فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (29):

{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}
اتبعوا اهواءهم: لأنهم اختاروا عبادة مَنْ لا منهجَ له ولا تكليف، عبدا إلهاً لا أمر له ولا نهي، لا يرتب على التقصير عقوبة، ولا على العمل ثواباً، وهذا كله من وحي الهوى الذي اتبعوه.
إياك أن تُقدِّم الهوى على العقل؛ لأنك حين تُقدِّم الهوى يصير العقل عقلاً تبريرياً، يحاول أنْ يعطيك ما تريد بصرف النظر عن عاقبته، لكن بالعقل أولاً حدِّد الهوى، ثم اجعل حركة حياتك تبعاً له.
والبعض يظن أن الهوى شيء مذموم على إطلاقه، لكن الهوى الواحد غير مذموم، أما المذموم فهي الأهواء المتعددة المتضاربة؛ لأن الهوى الواحد في القلب يُجنِّد القالب كله لخدمة هذا الهوى، فحين يكون هواى أنْ أذهب إلى مكان كذا، فإن القالب يسعى ويخطط لهذه الغاية، فيحدد الطريق، ويُعد الزاد، ويأخذ بأسباب الوصول.
وهذا الهوى هو المعنىّ في الحديث الشريف: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع أن يكون للإنسان هوى تميل إليه نفسه وتحبه؛ لأن ذلك الهوى يُعينه على الجهاد والكفاح في حركة الحياة.
أما حين تتعدد الأهواء فَلَك محبوب، ولي محبوب آخر، فإنها لا شكَّ تتعارض وتتعاند، والله تعالى يريد من المجتمع الإيماني أن تتساند كل أهوائه، وأن تتعاضد لا تتعارض، وأن تتضافر لا تتضارب؛ لأن تضارب الأهواء يُبدِّد حركة الحياة ويضيع ثمرتها.
أمّا إنْ كان هواي هو هواك، وهو هوى ليس بشرياً، إنما هوى رسمه لنا الخالق- عز وجل- فسوف نتفق فيه، وتثمر حركة حياتنا من خلاله {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14].
وسبق أنْ قُلْنا: إن صاحب الصَّنْعة في الدنيا يجعل معها كتالوجاً يُبيِّن طريقة صيانتها، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلقك، وهو الذي يُحدِّد لك هواك، وأول فشل في الكون أن الناس المخلوقين لله يريدون أنْ يضعوا للبشر قانون صيانتهم من عند أنفسهم.
ونقول: هذا لا يصح؛ لأن الذي يُقنِّن ويضع للناس ما يصونهم ينبغي أن تتوفر فيه شروط: أولها: أن يكون على علم محيط لا يستدرك عليه، وأنت أيها الإنسان عِلْمك محدود كثيراً ما تستدرك أنت عليه بعد حين، ويتبين لك عدم مناسبته وعدم صلاحيته.
بل وتبين أنت بنفسك فساد رأيك فترجع عنه إلى غيره، كما يجب على مَنْ يشرِّع للناس الهوى الوحد أن يكونوا جميعاً بالنسبة له سواء، وألا ينتفع هو بما يشرِّع، وإلا لو كانت له منفعة فإنه سوف يميل إلى ما ينفعه، فلا يكون موضوعياً كما رأينا في الشيوعية وفي الرأسمالية وغيرها من المذاهب البشرية.
والحق سبحانه وتعالى هو وحده الذي لا يُستْدرك عليه؛ لأن علمه محيط بكل شيء لا تخْفى عليه خافية، والخَلْق جميعاً الذين يشرع لهم أمامه سواء، وكلهم عباده، لا يحابي منهم أحداً، ولا يميز أحداً على أحد، وليس له سبحانه من خَلْقه صاحبة ولا ولد.
لذلك يطمئننا سبحانه بقوله: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً} [الجن: 3].
وكأن الله تعالى يقول: اطمئنوا، فربّكم ليس له صاحبة تُؤثِّر عليه، ولا ولد يُحابيه، فالصاحبة والولد نقطة الضعف، وسبب الميْل في مسألة التشريع.
وكذلك هو سبحانه لا ينتفع بما يُشرِّعه لنا، لأنه سبحانه خلقنا بقدرته، وهو الغني عنَّا لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصي، إذن: فهو سبحانه وحده المستكمل لشروط التشريع، والمستحق لها سبحانه، وبيان الهوى الواحد الذي يجتمع عليه كل الخَلْق.
وسبق أن ذكرنا في مسألة التشريع أنه لا ينبغي أن تنظر إلى ما أُخِذ منك، بل قارن بين ما أخذتَ وما أعطيتَ، فالذي منعك أنْ تعتدي على الآخرين وأنت فرد واحد منع الخَلْق جميعاً أنْ يعتدوا عليك، فالتشريع إذن في صالحك أنت.
إذن: لو عقلنا لأخذنا هوانا الواحد من إله واحد هو الله- عز وجل- لكن الخيبة أنهم ما استمعوا هذا الكلام وما عقلوه.
{بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ...} [الروم: 29] ظلموا لأنهم عزلوا الهوى الواحد، ونَحَّوه جانباً، وأخذوا أهواءً شتى تعارضتْ وتضاربت، فلم يصلوا منها إلى نتيجة.
وما ظلموا بالشرك إلا أنفسهم، والله تعالى يقول: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ظلموا أنفسهم حينما أعطوها شهوة عاجلة ولذة فانية، وغفلوا عن عاقبة ذلك، فهم إما كارهون لأنفسهم، أو يحبونها حباً أحمق، وهذه آفة الهوى حينما يسبق العقل ويتحكم فيه.
وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ...} [الروم: 29] أولاً: ما هو العلم؟ في الكون قضايا نجزم بها، فإنْ كان ما نجزم به مطابقاً للواقع ونستطيع أن ندلل عليه- كما نُعلِّم مثلاً الولد الصغير: الله أحد، فإن استطاع أن يدلل عليها فهي عِلْم، وإنْ لم يستطع فهي تقليد.
وكمن يقول مثلاً: الأرض كروية وهي فعلاً كذلك، أما مَنْ يكابر حتى الآن ويقول ليست كروية، والواقع أنها كروية، فهذا جهل.
إذن: نقول ليس الجهل ألاَّ تعلم، إنما الجهل أنْ تععلم قضية على خلاف الواقع؛ لذلك نُفرِّق بين الجاهل والأمي: الأمي خالي الذِّهْن ليست لديه قضية من أساسه، فإنْ أخبرته بقضية أخذها منك دون عناد، ودون مكابرة أمّا الجاهل فعنده قضية خاطئة معاندة، فيحتاج منك أولاً لأنْ تُخرِج القضية الفاسدة لتُلِقي إليه بالقضية الصحيحة.
فإنْ كانت القضية لا تصل إلى مرتبة أنْ نجزم بها، فتنظر: إنْ تساوي الإثبات فيها مع النفي فهي الشك، إذن: فالشكُّ قضية غير مجزوم بها يستوي فيها الإثبات والنفي، فإنْ غلَّبْتَ جانب الإثبات ورجَّحته فهو ظن، أما إنْ غلَّبت جانب النفي فهو وهم.
فعندنا- إذن- من أنواع القضايا: علم، وجهل وتقليد، وظن، ووَهْم.
فالحق سبحانه يريد الهوى الذي تخدمه حركة حياتنا هوى عن علم وعن قضية مجزوم بها، مطابقة للواقع، وعليها دليل، لكن ما دام هؤلاء قد اتبعوا أهواءهم المتفرقة، وأخذوها بدون أصولها من العلم، فسوف أكمل لهم ما أرادوا وأعينهم على ما أحبُّوا {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله...} [الروم: 29] فقد ألغواْ عقولهم وعطَّلوها وعشقوا الكفر بعد ما سُقْنا لهم الأدلة والبراهين.
إذن: لم يَبْقَ إلا أنْ أعينكم على ما تعتقدون، وأنْ أساعدكم عليه، فأختم على قلوبكم، فلا يدخلها إيمان ولا يفارقها كفر، لأنني رب أعين عبدي على ما يريد. وهكذا يُضل الله هؤلاء، بمعنى: يعينهم على ما هم عليه من الضلال بعد أنْ عَشِقَوه، كما قال سبحانه: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7].
لذلك نحذر الذين يصابون بمصيبة، ثم لا يَسْلُون، ولا ينسون، ويلازمون الحزن، نحذرهم ونقول لهم: لا تدعوا باب الحزن مفتوحاً، وأغلقوه بمسامير الرضا، وإلا تتابعتْ عليكم الأحزان؛ لأن الله تعالى رب يُعين عبده على ما يحب، حتى الساخط على قدره تعالى.
فالمعنى {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله...} [الروم: 29] يعني: مَنْ ينقذه؟ ومَنْ يضع له قانون صيانته إنْ تخلَّى عنه ربه وتركه يفعل ما بدا له؟ لا أحد. وأنت إذا نصحتَ صاحبك وكررتَ له النصْح فلم يُطعْك تتخلى عنه، بل إن أحد الحكماء يقول: انصح صاحبك من الصبح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، فإنْ لم يطاوعك ضلّله- أو أكمل له بقية النهار غِشّاً.
وسبق أن تحدثنا عن الطريقة الصحيحة في بحث القضايا لتصل إلى الحكم الصائب فيها، فلا تدخل إلى العلم بهوى سابق، بل أخرج كل ما في قلبك يؤيد هذه القضية أو يعارضها، ثم ابحث القضية بموضوعية، فما تقتنع به الموازين العقلية وتُرجِّحه أدخله إلى قلبك.
والذي يُتعب الناس الآن أن نناقش قضية الإسلام مثلاً وفي القلب مَيْل للشيوعية مثلاً، فننتهي إلى نتيجة غير سليمة.
ثم يقول سبحانه: {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [الروم: 29] يعني: يا ليت لهم مَنْ ينقذهم إنْ أضلَّهم الله فختم على قلوبهم، فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، فليس لهم من الله نصير ينصرهم، ولا مجير يجيرهم من الله، وهو سبحانه يجير ولا يُجَار عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ...}.

.تفسير الآية رقم (30):

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}
الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما دام الأمر كذلك، وما داموا قد اتبعوا أهواءهم وضلوا، وأصروا على ضلالهم، فدَعْك منهم ولا تتأثر بإعراضهم.
كما قال له ربه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وقال له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6].
فما عليك يا محمد إلا البلاغ، واتركهم لي، وإياك أن يؤثر فيك عنادهم، أو يحزنك أن يأتمروا بك، أو يكيدوا لك، فقد سبق القول مني أنهم لن ينتصروا عليك، بل ستنتصر عليهم.
وهذه قضية قرآنية أقولها، وتُسجَّل عليّ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
{وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ...} [الحج: 40].
{إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ...} [محمد: 7].
هذه قضية قرآنية مُسلَّم بها ومفروغ منها، وهي على ألسنتنا وفي قلوبنا، فإنْ جاء واقعنا مخالفاً لهذه القضية، فقد سبق أنْ أكدها واقع الأمم السابقة، وسيحدث معك مثل ذلك؛ لذلك يُطمئن الحق نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].
فهنا {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً...} [الروم: 30] أي: دعْكَ من هؤلاء الضالين، وتفرَّغ لمهمتك في الدعوة إلى الله، وإياك أنْ يشغلوك عن دعوتك.
ومعنى إقامة الوجه للدين يعني: اجعل وجهْتك لربك وحده، ولا تلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، وذكر الوجه خاصة وهو يعني الذات كلها؛ لأن الوجه سِمة الإقبال.
ومنه قوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ...} [القصص: 88] يعني: ذاته تعالى.
ومعنى {حَنِيفاً...} [الروم: 30] هذه الكلمة من الكلمات التي أثارت تذبذباً عند الذين يحاولون أنْ يستدركوا على كلام الله؛ لأن معنى الحنيف: مائل الساقين فترى في رِجلْه انحناء للداخل، يقال: في قدمه حنف أي ميل، فالمعنى: فأقم وجهك للدين مائلاً، نعم هكذا المعنى، لكن مائلاً عن أيِّ شيء؟
لا بُدَّ أن تفهم المعنى هنا، حتى لا تتهم أسلوب القرآن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليصلح مجتمعاً فاسداً منحرفاً يدين بالشرك والوثنية، فالمعنى: مائلاً عن هذا الفساد، ومائلاً عن هذا الشرك، وهذه الوثنية التي جئت لهدمها والقضاء عليها، ومعنى: مال عن الباطل. يعني: ذهب إلى الحق.
و(أَقِمْ) هنا بمعنى: أقيموا، لأن خطاب الرسول خطاب لأمته، بدليل أنه سبحانه سيقول في الآية بعدها: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ...} [الروم: 31] ولو كان الأمر له وحده لَقالَ منيباً إليه، ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...} [الطلاق: 1].
فالخطاب للأمة كلها في شخص رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبلِّغ، والمبلِّغ هو الذي يتلقى الأمر، ويقتنع به أولاً ليستطيع أنْ يُبلِّغه؛ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...} [الأحزاب: 21].
وقال {حَنِيفاً...} [الروم: 30] لأن الرسل لا تأتي إلا على فساد شمل الناس جميعاً؛ لأن الحق سبحانه كما خلق في الجسم مناعة مادية خلق فيه مناعة قيمية، فالإنسان تُحدِّثه نفسه بشهوة وتغلبه عليها، فيقع فيها، لكن ساعة ينتهي منها يندم عليها ويُؤنِّبه ضميره، فيبكي على ما كان منه، وربما يكره من أعانه على المعصية.
وهذه هي النفس اللوامة، وهي علامة وجود الخير في الإنسان، وهذه هي المناعة الذاتية التي تصدر من الذات.
وفَرْق بين مَنْ تنزل عليه المعصية وتعترض طريقه، ومَنْ يُرتِّب لها ويسعى إليها، وهذا بيِّن في قوله تعالى: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ...} [النساء: 17].
فَرْق بين مَنْ يذهب إلى باريس لطلب العلم، فتعترض طريقه إحدى الفتيات، ومَنْ يذهب إلى باريس لأنه سمع عما فيها من إغراء، فهذا وقع في المعصية رغماً عنه، ودون ترتيب لها، وهذا قصدها وسعى إليها، الأول غالباً ما يُؤنِّب نفسه وتتحرك بداخله النفس اللوامة والمناعة الذاتية، أما الآخر فقد ألِفَتْ نفسه المعصية واستشرتْ فيها، فلابد أن تكون له مناعة، ليست من ذاته، بل من المجتمع المحيط به، على المجتمع أن يمنعه، وأن يضرب على يديه.
والمناعة في المجتمع لا تعني أن يكون مجتمعاً مثالياً لا يعرف المعصية، بل تحدث منه المعاصي، لكنها مُفرّقة على أهواء الناس، فهذا يميل إلى السرقة، وهذا يميل إلى النظر إلى المحرمات، وهذا يحب كذا.. إلخ.
إذن: ففي الناس مواطن القوة، ومواطن ضعف، وعلى القوي في شيء أن يمنع الضعيف فيه، وأنْ يزجره ويُقومِّه؛ لذلك يقول تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3].
فإذا عَمَّ الفساد وطَمَّ كما قال تعالى عن اليهود: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ...} [المائدة: 79] وفقد المجتمع أيضاً مناعته. فلابد أنْ تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، لينقذ هؤلاء.
ثم يقول تعالى: {فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا...} [الروم: 30] فنحن نرى البشر يتخذون الطعوم والأمصال للتحصين من الأمراض، كذلك الحق سبحانه- وله المثل الأعلى- جعل هذا المصل التطعيمي في كل نفس بشرية، حتى في التكوين المادي.
ألا ترى قوله تعالى في تكوين الإنسان: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ...} [الحج: 5].
فالمخلَّقة هي التي تكوّن الأعضاء، وغير المُخلَّقة هي الرصيد المختزن في الجسم، وبه يعوَّض أيّ خلل في الأعضاء المخلَّقة، فهي التي تمده بما يصلحه، كذلك في القيم جاء دين الله فطرت الله التي فطر الناس عليها، فإذا تدخلتْ الأهواء وحدثتْ الغفلة جاءتْ المناعة، إما من ذات النفس، وإما من المجتمع، وإما برسول ومنهج جديد.
وقد كرَّم الله أمة محمد بأن يكون رسولُها خاتَم الرسل، فهذه بُشْرى لنا بأن الخير باقٍ فينا، ولا يزال في يوم القيامة، ولن يفسد مجتمع المسلمين أبداً بحيث يفقد كله هذه المناعة، فإذا فسدتْ فيه طائفة وجدت أخرى تُقوِّمها، وهذا واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم.
«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك».
وقال صلى الله عليه وسلم: «الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة».
وإلا لو عَمَّ الفساد هذه الأمة لاقتضى الأمر شيئاً آخر.
وحين نقرأ الآية نجد أن كلمة {فِطْرَتَ...} [الروم: 30] منصوبة، ولم يتقدم عليها ما ينصبها، فلماذا نُصِِبَتْ؟ الأسلوب هنا يريد أن يلفتك لسبب النصب، وللفعل المحذوف هنا، لتبحث عنه بنفسك، فكأنه قال: فأقم وجهك للدين حنيفاً والزم فطرت الله التي فطر الناس عليها.
لذلك يسمي علماء النحو هذا الأسلوب أسلوب الإغراء، وهو أن أغريك بأمر محبوب وأحثَّك على فِعْله، كذلك الحق سبحانه يغري رسوله صلى الله عليه وسلم بأنْ يُقيم وجهه نحو الدين الخالص، وأنْ يلزم فطرت الله، وألا يلتفت إلى هؤلاء المفسدين، أو المعوِّقين له.
والفطرة: يعني الخلقة كما قال سبحانه: {فَاطِرَ السماوات والأرض...} [يوسف: 101] يعني: خالقهما، والفطرة المرادة هنا قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فالزم هذه الفطرة، واعلم أنك مخلوق للعبادة.
أو: أن فطرت الله تعني: الطبيعة التي أودعها الله في تكوينك منذ خلق اللهُ آدم، وخلق منه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى...} [الأعراف: 172].
وسبق أنْ بيَّنا كيف أن في كل منا ذرة حية من أبينا آدم باقية في كل واحد منا، فالإنسان لا ينشأ إلا من الميكروب الذكري الحي الذي يُخصِّب البويضة، وحين تسلسل هذه العملية لابد أن تصل بها إلى آدم عليه السلام.
وهذه الذرة الباقية في كل منا هي التي شهدتْ العهد الأول الذي أخذه الله علينا، وإلا فالكفار في الجاهلية الذين جاء رسول الله لهدايتهم، كيف اعترفوا لله تعالى بالخلق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله...} [الزمر: 38].
من أين عرفوا هذه الحقيقة؟ نُقِلت إليهم من هذا العهد الأول، فمنذ هذا العهد لم يجرؤ أحد من خَلْق الله أنْ يدَّعي هذا الخَلْق لنفسه، فظلت هذه القضية سليمة في الأذهان مع ما حدث من فساد في معتقدات البشر.
وتظل هذه القضية قائمة بالبقية الباقية من هذا العهد الأول، حتى عند الكفار والملاحدة، فحين تكتنفهم الأحداث وتضيق بهم أسبابهم، تراهم يقولون وبلا شعور: يا رب، لا يدْعون صنماً ولا شجراً، ولا يذهبون إلى آلهتهم التي اصطنعوها، فهم يعلمون أنها كذب في كذب، ونصب في نصب.
والآن لا يخدعون أنفسهم ولا يكذبون عليها، الآن وفي وقت الشدة وحلول الكرب ليس إلا الله يلجئون إليه، ليس إلا الحق والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
وما دام الله قد فطرنا على هذه الفطرة، فلا تبديل لما أراده سبحانه: {ذَلِكَ الدين القيم...} [الروم: 30] أي: الدين الحق {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] أي: لا يعلمون العلم على حقيقته والتي بيَّناها أنها الجزم بقضية مطابقة للواقع، ويمكن إقامة الدليل عليها.
ثم يقول الحق سبحانه: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتقوه...}.