فصل: تفسير الآية رقم (23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}
تورط في حادثه الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طُبِع على الخير، لكنه فُتِن بما قيل وانساقَ خلف مَنْ روَّجوا لهذه الإشاعة، وكان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر ينفق عليه ويرعاه لفقره، فلما قال في عائشة ما قال وخاض في حقها اقسم أبو بكر ألاّ ينفق عليه، وقد كان يعيش وأهله في سَعَة أبي بكر وفضله؛ لأن هذه الفتنة جعلتْ بعض أهل الخير يضِنُّ به.
وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يُقدِّر صنائع المعروف، وهذا الفعل يُزهِّد الناس في الخير، ويصرفهم عن عمل المعروف، والله تعالى يريد أنْ يُصحِّح لنا هذه المسألة، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعةَ الإيمان؛ لأن الذي يعصي الله فيك لا تكافئه إلا بأنْ تطيع الله فيه.
وحين تترك مَنْ أساء إليك لعقاب الله وتعفُو عنه أنت، فإنما تركتَه للعقاب الأقوى؛ لأنك إنْ عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك، وإنْ تركتَ عقابه لله عاقبه بقدْر طاقته تعالى وقدرته.
إذن: العافي أقسى قَلْباً من المنتقم، وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأخ حين يعتدي على أخيه الأصغر، فيأتي الأب فيجد صغيره مهاناً مظلوماً، فيأخذه في حضنه، ويحاول إرضاءه وتعويضه عَمَّا لَحِقه من ظلم أخيه، كذلك الحال في هذه المسألة ولله المثل الأعلى.
ومن هنا يجب عليك أن تُسَرَّ بمَنْ جعل الله في جانبك، وتُحسن إليه، لا أن تردّ له الإساءة بمثلها.
إذن: نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر أَلاَّ ينفق عليه وعلى أهله، وأنْ يمنع عنه عطاءه وبِرّه، نزلت لتصحح للصِّديق هذه النظرة وتُوجِّه انتباهه إلى جانب الخير الباقي عند الله لا عند الناس.
فقال تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة..} [النور: 22].
{يَأْتَلِ..} [النور: 22] ائتلى مثل اعتلى تماماً، ومنها تألّى يعني: حلف وأقسم، يوجه الحق تبارك وتعالى الصِّديق أبا بكر، ويذكر لفظ {أُوْلُواْ..} [النور: 22] الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل ومنزلة في الإسلام، ففي كل ناحية له فضل؛ لذلك أعطاه وصفيْن مثل ما أعطى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للصِّديق: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا..} [النور: 22] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فاعف عَنْهُمْ واصفح..} [المائدة: 13].
كذلك، أَلاَ ترى الصِّدِّيق ثانَي اثنينِ في الغار، وثاني اثنين في أمور كثيرة، فهو ثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى؛ لذلك صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عن الصِّديق: (كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان). يعني: في التسابق في الخير (فسبقته إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني إليها لاتبعته).
ولما كان لأبي بكر أفضال كثيرة في زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد، إنما بصيغة الجمع تكريماً وتعظيماً.
أَلاَ ترى الصِّديق مع ما عُرِف عنه من الحلم ورقة القلب لما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وحدثتْ مسألة الردّة يقف ويقول: (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونها لرسول الله لجالدتهم بالسيف، لو لم أجد إلا الذر).
هذا موقف الصِّديق رقيق القلب، ليِّن الجانب، صاحب الرحمة والحنان، الذي تقول عنه ابنته (إنه رجل بكّاء) يعني: كثير البكاء. في حين يعارضه في أمر الحرب عمر مع عُرِف عنه من الشدة والقسوة على الكفار. لكن هذا التناقض في موقف كل منها يقوم دليلاً على أن الإسلام ليس طَبْعاً غالباً على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه، فموقف الردة هو الذي جعل من الصِّدِّيق أسداً شجاعاً قاسيَ القلب، ولو أن عمر في مكانه من المسئولية وفعل كما فعل الصِّدِّيق لقالوا: شِدّة أَلِفها الناس من عمر.
فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبْع خاص يظل عليه، إنما الموقف هو الذي يطبعك إيمانياً، وهذا ما ذكرناه في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ..} [الفتح: 29].
فالمسلم ليس مفطوراً لا على الشدة وحدها، ولا على الرحمة وحدها، إنما عليه أنْ يتصرَّف في كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله.
فقوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة..} [النور: 22] يقول للصِّديق: أنت رجل فاضل صِدِّيق، وعندك سعة فلا تعطي ولا تُؤثر على نفسك من ضيق، ولا يليق بالفاضل أن يقطع صلته ورحمه لمثل هذا الخطأ الذي وقع فيه مِسْطح، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله، وعُوقِبَ بحدِّ القذف ثمانين جَلْدة، وليس لك أن تعاقبه بعد ذلك.
ومن سماحة الإسلام أن مَنْ وقع في حَدٍّ وعُوقِب به لا يجوز لأحد أنْ يُعيِّره بذنبه؛ لأنه تاب وأناب وطهّره الله منه بالحدِّ، وانتهت المسألة، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه.
فكأن الحق تبارك وتعالى يقول: ارجع إلى فضلك يا أبا بكر، وعُدْ أنت إلى سعتك، وكُنْ موصولَ المروءة، ولا تقطع رحمك، يريد سبحانه وتعالى أنْ يُصفِّي ما في النفوس من آثار هذه الفتنة التي زلزلتْ المجتمع المؤمن في المدينة.
ولا يليق بذي الفضل والسَّعَة أنْ يعامل الناس بالعدل، فصحيح أن مِسْطح كان يستحق هذه القطيعة وهذا الحرمان، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصِّدِّيق صاحب الفضل والسَّعَة.
ولو أجريتَ إحصاءً للمؤمنين بإله وللكافرين في الكون، ستعلم أن المؤمنين قِلَّة والكافرين كثرة، فهل قال الله تعالى لجنود خيره في الكون: أعطوا مَنْ آمن، واتركوا مَنْ كفر؟ وكأن الحق تبارك وتعالى يعطينا مَثَلاً في ذاته عز وجل، فكما أنه يعطي مَنْ كفر به ويرزقه، بل ربما كان أحسن حالاً مِمَّنْ آمن، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عَمَّنْ أساء إليك.
لذلك يقول سبحانه في آية أخرى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224].
فإنْ كنت بارّاً بأحد وبدر منه شيء فلا تحلف بالله أنك لا تبرُّه، فقد تهدأ ثورتك عليه، وتريد أنْ تبرَّه، وتتحجج بحلفك، إذن: لا تجعلوا الله عُرْضة لحلف يمنعكم من المعروف.
ثم يقول سبحانه: {أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله..} [النور: 22] صحيح أن مِسْطح من ذوي قُرْبى أبي بكر ومن المساكين، لكن يعطيه الله نيشاناً آخر، فلم يخرجه مَا قال من وصف المهاجر، ولم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم.
فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تُحبط الحسنة، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها، كما قال عز وجل: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات..} [هود: 114].
فرغم ما وقع فيه مِسْطح، فقد أبقاه الله في العَتْب على أبي بكر، وتحنين قلبه، وأبقاه في المهاجرين.
{وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا..} [النور: 22] العفو: ترك العقوبة على الذنب، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تُؤنبه، وتمنّ عليه بعفوْك، وتُذكِّره دائماً أنه لا يستحق منك هذا العفو؛ لذلك يحثنا ربنا تبارك وتعالى على الصفح بعد العفو، والصفح: تَرْك المنِّ وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهونَ من عفوك عنه.
ذلك لأن الحق سبحانه حينما يُشرِّع للبشر ما يُنظِّم العلاقات بينهم يراعي جميع مَلكات النفس، لا يقتصر على الملَكات العالية فحسب، إنما لكل الملَكات التي تنتظم الخَلْق جميعاً، وليأخذ كل مِنَّا على قَدْر إيمانه وامتثاله لأمر ربه.
وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
لو تأملنا حقيقة المثْلية في رَدِّ الإساءة لوجدناها صعبة في تقديرها، فإنْ ضربَك شخصٌ ضربة، أعندك القدرة التي تردُّ بها هذه الضربة بمثلها تماماً بنفس الطريقة، وبنفس القوة، ونبفس الألم، بحيث لا تكون أنت مُعْتدياً؟ إنك لو تأملتَ هذه المثلية لفضَّلْتَ العفو بدل الدخول في متاهات أخرى.
وسبق أن ذكرنا قصة المرابي الذي اشترط على المدين إنْ تأخر في السداد أن يقطع رطلاً من لحمه، ولما تأخر الرجل في السداد خاصمه عند القاضي، وأخبره بما كان بينهما من شرط، وكان القاضي ذكياً فقال للمرابي: خُذ السكين واقطع رطلاً من لحمه، لكن إنْ زاد أخذناه منك، وإنْ نقص أخذناه منك، فتراجع المرابي لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة.
فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وَسِعَنا العفو، وانتهت المسألة على خير ما يكون.
وفي مرتبة أخرى يقول سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
فالحق تبارك وتعالى يجعل لنا مراتب في رَدِّ السيئة، فالعقاب بالمثل مرتبة، وكَظْم الغيظ مرتبه، والعفو مرتبة، والصفح مرتبة، وأعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى مَنْ أساء إليك {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أُسْوة لعباده فيقول: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ..} [النور: 22] فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك، فلماذا لا تغفر أنت لمَنْ أساء إليك؟ وكأن ربنا- عز وجل- يريد أن يُصلح ما بيننا؛ لذلك لما نزلتْ هذه الآية في شأن أبي بكر قال: أحب يا رب، أحب يا رب، أحب يا رب.
ومعنى {أَلاَ..} [النور: 22] أداة للحضِّ وللحثِّ على هذا الخُلُق الطيب {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] فمن تخلَّق بأخلاق الله تعالى فليكُنْ له غفران، وليكن لديه رحمة، ومَنْ مِنّا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله، فيتصف بأنه غفور ورحيم؟
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات..}.

.تفسير الآية رقم (23):

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)}
نلحظ أن الآيات تحدثتْ عن حَدِّ القذف وما كان من حادثة الإفك، ثم ذكرت آية العتاب لأبي بكر في مسألة الرزق، ثم عاد السياق إلى القضية الأساسية: قضية القذف، فلماذا دخلتْ مسألة الرزق في هذا الموضوع؟
قالوا: لأن كل معركة فيها خصومة قد يكون آثار تتعلق بالرزق، والرزق تكفَّل الله به لعباده؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، سواء المؤمن أو الكافر، وحين تعطي المحتاج فإنما أنت مناول عن الله، ويد الله الممدودة بأسباب الله.
والحق تبارك وتعالى يحترم ملكية الإنسان مع أنه سبحانه رازقه ومعطيه، لكن طالما أعطاه صار العطاء مِلْكاً له، فإنْ حَثَّه على النفقة بعد ذلك يأخذها منه قَرْضاً؛ لذلك يقول سبحانه: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً..} [البقرة: 245].
فإنْ أنفق الموسر على المعسر جعله الله قَرْضاً، وتولّى سداده بنفسه؛ ذلك لأن الله تعالى لا يرجع في هِبَته، فطالما أعطاك الرزق، فلا يأخذه منك إلا قَرْضاً.
لذلك يقول تعالى: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ..} [محمد: 38].
وفي موضع آخر يقول عن الأموال: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 38] لأن الإنسان تعب في جمع المال وعَرق في سبيله، وأصبح عزيزاً عليه؛ لذلك يبخل به، فأخذه الله منه قَرْضاً مردوداً بزيادة، وكان الرزق والمال بهذه الأهمية لأنه أول مَنَاط لعمارة الخليفة في الأرض؛ لذلك ترك الحديث عن القضية الأساسية هنا، وذكر هذه الآية التي تتعلَّق بالرزق.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى..} [البقرة: 238] وقد ذُكِرَتْ وسط مسائل تتعلق بالعِدَّة والكفارة، وعِدَّة المتوفَّي عنها زوجها، فما علاقة الصلاة بهذه المسائل؟
قالوا: لأن النزاعات التي تحدث غالباً ما تُغيِّر النفس البشرية وتثير حفيظتها، فإذا ما قمتَ للوضوء والصلاة تهدأ نفسك وتطمئن. وتستقبل مسائل الخلاف هذه بشيء من القبول والرضا.
نعود إلى قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات..} [النور: 23] المحصنة: لها إطلاقات ثلاث، فهي المتزوجة لأن الإحصان: الحِفْظ وكأنها حفظتْ نفسها بالزواج، أو هي العفيفة، وإنْ لم تتزوج فهي مُحْصَنة في ذاتها، والمحصنة هي أيضاً الحرة؛ لأن عملية البِغَاء والزنا كانت خاصة بالإماء.
و{الغافلات..} [النور: 23] جمع غافلة، وهي التي لا تدري بمثل هذه المسائل، وليس في بالها شيء عن هذه العملية، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل بريرة خادمة السيدة عائشة: ما تقولين في عائشة يا بريرة؟ فقالت: تعجن العجين ثم تنام بجانبه فتأتي الدواجن فتأكله وهي لا تدري) وهذا كناية عن الغفلة لأنها ما زالت صغيرة لم تنضج نُضْج المراهقة ومع نُضْج المراهقة نُضْج اليقين والإيمان.
وتلحظ هذه الغفلة في البنت الصغيرة حين تقول لها: أتتزوجين فلاناً؟ تقول: لا أنا أتزوج فلاناً، ذلك لأنها لا تدري معنى العلاقة الزوجية، إنما حينما تكبر وتفهم مثل هذه الأمور فإنْ ذكرتَ لها الزواج تستحي وتخزى أن تتحدث فيه؛ لأنها عرفتْ ما معنى الزواج.
لذلك لما أمرنا الشرع باستئذان البنت للزواج جعل إذنها سكوتها، فإن سكتتْ فهذا إذْن منها، ودليل على فهمها لهذه العلاقة، إنما إنْ قالت: نعم أتزوجه لأنه جميل و.. و..، فهذا يعني أنها لم تفهم بعد معنى الزواج.
إذن: الغافلة حتى عن مسائل الزواج والعلاقات الزوجية، ولا تدري شيئاً عن مثل هذه الأمور كيف تفكر في الزنا؟
ثم يذكر ربنا تبارك وتعالى جزاء هذه الجريمة: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].
وإن كانت الغافلة هي التي ليس في بالها مثل هذه الأمور، ولا تدري شيئاً حتى عن الزواج والعلاقات الزوجية بين الرجل والمرأة، فيكيف نقول: إنها تفكر في هذه الجريمة؟
واللعْن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وأيضاً الطرد والإبعاد عن حظيرة المؤمنين؛ لأن القاذف حكمه أنْ يُقام عليه الحدُّ، ثم تسقط شهادته، ويسقط اعتباره في المجتمع الذي يعيش فيه، فجمع الله عليه الخزي في الدنيا بالحدِّ وإسقاط الاعتبار، إلى جانب عذاب الآخرة، فاللعن في الدنيا لا يعقبه من عذاب الآخرة.
وقلنا: إن العذاب: إيلام حَيٍّ، وقد يُوصَف العذاب مرة بأليم، ومرة بمهين، ومرة بعظيم، هذه الأوصاف تدور بين العذاب والمعذّب، فمن الناس مَنْ لا يؤلمه الجَلْد، لكن يهينه، فهو في حقه عذاب مهين لكرامته، أما العذاب العظيم فهو ما فوق ما يتصوَّره المتصوِّر؛ لأن العذاب إيلام من مُعذِّب لمعذِّب، والمعذَّب في الدنيا يُعذَّب بأيدي البشر وعلى قَدْر طاقته، أمّا العذاب في الآخرة فهو بجبروت الله وقَهْر الله؛ لذلك يُوصَف بأنه عظيم.
ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ..}.