فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (27):

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)}
هذه عدّة أيام ذكرتها هذه الآيات: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22]، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25]، {الملك يَوْمَئِذٍ الحق} [الفرقان: 26]، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] فيوم القيامة جامع لهذا كله.
وقلنا: إن الظالم: الذي يأخذ حَقَّ غيره، والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذا الظلم بقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57].
لأنهم لا يقدرون على ظُلْم الله تعالى، ولا على ظُلْم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمة الله ورسوله هي العُلْيا، وسينتصر دين الله في نهاية المطاف. ومع ذلك يعاقبهم الله تعالى على ظلمهم لأنفسهم، فنِعْم الإله إله يفعل هذا مع مَنْ عصاه.
والكافر حتى في مظهرية ظُلْمه للغير يظلم نفسه؛ لأنه يضعها في موضع المسئولية عن هذه المظالم. إذن: لو حقَّق الإنسان الظلم لوجده لا يعود إلا على الظالم نفسه.
وحين يرى الظالمُ عاقبةَ ظُلْمه، ويعاين جزاء فِعْله يعضُّ على يديْه ندماً وحَسْرة. والعَضُّ: انطباق الفكيْن الأعلى والأسفل على شيء، وللعضِّ مراحل تتناسب مع المُفْزع الذي يُلجئ الإنسانَ له، وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119].
والأنامل: اطراف الأصابع وعَضُّها من الغيظ عادة معروفة حينما يتعرّض الإنسان لموقف يصعُب عليه التصرف فيه فيعضُّ على أنامله عَضّاً يناسب الموقف والحدث، فإنْ كان الحدث أعظمَ ناسبه أنْ يعضّ يده لا مجرد أصابعه، فإنْ عظم عَضَّ على يديْه معاً كما يحدث لهم في الآية التي معنا: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] لأنه في موقف حسرة وندم على الفرصة التي فاتته ولن تعود، والخطأ الذي لا يمكن تداركه؛ لذلك يُعذِّب نفسه قبل أن يأتيه العذاب.
فيعضُّ على يديْه معاً، فكأن الأمر المُفْزِع الذي يعاينه بلغ الغاية؛ لذلك عضَّ على يديه ليبلغ الغاية في المعضوض، وهو العاضّ والمعضوض، ولا يُعذِّب نفسه بهذه الطريقة إلا مَنْ يئس من النجاة.
ثم يُبيِّن علة ذلك: {يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} [الفرقان: 27] وإنْ كانت هذه الآية قد نزلت في حدث مخصوص وفي شخص بعينه، فإنها تعمّ كل مَنْ فعل هذا، فالعبرة كما يقولون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا جزاء كل ظالم حَادَ عن الجادة.
وهذه الآية (نزلت في حدث خاص باثنين: عقبة بن أبي معيط، وكان رجلاً كريماً يُطعم الطعام، وقد دعا مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه، لكن رسول الله اعتذر له وقال: لا أستطيع أن أحضر طعامك إلا أنْ تشهد أن: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلما شهد الرجل الشهادتين زاره رسول الله وأكل من طعامه، فأغضب ذلك أمية ابن خلف صاحب عقبة فقال له: لقد صبوتَ يا عقبة، فقال عقبة: والله ما قلتُ ذلك إلا لأنني أحببتُ أن يأكلَ محمد عندي كما يأكل الناس، فقال أمية: فلا يبرئك مني إلا أنْ تذهب إلى محمد في دار الندوة فتطأ عنقة وتبصق.. إلخ، وفعل عقبة ما أشار عليه به صاحبه) فنزلت الآية: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} [الفرقان: 27] والمراد بالسبيل قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم يقول: {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً}

.تفسير الآية رقم (28):

{يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)}
الويل: الهلاك، فهو يدعو الهلاك ويناديه أنْ يحلّ به، والإنسان لا يطلب الهلاك لنفسه إلا إذا تعرّض لعذاب أشدّ من الهلاك، كما قال أحدهم:
أَشَدُّ من السّقم الذي يُذهِب السّقما

وقول الشاعر:
كَفَى بِكَ دَاءً أنْ تَرَى الموْتَ شَافِياً ** وحَسْبُ المنَايَا أنْ يكُنَّ أَمَانِيَا

فلما كانت المسألةُ أكبر منه وفوق احتماله نادى يا ويلتي احضري، فهذا أوانك لتُخلِّصيني مما أنا فيه من العذاب.
وقوله {لَيْتَنِي} [الفرقان: 28] تَمَنٍّ، والتمنّي طلب أمر محبوب لا سبيلَ إلى حصوله، كما قال الشاعر في التمني:
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو لِي فَأَنظِمَهَا ** عُقودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لكُمْ كَلمِي

وهذا أمر لا يمكن أنْ يُنال.
وآخر يقول:
فيا لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوْماً ** فَأُخبرَه بِمَا فعَل المشيبُ

فقصارى ما يعطيه أسلوب التمني أنه يدلّ على أمر محبوب، كنت أحب أن يحدث، لكن أيحدث بالفعل؟ لا.
وكلمة(فلان) تقولها كناية عن شخص لا تحب حتى ذِكْر اسمه، فعقبة(ابن أبي مُعيط) لم يقل: ليتني لم أتخذ أمية(بن خلف) خليلاً إنما قال(فلاناً) لأنه كاره له يبغض حتى ذكر اسمه.
والخليل: من الخُلَّة والمخالَّة يعني: الصداقة المتداخلة المتبادلة وفي ذلك يقول الشاعر:
وَلَمَّا التقَيْنَا قَرَّبَ الشَّوْقُ جَهْده ** خَليليْنِ ذَابَا لَوْعَةً وعِتَاباَ

كأنَّ خَلِيلاً في خِلاَلِ خَلِيلهِ ** تَسرَّب أَثْنَاءَ العِنَاقِ وغَابَا

ثم ذكر علة ذلك: {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر}

.تفسير الآية رقم (29):

{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)}
{خَذُولاً} [الفرقان: 29] صيغة مبالغة من الخذلان، نقول: خاذل وخذول، ومعنى خذلك أي: تخلّى عنك في الأمر بعد أنْ مدَّ لك حبالَ الأمل، فإذا ما جاء وقت الحاجة إليه تخلّى عنك وتركك، كذلك الشيطان يفعل بأوليائه، كما جاء في آيات أخرى: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [الحشر: 16] وفي آية أخرى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48].
وفي موضع آخر يقول لأتباعه: {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
فحين يقولون له: لقد أغويتنا وأضللْتنا يقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] لا سلطانَ حجة أقنعكم به ولا سلطان قهر أحملكم به وأقهركم على طاعتي، بل كنتم على(تشويرة): {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22].
ثم يقول الحق سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي}

.تفسير الآية رقم (30):

{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)}
القوم: قوْم الرجل: أهله وعشيرته والمقيمون معه ويجمعهم: إما أرض، وإما دين. وسُمُّوا قَوْماً لأنهم هم الذين يقومون على أمر الأشياء، فهم الرجال خاصة؛ لأن النساء المفروض فيهن السكن والقرار في البيوت.
والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هذا الفرق في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] إذن: فالقوم هم الرجال خاصة.
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر:
وَمَا أدري ولَسْتُ إخَالُ أَدْرِي ** أَقُوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساءُ

وقوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً} [الفرقان: 30] أضاف القوم إليه صلى الله عليه وسلم لأنه منهم يعرفونه ويعرفون أصْله، وقد شهدوا له بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق قبل أن يُبعثَ، وكان عندهم مؤتمناً على نفائس أموالهم؛ لذل خاطبهم الحق تبارك وتعالى بقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
إذن: فالرسول ليس بعيداً عنكم، ولا مجهولاً لكم، فمَنْ لم يؤمن به كرسول ينبغي أنْ يؤمن به كأسْوة وقدوة سلوك لسابق تاريخه فيكم.
لذلك نرى أن سيدنا أبا بكر ما انتظر من رسول الله دعوةً، ولا أنْ يقرأ له قرآناً، أو يُظهِر له معجزة، إنما آمن وصدَّق بمجرد أن قال رسول الله، فما دام قد قال فقد صدق، ليس بمعجزة رآها أبو بكر، إنما برصيده القديم في معرفة رسول الله في سلوكه وخُلُقه، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَدع الكذب على الخَلْق، ويكذب على الخالق.
وكذلك السيدة خديجة: هل انتظرت من رسول الله ما يُثبت نبوته؟ إنها بمجرد أن قال رسول الله صدَّقتْ به، ووقفت بجانبه وثبَّتته وهدَّأتْ من روعه، وقالت له: (والله لا يُسلمك الله أبداً، إنك لتصِلُ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر).
ومعنى: {مَهْجُوراً} [الفرقان: 30] من الهجر وهو قَطْع الصلة، فإنْ كانت من جانب واحد فهي هَجْر، وإن كانت من الجانبين فهي(هاجراً). والمعنى: أنهم هجروا القرآن، وقطعوا الصلة بينهم وبينه، وهذا يعني أنهم انقطعوا عن الألوهية وانقطعوا عن الرسالة المحمدية، فلم يأخذوا أدلة اليقين العقدية، وانقطعوا عن الرسالة المحمدية حينما كذَّبوا بها، وانقطعوا عن الأحكام حينما عَصَوْها، وبذلك اتخذوا هذا القرآن مهجوراً في كل هذه المسائل: العقائد والعبادات والتصديق بالرسول.
مع أن العرب لو فهموا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] لمجّدوا القرآن وتمسَّكوا به، فهو الذي عصمهم وعصم لغتهم، وأعْلَى ذِكْرهم بين الأمم، ولو أن كل أمة من الأمم المعاصرة أخذتْ لهجتها الخاصة الوطنية، وجعلت منها لغةً لتلاشت العربية كلغة.
وفي كثير من بلدان الوطن العربي لو حدَّثوك بلهجتهم الخاصة لا تفهم منها شيئاً، ولولا أن الفُصْحى لغة القرآن تربط بين هذه اللهجات لأصبحتْ كلٌّ منها لغةً خاصة، كما حدث في اللغات اللاتينية التي تولدت منها الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية، ولكل منها أسسها وقواعدها الخاصة بها، وكانت في الأصل لغة واحدة، إلا أنها لا رابطَ لها من كتاب مقدس.
فالحق تبارك وتعالى يُنبِّههم إلى أن القرآن فيه ذِكْرهم وشرفهم وعزتهم، وفيه شهرتهم وصيتهم، فالقرآن جعل العرب على كل لسان، ولولاه لذابوا بين الأمم كما ذابتْ قبلهم أمم وحضارات لم يسمع عنها أحد.
لذلك يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إنْ تؤمنوا بما جئت به يكُنْ حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليَّ قولي صبرتُ حتى يحكم الله بيني وبينكم».

.تفسير الآية رقم (31):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}
وإذا لم يكُنْ للرسول أعداء، فلماذا جاء؟ لو انتظرنا من الجميع ساعةَ يأتي الرسول أنْ يُصدقوه ويؤمنوا به إذن: فلماذا جاء الرسول؟ لا يأتي الرسول إلى إذا طَمَّ الفساد وعَمّ، كما أننا لا نأتي بالطبيب إلا إذا حدث مرض أو وباء.
وهؤلاء القوم كانت لهم سيادة ومكانة، وقد جاء الإسلام ليُسوّي بين الناس، ويسلب هؤلاء سيادتهم، فلابد أن يقفوا منه موقف العداء، وهذا العداء هو حيثية وجود الرسول فيهم. وليس النبي صلى الله عليه وسلم بِدْعاً في ذلك، فما من نبي إلا وكان له أعداء، مع أن الأنبياء السابقين كان النبي منهم في فترة زمنية محدودة وفي مكان محدود.
أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت رسالة عامة في الزمان وفي المكان، ولابد أنْ يتناسب العداء إذن مع انتشار الرسالة وعمومها في الزمان والمكان إلى قيام الساعة وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُوطِّن نفسه على ذلك.
وكلمة(عدو) من الكلمات التي تُطلق مفردة، وتشمل المثنى والجمع، ومن ذلك قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77].
وفي سورة الكهف: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] ولم يقل: أعداء.
وفي بعض الآيات تأتي بصيغة الجمع كما في قوله تعالى: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 103] فلو كانت قضية لغوية لجاءتْ بصيغة المفرد في كل الآيات.
لكن لماذا عدلَ القرآن هنا عن صيغة المفرد إلى صيغة الجمع؟
قالوا: إنْ كانت العداوة من المفرد والمثنى والجمع عداوة واحدة قال:(عدو) بصيغة المفرد لاتحاد سبب العداوة، فإنْ كانت العداوات مختلفة: هذا يعاديك لشرفك، وهذا يعاديك لعلمك، وهذا يعاديك لمالك، فتعددت أسباب العداوة قال(أعداء) أما في مسألة الإيمان واليقين بالنسبة للكافرين فالعداوة واحدة، لكن في أمور الدنيا العداوات متعددة: هذا يعاديك لكذا، وهذا يعاديك لكذا؛ لأنه مخالف لهواه.
وحينما تحدثنا عن قوله تعالى: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] كلها بصيغة الجمع إلا في قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] بصيغة المفرد، لماذا؟ لأن صداقة المؤمنين ينبغي ألاَّ تكون إلا لمعنى واحد، هو الحب لله، وفي الله، لا ينبغي أن يكون لك صديق لكذا وصديق لكذا.
وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأنْ يحبَّ المرءَ لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار».
فإذا كان أصدقاؤك يحبونك لله، فهم جميعاً كصديق واحد.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} [الفرقان: 31] يعني: كأعدائك الذين اتخذوا القرآن مهجوراً، والذين وقفوا منك موقف التعنت والإيذاء والسخرية.
{جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} [الفرقان: 31] أي: الذين يُجرِمون يعني: يرتكبون الجرائم، وهي المعاصي والذنوب حَسْب مدلولاتها.
الحق تبارك وتعالى حينما يكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة أعدائه، وأنهم كثيرون، وأنهم مجرمون إنما ليوَطِّن نفسه على ذلك، فلا يُفَاجأ به، ويتحمل أذاهم إنْ أصابوه بسوء. وهذه المسألة كالمصْل والتحصين الذي يعطونه للناس لمواجهة المرض قبل حدوثه، فالحق سبحانه يعطي رسوله المناعة اللازمة لمواجهة أعداء الدعوة.
لذلك نجد (تشرشل) القائد البريطاني الذي ساس الحرب العالمية الثانية كان يواجه جنوده بالحقائق أفظع مما هي في الواقع ليُوطِّن شعبه على قوة التحمل، وعلى التصدِّي للصعوبات الشديدة، ومهما واجههم من مصاعب قال لهم ما زال هناك المزيد منها، حتى إذا ما حدث ذلك كانوا على استعداد له.
وقوله تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31] أي: أن الله تعالى سيهديك إلى الطريق الذي بمقتضاه تنتصر على هؤلاء جميعاً. وسبق أن ذكرنا عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه حينما نزل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] قال: أيُّ جمع هذا؟ يعني تعجب كيف سنهزم هؤلاء ونحن الآن عاجزون حتى عن حماية أنفسنا؟ ولا نبيت إلا في السلاح، ولا نصبح إلا في السلاح نخاف أن يتخطفنا الناس، فلما وقعتْ بدر وهُزِم المشركون وحُصدت أرواح صناديدهم قال: صدق الله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
كيف حدث هذا؟ حدث من هداية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى أسباب النصر، والحق تبارك وتعالى ينصر بالشيء وينصر بضده، وقد اجتمع في بدر سادات قريش وأقوياؤها وأغنياؤها وصناديد الكفر بها، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه مكة، قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» وقد خرجوا جمعياً على حال الاستعداد للحرب، أما المؤمنون فقد كانوا قِلَّة مستضعفين على غير استعداد للحرب، ومع ذلك نصرهم الله.
والحق سبحانه يُطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249].
وقال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] أي: ننقص من أرض الكفر، ونزيد في أرض الإيمان، والحق سبحانه أخبرنا بقضايا، يجب أن تُوجَد أحداث في الحياة والواقع خادمةً لتصديق هذه القضايا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ}