فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (7):

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)}
عجيب أمر هؤلاء المعاندين: يعترضون على رسول الله أنْ يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لكسْب العيش، فهل سبق لهم أنْ رَأَوْا نبياً لا يأكل الطعام، ولا يمشي في الأسواق؟ ولو أن الأمر كذلك لكان لاعتراضهم معنى، إذن: قولهم {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] قولٌ بلا حجة من الواقع، ليستدركوا بهذه المسألة على رسول الله.
فماذا يريدون؟
قالوا: {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7] صحيح أن الملَك لا يأكل، لكن معنى {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان: 7] يعني: يسانده، وفي هذه الحالة لن يُغيِّر من الأمر شيئاً، وسيظل كلام محمد هو هو لا يتغير. إذَن: لن يضيف الملَك جديداً إلى الرسالة.. وعليه، فكلامهم هذا سفسطة وجَدَلٌ لا معنى له.
وكلمة {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7] لم يقولوا بشيراً، مما يدل على اللدَد واللجاج، وأنهم لن يؤمنوا؛ لذلك لن يفارقهم الإنذار.

.تفسير الآية رقم (8):

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)}
تلحظ أنهم يتنزلون في لَدَدهم وجَدَلهم، فبعد أنْ طلبوا مَلَكاً يقولون {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8] أي: ينزل عليه ليعيش منه {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 8] أي: بستان {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الفرقان: 8].
والمسحور هو الذي ذهب السِّحْر بعقله، والعقل هو الذي يختار بين البدائل ويُرتِّب التصرُّفات، ففاقد العقل لا يمكن أن يكونَ منطقياً في تصرفاته ولا في كلامه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، فأنتم تعرفون خُلقه وأمانته، وتُسمُّونه (الصادق الأمين) وتعترفون بسلامة تصرفاته وحكمته، كيف تقولون عنه مجنون؟
لذلك يقول تعالى ردًّا عليهم: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ ما أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 14].
والخُلُق يسوي تصرُّفات الإنسان فيجعلها مُسْعدة غير مفسدة، فكيف إذن يكون ذو الخُلق مجنوناً؟ إذن: ليس محمد مسحوراً.
وفي موضع آخر قالوا: ساحر، وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم ساحر، فلماذا لم يسحركم كما سَحَر المؤمنين به؟ إنه لَجَج الباطل وتخبّطه واضطرابه في المجابهة. ثم يقول الحق سبحانه: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال}

.تفسير الآية رقم (9):

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)}
{انظر} [الفرقان: 9] خطاب لإيناس رسول الله وتطمينه {كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} [الفرقان: 9] أي: اتهموك بشتّى التهم فقالوا ساحر. وقالوا: مسحور. وقالوا: شاعر. وقالوا: كاهن {فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الفرقان: 9] لأنهم يقولون كذباً وهُرَاءً وتناقضاً في القول.
{فَضَلُّواْ} [الفرقان: 9] أي: عن المثل الذي يصدُق فيك ليصرف عنك المؤمنين بك، ويجعل الذين لم يؤمنوا يُصرُّون على كفرهم، فلم يصادفوا ولو مثلاً واحداً، فقالوا: ساحر وكذبوا وقالوا: مسحور وكذبوا {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الفرقان: 9] أي: إلى ذلك.
ثم يقول الحق سبحانه: {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً}

.تفسير الآية رقم (10):

{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)}
{تَبَارَكَ} [الفرقان: 10] كما قلنا: تنزّه وعَظُم خيره؛ لأن الكلام هنا أيضاً فيه عطاء مُتمثِّل في الخير الذي ساقه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فعطاؤه سبحانه دائم لا ينقطع، بحيث لا يقف خبر عند عطائه، بل يظل عطاؤه خيراً موصولاً، فإذا أعطاك اليوم عرفتَ أن ما عنده في الغد خير مما أعطاك بالأمس.
ثم يقول الحق سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة}

.تفسير الآية رقم (11):

{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)}
يُضرِب السياق عن الكلام السابق، ويعود إلى مسألة تكذيبهم وعدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان ليس في مصلحتهم، فالإيمان يقتضي حساباً وجزاءً، وهم يريدون التمادي في باطلهم والاستمرار في لَغْوهم واستهتارهم ومعاصيتهم؛ لذلك يُكذِّبهم أنفسهم ويخدعونها ليظلوا على ما هم عليه.
ولذلك ترى الذين يُسرفون على أنفسهم في الدنيا من الماديين والملاحدة والفلاسفة يتمنون أنْ تكون قضية الدين قضية فاسدة كاذبة، فينكرونها بكل ما لديْهم من قوة، فالدين عندهم أمر غير معقول؛ لأنهم لو أقروا به فمصيبتهم كبيرة.
ومعنى: {وَأَعْتَدْنَا} [الفرقان: 11] هيّأنا وأعددْنا لهم سعيراً؛ لأن عدم إيمانهم بالساعة هو الذي جَرَّ عليهم العذاب، ولو أنهم آمنوا بها وبلقاء الله وبالحساب وبالجزاء لاهتَدوْا، واعتدلوا على الجادة، ولَنجَوْا من هذا السعير.
والسعير: اسم للنار المسعورة التي التي تلتهم كل ما أمامهم، كما نقول: كَلْب مسعور، ثم يقول سبحانه في وصفها: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}

.تفسير الآية رقم (12):

{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)}
يريد الحق تبارك وتعالى أن يُشخِّص لنا النار، فهي ترى أهلها من بعيد، وتتحرّش بهم تريد من غَيْظها أنْ تَثِبَ عليهم قبل أنْ يصلوا إليها.
والتغيُّظ: ألم وجداني في النفس يجعل الإنسان يضيق بما يجد، ومن ذلك نسمع مَنْ يقول:(أنا ح أطلق من جنابي)، يعني: نتيجة ما بداخله من الغيظ لا يتسع له جوفه، وما دام الغيظ فوق تحمُّل النفس وسِعَتها فلابد أن يشعر الإنسان بالضيق، وأنه يكاد ينفجر.
لذلك يقول تعالى عن النار في موضع آخر {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 8] تميّز يعني: تكاد أبعاضها تنفصل بعها عن بعض.
لكن، لماذا تميِّز النار من الغيظ؟ قالوا: لأن الكون كله مُسبِّح لله حامد شاكر لربه؛ لذلك يُسَّرُّ بالطائع ويحبه، ويكره العاصي، أَلاَ ترى أن الوجود كله قد فرح لمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فرح لمولده الجمادُ والنباتُ والحيوانُ واستبشر، لأنه صلى الله عليه وسلم جاء ليعيد للإنسان انسجامه مع الكون المخلوق له، ويعدل الميزان.
ومع ذلك نرى من البشر العقلاء أصحاب الاختيار مَنْ يكفر، لذلك تغتاظ النار من هؤلاء الذي شذُّوا عن منظومة التسبيح والتحميد ورَضُوا لأنفسهم أن يكونوا أَدْنى من الجماد والنبات والحيوان، ومن ذلك يقولون: نَبَا بهم المكان من كفرهم، يعني الأماكن من الأرض تُنكرهم وتتضايق من وجودهم عليها، كما تفرح الأرض بالطائع وتحييه؛ لأنه منسجم معها، المكان والمكين ينتظمان في منظومة التسبيح والطاعة.
لذلك يُنبِّهنا إلى هذه المسألة الإمام على رضي الله عنه فيقول: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء، وموضع في الأرض، أما في الأرض فموضع مُصلاَّه؛ لأنه حُرِم من صلاته، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله الطيب.
والحق تبارك وتعالى يُظهر لنا هذه الصورة في قوله سبحانه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30].
فالنار تتشوّق لأهلها كالذي يأكل ولا يشبع، فمهما أُلْقِي فيها من العصاة تقول: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30].
ومعنى {وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] النفَس الخارج. وفي موضع آخر يقول تعالى: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] فذكر أن لها شهيقاً وزفيراً، وهي في المكان الضيق.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)}
فجمع الله عليهم من العذاب ألواناً حتى يقول الواحد منهم لمجرد أن يرى العذاب: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] وهنا يدعو بالويل والثبور، يقول: يا ويلاه يا ثبوراه يعني: يا هلاكي تعالَ احضر، فهذا أوانك لتُخلِّصني مما أنا فيه من العذاب، فلن يُنجيني من العذاب إلا الهلاك؛ لذلك يقولون: أشدّ من الموت الذي يطلب الموت على حَدِّ قول الشاعر:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى المْوتَ شَافِياً ** وَحَسْبُ المنَايَا ِأنْ يكُنَّ أَمانِياً

ولك أن تتصور بشاعة العذاب الذي يجعل صاحبه يتمنى الموت، ويدعو به لنفسه.
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً}

.تفسير الآية رقم (14):

{لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}
يُوبِّخهم الحق سبحانه وتعالى ويُبكِّتهم: يا خيبتكم ويا ضياعكم، لن ينفعكم أنْ تدعوا ثُبوراً واحداً، بل ادعوا ثُبوراً وثبوراً وثبوراً؛ لأنها مسألة لن تنتهي، فسوف يُسْلِمكم العذاب إالى عذاب، حتى ينادوا: {يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] وهو عذاب متجدد: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56].
ثم يذكر الحق سبحانه المقابل ليكون ذلك أنْكَى لأهل الشر وأَغْيظ لهم، فيذكر بعد العذاب الثوابَ على الخير وعِظَم الجزاء على الطاعة، ومثل هذه المقابلات كثيرة في كتاب الله، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13- 14].
ويقول سبحانه: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82].
وهنا بعد أنْ ذكر النار وما لها من شهيق وزفير، يقول سبحانه: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد}

.تفسير الآية رقم (15):

{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)}
{قُلْ} [الفرقان: 15] أَمْر لرسول الله بأن يقول، والمقول له هم الذين اعترضوا على نبوته صلى الله عليه وسلم باعتراضات واهية من المعاصرين له، وكانوا يتخبّطون في هذه المسائل تخبُّط مَنْ لا يعرف فيها حقيقة، وإنما غرضه فقط أنْ يتعرّض لرسول الله في أمر دعوته، والتعرُّض لأيِّ نبيِّ في أمر دعوته من المعاصرين له أمر طبيعي؛ لأن الرسل إنما يجيئون حين يستشري الفساد.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الحق سبحانه وتعالى جعل في كل نفس ملَكةً تجعل الإنسان يفعل شيئاً، ثم تأتي ملَكة أخرى فيه لتلومه على ذلك، حينئذ تكون المناعة في ذات الإنسان ويُسمُّونها النفس اللوَّامة، لكن قد تنطمس فيه هذه الملَكة، فتتعاون كل مَلَكاته على الشر، بحيث تكون النفس بكل مَلَكاتها أمّارة بالسوء، وهي أمَّارة بصيغة المبالغة لا آمرة أي: أنها أخذْت هذا الأمر حِرْفةً لها.
كما لو رأيت رجلاً يَنْجُر في قطعة من الخشب تقول له: ناجر، فإنِ اتخذها حرفةً له، لا يعمل إلا هي، تقول له: نجار، ومثله: خائط وخيّاط. فالمعنى: أمّارة يعني: لم يَعُدْ لها عمل في أن تردع عن الشر، بل دائماً تُقوِّي نوازع الشر في النفس، وتتأصل فيها تصير لها حرفة.
فماذا يكون الموقف إذن؟
لا بُدَّ أنْ يجعل الحق سبحانه في نفوس قوم آخرين مَلَكة الخير ليواجهوا أصحاب هذه الأنفس الأمّارة بالسوء، يواجهونهم بالنصح والإرشاد والموعظة، ويصرفونهم عن الشر إلى الخير. فإذا ما فسد المجتمع كله، لا نفسٌ مانعة، ولا مجتمعٌ مانع، فلابد أنْ تتدخّل السماء برسول جديد.
ومن رحمة الله بالعالم أنه سبحانه ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون فيها النفس اللوامة، وضمن لها أنْ يظل مجتمعها آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر؛ لذلك لا حاجةَ لرسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذن: فالمناعة موجودة في أمة الإسلام، ولو لم تكُنْ هذه المناعة موجودة في النفس أولاً، وفي المجتمع ثانياً لتدخلتْ السماء بعد رسول الله برسول جديد ومعجزة جديدة ليعيد الخَلْق إلى رُشْدهم.
ولا شكَّ أن في المجتمع طائفةً تنتفع بهذا الفساد، ويعيشون في ترف في ظله، فطبيعي إذن أنْ يدافعوا عنه، وطبيعي أنْ يتصدَّوْا لدعوة الرسول التي جاءتْ لتعدل ميزان المجتمع، وأنْ يقفوا له بالمرصاد؛ لأنه يهدِّد هذه النفعية ويقضي على مصلحتهم.
وإنْ كان الرسل السابقون قد تعرّضوا لمثل هذا الاضطهاد، فقد تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأضعاف ما تعرَّضوا له؛ لأن اضطهاده صلى الله عليه وسلم جاء مناسباً لضخامة مهمته، فقد جاءتْ الرسل قبله، كُلٌّ إلى أمته خاصة في زمن محدد، أمّا رسالته صلى الله عليه وسلم فقد جاءت للناس كافة، تعمُّ كل الزمان وكل المكان إلى أن تقوم الساعة، فلابد إذن أن تكون مهمته أصعب.
وهؤلاء الكبراء الذين ينتفعون بالفساد في المجتمع يظنون أن رسول الله إذا لُوِّح له بالمال والنعيم يمكن أن يتنازل عن دعوته، ويترك لهم الساحة؛ لذلك اجتمع صناديد قريش على رسول الله، يُلوِّحون له بالمال والجاه والسلطان، ليصدُّوه عن الدعوة ويصرفوه عنها، هؤلاء الذين سماهم أستاذنا الشيخ موسى: دستة الشر، وكانوا اثنا عشر رجلاً، منهم: أبو البختري، وأبو جهل، وأبو سفيان، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وعتبة بن ربيعة، ومُنبِّه بن الحجاج، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، ونُبيه بن الحجاج.
لقد ذهب هؤلاء إلى سيدنا محمد رسول الله يقولون: (نحن وفد قومك إليك، جئنا لنقدِّم المعذرة حتى لا يلومنا أحد بعد ذلك، فإنْ كنتَ تريد مالاً جمعنا لك الأموال، وإنْ كنتَ تريد شرفاً سوَّدناك علينا، وإن كنت تريد مُلْكاً ملّكناك علينا).
وفَرْق بين المال والشرف: المال أن يكون الإنسان غنياً، لكن ربما لا شرفَ له، ولا مكانةَ بين الناس، وهناك مَنْ له شرف وسيادة، وليس له مال.
ونلحظ أنهم ارتقوْا في مساومة رسول الله من المال إلى الشرف والسيادة، ثم إلى الملْك. فماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم؟ كان موقفه هو الموقف الذي مهَّد الله له به، حينما عرض عليه جبريل عليه السلام أن يجعل الله له جبال مكة ذهباً، فقال صلى الله عليه وسلم: «بل أشبع يوماً فأشكر، وأجوع ثلاثة أيام فأتضرع».
وفي موقف آخر، قال له جبريل: (يُخيِّرك ربك أن تكون نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً فقال: بل نبياً عبداً).
والنبي مالك منهج السماء، والملك الذي يملك السيطرة بحيث لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه، مثل سليمان عليه السلام، حيث آتاه الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ومع ذلك لم يكن هذا الملْك هو المطلوب في ذاته، بدليل أن سليمان عليه السلام مع ما أوتية من الملْك كان لا يأكل إلا الخوشكار يعني: الخبز الأسمر غير النقي(الردَّة) في حين يأكل عبيده ومواليه الدقيق الفاخر النقي، فلم يكن سليمان يريد الملْك لذاته، إنما ليقْوَى به على دعوته، فلا يعارضه فيها أحد.
لذلك، لما أرسلتْ إليه ملكة سبأ بهدية لتستميله بها وتَصْرفه عما يريد رَدّ عليها: {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتان الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36].
لذلك جاءته صاغرة تقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44].
إذن: مسألة المال هذه عُرِضَتْ على رسول الله قبل أن يقترحها كفار مكة، فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد رفضه مِمَّن يملكه، فكيف يقبله مِمَّنْ لا يملك شيئاً؟ لذلك قال لهم:
«والله ما بي حاجة إلى ما تقولون،، فلست طالب مال، ولا مُلْك، ولا شرف، إنما أنا رسول الله أُرسِلْتُ إليكم، ومعي كتاب فيه منهجكم، وأمرني ربي أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فإنْ جئتم على ما أحب فقد ضمنتم حظّ الدنيا والآخرة، وإنْ رددتُمْ عليَّ قولي فإنني سأصبر إلى أن يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين».
فلجئوا إلى عم النبي صلى الله عليه وسلم، لعله يستطيع أن يستميله، فلما كلَّمه عمه قال قولته المشهورة: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه حتى يُظهِره الله أو أهلك دونه).
{أذلك} [الفرقان: 15] أي: ما أنتم فيه الآن من العذاب خير، أم جنة الخلد التي وُعِد المتقون؟ احكموا أنتم في هذه المسألة وسنرضى بحكمكم، إنها إغاظة لأهل النار، حيث جمع الله عليهم مقاساة العذاب مع النظر إلى أهل الجنة وما هم فيه من النعيم، ولو كانت الأُولى وحدها لكانت كافية، إنما هو في العذاب ويأتيه أهل الجنة لِيُبكّتوه: انظر ما فاتك من النعيم!!
وفيها أيضاً تقريع لهم، فليس هناك وجه للمقارنة بين الجنة والنار، فأنت مثلاً لا تقول: العسل خير أم الخل؛ لأنه أمر معروف بداهة.
وسبق أنْ تكلّمنا عن الصراط، ولماذا ضُرِب على مَتْن جنهم، والجميع يمرون عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى يريد أنْ يجعل لك من مرائي النار التي تمرُّ عليها فوق الصراط نعمة أخرى تُذكِّرك بالنجاة من النار قبل أنْ تباشر نعيم الجنة.
لذلك لا يمتن الله علينا بدخول الجنة فحسب، إنما أيضاً بالنجاة من النار، فيقول سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
فالحق سبحانه وتعالى يذكر لنا النار، وأن من صفاتها كذا وكذا، أما في الآخرة فسوف نراها رَأْي العين، كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 7] وذلك حين تكون على الصراط، فتحمد الله على الإسلام الذي أنجاك من النار، وأدخلك الجنة، فكل نعمة منها أعظم من الأخرى.
وفي قوله تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] كلمة خير في اللغة تدور على معنيين: خير يقابله شَرٌّ، وخير يقابله خير أعظم منه. كما جاء في الحديث الشريف: (المؤمن القوي خير وأَحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير) فكلاهما فيه خير، وإن زاد الخير في المؤمن القوي، وعادة ما تأتي(من) في هذا الأسلوب: هذا خير من هذا.
أما الخير الذي يقابله شر، فمثل قوله تعالى: {أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} [البينة: 7].
والجنة كما نستعملها في استعمالات الدنيا، هي المكان المليء بالأشجار والمزروعات التي تستر السائر فيها، أو تستر صاحبها أنْ ينتقلَ منها إلى خارجها؛ لأن بها كل متطلبات حياته، بحيث يستغني بها عن غيرها، لذلك أردفها الحق تبارك وتعالى بقوله {الخلد} [الفرقان: 15].
إذن: فالجنة التي تراها في الدنيا مهما بلغت فليست هي جنة الخلد؛ لأنها لابد إلى زوال، فعُمرها من عُمْر دُنْياها، كأنه سبحانه يقول لكل صاحب جنة في الدنيا: لا تغترْ بجنتك؛ لأنها ستؤول إلى زوال، وأشدّ الغم لصاحب السرور أنْ يتيقن زواله، كما قال الشاعر:
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدي فِي سُرُورٍ ** تَيقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُه انْتِقَالاَ

لذلك يُطمئِن الله تعالى عباده المؤمنين بأن الجنة التي وعدهم بها هي جنة الخلد والبقاء، حيث لا يفنى نعيمها، ولا يُنغّص سرورها، فلذَّاتها دائمة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.
وقوله تعالى: {التي وُعِدَ المتقون} [الفرقان: 15] الوعد هنا من الله تعالى الذي يملك كل أسباب الوفاء، والوَعْد بشارة بخير قبل مجيئه لتستعد لأن تكون من أهله، ويقابله الإنذار، وهو التهديد بشرٍّ قبل مجيئه لتتلافاه، وتجتنب أسباب الوقوع فيه.
وكلمة(مُتَّقٍ) الأصل فيها مَنْ جعل بينه وبين الشر وقاية، كما يقول سبحانه: {فاتقوا النار} [البقرة: 24] يعني: اجعلوا بينكم وبينها وقاية.
ومن العجيب أن يقول سبحانه: {واتقوا الله} [البقرة: 194] ويقول {فاتقوا النار} [البقرة: 24] والمعنى: اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله القهرية وقايةً؛ لأنكم لا تتحمّلون صفات قَهْره، والنار جُنْد من جنود الله في صفات جلاله، فكأنه تعالى قال: اتقوا جنود صفات الجلال من الله.
وقوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً} [الفرقان: 15] أي: جزاءً لما قدَّموا، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} [الحاقة: 24] فهذا تعليلُ ما هم فيه من النعيم: أنهم كثيراً ما تَعِبُوا، واضطهدوا وعُذِّبوا، وجزاء من عُذِّب في ديننا أن نُسعده الآن في الآخرة.
{وَمَصِيراً} [الفرقان: 15] أي: يصيرون إليه، إذن: لا تنظر إلى ما أنت فيه الآن، لكن انظر إلى ما تصير إليه حَتْماً، وتأمل وجودك في الدنيا، وأنه موقوت مظنون، ووجودك في الآخرة وأنه باقٍ دائم لا ينتهي، لذلك يقولون: إياك أنْ تدخل مدخلاً لا تعرف كيفية الخروج منه.

ثم يقول الحق سبحانه: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ}