قول عيسى عليه السلام: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}. ولذلك يقول الله في الصدق الموصول: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ}.
ذلك أن صدق الصادقين يوم القيامة هو صدق موصول بصدقهم في زمن التكليف وهو الدنيا ويتلقون رضاء الله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وإن تساءل إنسان: كيف يرضى العبد عن ربه؟.
نقول: إن العباد المؤمنين عندما يعاينون الجزاء المعد لهم في الآخرة يمتلئون بالحبور ويقولون: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74].
هذه الآية التي تتحدث عن يوم ينفع الصادقين صدقهم بقوله: {ذلك الفوز العظيم} كأن هناك فوزاً سطحياً، وفوزاً عظيماً، والفوز السطحي: هو ما يعطيه الإنسان لنفسه في دار التكليف من متعة قصيرة العمر والأجل فيبدو ظاهرياً وكأنه قد فاز، وفي الحقيقة ليس هو الفوز العظيم لأن الندم سيعقبه، وأي لذة يعقبها الندم ليست فوزاً؛ لأن الدنيا بكل ما فيها من نعيم هو نعيم على قدر إمكانات الإنسان وتصوره، وهو نعيم مهدد بشيئين؛ أن يزول النعيم عن الإنسان، وكثيراً ما رأينا منعمين زال عنهم النعيم، أو أن يترك الإنسان هذا النعيم بالموت، ونرى ذلك كثيراً. أما النعيم الذي هو الفوز العظيم فهو النعيم الموصول الذي لا يمنعه أحد، ولا يقطعه شيء. ويختم الحق سبحانه سورة المائدة بقوله: {للَّهِ مُلْكُ السماوات...}.

.تفسير الآية رقم (120):

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}
والسماء والأرض هما ظرفان للوجود وللكائنات كلها من أبراج وكواكب وشمس وقمر ونجوم وهواء وغمام وماء وحيوان وإنسان. فالأرض وهي المُلْك الأسفل الذي نراه وما فيه من أقوات وحيوان وإنسان. والسماء وما تحوي وتضم من الملكوت الأعلى، هما جميعاً لله مِلْكا ومُلْكاً فهو سبحانه الذي يملك كل شيء ويملك كذلك المالك للشيء. وقول الحق: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} ينطبق مع قول المسيح ابن مريم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118].
أي أنه ليس لشيء من خلق الله أن يخرج عن مرادات الله، أما في الدنيا فقد جعل الله أسبابها في أيدي الناس، رزق إنسان في يد إنسان آخر، ومَلَّك بعضنا أمر بعض، فهناك مالك الطعام ومالك الثوب، ولكن ليس كل مالك مَلِكاً؛ لأن المَلِك هو الذي يملك المالك، وهذه سنن الكون. وفي الآخرة هناك مالك واحد هو مالك يوم الدين. فكأن الحق أنهى هذه السورة بالحديث عن نهاية الحياة؛ لأنه سبحانه قد بدأها بالحديث عن أحكام الله فقال: {أَوْفُواْ بالعقود أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1].
لقد تكلم سبحانه في الأحكام عن الصيد في البر والصيد في البحر وعن الحلال والحرام من الأنعام وعن النكاح، وعن كل ما يتعلق بمسئوليات الحياة، ومَلَّكَ بعضنا أمر بعض، لكن في اليوم الآخر فالمسألة مختلفة. فبدأ السورة بأمر هو {أَوْفُواْ بالعقود}.
إن كل أمر ورد من الأمر الأعلى، فالمأمور يفعل أو لا يفعل. فهناك من الناس من يؤمن ومن يعصي، ومعنى ذلك أن المأمورين لهم حرية الاختيار، فلو كان الأمر لابد أن يفعل دون اختيار لكان الآمر قد خلق الخلق وهم مفطورون على أن يفعلوا فيكون بذلك قد قهرهم، لكن الآمر الأعلى ترك هذه الأوامر لاختيار البشر، وهم صالحون للطاعة والوفاء بالعقود، وهم صالحون للمعصية.
