فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (19):

{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)}
ارْم بها على الأرض، وهو هنا إلقاء الدُّرْبة والتمرين على لقاء فرعون، وهنا خرجت العصا عن ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلام، لم تعد للتوكؤ والهش على الغنم، ولكنها تنتقل من جنس الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حية، قال الحق سبحانه: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ}

.تفسير الآية رقم (20):

{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)}
وهذه نَقْلة كبيرة في مسألة العصا، فقد كان في الإمكان لإثبات المعجزة أنْ تتحوَّل العصا، وهي عود جاف من الخشب إلى شجرة خضراء، لكن الحق تبارك وتعالى يُجرِي لموسى هذه المعجزة؛ لأنه سيحتاج إليها فيما بعد، ولو تحولتْ العصا إلى شجرة خضراء فسوف تستقر في مكانها، أما حين تتحول إلى حيّة فهي حيوان مُتحَرِّك، تجري هنا وهناك، وهذا ما سيحتاجه موسى في معركته القادمة.
ألقى موسى عصاه {فَإِذَا هِيَ} [طه: 20] إذا هنا فجائية كما تقول: خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب. وحينما ألقى موسى العصا سرعان ما تحولت وهي جافة يابسة إلى حيّة، وحيّة تسعى ليستْ جامدة ميتة، أليست هذه مفاجأة؟
وطبيعي أن يخاف موسى عليه السلام مما رآه، فطمأنه ربه فقال: {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ}

.تفسير الآية رقم (21):

{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)}
أي: امسكها بيدك، وسوف نعيدها في الحال {سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] أي: كما كانت عصا يابسة جافة في يدك، وقال: {لاَ تَخَفْ} [طه: 21] لما ظهر عليه من أمارات الخوف. وقد أخبر عن خوفه في آية أخرى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67].
وكانت هذه المسألة تدريباً لموسى عليه السلام وتجربةً، فللعصا مهمة في رسالته، وسوف تكون هي معجزته في صراعه مع فرعون حين يضرب بها البحر وفي دعوته لبني إسرائيل حين يضرب بها الحجر فيتفجّر منه الماء.
وقد عالج القرآن هذه القصة في لقطات مختلفة، فمرة يقول عن العصا كأنها ثعبان. ومرة يقول: حيّة. وأخرى يقول: جان؛ لذلك اعترض البعض على هذه الاختلافات، فأيها كانت العصا؟
الحقيقة أنها صور مختلفة للعصا حينما انقلبتْ، فمن ناحية قتْلتها المميتة هي حية، ومن ناحية ضخامتها ثعبان، ومن ناحية خِفَّة حركتها جان، وكل هذه الخصائص كانت في العصا، وحين تجمع كل هذه اللقطات تعطيك الصورة الكاملة للعصا بعد أنْ صارت حية. فآيات القرآن إذن تتكامل لترسم الصورة المرادة للحق تبارك وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ}

.تفسير الآية رقم (22):

{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)}
اليد معروفة، والجناح للطائر، ويقابله في الإنسان الذراع بداية من العَضُد، والحق سبحانه حينما أوصانا بالوالدين قال: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 24] يعني: تواضع لهما، ولا تتعالَ عليهما.
وفي موضع آخر قال تعالى: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [القصص: 32].
والجَيْب: طَوْق القميص، سُمِّي جَيْباً؛ لأنهم كانوا في الماضي يجعلون الجيب الذي يضعون به النقود أو خلافه في داخل الثوب، ليكون بعيداً عن يد السارق، فإذا ما احتاج الإنسان شيئاً في جَيْبه يُدخِل يده من طَوْق القميص ليصل إلى الجيْب فسُمِّي الطوق جيباً. وهذا من مظاهر التكامل بين الآيات.
والمعنى هنا: اضمم كف يدك اليمنى، وأدْخله من طَوْق قميصك إلى تحت عَضُدك الأيسر {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [طه: 22] أي: ساعة أنْ تُخرِج يدك تجدها بيضاء، لها ضوء ولمعان وبريق وشعاع.
ومعلوم أن موسى عليه السلام كان أسمر اللون، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حينما طُلِب منه أنْ يَصف الرسل الذين لقيهم في رحلة الإسراء والمعراج، فقال: (أما موسى، فرجل آدم طُوَال، كأنه من رجال أزدشنوءة....).
أي: أسمر شديد الطول؛ لان طُوَال يعني: أكثر طولاً من الطويل.
ومن هنا كان بياضُ اليد ونورها في سُمْرة لونه آيةً من آيات الله، ولو كان موسى أبيض اللون ما ظهر بياضُ يده.
وقوله: {مِنْ غَيْرِ سواء} [طه: 22] أي: من غير مرض، فقد يكون البياض في السُّمرة مرضاً والعياذ بالله كالبرص مثلاً. فنفى عنه ذلك.
وقوله تعالى: {آيَةً أخرى} [طه: 22] أي: معجزة، لكنه لم يقُلْ شيئاً عن الآية الأولى، فدلَّ ذلك على أن العصا كانت الآية الأولى، واليد الآية الأخرى.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى}

.تفسير الآية رقم (23):

{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)}
أي: نُريك الآيات العجيبة عندنا؛ لتكون مقدمة لك، فحين نأمرك بشيء من هذا القبيل فاعلم أن الذي يأمرك ربُّ لن يغشَّك، ولن يتخلى عنك، وسوف يُؤيدك وينصرك، فلا ترتَعْ ولا تخف أو تتراجع.
وكأن الحق تبارك وتعالى يُعِدُّ نبيه موسى للقاء مرتقب مع عدوه فرعون الذي ادعى الألوهية.
ثم بعد هذه الشحنة والتجربة العملية يقول له: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}

.تفسير الآية رقم (24):

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)}
فلماذا أرسله إلى فرعون أولاً، ولم يرسله إلى قومه؟ قالوا: لأن فرعون فعل فعلاً فظيعاً، حيث ادعى الألوهية، وهي القمة في الاعتداء، ثم استعبد بني إسرائيل، فلابد أن نُصفِّي الموقف أولاً مع فرعون.
لذلك حدثت معجزة العصا في ثلاثة مواقف.
الأول: وكان لِدُرْبة موسى ورياضته على هذه العملية، وكانت هذه المرة بين موسى وربه عز وجل تدريباً، حتى إذا أتى وقت مزاولتها أمام فرعون لم يتهيِّب منها أو يتراجع، بل باشرها بقلب ثابت واثق.
والثاني: كان مع فرعون بمفرده ترويعاً له.
والثالث: مع السَّحَرة تجميعاً.
فكُلُّ موقف من هذه المواقف كان لحكمة وله دور، وليس في المسألة تكرار كما يدَّعي البعض.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ طغى} [طه: 24] الطغيان: مجاوزة الحدّ، ومجاوزة الحدِّ يكون بأخْذ ما ليس لك والمبالغة في ذلك، وليْتَه أخذ من المساوي له من العباد، إنما أخذ ما ليس له من صفات الله عز وجل.
ولما سمع موسى اسم فرعون، تذكَّر ما كان من أمره في مصر، وأنه تربَّى في بيت هذا الفرعون الذي ادَّعى الألوهية، فكيف سيواجهه.
كما تذكَّر قصة الرجل الذي وكَزه فقتله، ثم خرج منها خائفاً يترقب، فلما شعر موسى أن العبء ثقيل قال: {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}

.تفسير الآية رقم (25):

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)}
كأنه قال: يا رب أنا سأنفّذ أوامرك؛ لكني لا أريد أنْ أُقبل على هذه المهمة وأنا منقبض الصدر منْ ناحيتها؛ لأن انقباضَ الصدر من الشيء يُهدِر الطاقة ويُبدِّدها، ويعين الأحداث على النفس.
لذلك دعا موسى بهذا الدعاء: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} [طه: 25] ليوفر قوته لأداء هذه المهمة الصعبة التي تحتاج إلى مجهود يناسبها، ومعنى ذلك أنه انقبض صدره من لقاء فرعون للأسباب الذي ذُكِرت.
ثم قال: {وَيَسِّرْ لي أَمْرِي}

.تفسير الآية رقم (26):

{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)}
لأن شَرْح الصدر في هذه المسألة لا يكفي، فشَرْح الصدر من جهة الفاعل، وقد يجد من القليل لَدَداً شديداً وعناداً؛ لذلك قال بعدها: {وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} [طه: 26] فلا أجد لَدَداً وطغياناً من فرعون، فتيسير الامر من جهة القابل للفعل بعد شرح الصدر عند الفاعل.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)}
لأن الكلام وتبليغ الرسالة يحتاج إلى منطق ولسان مُنطلِق بالكلام، وكان موسى عليه السلام لديه رُتَّة أو حُبْسَة في لسانه، فلا ينطلق في الكلام.
وكانت هذه الرُّتَّة أيضاً في لسان الحسين بن علي رضي الله عنهما وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الحسين يضحك ويقول: (ورثها عن عمه موسى).
وتلحظ دِقَّة التعبير في قوله: {مِّن لِّسَانِي} [طه: 27] ولم يقل: احلل عقدة لساني. فقد يُفهم منها أنه مُتمرِّد على قَدَر الله من حُبسة لسانه، إنما هو لا يعترض ويطلب مجرد جزءٍ من لسانه، يمَكِّنه من القيام بمهمته في التبليغ.

.تفسير الآية رقم (28):

{يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)}
هذه هي العِلّة في طلبه، ولولاها ما طلب انطلاقة اللسان. والفقه هو أن يفهموا الكلام والحديث عنه.
ويواصل موسى عليه السلام ما يراه مُعيناً له على أداء مهمته: {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي}

.تفسير الآية رقم (29):

{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)}
وزيراً: أي: معيناً وظهيراً. والحق سبحانه وتعالى لما أراد أنْ يُخوِّف الناس من الآخرة قال: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} [القيامة: 11- 12].
أي: لا ملجأ ولا معين تفزع إليه إلا الله، فالوزير من(وَزَر)، ويطلب الوزير حين لا يستطيع صاحب الأمر القيام به بمفرده، فيحتاج إلى مَنْ يعينه على أمره، وهو وزير إنْ كان ناصحاً أميناً يُعين صاحبه بصِدْق، فإنْ كان غاشَّاً لئيماً يعمل لصالح نفسه، فليس بوزير، بل هو(وِزْر)، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18].
وفي الحديث النبوي الشريف: (خَيْر الملوك ملك جعل الله له وزيراً، إنْ نسي ذكَّره، وإنْ نوى على خير مجرد نيّة أعانه، وإن أراد شرّاً كفَّه...).
تلك علامات الوزير الناصح للرعية كما بيَّنتها سياسة السماء؛ لأن لكل حاكم بطانتين: واحدة تأمر بالمعروف، وأخرى تأمر بالمنكر كما جاء في الحديث الشريف.
فإنْ كانت هذه هي سياسة السماء، فماذا عن سياسة البشر؟
يقول أنو شروان: إياكم أنْ تفهموا أن أحداً مِنَّا يستغني عن أحد، فلكُلِّ واحد مهمته، فإنْ زدت في شيء فقد نقصت في أشياء، جعلها الله في غيرك ليكمل بها نقصك، فالمعايشة مشتركة، لكن هذه المشاركة تفرضها الضرورة لا التفضّل، وإلاَّ لو لم يتفضّل عليك غيرك فماذا تفعل؟
وسبق أن ضربنا مثلاً لحاجة الناس بعضهم لبعض، قلنا: ماذا يحدث لو امتنع رجال الصرف الصحي أو الكناسون عن العمل لعدة أيام؟ أما لو غاب الوزراء لعدة أيام فلن يحدث شيء.
إذن: لا تظن أنك أفضل من الآخرين؛ لأن لكل منهم مهمة يؤديها، فإنْ كنتَ خيراً منه في هذه فهو خير منك في هذه؛ لأن مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر، فإنْ قلتَ: فلماذا وُجِد التفاوت بين الناس؟
قالوا: لتكون هناك ضرورة في حاجة بعضنا لبعض، فلو تساوَى الجميع لقلنا لجماعة منا: تفضّلوا بكنس الشوارع يوم كذا فلن يتفضلوا، أما إنْ ألجأتْهم الحاجة إلى مثل هذا العمل فسوف يسارعون إليه، كما نرى الآن في أشقَّ المهن وأصعب المهام التي ينفر منها الناس بل ويحتقرونها ترى صاحبها مُقبلاً عليها حريصاً على القيام بها، رغم ما فيها من مشقّة، بل ويغضب إنْ لم يجد فرصة للعمل، لماذا؟ لأنه مصدر قُوته وقُوت عياله.
وبهذه النظرة لا يتعالى أحد أو يستكبر ليحدث في المجتمع توازن استطراقي.
وقوله: {مِّنْ أَهْلِي} [طه: 29] أي: ليكون مأموناً عليَّ.
وهذا المطلب من موسى عليه السلام يشير لأدب عال من آداب النبوة، وقد اختار الله موسى للرسالة، فلماذا يشرك معه أخاه في هذه المهمة؟ إذن: موسى لا يريد أنْ يفخَر بالرسالة، أو يتعالى بها، أو يطغى، إنما يريد أن يقوم بها على أكمل وجه؛ لذلك يحاول أنْ يُكمل ما فيه من نقص بأخيه ليُعينه على تبليغ رسالته، ولو أراد الاستئثار بالرسالة ما طلب هذا الطلب.
وهذا نموذج يجب أنْ يُحتذَى، فإنْ كُلِّفت بأمر فوق طاقتك فلا غبارَ عليك أن تستعين عليه بغيرك، فهذا دليل على إخلاصك للمهمة التي كُلِّفت بها.