فصل: تفسير الآية رقم (13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (13):

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}
وساعة يقول الحق: (ميثاقاً) فالميثاق يتطلب الوفاء. فهل وفوا بهذا الميثاق؟. لا، لقد نقضوا المواثيق فلعنهم الله. واللعن هو الطرد والإبعاد، والحق في ذلك يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} أي بسبب نقضهم الميثاق لعنهم الله. لقد أثار وجود (ما) هنا بعض التفسيرات، فهناك من العلماء من قال: إنها زائدة، وهناك آخرون قالوا: إنها (صلة). ولكن الزيادة تكون عند البشر لا عند الله. ولا يمكن أن يكون بالقرآن شيء زائد؛ لأن كل كلمة في القرآن جاءت لمقتضى حال يحتم أن تكون في هذا الموضع. فها هوذا الحق يخبرنا بما وصى به لقمان ابنه: {واصبر على ما أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
في الآية الأولى لم يورد (اللام) لتسبق (مِن)، وفي الآية الثانية أورد (اللام) لتسبق (مِن)، وليس ذلك من قبيل التفنن في العبارات، فقوله: {واصبر على ما أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} دعوة للصبر على مصيبة ليس للإنسان غريم فيها، كالمرض، أو موت أحد الأقارب، وهذه الدعوة للصبر تأتي هنا كعزاء وتسلية، أما قوله الحق: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} فالدعوة للصبر هنا مع الغفران تقتضي وجود غريم يسبب للإنسان كارثة.
هنا يطلب الله من المؤمن أن يغفر لمن أصابه وأن يصبر. ومادام هناك غريم؛ فالنفس تكون متعلقة بالانتقام، وهذا موقف يحتاج إلى جرعة تأكيدية أكثر من الولى؛ فليس في الموقف الأول غريم واضح يُطلب منه الانتقام، أما وجود غريم فهو يحرك في النفس شهوة الانتقام، ولذلك يؤكدها الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور}. ويقول سبحانه في موقع آخر: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ} [المائدة: 19].
وعندما يقوم النحاة بإعراب (بشير) فهم يقولون: إنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخرة منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد. إنه التفاف طويل، ولا يوجد حرف زائد، فالإنسان يقول: ما عندي مال. وهذا القائل قد يقصد أنه لا يملك إلا القليل من المال لا يعتد به. وعندما يقول الإنسان: ما عندي من مال. فمن هنا تعني أنه لا يملك أي مالٍ من بداية ما يقال له مال. ولذلك فمِن هنا ليست زائدة، ولكنها جاءت تعني لمعنى. إذن {ما جاءنا من بشير} أي لم يأت لنا بداية من يقال له بشير.
وها هوذا قول الحق: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
وقد يحسب البعض أن (ما) هنا حرف زائد، ولكنا نقول: ما الأصل في الاشتقاق؟.
إن الأصل الذي نشتق منه هو المصدر. ومرة يأتي المصدر ويراد به الفعل، كقول القائل: (ضرباً زيداً) أي (اضرب زيدا). ومجيء المصدر هنا قول مقصود به الفعل، وكذلك قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}.
مادام النقض مصدراً فمن الممكن أن يقوم مقام الفعل. ومادام المصدر قد قام مقام الفعل فمن الجائز أن يأتي فعل آخر، فيصبح معنى القول: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}. إذن (ما) تدل هنا على أن المصدر قد جاء نيابة عن فعل. وبقيت (ما) لتدل على أن المصدر من الفعل المحذوف، أو أن (ما) جاءت استفهامية للتعجيب.. أي فبأي نقض من ألوان وصور نقضهم للعهد لعناهم؟ وذلك لكثرة ما نقضوا من العهود على صور وألوان شتى من النقض للعهد.
وقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}. والنقض هو ضد الإبرام؛ لأن الإبرام هو إحكام الحكم بالأدلة. والنقض هو حل عناصر القضية، كأن العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم قد نقضوه. ونحن نسمي العقيدة الإيمانية عقيدة، لماذا؟؛ لأنها مأخوذة من عقد الشيء بحيث لا يطفو ليناقش من جديد في الذهن. كذلك الميثاق إنه عهد مثبت ومؤكد. وعندما ينقضونه فهم يقومون بحله، أي أنهم أخرجوا أنفسهم عن متطلبات ذلك العقد. وجاء اللعن لأنهم نقضوا الميثاق.
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وهم عندما نقضوا المواثيق، طبع الله على قلوبهم؛ لأنه لم يطبع على قلوبهم بداية؛ فقد كفروا أولاً، وبعدذ لك تركهم الله في غيهم وضلالهم وطبع على القلوب فَمَا فيها من كفر لايخرج، والخارج عنها لا يدخل إليها. و(قاسية) تعني صُلبة. وفيها شدة. والصلابة مذمومة في القلوب وليست مذمومة في الدفاع عن الحق؛ لأننا نقيس كل موجود على مهمته. فعندما يكون كل موجود على مهمته يكون كل الكون جميلاً. مثال ذلك؛ نحن لا نقول عن الخُطاف ذمَّاً فيه إنه أعوج. فالخُطَّاف لابد له من العوج؛ لأن ذلك العوج مناسب لمهمته، إذن فعوج الخطاف استقامة له. وكذلك القسوة غير مذمومة شريطة أن تكون في محلها، أما إن جاءت في غير محلها فهي مذمومة. إن القلوب القاسية مذمومة؛ لأن الحق يريد للقلوب أن تكون لينة: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23].
والقسوة مأخوذة من القَسيِّ وهو الصلب الشديد، ونعرف أن الدنانير كانت تضرب من الذهب والدراهم تضرب من الفضة. وعندما يفحصها الصيرفي قد يُخرج واحداً منها ويقول: هذا زيف أو زائف لأنه قد سمع رنينها، أهي صلبة في الواقع أم لا؟. وعندما تكون صلبة يقال لها: دراهم قاسية.
إنّ الذهب لين. والفضة لينة.
فعندما نقول: إن هذا ذهب عيار أربعة وعشرين أي ذَهَبٌ ليس به نسبة من المواد الأخرى التي تجعله قابلاً للتشكيل؛ لأنه عندما يكون ذهباً صافياً على إطلاقه فلن يستطيع الصائغ أن يصوغ منه الحلي؛ لذلك يخلطه الصائغ بمعدن صُلب، حتى يعطيه المعدن درجة الصلابة التي تتيح له تشكيل الحلي منه. وتختلف نسبة الصلابة من عيار إلى عيار في الذهب وكذلك الفضة. والمصوغات المصنوعة من عيار مرتفع من الذهب ليست عرضة للتداول، كالسبائك الذهبية.
وإذا ما دخل المعدن الصلب إلى الذهب أو الفضة جعلها قاسية؛ أي صلبة. الصلابة- إذن- فيما يناسبها محمودة. وفيما لا يناسبها مذمومة كصلابة القلوب وقسوتها.
ويقول الحق: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} مثل ذلك نقلهم أمر الله الذي طلب منهم أن يقولوا: (حطة) فقالوا: (حنطة) {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} وكانت وسائل النسخ في الكتب التي سبقت القرآن هي نسيان حظٍّ مما ذكروا به، والنسيان قد يكون عدم قدرة على الاستيعاب، لكنه أيضاً دليل على أن المنهج لم يكن على بالهم. فلو كانت كتب المنهج على بالهم لظلوا على ذكر منه، كما أنهم كتموا ما لم ينسوه، والذي لم ينسوه ولم يكتموه حرّفوه ولووا ألسنتهم به. وياليت الأمر اقتصر على ذلك، ولكنهم جاءوا بأشياء وأقاويل وقالوا إنها من عند الله وهي ليست من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
هي أربعة ألوان من التغيير، النسيان، والكتم، والتحريف، ودسّ أشياء على أنها من عند الله وهي ليست من عند الله.
ولنا أن نتأمل جمال القول الحكيم: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} فهم على قدر كبير من السوء بدرجة أنستهم الشيء الذي يأتي لهم بالحظ الكبير، مثل نسيانهم البشارات بمحمد عليه الصلاة والسلام وكتمانها، ولو كانوا قد آمنوا بها، لكان حظهم كبيراً؛ ذلك أنهم نسوا أمراً كان يعطيهم جزاء حسناً، إذن فقد جنوا على أنفسهم؛ لأن الإسلام لن يستفيد لو كانوا مهتدين أو مؤمنين والخسار عليهم هم، ولم يدعهم الله ويتركهم على نسيانهم ليكون لهم بذلك حجة، بل أراد أن يذكرهم بما نسوه. وكان مقتضى ذلك أن ينصفوا أنفسهم بأن يعودوا إلى الإيمان؛ لأن الحق ذكرهم بما نسوا ليحققوا لأنفسهم الحظ الجميل. وقد يراد أنّهم تركوا ذلك عامدين معرضين عنه مُغْفِلين له عن قصد.
ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [المائدة: 13].
أي أن خيانتهم لك يا رسول الله ولأتباعك ولمنهج الله الحق في الأرض ستتوالى، ولاأدل على ذلك مما حدث منهم ضد رسلهم أنفسهم مع أنهم من بني جلدتهم ومن عشيرتهم، إنهم من بني إسرائيل مثلهم، فما بالك بنبي جاء من جنس آخر ليقتحم عليهم سلطتهم الزمنية؟
إذن فخيانتهم لله متصورة.
و(خائنة) بمعنى (خيانة) مثلها مثل (قائلة) وهي القيلولة أي المسافة الزمنية بعد الظهر، وفعلها: قال يقيل أي نام وسط النهار أو (خائنة) أي (نفس خائنة). أو (خائنة) مثل امرأة خائنة أو(خائنة) مبالغة كما نقول(راوٍ) و(راوية) ونحن نعني رجلاً، أو نقول(جماعة خائنة).
إذن فالكلمة الواحدة هنا مستوعبة لكل مصادر الخيانة منهم، رجل أو امرأة أو جماعة أو كل هؤلاء. والذي يتكلم هنا هو رب العالمين، ويتكلم للعرب وهم أهل فصاحة، إنه أداء لغوي عال.
ومن فرط دقة القرآن وصدقه يأتي الحق بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} طبقا لقانون صيانة الاحتمال. فحين يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين له موقف اليهود منه، ألا يُحتمل أن يُوجد قوم من اليهود يغلبهم الفهم العميق فيفكروا في أن يؤمنوا بهذا الرسول، ويهدئوا من شراسة ظنهم به؟ وقد فكر بعضهم وأعلن الإسلام.
وهؤلاء القوم عندما يسمعون أحكام الله على اليهود أجمعين، ألا يقولون: وما لنا ندخل في هذه الزمرة؛ ونفكر في أن ننطق بالإيمان؟ فكأن قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} صان قانون الاحتمال أن يكون إنسان منهم فكر في الإيمان. ومن فكر في الإيمان فسوف يجد قوله الحق: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} وسيرى هذا الإنسان في نفسه أن القرآن دليل نزل على نور. وقد كان وأعلن قليل منهم إسلامه، وماذا يكون موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن يخبره الحق: بأنك ستتعرض مستقبلا لخيانتهم؟ ألا يحرك ذلك نفسية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عليهم، فإذا فعل اليهود خائنة فلابد أن ينتقموا منهم، وتطبيقا للقاعدة الأساسية في رد العدوان بأن من يعتدي عليك فاعتد عليه.
لم يشأ سبحانه أن يترك الموقف لعواطف البشر مع البشر بل قال: {فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} والعفو هو كما نقول: فلان عفَّى على آثاري، أي أن آثارك تكون واضحة على الأرض وتأتي الريح لتمسحها فتعفي على الأثر. والأمر بالعفو أي امسح الأثر لذنب فعلوه. والخطيئة التي ارتكبوها عليك أن تعتبرها كأنها لم تحدث، ولكن أيظل أثرها باقيا عند رسول الله؟ لا، فالأمر بالصفح يأتي وهناك فرق بين أن تمحو الخطيئة وتبقى أثرها في نفسك وتظل في حالة من الغيظ والحقد.
والحق هنا يأمر بالعفو أي إزالة أثرها ويأمر بالصفح أي أن تُخْرِجَ أثر الخطيئة من بالك؛ لأن الإنسان منا له مراحل؛ المرحلة الأولى بعد أن يرتكب أحدهم ذنبا في حقه، فلا يقابل العدوان بمثله، وهذا هو العفو، والمرحلة الثانية: ألا يترك أثر هذا الذنب يعمل في قلبه بل يأتي الصفح حتى لا ينشغل قلب المؤمن بشيء قد عفا عنه، والمرحلة الثالثة: فرصة مفتوحة لمن يريد أن يتمادى في مرتبة الإحسان وترقي اليقين والإيمان بأن يحسن الإنسانُ إلى من أساء إليه.
وهذه المراحل الثلاث يوضحها قوله الحق: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
وعملية الإحسان مع المسيء أو المعتدي: أهي عملية منطقية مع النفس الإنسانية؟ قد تكون غير منطقية مع النفس الإنسانية، ولكنك أيها الإنسان لا تشرع لنفسك، إنما الذي يشرع لك هو الأعلى من النفس الإنسانية. والخالق يقول لك: لو علمت ما قدَّمه لك من أساء إليك لأحسنت إليه. لأنك إن أسأت إلى خلق من خلق الله فالذي يثأر ويأخذ الحق لمن أسيء إليه هو رب هذا المخلوق. ويأتي الله في صف الذي تحمل الإساءة.
إذن فإساءة العدو لك جعلت الله في صفك وفي جانبك، ألا يستحق ذلك المسيء أن نشكره؟ ألا تقول لنفسك القول المأثور: ألا تحسن إلى من جعل الله في جانبك. إذن هذا هو التشريع: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} والإحسان هنا خرج بالترقي الإيماني عن مرحلة: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
والإحسان أن تفعل شيئا فوق ما افترضه الله، ولكن من جنس ما افترضه الله؛ والمحسن الذي يدخل في مقام الإحسان هو من يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يرى كل خلقه. ونعرف قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15-16].
ما الذي جاء بالإحسان هنا؟ وتكون الإجابة: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
وهل يكلف الله خلقه ألا يهجعوا إلا قليلا من الليل؟ لا. فقد كلف الله المسلم بالصلاةن وأعلمه بأنه حر بعد صلاة العشاء، وله الحق أن ينام إلى الفجر، فإن سمع أذان الفجر فليقم إلى صلاة الفجر. لكن المحسن يريد الارتقاء بإيمانه فيزيد من صلواته في الليل. ويضيف الحق مذكرا لنا بصفات المحسنين: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].
أكلف الله الخلق بأن يستغفروا بالأسحار؟ لا. بل إن الرسول يجيب على رجل سأله عن الفروض الأساسية المطلوبة منه، فذكر له أركان الإسلام ومن بينها الصلوات الخمس المكتوبة، فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق».
ويضيف الحق في استكمال صفات المحسنين: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19].
ونلحظ أن الحق هنا لم يقل: (حق معلوم) إنما قال: {حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} فالحق المعلوم هو الزكاة، أما المحسن فللسائل والمحروم في ماله حق غير معلوم، وذلك ليفسح سبحانه المجال للطموحات الإيمانية، فمن يزد في العطاء فله رصيد عند الله.
والحق يقول: {فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين}؛ لأن الإحسان إليهم يهيج فيهم غريزة العرفان بالجميل، فيستل ذلك الإحسان الحقد من قلوبهم، ويفتحون آذانهم وقلوبهم لكلمة الحق: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
لأن العداوة لا تشتد إلا إذا وُجد مُؤجج لها من عداوة في المقابل. فعندما تعامل عدوك بالحسنى ولا ترد على عدائه بالعدوان فكم من الزمن يصير عدواً لك؟ إنه اعتدى مرة وسَكّتَّ أنت عليه، واعتدى ثانية وسكت أنت عليه. لابد أنه يهدِّئ من نفسه.
إذن فالعداوة لا تتأجج إلا إذا قابلتها عداوة أخرى. ولذلك نرى ما حدث في المعركة التي قامت بين فرعون وسيدنا موسى عليه السلام حين أراد الله أن يجعل العداوة لا من جهة واحدة ولكن من جهتين اثنتين لتكون معركة حامية؛ لأن العداوة لو كانت من جهة واحدة لهذا الطرف المعتدي: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].
فهل هم التقطوه ليكون عدواً؟ لا. لقد التقطوه ليكون قرة عين. ولكن قدر الله سبق. كان الأمل في أن يصير موسى قرة عين آل فرعون، ولكن الله أراد أن يقوموا بتربيته، ثم يصير من بعد ذلك عدواً لهم. وهكذا يتضح لنا أن تدبير السماء فوق تدبير الأرض. وموسى السامري مثلاً ربته السماء بواسطة جبريل، وولدته أمه منقطعا في الصحراء، فكان جبريل ينزل عليه بما يطعمه إلى أن كبر، وموسى ابن عمران ذهب إلى فرعون ليربيه، لكن موسى السامري- الذي رباه جبريل- صار كافراً، وموسى بن عمران الذي رباه فرعون أصبح رسولاً إلى بني إسرائيل. وكلا القدرين أرادهما الله، ولذلك يقول الشاعر:
إذا لم تصادف في بريق عناية ** فقد كذب الراجي وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر ** وموسى الذي رباه فرعون مرسل

كأن آل فرعون قد قاموا بتربية موسى بن عمران ليكون عدواً لهم لا قرة عين. والعداوة تكون من جهة موسى لفرعون، وتجيء العداوة من فرعون لموسى، فيقول الحق: {فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39].
هكذا صارت العداوة من طرفين. والحق سبحانه وتعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصفح عن الخيانات التي تحدث منهم، لعل الوعي الإيماني يستيقظ فيهم، ويقولون: لم يعاملنا بمثل ما عاملناه به، ويعترفون به نبياً رحيماً رءوفاً كريماً، ولا يقفون في وجه دعوته. لكن أيظل العفو والصفح هما كل التعليمات الصادرة من الحق إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا. فقد مر الأمر الإلهي بمرحليات متعددة؛ فالرسول يستقطب النفس الإنسانية بأن يستعبدها بالإحسان، فإن لم يستعبدها الإحسان فلابد أن يشمر النبي عن الساعد ويفعل ما يأمره به الله، ولنقرأ قوله الحق: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [لبقرة: 109].
إذن فهناك أمر خفي هو: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109].
وسبحانه قد أمر بأن يتركهم الرسول مع الصفح والعفو لمرحلة قادمة يأتي فيها الأمر بتأديبهم. وهذه عملية إنسانية فطرية عرفها العربي الجاهلي وخَبَرها قبل أن يأتي الإسلام؛ فقد كان العربي يحسن إلى عدوه مرة وثانية وثالثة، وعندما يجد أن الإحسان لم يثمر ثمرته؛ يقاتل العدو، وكما قال الشاعر:
أناة فإن لم تغن قدم بعدها ** وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه

من الحلم أن تستعمل الحزم دونه ** إذا لم يسع بالحلم ما أنت عازمه

وقال الشاعر:
صفحنا عن بني ذهل ** وقلنا القوم إخوان

عسى الأيام أن يرجع ** ن قوماً كالذي كانوا

فلما صَرَّحَ الشر ** وأضحى وهو عريان

مشينا مشية الليث ** غَدَا والليث غضبان

بضرب فيه تأييم ** وتفجيع وإرنان

وطعن كفم الزق ** غَدَا والزق ملآن

وفي الشر نجاة حيـ ** ـن لا ينجيك إحسان

وبعض الحلم عند الجهـ ** ـل للذلة إذعان

ومثل ما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود، حدث مع النصارى واورد الحق سبحانه وتعالى هذا فقال: {وَمِنَ الذين قَالُواْ...}.