فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (13):

{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)}
ولأن يحيى جاء إلى الدنيا حال كِبَر وضعف والديه، وهو كطفل يحتاج مَنْ يشمله بالعطف والحنان، ويُعوِّضه حنان الوالدين، ويحتاج إلى مَنْ يُعلِّمه ويُربِّيه؛ لذلك تولِّى الحق سبحانه وتعالى هذه المهمة، فهو سبحانه خالقه ومُسمِّيه ومُتولّيه فوهبه حناناً منه سبحانه {مِّن لَّدُنَّا} [مريم: 13] من عندنا؛ لأن طاقة الحنان عند الوالدين قد نضبتْ.
وقوله: {وَزَكَاةً} [مريم: 13] أي: طهارة من الذنوب وصفاءَ نفْسٍ وبركة، وهذه كلها نتيجة التربية الإلهية بمنهج الله الذي يرسم له حركته في الحياة: افعل كذا ولا تفعل كذا.
{وَكَانَ تَقِيّاً} [مريم: 13] أي: استجاب لهذا الحنان، وأثمرت فيه هذه التربية فكان تقياً، أي: مُنفذاً لأوامر الله مُجتنباً لنواهيه، وبذلك وقَى نفسه من صفات الجلال من الله تعالى.
وقلنا: إن التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما تتقيه مانعاً يحميك ويبعدك عن إيذائه، فنقول: اتقِ الله واتقِ النار، كيف ذلك ونحن نريد أن نصل إلى معيته سبحانه؟
نقول: اتق الله أي: اجعل بينك وبين صفات جلاله وجبروته وقايةً تحميك من جبروته وجباريته وقهره، فلسْت مطيقاً لأدنى شيء من العذاب، والنار من جنود الله ومظهر من مظاهر قهره، فاتقاء النار جزء من اتقاء الله، والوقاية التي تحميك من صفات الجبروت والجلال هي الطاعة بامتثال الأوامر والنواهي.
ثم يقول تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن}

.تفسير الآية رقم (14):

{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)}
فرغم أن يحيى عليه السلام جاء أبويْه في حال كِبَرهما وضعفهما، ولم يجد منهما الحنان الكافي والتربية المناسبة، ولم يشعر معهما بالأُبوة الكاملة، فكان دورهما في حياته ثانوياً، وحمايلهم عليه باهتة متواضعة، مع هذا كله كان باراً بهما حانياً عليهما. وقال عنه أيضاً: {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم: 14].
وصفة الجبروت وصفة العصيان لا يُتصوَّران من الولد على والديه، إلا حين يرى من أبيه شروداً عنه وانصرافاً عن رعايته، وحين يرى من أمه انشغالاً عن تربيته، فهي تاركة له غير مُراعية لحقه.
لذلك نرى صوراً من هذا الجبروت ومن هذا العصيان، ونسمع مَنْ يقسو على أمه وعلى أبيه؛ لأنه لم يجد منهما العطف والحنان والرعاية، فتقعطتْ بينهما أواصر الأبوة. ويبدو أن زكريا حكى لولده ما حدث، وقصَّ عليه قِصّته، فتفهَّم الولد دور والديه ونفى عنهما أيّ تقصير، فكان بهما باراً رحيماً، ولهما طائعاً متواضعاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}

.تفسير الآية رقم (15):

{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}
هذه مسائل ثلاث تُعَدُّ أعلام حياة للإنسان: الميلاد، والموت، والبعث. وقد خَصَّه الله بالسلام يوم مولده؛ لأنه وُلِد على غير العادة في الميلاد فأُمّه عاقر أسنتْ، ومع ذلك لم تتعرض لألسنة الناس ولم يعترض أحد على ولادتها، وهي على هذا الوصف، فلم يتجرأ أحد عليها؛ لأن ما حدث لها كان آيةً من آيات الله وقد بشّر الله بها زكريا لتكون البُشْرى إعداداً ومقدمة لهذا الحدث العجيب.
وخَصَّه بالسلام يوم يموت؛ لأنه سيموت شهيداً، والشهادة غير الموت، الشهادة تعطيه حياة موصولةً بالحياة الأبدية الخالدة. وكذلك خَصَّه بالسلام يوم القيامة يوم يُبعث حيّاً.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {واذكر فِي الكتاب}

.تفسير الآية رقم (16):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}
وقصة مريم في واقع الأمر كانت قبل قصة زكريا ويحيى؛ لأن طلب زكريا للولد جاء نتيجة لما سمعه من مريم حين سألها عن طعام عندها لم يأْتِ به، وهو كافلها ومُتولّي أمرها، فتعجب أنْ يرى عندها رِزْقاً لم يحمله إليها، وهي مقيمة على عبادتها في محرابها، فقال لها: {يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
وكأن هذا أول بداية قانون: من أين لك هذا؟ لكن عطاءه تعالى لا يخضع للأسباب، بل هو سبحانه يرزق مَنْ يشاء متى شاء وبغير حساب.
وشاءتْ إرادة الله أن تنطِقَ مريم بهذه المقولة: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] لأنها ستُنبِّه زكريا إلى شيء، وستحتاجها أيضاً مريم فيما بعد حينما تشعر بالحَمْل من غير زَوْج، فلن تعترض على هذا الوضع، وستعلم أنه عطاءٌ من الله.
وكذلك نبَّهتْ هذه الآية زكريا عليه السلام إلى فَضْل الله وسِعَة رحمته، وهذا أمر لا يغيب عن نبي الله، ولكن هناك قضايا في النفس البشرية إلا أنها بعيدة عن بُؤْرة الشعور وبعيدة عن الاهتمام، فإذا ما ذُكِّر بها انتبه إليها؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38].
فما دام أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، فلماذا لا أدعو الله بولد صالح يحمل أمر الدعوة من بعدي، وطالما أن الرزق بغير حساب فلن يمعنه كِبَر السِّنِّ أو العُقْم أو خلافه.
إذن: فمريم هي التي أوحَتْ لزكريا بهذا الدعاء، واستجاب الله لزكريا ورزقه يحيى؛ ليكون ذلك مقدمة وتمهيداً لمريم، فلا تنزعج من حَمْلها، وتردّ هذه المسألة إلىأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، وليكون ذلك إيناساً لنفسها واطمئناناً، وإلاَّ فمن الممكن أن تلعبَ بها الظنون وتنتابها الشكوك، وتتصور أن هذا الحمْل نتيجة شيء حدث لم تشعر به، أو كانت نائمة مثلاً.
لكن الحق تبارك وتعالى يقطع عنها كل هذه الشكوك، ويعطيها مقدمة تراها وتعايشها بنفسها في طعام لم يَأْتِ به أحد إليها، وفي حَمْل زوجة زكريا وهي عاقر لا تلِد.
قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} [مريم: 16] الكتاب هو القرآن الكريم، أي: اذكُر يا محمد في كتاب الله الذي أوحاه إليك مما تذكر قصة مريم، وقد سبق الحديث عن هذه القصة في سورة(آل عمران) لما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن نَذْر أمها لما في بطنها لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يصلح لخدمة بيت المقدس إلا الذكْران الذين يتحمَّلون مشقة هذا العمل، فلما وضعْتها أنثى لم يوافق ظنّها إرادة الله، ولم تستطع مريم خدمة البيت مكاناً أفرغتْ نفسها لخدمته قِيماً، وديناً حملتْ نفسها عليه حَمْلاً، حتى إنها هجرتْ أهلها وذهبت إلى هذا المكان الذي اتخذته خُلْوة لها لعبادة الله بعيداً عن أعيُنِ الناس.
ومريم هي ابنة عمران، وقد قال القرآن في خطابها: {ياأخت هَارُونَ} [مريم: 28] ولذلك حدث لَبْسٌ عند كثير من الناس، فظنوها أخت نبي الله موسى بن عمران وأخت هارون أخي موسى عليهما السلام.
والحقيقة أن هذه المسألة جاءتْ مصادفة اتفقتْ فيها الأسماء؛ لذلك لما ذهب بعض الصحابة إلى اليمن قال لهم أهلها: إنكم تقولون: إن مريم هي أخت موسى وهارون، مع أن بين مريم وعمران أبي موسى أحد عشر جيلاً!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ذكرتُمْ لهم أن الناس كانوا يتفاءلون بذكِر الأسماء خاصة الأنبياء فيُسمّون على أسمائهم عمران ويسمون على أسمائهم هارون».
حتى ذكروا أنهم في جنازة بعض العلماء سار فيها أربعة آلاف رجل اسمهم هارون. إذن: فالأسماء هنا مصادفة، فهي ابنة عمران، لكن ليس أبا موسى، وأخت هارون، لكن ليس هو أخو موسى.
وقد أفرد القرآن سورة كاملة باسم مريم وخصَّها وشخَّصها باسمها واسم أبيها، وسبق أنْ أوضحنا أن التشخيص في قصة مريم جاء لأنها فذَّة ومُفردة بين نساء العالم بشيء لا يحدث ولن يحدث إلا لها، فهذا أمر شخصي لن يتكرر في واحدة أخرى من بنات حواء.
أما إنْ كان الأمر عاماً يصح أنْ يتكرّر فتأتي القصة دون تشخيص، كما في حديث القرآن عن زوجة نوح وزوجة لوط كمثال للكفر، وهما زوجتان لنبيين كريمين، وعن زوجة فرعون كمثال للإيمان الذي قام في بيت الكفر وفي عُقْر داره، فالمراد هنا ليس الأشخاص، بل المراد بيان حرية العقيدة، وأن المرأة لها في الإسلام حريةٌ عقدية مستقلة ذاتية، وأنها غيرُ تابعة في عقيدتها لأحد، سواء أكانت زوجة نبي أم زوجة إمام من أئمة الكفر.
وقوله تعالى: {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} [مريم: 16].
{انتبذت مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] أي: ابتعدتْ عنهم، من نبذ الشيء عنه أي أبعده، فكأن أُنْسها لا بالأهل، ولكن أُنْسها كان برب الأهل، والقرآن يقول: {مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] ولم يقُلْ: من الناس، فقد تركتْ مريم أقرب الناس إليها وأحبّهم عندها وذهبت، إلى هذا المكان.
{مَكَاناً شَرْقِياً} [مريم: 16] لكن شرقيّ أيّ شيء؟ فكل مكان يصح أن يكون شرقياً، ويصح أن يكون غربياً، فهي إذن كلمة دائرة في كل مكان. لكن هناك عَلَم بارز في هذا المكان، هو بيت المقدس، فالمراد إذن: شرقي بيت المقدس، وقد جاء ابتعادها عن أهلها إلى هذا المكان المقدس لتتفرغ للعبادة ولخدمة هذا المكان.
لكن، لماذا اختارتْ الجهة الشرقية من بيت المقدس بالذات دون غيرها من الجهات؟ قالوا: لأنهم كانوا يتفاءلون بشروق الشمس، لأنها سِمَة النور المادىْ الذي يسير الناس على هُدَاه فلا يتعثرون، وللإنسان في سَيْره نوران: نور مادىّ من الشمس أو القمر أو النجوم والمصابيح، وهو النور الذي يظهر له الأشياء من حوله، فلا تصطدم بما هو أقوى منه فيحطمك ولا بأضعف منه فتحطمه.
وكذلك له نور من منهج الله يهديه في مسائل القيم، حتى لا يتخبّط تائهاً بين دُروبها، ومن ذلك قوله تعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35] ثم يقول بعدها: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35].
أي: نور السماء الذي ينزل بالوحي لهداية الناس.

.تفسير الآية رقم (17):

{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)}
الحجاب: هو الساتر الذي يحجب الإنسان عن غيره ويحجب غيره عنه، فما فائدة أنْ تتخذ بينها وبين أهلها سِتْراً بعد أن ابتعدتْ عنهم؟ نقول: انتبذتْ من أهلها مكاناً بعيداً، هذا في المكان، إنما لا يمنع أنْ يكونَ هناك مكينٌ آخر يسترها حتى لا يطّلع عليها أحد، فهناك إذن مكان ومكين.
والحجاب قد يكون حجاباً مُفْرداً فهو ساتر فقط، وقد يكون حجاباً مستوراً بحجاب غيره، فهو حجاب مُركّب، كما يصنع أهل الترف الآن الستائر من طبقتين، إحداهما تستر الأخرى، فيكون الحجاب نفسه مَسْتوراً، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45].
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17].
كلمة الروح في القرآن الكريم لها إطلاقات مُتعدّدة، أولها الروح التي بها قِوام حياتنا المادية، فإذا نفخَ الله الروح في المادة دبَّتْ فيها الحياة والحِسّ والحركة، ودارت كل أجهزة الجسم، وهذا المعنى في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
لكن، هل هذه الحياة التي تسري في المادة بروح من الله هي الحياة المقصودة من خَلْق الله للخَلْق؟ قالوا: إنْ كانت هذه الحياة هي المقصودة فما أهونها؛ لأن الإنسان قد يمرُّ بها ويموت بعد ساعة، أو بعد يوم، أو بعد سنة، أو عدة سنوات.
إذن: هي حياة قصيرة حقيرة هيِّنة، هي أقرب إلى حياة الديدان والهوام، أما الإنسان الذي كرّمه الله وخلق الكون من أجله فلابد أن تكون له حياة أخرى تناسب تكريمَ الله له، هذه الحياة الأخرى الدائمة الباقية يقول عنها القرآن: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
{لَهِيَ الحيوان} أي: الحياة الحقيقية، أما حياتك الدنيا فهي مُهدّدة بالموت حتى لو بلغتَ من الكبر عتياً، فنهايتك إلى الموت، فإنْ أردتَ الحياة الحقيقية التي لا يُهدِّدها موت فهي في الآخرة.
فإذا كان الخالق تبارك وتعالى جعل لك روحاً في الدنيا تتحرك بها وتناسب مُدّة بقائك فيها، ألاَ يجعل لك في الآخرة رُوحاً تناسبها، تناسب بقاءها وسَرْمديتها، والقرآن حينما يتحدث عن هذه الروح يقول للناس: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] فكيف يدعوهم لما يُحييهم ويُخاطبهم وهم أحياء؟ نعم، هم أحياء الحياة الدنيا، لكنه يدعوهم إلى حياة أخرى دائمة باقية، أما مَنْ لم يستجب لهذا النداء ويسعى لهذه الحياة فلن يأخذ إلا هذه الحياة القصيرة الفانية التي لا بقاءَ لها.
وكما سمَّى الله السِّرَّ الذي ينفخه في المادة فتدبّ فيها الحركة والحياة (روحاً)، كذلك سمَّى القيم التي تحيا بها النفوس حياة سعيدة (روحاً)، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] أي: القرآن الكريم.
كما سَمَّى الملَك الذي ينزل بالروح رُوحاً: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] وهو جبريل عليه السلام.
إذن: فقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] أي: جبريل عليه السلام. {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17] معنى تمثَّل: أي: ليستْ هذه حقيقته، إنه تمثَّل بها، أما حقيقته فنورانية ذات صفات أخرى، وذات أجنحة مَثْنى وثُلاَث ورُبَاع، فلماذا إذن جاء الملَكُ مريمَ في صورة بشرية؟
لأنهما سيلتقيان، ولا يمكن أنْ يتمّ هذا اللقاء خُفْية، وكذلك يستحيل أنْ يلتقيَ الملَكُ بملكتيه مع البشر ببشريته، فلكل منهما قانونه الخاص الذي لا يناسب الآخر، ولابُدَّ في لقائهما أنْ يتصوَّر الملَك في صورة بشر، أو يُرقَّى البشر إلى صفات الملائكة، كما رُقي محمد صلى الله عليه وسلم إلى صفات الملائكة في حادثة الإسراء والمعراج، ولا يتم الالتقاء بين الجنسين إلا بهذا التقارب.
لذلك، لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملَكاً رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95].
وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] إذن: لا يمكن أن يلتقي الملَكُ بالبشر إلا بهذا التقارب.
جاء جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به، ولا تفزع إنْ رأتْه على صورته الملائكية {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً} [مريم: 17] أي: من جنسها {سَوِيّاً} [مريم: 17].
أي: سويّ الخِلْقة والتكوين، وسيماً، قد انسجمتْ أعضاؤه وتناسقتْ على أجمل ما يكون البشر، فلا يعيبه كِبَر جبهته أو أنفه أو فمه، كما نرى في بعض الناس.
وهذا كله لإيناس مريم وطمأنينتها، وأيضاً ليثبت أنها العذراء العفيفة؛ لأنها لما رأت هذا الفتى الوسيم القَسِيم ما أبدتْ له إعجاباً ولا تلطفتْ إليه في الحديث، ولا نطقتْ بكلمة واحدة يُفهَم منها مَيْل إليه، بل قالت كما حكى القرآن: {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن}