فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (13):

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)}
الآيات: المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول، والآيات تكون مُبْصَرة بصيغة اسم المفعول، لكن كيف تكون هي المبصرة بصيغة اسم الفاعل، وهذه المسألة عرفناها أخيراً، فكانوا منذ القدم عند اليونان والحضارات القديمة يظنون أن رؤية العين للأشياء تحدث من شعاع يخرج من العين إلى الشيء المرئي، إلى أن جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ليثبت خطأ هذه النظرية ويقول بعكسها.
فالرؤية تتم بخروج شعاع من الشيء المرئيّ إلى العين، بدليل أننا لا نرى الشيء إنْ كان في الظلام، وأنت في النور، فإنْ كان الشيء في النور وأنت في الظلام تراه.
إذن: فكأن الآيات نفسها هي المبصِرة؛ لأنها هي التي ترسل الأشعة التي تسبب الرؤية. أو: أن الآيات من الوضوح كأنها تُلِحّ على الناس أنْ يروْا وأنْ يتأملوا، فكأنها أبصرُ منهم للحقائق.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ}

.تفسير الآية رقم (14):

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}
{وَجَحَدُواْ} [النمل: 14] أي: باللسان {بِهَا} [النمل: 14] بالآيات {واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] أي: إيماناً بها، إذن: المسألة عناد ولَدَد في الخصومة؛ لذلك قال تعالى بعدها {ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] أي: استكباراً عن الحق {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 14] وترْك عاقبتهم مبهمة لتعظيم شأنها وتهويلها.
ثم يترك قصة موسى مع فرعون وما كان من أمرهما لمناسبة أخرى تحتاج إلى تثبيت آخر، وينتقل إلى قصة أخرى في موكب الأنبياء، فيها هي الأخرى مواطن للعِبْرة وللتثبيت: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}

.تفسير الآية رقم (15):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)}
وتسأل: لقد أعطى الله داود وسليمان عليهما السلام نِعَماً كثيرة غير العلم، أَلاَن لداود الحديد، وأعطى سليمان مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وسخَّر له الريح والجن، وعلَّمه منطق الطير.. إلخ ومع ذلك لم يمتنّ عليهما إلا بالعلم وهو منهج الدين؟
قالوا: لأن العلم هو النعمة الحقيقية التي يجب أن يفرح بها المؤمن، لا الملْك ولا المال، ولا الدنيا كلها، فلم يُعتد بشيء من هذا كله؛ لذلك حمد الله على أن آتاه الله العلم؛ لأنه النعمة التي يحتاج إليها كل الخَلْق، أما المُلْك أو الجاه أو تسخير الكون لخدمته، فيمكن للإنسان الاستغناء عنها.
والإمام علي كرم الله وجهه حينما نُفِى أبو ذر؛ لأنه كان يتكلم عن المال وخطره والأبنية ومسائل الدنيا، فَنَفَوْه إلى الربذة حتى لا يثير فتنة، لكنه قبل أن يذهب مرَّ بالإمام علي كي يتوسط له ليعفوا عنه، لكن الإمام علياً رضي الله عنه أراد ألاَّ يتدخل في هذه المسألة حتى لا يقال: إن علياً سلَّط أبا ذر على معارضة أهل الدنيا ومهاجمتهم، فقال له: يا أبا ذر إنك قد غضبتَ لله فارْجُ مَنْ غضبتَ له، فإن القوم خافوك على دُنْياهم ومُلكهم، وخِفْتهم أنت على دينك فاهرب بما خِفْتَهم عليه يعني: اهرب بدينك واترك ما خافوك عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عَمَّا منعوك.
هكذا أزال الإمام هذه الإشكال، وأظهر أهمية العلم ومنهج الله بحيث لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، ولا يعيش بدونه، وبه ينال حياة أخرى رفعية باقية، في حين يستطيع الإنسان أن يعيش بدون المال وبدون الملك.
ولذلك يبعث خيلفة المسلمين إلى سيدنا جعفر الصادق: يا ابن بنت محمد صلى الله عليه وسلم ما لك لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ أي: تأتينا وتجالسنا وتسمر معنا، فقال: ليس عندي من الدنيا ما أخافك عليه يعني: ليس عندي مال تصادره وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له. وهذا نفس المنطق الذي تكلم به الإمام علي.
وقوله تعالى: {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} [النمل: 15] فالحمد هنا على نعمة العلم وحِفْظ منهج الله، وفي الآية مظهر من مظاهر أدب النبوة، حيث قالا {فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} [النمل: 15] فكأن هناك مَنْ هم أفضل مِنّا، وليس التفضيل حَجْراً علينا، وهذا من تواضعهما عليهما السلام.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}

.تفسير الآية رقم (16):

{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)}
قوله سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] أي: بقيتْ فيه النبوة وحمل المنهج، لا الملك لأن الأنبياء لا تورث كما جاء في الحديث الشريف: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة).
وهذا يدل على أن سليمان جاء بعد داود، وقد ورث عنه النبوة مع أنهما متعاصران، بدليل قوله تعالى في موضع آخر: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78].
إذن: كان سليمان مع داود في هذه الحكومة وفي العلم، لكن الحق سبحانه جعل العلم منازل، بدليل أنه قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] مع أن أباه موجود، وحكم في القضية بأن يأخذ صاحبُ الزرع الغنم التي أكلت.
فلما خرجوا من عند داود سألهم سليمان عن حكم أبيه، فأخبروه بما قال، فقال سليمان: بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى يعود كما كان، وعندها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزرع زرعه.
والحق تبارك وتعالى يعطينا هذا المثل مع نبي وأبيه، لا مع نبيين مختلفين بعيدين، وفي هذا إشارة أن حقّ الأبوة على سليمان لم يمنعه من مخالفة أبيه في الحكم؛ لأن الله تعالى قال عنهما {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] فكلٌّ منهما يحكم على مقتضى علمه الذي منحه الله.
ومن هذه الحادثة أخذنا مشروعية الاستئناف والنقض وفي أحكام المحاكم، فقاضي الاستئناف حينما يُعدِّل في حكم القاضي الابتدائي لا يُعَدُّ هذا طعْناً فيه، إنما كل منهما حكم بناءً على علمه، وعلى ما توفّر له من أدلة ووقائع، وربما فطِن القاضي الثاني لما لم يفطِنْ له القاضي الأول.
إذن: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] لا تعني أنه جاء بعده، إنما هما متعاصران، وورثه في العلم والنبوة والحكمة، لا في الملْك والمال؛ لأن الله تعالى يريد أن يكون الرسول بعيداً في رسالته وتبليغه عن الله عن أيِّ نفع يجيء له، أو لذريته.
لذلك كان الفقراء من أهل النبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذون من زكاة المؤمنين، لكن أين هذا التشريع الحكيم مما يحدث الآن من الحكام والرؤساء والمسئولين ممَّنْ يوالون أقاربهم، وينهبون البلاد من أجلهم.
{وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} [النمل: 16] فالطير له منطق ولغة؛ لأنه كما قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] والآن ومع تقدُّم العلم يتحدث العلماء عن لغة للنمل، ولغة للنحل، ولغة للسمك.. إلخ.
وهذه المخلوقات تتفاهم بلغاتها بدقَّة تفاهم غريزي، لكننا لا نفهم هذا المنطق، والحق تبارك وتعالى يُعلِّمنا: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. فإنْ قلتَ كمَنْ قالوا: هو تسبيح دلالة لا منطقَ ومقال، نقول: طالما أن الله تعالى قال {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] فلابد أنه مقال وكلام، ولكن أنت لا تفهمه.
وعلماء اللغة يقولون: إن النطق خاصٌّ بالإنسان، أما ما تُحدثه الحيوانات والطيور فأصوات تُحدِثها في كل وقت، مثل مواء القطة، ونُباح الكلب، وخُوَار البقر ونقيق الضفادع، لكن هذه الأصوات لها معنى(فنونوه) القطة حين تجوع غير(نونوتها) حين تخاف.
إذن: فهي تُعبِّر، لكننا لا نعرف هذه التعبيرات، كيف ونحن البشر لا يعرف بعضنا لغات بعض؛ لأننا لم نتعلمها، وللغة ضرورة اجتماعية نتواضع عليها أي: نتفق أن هذا اللفظ يعني كذا، فإذا نطقتَ به أفهمك، وإن نطقتُ به تفهمني.
واللغة بنت الاستماع، فاللفظ الذي تسمعه تستطيع نُطْقه، والذي لم تسمعه لا تستطيع نُطْقه، حتى لو كان لفظاً عربياً من لغتك، ولا تعرف أيضاً معناه، فلو قلت لك:(إنما الحيزبون والدردبيس والطخا والنخالح والعصلبيص) فلا شكَّ أن لا تعرف لهذا معنى؛ لأننا لم نتواضع على معناه.
والطفل الذي نشأ في بيئة عربية يتكلم العربية؛ لأنه سمعها ولايتكلم الإنجليزية مثلاً: لأنه لم يسمعها، ولو وضعتَ نفس الطفل في بيئة إنجليزية لتكلم الإنجليزية؛ لأن اللغة لا ترتبط بجنس ولا دم، اللغة سماع.
ومعنى {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] أي: من النِّعَم على الإطلاق، وبعد قليل سنسمع نفس هذه العبارة يقولها الهدهد عن ملكة سبأ {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] إذن: فهي مثله فيما يناسب أمثالها من الملوك لا في النبوة وحَمْل المنهج {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} [النمل: 16] الفضل المحيط بكل الفضائل.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ}

.تفسير الآية رقم (17):

{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}
حُشِروا: جُمِعوا من كل مكان، ومنه قوله تعالى: {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36] والحشْر: جَمْع الناس للحساب يوم القيامة.
وسُمِّي الجمع حَشْراً؛ لأن تجمع الناس من أماكن متفرقة في مكان واحد، حتى يضيق بهم ويزدحم، وهذا معنى الحشْر المتعارف عليه عندنا، نقول: نحشرهم على بعض.
ومعنى {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] يعني: يُمنعون، ومنه قوله (إن الله ليزع بالسُّلْطان ما يزع بالقرآن) يعني: أن السلطان والقوة والبطش تمنع ما لا يستطيع القرآن منعه؛ ذلك لأنهم يستبعدون القيامة والعذاب، أمّا السلطان فرادع حاضر الآن.
لكن، مِمَّ يمنعون وهم في موقف الحشر أمام سليمان؟ قالوا: يُمنعون أن يَسبق بعضهم بعضاً إلى سليمان، إنما نمنعهم حتى يأتي المتأخر منهم، ويدخلون جميعاً عليه مرة واحدة، وفي ذلك إحداثُ توازنٍ بين الرعية كلها.
وقد حدَّثونا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من صفاته إذا جلس في مجلس تزوعَتْ نظراته وعينه على كل الجالسين حتى يُسوِّي بينهم، ولا ينظر لأحد أكثر من الآخر، ولا يُميز أحداً منهم على أحد، حتى لا يظن أحدهم أن النبي فضَّله على غيره.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يُقرِّب إلا أهل الفضل والتقوى الذي يُعرف منهم أنهم لا يستغلون هذه المكانة لنيل سلطة بين الناس؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يُوطِّن وينهي عن ذلك على خلاف ما نراه الآن من بعض المصلِّين الذين يضعون سجادة مثلاً في الصف الأول يشغلون بها المكان، ثم يذهب ويقضي حاجاته، ويعود وقد امتلأ المسجد فيتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكان في المقدمة، وهي ليس مكانه عند الله.
فالله تعالى قد وزَّع الأماكن على حَسْب الورود، فإتيانك إلى بيت الله أولاً يعطيك ثواب الصف الأول، وإنْ صليت في الصفِّ الأخير، وعدم توطين الأماكن ينشر الأُلْفة بين الناس، ويزيل الفوارق ويساعد على التعارف، فكل صلاة أنت بجانب شخص جديد تتعرف عليه وتعرف أحواله.

وهذا معنى {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] يمنع السابق أنْ يسبق حتى يأتي اللاحق، ليكونوا سواسية في الدخول على نبي الله سليمان عليه السلام.
لكن في ضوء هذا المعنى لمادة(وزع) كيف نفهم قوله تعالى: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19].
أوزعني هنا يعني: أقْدِرني وامنعني من الغفلة عن نعمتك، لأضلَّ شاكراً لك.

.تفسير الآية رقم (18):

{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)}
الضمير في {أَتَوْا} [النمل: 18] يعود على جنود سليمان من الإِنس والجن والطير، أي جاءوا جميعاً صَفَّاً واحداً ومرُّوا {على وَادِ النمل} [النمل: 18] يعني: قرية النمل، وقوله {على وَادِ النمل} [النمل: 18] يدلُّ على أنهم جاءوا من أعلى الجبل، أو أنهم قطعوا الوادي كله، كما نقول: فلان أتى على الطعام كله.
عندها {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] لماذا هذا التحذير؟ {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] ثم احتاطتْ النملة للأمر، فقالت {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فما كان سليمان وجنوده ليُحطِّموا بيوت النمل عن قَصْد منهم.
والمعنى: حالة كونهم لا يشعرون بكم، وهذا من عدالة حكمها ومعرفتها بسليمان، وأنه ليس جباراً ولا عاتياً. إذن: فالنملة رأتْ عن بُعْد، ونطقتْ عن حق، وحكمتْ بعدل، لهذا كله تبسَّم سليمان ضاحكاً.
وواضح في هذا القول ما تتميز به مملكة النمل من نظام يعرف فيه كُلٌّ مهمته، ويؤديها على أكمل وجه، فهذه النملة لابد أنها كانت تقوم بمهمة الحراسة وتقف في الدَّرَك، ترقب الجو من حولها، وكأنها جندي الدورية اليقظ.
وسبق أن قُلْنا: لو أنك جلستَ في مكان، وتركتَ فيه بعض فضلات الطعام مثلاً أو الحلوى لرأيتَ بعض النمل يدور حولها دون أنْ يقربها، ثم انصرفوا عنها، وبعد مدة ترى جماعة منهم جاءت وحملت هذه القطعة، وكأن الجماعة الأولى أفراد الاستطلاع الذين يكتشفون أماكن الطعام، ويُقدِّرون كم نملة تستطيع حمل هذا الشيء.
بدليل أنك لو ضاعفتَ القطعة الملقاة لرأيتَ عدد النمل الذي جاء لحملها قد تضاعفت هو أيضاً. ولو قتلتَ النمل الأول الذي جاء للاستطلاع تلاحظ أن النمل امتنع عن هذا المكان، لماذا؟ لأن النملة التي نجتْ من القتل ذهبت إلى مملكتها، وحذَّرتهم من هذا المكان.
وفي مملكة النمل عجائب وآيات، سبحان خالقها، وسبحان مَنْ هداها إلى هذه الهندسة المحكومة بالغريزة.
ومن عجائب النمل أنك ترى في عُشِّ النمل الحبوب مفلوقة إلى نصفين حتى لا تنبت، وتهدم عليهم عُشَّهم، لكن حبَّة الكُسْبرة مثلاً تنبت حتى لو انفلقتْ نصفين، حيث ينبت كل نصف على حِدَة، لذلك لا حظوا أن النمل يفلق هذه الحبة بالذات إلى أربعة أقسام.
كما لاحظ المهتمون بدراسة النمل وجود حبات بيضاء صغيرة مثل رأس الدبوس أمام أعشاش النمل، وبفحصها تبيَّن أنها زريعة النبات التي تحمل خلايا الإنبات أخرجوها كي لا تنبت.
وصدق الله العظيم: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38].
وقد سمَّى الله تعالى ما قالت النملة قولاً {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النملة: 18] ولابد أن هذا التحذير {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النملة: 18] جاء قبل أنْ يأتي سليمان وجنوده، وهم على مشارف الوادي.
وكلمة {مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] تدل على أن لهم بُيوتاً ومساكنَ، ومجالَ معيشة، وكسْبَ أرزاق، كما نقول(بيلقّطوا رزقهم) من هنا ومن هناك؛ لذلك تجده يتتبع مواضع الطعام والفضلات، ويدخل إليها من أضيق الأماكن، لكن نرى مثلاً محلات الحلوى مليئة بالسكر الذي يعشقه النمل، ومع ذلك لا نجد في هذه المحلات نملة واحدة، لماذا؟ لما تتبَّعوا هذه الظاهرة بالدراسة وجدوا أن النمل لا يدخل المكان إذا كان به سِمْسم، وهذه من عجائب النمل أيضاً.
وقوله تعالى: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] الحَطْم هو التكسير، ومنه قوله سبحانه عن النار: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة} [الهمزة: 5] لأنها تحطم ما يُلْقى فيها.