لقد بدأ سبحانه السورة بمنطقة الاختيار في الإنسان التي خلقها الله لينشأ عنها التكليف. وأوضح بعد ذلك أن للاختيار أمداً محدداً سينتهي، ويجمع الله الناس يوم ينفع الصادقين صدقهم ويكون الأمر كله لله.
ويختم الحق السورة بقوله سبحانه: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي أنه سبحانه يملك الكون كله، والكون- كما نعلم- مكون من أجناس متعددة. وأول جنس في الكون هو الخادم الذي لا يُخْدَم هو الجماد، والجماد قد يكون ماءً أو جبالاً أو حديداً، أو شمساً، أو قمراً، أو نجوماً، كل هذه جمادات، أي ليس لها حس. وهذه الجمادات تخدم أول ما تخدم النبات. والنبات يخدم الحيوان، والحيوان يخدم الإنسان.
هكذا يكون الجماد خادماً لكل ما يعلوه من نبات وحيوان وإنسان. النبات يخدم الحيوان والإنسان.
والحيوان يخدم الإنسان. وكل هذه الأشياء التي تخدم الإنسان لا اختيار لها وكلها مقهورة لخدمة الإنسان؛ فالشمس لم تغضب يوماً على البشر فلم تمدهم بحرارتها ولا المطية تأبت على صاحبها.
والإنسان فيه قسمان: قسم مقهور للحق فلا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيه أو يسيطر عليه مثل المرض أو الموت وهو في ذلك يشترك مع الحيوان والنبات والجماد، وقسم يكون الإنسان فيه مختاراً وهو تطبيق المنهج.
إننا إذا نظرنا إلى الجانب الذي قهر فيه الحق الإنسان نجده لمصلحة الإنسان. فالإنسان لا يختار أن يتنفس ولا أن يسري الدم في عروقه ولا أن تعمل كليتاه. إنه مقهور في كل ذلك. ومن رحمة الله بالخلق أن جعلهم مسيّرين ومقهورين في هذه النواحي، فلم يجعل تنفس أحد بيد صاحبه ولا جعل القلب يعمل بإرادة الإنسان. والإنسان- إذن- يُخير في مسائل التكليف فقط. وكأن الحق يذكر الإنسان أن منطقة الاختيار هي عقد بين المؤمن وربه؛ لأن الاختيار سيسلب من العباد يوم القيامة، ويكون كل العباد مقهورين ويصير الكائن البشري مثل الجماد والنبات والحيوان. ولذلك يقول الحق سبحانه: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120].
إنّ الإنسان يوم القيامة سيصير بلا اختيار لأن الحق استعمل (ما) هنا وهي تدل على الأشياء غير العاقلة أي التي لا اختيار لها. كأن العقل له عمل في الدنيا وهو التمييز بين البدائل، أما في الآخرة فالكل متساوٍ أمام خالقه. وعلمنا من قبل الفارق بين (مُلْك) و(ملكوت) وكلنا يقرأ قول الحق: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75].
كأن الحق ينبهنا إلى أن العالم فيه ما يقع تحت الإحساس والإدراك، وفيه ما لا يقع تحت الإحساس والإدراك. فالذي يقع تحت الحس والإدراك هو عالم المُلْك. والذي لا يقع تحت الحس والإدراك هو عالم الملكوت. ولا نعرف عن عالم الملكوت إلا ما أخبرنا به الله. وهناك في عالم الملك ما يخفيه الله عنا، وسبحانه وحده هو القادر على كل شيء، والحق يطلب منا أن نعتبر بما في العالم المشهود من ظواهر. وله سبحانه مطلق العلم بعالم (الملكوت) أي ببواطن هذه الظواهر غير المشهودة. و(الملك) و(الملكوت) موجودان في الدنيا والآخرة، إلا أن المُلْك ظاهر والملكوت خفي.
ويوزع الحق سبحانه وتعالى أسباب الملك في الدنيا بين أيدي خلقه، ويملك التصرف فيما بين أيدينا وفيما خفي عنا، ويشاء الحق أن ينهي هذه المسألة من مبررات الخلافة للإنسان على الإنسان وفي الأرض فيقول: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ} فلله الملكوت، ولكم بعض الملك أيها العباد في ظواهر نسبة الأشياء إلى أسبابها وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فكل شيء ينتهي إلى الله.
ولكن لماذا قال الحق: {وَمَا فِيهِنَّ} على الرغم من أن الحق استخلف الإنسان في الأرض، والإنسان عاقل وكان من حقه أن يُغلب فيأتي القول: ومن فيهن؛ لأن(مَن) للعاقل، لقد أراد الحق بذلك أن ينبئنا أن الكل أصبح لا اختيار له، وأصبح مقهوراً على المراد منه فقد تساوى الجميع عاقلهم وغير عاقلهم فيقول لنا: {وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وبهذه الآية ختمت سورة المائدة. وهي سورة مدنية، وهي من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وفيها التشريع. وفيها التكاليف. وفيها الأحكام. وفيها ما يتعلق بكل السور المدنية من بيان اعوجاج أهل الكتاب.
ومن بعد ذلك جاءت سورة الأنعام، وهي مكية. وجاءت المكية بعد المدنية في الترتيب المصحفي حسب ما انتهى إليه آخر عرض للقرآن في آخر رمضان من حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام. ومن المعلوم أن القرآن له (ترتيب نزولي) و(ترتيب مصحفي). والترتيب النزولي حسب ما نزلت سورة القرآن في مكة أو المدنية. ورب قائل يقول: إن الحق أنزل هذا القول الكريم فوق عرفات وهو قوله سبحانه: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].
فكيف يقال ذلك؟
نقول: لنفهم معاً معنى الاصطلاح القائل: (مدني) و(مكي)، هناك آيات من القرآن نزلت بالمدينة، وآيات أخرى نزلت بمكة، وآيات ثالثة فيما بينهما، وآيات رابعة نزلت بين السماء والأرض. وجاء الاصطلاح (مكي) على الآيات التي نزلت قبل الهجرة، وجاء الاصطلاح (المدني) على الآيات التي نزلت من بعد الهجرة، وإن نزلت بمكة.
وأراد الحق أن يكون للقرآن ترتيب نزولي وترتيب مصحفي، وقد شاء سبحانه أن يعدل بالقرآن ميزان الكون الإنساني المضطرب، واضطراب الكون الإنساني إنما يكون بواسطة أناس لا يؤمنون بإله، أو بأناس يؤمنون بإله ويشركون معه غيره فيعبدون أوثاناً، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} أو بأناس يعبدون النار، أو بأناس تابعين لمنهج سماوي ولكن حرفوا فيه قليلاً أو كثيراً.
إننا نجد أن الأقرب إلى الإيمان بالله هم الأجناس الذين آمنوا بالرسالات السابقة على رسول الله، فقد جاءتهم الرسل ومعهم المعجزات، ومعهم كتب المناهج، والمنطق يقتضي أن يكون هؤلاء هم الأقرب للإيمان من غيرهم، ولذلك كان من المطلوب أن نواجه أولاً الوثنيين ونصفي المعركة مع أهل الكتاب من بعد ذلك؛ لأن أهل الكتاب لهم إلف بنزول منهج السماء إلى الأرض بواسطة الرسل.
إذن ففي نزول القرآن كانت الأمور المكية التي تتعلق بالعقيدة الأساسية هي الظاهرة. وهي الاعتراف بألوهية واحدة تحكم الكون. أما في المدينة فد ناقش الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في كل أمور الدين بعد أن استتب أمر التوحيد.
لقد كان هذا الترتيب منطقياً مع هذه الحقيقة. فقد كان في العالم موجتان اثنتان: موجة إلحاد، وموجة تغيير في منهج الله السماوي. ولذلك كانت قلوب المسلمين مع قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب؛ لأنهم على الأقل يؤمنون بإله، وأن الإله يرسل الرسل ومعهم المنهج الإلهي والمعجزات الدالة على صدق رسالتهم، وحتى الذين انحرفوا من أهل الكتاب كانوا يتمسحون في هذا الكتاب المنزل إليهم بالرغم من أنهم حرفوه.
لقد وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقف بجانب الروم عندما واجهوا فارس. وعندما هزمت الروم حزن المسلمون وفرح الكفار؛ لأن الروم كانوا أهل كتاب؛ إنهم كانوا نصارى، وكانت هزيمتهم تعني انهزام منطق السماء أمام منطق الإلحاد، لذلك حزن المسلمون، وفرح الكفار. وأراد الله أن يصور لنا الموقف، وأن يوجه قلوبنا إلى الذين يؤمنون أيضاً بأن هناك إلهاً حتى ولو كانوا قد أخطأوا في تصور هذا الإله وفي البلاغ عنه، أو أخطأوا في تأويل ما جاءت به الرسل فقال سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 1-5].
إنّ المسلمين يفرحون بنصر الروم على فارس؛ لأن الروم لهم علاقة بالسماء، والرسل، والمناهج، والوحي. وجعل الله الأمر واضحاً هكذا لكي يبين موقفنا وليجعلها إعجازاً لكتابه ولرسوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موجوداً بمقر الدعوة وهو الجزيرة العربية، وليس عنده سفارات ولا مخابرات ولا مكتب حربي حتى يأتيه بالأخبار وينبئه عن استعدادات الروم التي تُجري لرد الهزيمة.
هذا الرسول يتنبأ بخبر معركة قادمة بين الفرس والروم، وينتصر فيها الروم، معركة تحدث بعد سبع أو تسع سنوات. وعندما راهن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه المشركين على ذلك، وجعل بينه وبينهم خمس سنين أجلاً لغلبة الروم وظهورهم على الفرس، ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل) فكانت مائة بعير إلى تسع سنين.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم كلام الواثقين، لأنه ينقل الخبر عن الله، وجعله الله قرآناً يتلى ويصلى به، ومحفوظاً أبد الدهر، ولا يمكن أن يكذب هذا القائل إنه سبحانه هو الذي يملك ميزان الكون كله، وأي إنسان من رجالات الحرب المعاصرين لا يمكنه أن يتنبأ بمصير معركة قادمة، على الرغم مما قد يُجمع لها ويحشد من معلومات عن القوة والعدة والعتاد. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله وهو واثق تمام الوثوق مما يبلغ.
وقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الخصم الإلحادي، وكان قلبه مع أهل الكتاب، ونرى أيضاً أن أهل الكتاب كانوا يستبشرون بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ألم يقل بعض أهل الكتاب وهم اليهود في المدينة للأوس والخزرج: قد أظل زمان نبي يُبعث وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم. ولكنهم كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ذلك؛ لأنه سيسلب منهم السيادة، والسلطة الزمنية.
إذن فنزول القرآن أولاً كان في مكة، ومن بعد ذلك نزل في المدينة. لكن في الترتيب المصحفي- كما قلنا- جاءت المدنيات أولاً، وبعد ذلك جاءت المكيات. وذلك حسب ما أراد الله عندما راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان الأخير من حياة الرسول الكريم.
إنَّ أصل الإيمان واحد، وهو الإيمان بإله، ووحي، ورسل، ومنهج، وكل ذلك له فائدة إقامة نظام يحكم الحياة. وهو نظام ضروري لتنصلح حال الحياة سواء آمن الناس بإله أو كفر بعضهم. وجاء هذا النظام الذي يحكم في السور المدنية أولاً ولم يغفله الحق في بعض السور المكية. إنّ الحق شاء لرسوله أن يوحد القلوب المؤمنة بإله واحد أولاً ليواجهوا معكسر الإلحاد. ولكن هناك من اختلف وتخلف عن مؤازرة موكب الإيمان.
وهكذا تنتهي خواطرنا حول سورة المائدة، ومع أن سورة المائدة مدنية وسورة الأنعام مكية إلا أن السياق بين تذييل المائدة وافتتاح الأنعام فيه اتساق واضح. فالحق يقول في آخر سورة المائدة: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ويقول سبحانه في أول سورة الأنعام: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].
فسبحانه وتعالى قدير ويملك كل الكون، ولم يأخذ ذلك الملك افتئاتاً أو ادعاء، ولكنه جل شأنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي جعل الظلمات والنور.