فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (15):

{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)}
أي: مع ما سبق وَطِّنْ نفسك على أن الساعة آتية لا محالةَ، والساعة هنا هي عمر الكون كله، أمّا أعمار المكين في الكون فمتفاوته، كل حسب أجله، فمَنْ مات فقد قامت قيامته وانتهت المسألة بالنسبة له.
إذن: نقول: الساعة نوعان: ساعة لكُلٍّ منا، وهي عمره وأجَله الذي لا يعلم متى سيكون، وساعة للكون كله، وهي القيامة الكبرى.
فقوله تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَة} [طه: 15] أي: اجعل ذلك في بالك دائماً، ومادام الموت سينقلك إليها سريعاً فإياك أنْ تقول: سأموت قريباً، أما القيامة فبعد آلاف أو ملايين السنين؛ لأن الزمن مُلغىً بعد الموت، كيف؟
الزمن لا يضبطه إلا الحدث، فإن انعدم الحدث فقد انعدم الزمن، كما يحدث لنا في النوم، وهل تستطيع أنْ تُحدِّد الوقت الذي نمْتَه؟ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].
والعبد الذي أماته الله مائة عام لما بعثه قال: يوماً أو بعض يوم، وكذلك قال أهل الكهف بعد ثلاثمائة سنة وتسع، لأن يوماً أو بعض يوم هي أقْصى ما يمكن تصوُّره للنائم حين ينام؛ لذلك نقول: (مَنْ مات فقد قامت قيامته).
ومن حكمته سبحانه أن أخفى الساعة، أخفاها للفرد، وأخفاها للجميع؛ وربما لو عرف الإنسان ساعته لقال: أفعل ما أريد ثم أتوب قبل الموت؛ لذلك أخفاها الحق تبارك وتعالى لنكون على حذر أنْ نلقى الله على حال معصية.
وكذلك أخفى الساعة الكبرى، حتى لا تأخذ ما ليس لك من خَلْق الله، وتنتفع به ظُلْماً وعدواناً، وتعلم أنك إنْ سرقتَ سترجع إلى الله فيحاسبك، فما دُمْتَ سترجع إلى الله فاستقِمْ وعَدِّل من سلوكك، كما يقول أهل الريف(ارع مساوي).
وقوله تعالى: {آتِيَةٌ} [طه: 15] أي: ليس مَأْتِياً بها، فهي الآتية، مع أن الحق تبارك وتعالى هو الذي سيأتي بها، لكن المعنى(آتية) كأنها منضبطة(أوتوماتيكيا)، فإنْ جاء وقتها حدثتْ.
وقوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] كاد: أي: قَرُب مثل: كاد زيد أن يجيء أي: قَرُب لكنه لم يأْتِ بعد، فالمراد: أقرب أن أخفيها، فلا يعلم أحد موعدها، فإذا ما وقعتْ فقد عرفناها. كما قال تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187].
وقد تكون {أُخْفِيهَا} [طه: 15] بمعنى آخر، فبعض الأفعال الثلاثية تُعطى عكس معناها عند تضعيف الحرف الثاني منها، كما في: مرض أي: أصابه المرض. ومرَّضه الطبيب. أي: عالجه وأزال مرضه. وقَشَرتُ الشيء أي: جعلْتُ له قشرة، وقشَّرتُ البرتقالة أزلْتُ قِشْرها.
ومن ذلك قوله تعالى: {تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً} [يوسف: 85] والحَرض: هو الهلاك. من: حَرِض مثل: تَعب.
وقوله تعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65].
ومعنى(حَرِّض) حثَّهم على القتال، الذي يُزيل عنهم الهلاك أمام الكفار؛ لأنهم إنْ لم يجاهدوا هلكوا، فَحرِض: هلك، وحرَّض: أزال الهلاك.
وقد يأتي مضاد الفعل بزيادة الهمزة على الفعل مثل: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] فالقاسط من قسط. أي: الجائر بالكفر.
أما في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] فالمقسط من أقسط: العادل الذي يُزيل الجوْرَ. وإنْ كانت المادة واحدة هي(قَسَط) فالمصدر مختلف نقول: قسط قِسْطاً أي: عدل، وقسط قَسْطاً وقسوطاً يعني: جار. فهذه الهمزة في أقسط تسمى (همزة الإزالة).
ومن الفعل الثلاثي قَسَطَ يستعمل منها: القسط والميزان والفرق بين قَسَط وأقسط: قسط أي: عدل من أول الأمر وبادئ ذي بَدْء، إنما أقسط: إذا وجد ظُلْماً فرفعه وأزاله، فزاد على العدل أنْ أزال جَوْراً.
وأيضاً الفعل(عجم) عجم الأمر: أخفاه، وأعجمه: أزال خفاءه. ومن ذلك كلمة المعجم الذي يزيل خفاء الكلمات ويُوضِّحها.
وكذلك في قوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] خفى بمعنى: استتر وأخفاها: أزال خفاءها، ولا يُزَال خفاء الشيء إلا بإعلانه.
ثم يقول تعالى: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15].
وإلا لو لم يكُنْ في الآخرة حساب وجزاء لَكَان الذين أسرفوا على أنفسهم وعربدوا في الوجود أكثر حظاً من المؤمنين المتلزمين بمنهج الله؛ لذلك في نقاشنا مع الشيوعيين قُلْنا لهم: لقد قتلتم مَنْ أدركتموه من أعدائكم من الرأسماليين، فما بال مَنْ مات ولم تدركوه؟ وكيف يفلت منكم هؤلاء؟
لقد كان أَوْلَى بكم أن تؤمنوا بمكان آخر لا يفلت منه هؤلاء، وينالون فيه جزاءهم، إنها الآخرة التي تُجزَى فيها كُلُّ نفس بما تسعى.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ}

.تفسير الآية رقم (16):

{فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)}
كأن الحق تبارك وتعالى يعطي لموسى عليه السلام مناعة لما سيقوله الكافرون الذين يُشكِّكون في الآخرة ويخافون منها، وغرضهم أنْ يكون هذا كذباً فليست الآخرة في صالحهم، ومن حظهم إنكارها.
فإياك أنْ تصغي إليهم حين يصدونك عنها، يقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 16- 17].
ولماذا يستبعدها هؤلاء؟ أليس الذي خلقهم مِنْ لا شيء بقادر على أنْ يعيدهم بعد أن صاروا عِظاماً؟
والحق سبحانه يقول: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
وهذا قياس على قَدْر أفهامكم وما تعارفتم عليه من هَيِّن وأهْوَن، أما بالنسبة للحق تبارك وتعالى فليس هناك هيِّن وأهون منه؛ لأن أمره بين الكاف والنون؟
لكن لماذا يصدُّ الكفار عن الآخرة، والإيمان بها؟ لأنهم يعلمون أنهم سَيُجازون بما عملوا، وهذه مسألة صعبة عليهم، ومن مصلحتهم أن تكون الآخرة كذباً.
وصدق أبو العلاء المعري حين قال:
زَعَمَ المنجَّمُ والطبيبُ كِلاَهُمَا ** لاَ تُحْشَرُ الأجْسَادُ قُلْتُ إليْكُمَا

إنْ صَحَّ قَولكُمَا فلسْتُ بخَاسِرٍ ** أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالخسَارُ عليكُمَا

أي أن المؤمن بالبعث إن لم يكسب فلن يخسر، أما أنتم أيها المنكرون فخاسرون.
وقوله تعالى: {فتردى} [طه: 16] أي: تهلك من الردَى، وهو الهلاك.
وهكذا جاء الكلام من الله تعالى لموسى عليه السلام أولاً: البداية إيماناً بالله وحده لا شريك له، وهذه القمة الأولى، ثم جاء بالقمة الأخيرة، وهي البعث فالأمر إذن منه بداية، وإليه نهاية: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ} [طه: 14] إلى أنْ قال: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15].
وبعد ذلك شرح لنا الحق سبحانه بَدْء إيحائه لرسوله موسى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى}

.تفسير الآية رقم (17):

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)}
ما: استفهامية. والتاء بعدها إشارة لشيء مؤنَّت، هو الذي يمسكه موسى في يده، والكاف للخطاب، كأنه قال له: ما هذا الشيء الذي معك؟ والجواب عن هذا السؤال يتم بكلمة واحدة: عَصَا.
أمّا موسى عليه السلام فهو يعرف أن الله تعالى هو الذي يسأل، ولا يَخْفَى عليه ما في يده، ولكنه كلام الإيناس؛ لأن الموقف صعب عليه، ويريد ربه أنْ يُطمئنَه ويُؤنِسَه.
وإذا كان الإيناس من الله، فعلى العبد أنْ يستغلّ هذه الفرصة ويُطيل أمدَ الائتناس بالله عز وجل، ولا يقطع مجال الكلام هكذا بكلمة واحدة؛ لذلك رد موسى عليه السلام: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}

.تفسير الآية رقم (18):

{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)}
قال موسى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه: 18]، ثم يفتح لنفسه مجالاً آخر للكلام: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] وهنا يرى موسى أنه تمادى وزاد، فيحاول الاختصار: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18].
وكان موسى ينتظر سؤالاً يقول: وما هذه المآرب؟ ليُطيل أُنْسه بربه، وإذا كان الخطاب مع الله فلا يُنهِيه إلا زاهد في الله.
وللعصا تاريخ طويل مع الإنسان، فهي لازمة من لوازم التأديب والرياضة، ولازمة من لوازم الأسفار، ولها أهميتها في الرعي.. الخ وهنا يذكر موسى عليه السلام بعض هذه الفوائد يقول: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] أي: أعتمد عليها، وأستند عندما أمشي، والإنسان يحتاج إلى الأعتماد على عصا عند السير وعند التعب؛ لأنه يحتاج إلى طاقتين: طاقة للحركة والمشي، وطاقة لحمل الجسم والعصا تساعده في حَمْل ثقل جسمه، خاصة إنْ كان مُتْعباً لا تقوَى قدماه على حَمْله.
فقوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] أي: أعتمد عليها حين المشي وحين أقف لرعي الغنم فأستند عليها، والاتكاء يراوح الإنسان بين قدميْه فيُريح القدم التي تعبتْ، وينتقل من جنب إلى جنب.
والإنسان إذا ما استقرّ جسمه على شيء لمدة طويلة تنسدّ مسامّ الجسم في هذا المكان، ولا تسمح بإفراز العرق، فيُسبِّب ذلك ضرراً بالغاً نراه في المرضى الذين يلازمون الفراش لمدة طويلة، ويظهر هذا الضرر في صورة قرحة يسمونها (قرحة الفراش)؛ لذلك ينصح الأطباء هؤلاء المرضى بأن يُغيِّروا من وضْعِهم، فلا ينامون على جنب واحد.
لذلك شاءت قدرة الله عز وجل أنْ يُقلِّب أهل الكهف في نومهم من جَنْب إلى جَنْب، كما قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} [الكهف: 18].
لذلك إذا وقف الإنسان طويلاً، أو جلس طويلاً ولم يجد له متكأ تراه قَلِقاً غير مستقر، ومن هنا كان المتَّكأ من مظاهر النعمة والترف في الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى في شأن امرأة العزيز: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} [يوسف: 31].
وقال عن نعيم الآخرة: {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [الطور: 20].
وقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54].
وقال الحق تبارك وتعالى: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76].
فالاتكاء وسيلة من وسائل الراحة، وعلى الإنسان أنْ يُغيٍِّر مُتكاهُ من جنب إلى جنب حتى لا يتعرّض لما يسمى ب (قرحة الفراش).
ومن فوائد العصا: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] أي: أضرب بها أوراق الشجر فتتساقط فتأكلها الغنم والماشية؛ لأن الراعي يمشي بها في الصحراء، فتأكل من العِذْي، وهو النبات الطبيعي الذي لم يزرعه أحد، ولا يسقيه إلا المطر، فإن انتهى هذا العُشْب اتجه الراعي إلى الشجر العالي فيُسقِِط ورقه لتأكله الغنم، فيحتاج إلى العصا ليؤدي بها هذه المهمة.
إذن: قوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] لراحته هو، و{وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] لخدمة الرعية، وفيها سياسة إدارة الرزق كلها للماشية وللناس، ورَعْي الغنم وسياستها تدريب على سياسة الأمة بأسْرها؛ لذلك ما بعث الله من نبي إلا ورَعَى الغنم ليتعلم من سياسة الماشية سياسة الإنسان.
وفي الحديث الشريف: (ما بعث الله من نبي إلا ورعى الغنم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
ولما أحسَّ موسى عليه السلام أنه أطال في خطاب ربه عز وجل أجمل فقال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] أي: منافع.
وقد حاول العلماء جزاهم الله عَنَّا خيراً البحث في هذه المآرب الأخرى التي لم يذكرها موسى عليه السلام، فتأملوا حال الرعاة، وما وظيفة العصا في حياتهم فوجدوا لها منافع أخرى غير ما ذكر.
من هذه المنافع أن الراعي البدائي يضع عصاه على كتفه ويُعلِّق عليها زاده من الطعام والشراب، وبعض الرعاة يستغل وقته أيضاً في الصيد، فيحتاج إلى أدوات مثل: القوس، والنبل، والسهام والمخلاة التي يجمع فيها صَيْده، فتراه يضع عصاه على كتفه هكذا بالعرض، ويُعلِّق عليها هذه الأدوات من الجانبين.
فإذا ما اشتدت حرارة الشمس ولم يجد ظلالاً غرز عصاه في الأرض، وألقى بثوبه عليها فجعل منها مثل الخيمة أو المظلة تقيه حرارة الجو. فإن احتاج للماء ذهب للبئر، وربما وجده غائر الماء لا يبلغه الدلو فيحتاج للعصا يربطها ويُطيل بها الحبل، إلى غير ذلك من المنافع.
وبعض العلماء يقولون: لقد كان موسى عليه السلام ينتظر أن يسأله ربه عن هذه المآرب ليطيل الحديث معه، لكن الحق سبحانه لم يسأله عن ذلك؛ لأنه سينقله إلى شيء أهم من مسألة العصا، فما ذكْرتَه يا موسى مهمة العصا معك، أمّا أنا فأريد أنْ أخبرك بمهمتها معي.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى}