فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (33):

{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)}
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس..} [الإسراء: 33].
كان القياس أنْ يُقابل الجمع بالجمع، فيقول: لا تقتلوا النفوس التي حرَّم الله، لكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن قَتْل النفس الواحد مسئوليةُ الجميع، لا أنْ يسأل القاتل عن النفس التي قتلها، بل المجتمع كله مسئول عن هذه الجريمة.
{التي حَرَّمَ الله..} [الإسراء: 33] أي: جعلها محرّمة لا يجوز التعدي عليها؛ لأنها بنيان الله وخلْقته وصناعته، وبنيان الله لا يهدمه أحد غيره. أو نقول: {النفس التي حَرَّمَ الله..} [الإسراء: 33] أي: حرَّم الله قتلها.
{إِلاَّ بالحق} [الإسراء: 33] هذا الاستثناء من الحكم السابق الذي قال: لا تقتلوا النفس التي حرم الله {إِلاَّ بالحق} أي: ولكن اقتلوها بالحق، والحق هنا المراد به ثلاثة أشياء:
القصَاص من القاتل.
الردَّة عن الإسلام.
زِنَا المحصَن أو المحصَنة.
وهذه أسباب ثلاثة تُوجِب قَتْل الإنسان، والقتْل هنا يكون بالحق أي: بسبب يستوجب القتل.
وقد أثار أعداء الإسلام ضَجَّة كبيرة حول هذه الحدود وغيرها، واتهموا الإسلام بالقسوة والوحشية، وحُجَّتهم أن هذه الحدود تتنافى وإنسانية الإنسان وآدميته، وتتعارض مع الحرية الدينية التي يقول بها الإسلام في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين..} [البقرة: 256]


ففي القصاص قالوا: لقد خَسِر المجتمع واحداً بالقتل، فكيف نُزِيد من خسارته بقتْل الآخر؟
نقول: لابد أن نستقبلَ أحكام الله بفْهمٍ وَاع ونظرة متأمّلة، فليس الهدف من تشريع الله للقصاص كثرة القتل، إنما الهدف ألاّ يقع القتل، وألاَّ تحدثَ هذه الجريمة من البداية.
فحين يُخبرك الحق سبحانه أنك إنْ قتلتَ فسوف تُقتَل، فهو يحمي حياتك وحياة الآخرين. وليس لدى الإنسان أغلى من حياته، حتى القاتل لم يقتل إلا لأنه يحب الحياة، وقتل من أجلها مَنْ قتل؛ لأنه ربما خدش عِزَّته أو كرامته، وربما لأنه عدو له أقوى منه.
ولا شكَّ أن حياته أغلى من هذا كله، فحين نقول له: إنْ قتلتَ ستُقتل، فنحن نمنعه أنْ يُقدِم على هذه الجريمة، ونُلوّح له بأقسى ما يمكن من العقوبة. ولذلك قالوا: القتْلُ أنْفَى للقتل.
وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب..} [البقرة: 179].
وهذا نداء لأصحاب الأفهام والعقول الواعية، ليس القصاص كما يظنُّ البعض، بل فيه الحياة وفيه سلامة المجتمع وحَقْن الدماء.
ويجب أن يكون عندنا يقظةُ استقبال لأحكام الله؛ لأن القاتل ما قتل إلا حينما غفل عن الحكم، ويجب أيضاً أن ننظر إلى حكم القصاص نظرة موضوعية، لأنه كما حَمى غيري من قَتْلِي له حماني أيضاً من قَتْل غيري لي، وما دامت المسألة: لك مثل ما عليك، وحظك منها كحظِّ الناس جميعاً، فلماذا الاعتراض؟
وكذلك في السرقة، حينما يقول لك: لا تسرق، فأنت ترى أن هذا الأمر قد قيَّد حريتك أنت، لكن الحقيقة أنه أيضاً قيَّد حرية الآخرين بالنسبة للسرقة منك.
والذي يتأمل هذه الحدود يجدها في صالح الفرد؛ لأنها تُقيِّد حريته وهو فرد واحد، وتُقيِّد من أجله حرية المجتمع كله.
وفي الزكاة، حينما يُوجِب عليك الشارع الحكيم أنْ تُخرِج قَدْراً معلوماً من مالك للفقراء، فلا تَقُلْ: هذا مالي جمعتُه بجَهْدي وعَرقي. ونقول لك: نعم هو مالك، ولكن لا تنسَ أن الأيام دُوَلٌ وأغيار، والغنيّ اليوم قد يفتقر غداً، فحين تعضّك الأيام فسوف تجد مَنْ يعطيك، ويَكيل لك بنفس الكَيْل الذي كِلْتَ به للناس.
إذن: يجب أن نكون على وَعْي في استقبال الأحكام عن الله تعالى، وأن ننظر إليها نظرة شمولية، فنرى ما لنا فيها وما علينا، وما دامت هذه الأحكام تعطينا بقدر ما تأخذ مِنّا فهي أحكام عادلة.
وحُكْم القصاص يجعل الإنسان حريصاً على نفسه، ويمنعه أنْ يُقدِم على القَتْل، فإنْ غفل عن هذا الحكم وارتكب هذه الجريمة فلابد أن يقتصَّ منه؛ فإن أخذتنا الشهامة وتشدَّقْنا بالإنسانية والكرامة والرحمة الزائفة، وعارضنا إقامة الحدود فليكُنْ معلوماً لدينا أن مَنْ يعارض في إعدام قاتل فسوف يتسبب في إعدام الملايين، وسوف يفتح الباب لفوضى الخلافات والمنازعات، فكلّ من اختلف مع إنسان سارع إلى قَتْله؛ لأنه لا يوجد رادع يُردِعه عن القتل.
إذن: لكي نمنع القتل لابد أن نُنفِّذَ حكم الله ونُقيم شَرعه ولو على أقرب الناس؛ لأن هذه الأحكام ما نزلتْ لتكون كلاماً يُتلَى وفقط؛ بل لتكون منهجاً عملياً يُنظِّم حياتنا، ويحمي سلامة مجتمعنا.
لذلك جعل الحق سبحانه وتعالى تنفيذ هذه الأحكام علانية أمام الجميع، وعلى مَرْأى ومَسْمع المجتمع كله؛ ليعلموا أن أحكام الله ليست شفوية، بل ها هي تُطبِّق أمامهم، وصدق الله تعالى حين قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2].
والذين اعترضوا على القصاص اعترضوا أيضاً على إقامة حَدّ الردَّة، ورأوا فيه وحشية وكَبْتاً للحرية الدينية التي كفَلها الإسلام في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين..} [البقرة: 256].
والحقيقة أن الإسلام حينما شرع حَدَّ الردة، وقال بقتل المرتد عن الدين أراد أن يُصعِّب على غير المسلمين الدخول في الإسلام، وأن يُضيِّق عليهم هذا الباب حتى لا يدخل في الإسلام إلا مَنْ أخلص له، واطمأنَّ قلبه إليه، وهو يعلم تماماً أنه إنْ تراجع عن الإسلام بعد أن دخل فيه فجزاؤه القتل.
فهذه تُحسَب للإسلام لا عليه؛ لأنه اشترط عليك أولاً، وأوضح لك عاقبة ما أنت مُقدِم عليه.
أما حرية الدين والعقيدة فهي لك قبل أن تدخل الإسلام دخولاً أولياً، لا يجبرك أحد عليه، فلك أنْ تظلَّ على دينك كما تحب، فإنْ أردتَ الإسلام فتفكّر جيداً وتدبّر الأمر وابحثه بكل طاقات البحث لديك.
فليس في دين الله مجالٌ للتجربة، إنْ أعجبكَ تظلّ في ساحته، وإنْ لم يَرُق لك تخرج منه، فإنْ علمتَ هذه الشروط فليس لك أنْ تعترضَ على حدِّ الردّة بعد ذلك. ولتعلم أن دين الله أعزّ وأكرم من أنْ يستجدي أحداً للدخول فيه.
ثم يقول تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً..} [الإسراء: 33].
وهذا حكم نفي، المفروض ألاَّ يحدث. ومعنى {مَظْلُوماً} أي: قُتِل دون سبب من الأسباب الثلاثة السابقة أي: دون حق، فعلى فَرْض أن هذا القتل وقع بالفعل، فما الحكم؟
يقول تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل..} [الإسراء: 33].
وليه: أي وليّ المقتول، وهو مَنْ يتولّى أمره من قرابته: الأب أو الأخ أو الابن أو العم.. الخ فهو الذي يتولّى أمر المطالبة بدمه.
{سُلْطَاناً..} [الإسراء: 33].
أي: شرعنا له، وأعطيناه الحقَّ والقوة في أنْ يقتل القاتل، والسلطان يكون في خدمة التنفيذ، ويُمكّنه منه، وكذلك المؤمنون أيضاً يقفون إلى جواره، ويساعدونه في تنفيذ هذا الحكم؛ لأن الأمر من الله قد يكون رادعه في ذات النفس، لكن إنْ ضعُفَتْ النفس فلابد لرادع من الخارج، وهنا يأتي دور السلطان ودور المجتمع الإيماني الذي يُعين على إقامة هذا الحكم.
إذن: جعل الحق سبحانه وتعالى سلطان القصاص لوليّ الدم، فإنْ لم يكن له وليّ فإن السلطان ينتقل للحاكم العام ليتولى إقامة هذا الحكم، لكن ما يُتعِب الدنيا حينما ينتقل حَقُّ القصاص إلى الحاكم العام طُول الإجراءات التي تُخرج الحكم عن المراد منه، وتُذْكِي نار الحقد والغِلِّ والتِّرَة في نفسِ وليَّ الدم.
فوليّ الدم وحده الذي يُعاني طول فترة التقاضي مع أناس لا يعنيهم أن تطولَ هذه الفترة أو تقصُر؛ لأن طول فترة التقاضي تأتي في صالح القاتل، حيث بمرور الأيام بل والسنين تبْرُد شراسة الجريمة في نفوس الناس، وتأخذ طريقاً إلى طيّات النسيان.
وبهذا تبهت الجريمة وتُنسَى بشاعتها، وبدلَ أن يقف المجتمع ويفكر في القاتل وفي القصاص منه، تتحول الأنظار والعواطف إلى النفس الجديدة التي ستُقتل، وبذلك يتعاطف الناس معه بدل أن يتعاطفوا في إقامة القصاص عليه.
لكن يجب أنْ يُقامَ القصاص قبل أنْ تبُردَ شراسة الجريمة في النفوس، وتبهت وتفقد حرارتها.
والحق سبحانه وتعالى كما شرع القصاص، وجعله في يد وليّ الدم، أراد في الوقت نفسه ألاَّ يحرم المجتمع من طموحات العفو الذي يُنهي أصول الخلاف، فيقول تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ..} [البقرة: 178].
ففي جَوِّ القتل وثورة الدماء التي تغلي بالثأر يتكلم الحق سبحانه عن العفو والأخوة والمعروف والإحسان، فمهما كان الأمر فالمؤمنون إخوة، وباب العفو والإحسان مفتوح. ولوليّ الدم بعد أن أعطيناه حَقَّ القصاص ندعوه إلى العفو، وله أن يأخذ الدية وتنتهي المسألة، وله أن يعفوَ عن بعضها أو عنها كلها.
إذن: فإعطاء الحق مَنع عن المقتول له ذِلّة التسلُّط من القاتل؛ لأن الله تعالى أعطاه حَقَّ القصاص منه، فإذا ما عفا عنه علم القاتل أن حياته أصبحت هبة من ولي الدم، وما دام الأمر كذلك فسوف تتلاشى بينهما الضغائن والأحقاد، ويحل محلها الوفاق والمحبة والسلام، ونُنهي تسلسل الثارات الذي لا ينتهي.
وقد اشتهر في صعيد مصر وكان مثالاً للأخْذ بالثأر أن القاتل يأخذ كفنه في يده، ويذهب به إلى وليّ الدم ويُسلِّم نفسه إليه معترفاً بجريمته، معطياً لولي الدم حرية التصرف فيه. فما يكون من ولي الدم أمام هذا الاستسلام إلاّ أن يعفوَ ويصفح، وبذلك تُقتلَع الضغائن من جذورها.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل..} [الإسراء: 33].
أي: طالما أن الله أعطاك حَقَّ القصاص فليكُنْ القصاص بقَدْره دون زيادة أو تعدٍّ أو مجاوزة للحدِّ، والإسراف في القتل يكون بأوجه عدة:
فقد يكون القاتل غير ذي شأن في قومه، فلا يرضى وليّ الدم بقتْله، بل يتطلع إلى قتل إنسان آخر ذي مكانة وذي شأن، فيقتل إنساناً بريئاً لا ذنبَ له، وهذا من الإسراف في القتل، وهو إسرافٌ في ذات المقتول.
وقد يكون الإسراف في الكَمِّ، فإنْ قُتِل واحد فلا يكتفي وليّ الدم بأن يقتل القاتل، بل يحمله الغِلّ وثورة الدم إلى أنْ يقتل به أكثر من واحد.
وقد يكون الإسراف بأنْ يُمثّل بجثة المقتول، ولا يكفيه قتله، والمفروض ألاَّ يحملك الغضب على تجاوز الحدِّ المشروع لك. وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلها في قاتل حمزة، فنهاه الله عن ذلك.
ثم يقول تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33].
أي: لا يجوز له أنْ يُسرف في القتل؛ لأننا لم نتخلّ عنه، بل وقفنا بجانبه وأعطيناه حقّ القصاص ومكنَّاه منه، إذن: فهو منصور ليس متروكاً، فيجب أن يقف عند حَدِّ النُّصْرة لا يتجاوزها؛ لأنه إن تجاوزها بقتل غير القاتل، فسوف يُقتل هو الآخر قصاصاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ...}.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)}
وهنا أيضاً يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ..} [الإسراء: 34].
ولم يقل: ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب، أو التفكير في التعدِّي عليه؛ لأن اليُتْم مظهر من مظاهر الضعف لا صح أنْ تجترئَ عليه.
و{اليتيم} هو مَنْ مات أبوه وهو لم يبلغَ مبلغ الرجال وهو سِنْ الرُّشْد، وما دام قد فقد أباه ولم يَعُدْ له حاضن يرعاه، فسوف يضجر ويتألم ساعة أنْ يرى غيره من الأولاد له أب يحنو عليه، وسوف يحقد على القدَر الذي حرمه من أبيه.
فيريد الحق سبحانه وتعالى أولاً أنْ يستلِّ من قلب اليتيم وفكره هذه المشاعر؛ لذلك يُوصِي المجتمع به ليشعر أنه وإنْ فقد أباه فالمؤمنون جميعاً له آباء، وفي حُنوِّهم وعطفهم عِوَض له عن وفاة والده.
وكذلك حينما يرى الإنسانُ أن اليتيم مُكرّم في مجتمع إيماني يكفله ويرعاه، ويعتبره كل فرد فيه ابناً من أبنائه، يطمئن قلبه ولا تُفزِعه أحداث الحياة في نفسه، ولا يقلق إنْ قُدِّر له أن يُيَتَّم أولاده، فسوف يجدون مثل هذه الرعاية، ومثل هذا الحنان من المجتمع الإيماني.
إذن: إنْ وجد اليتيم في المجتمع عِوَضاً عن أبيه عَطْفاً وحناناً ورعاية يرضى بما قُدِّر له، ولا يتأبَّى على قدر الله، وكذلك تطمئن النفس البشرية إنْ قُدِّر عليها اليُتْم في أولادها.
ثم يقول تعالى: {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ..} [الإسراء: 34].
أي: لا تنتهز يُتْم اليتيم، وأنه ما يزال صغيراً ضعيف الجانب فتطمع في ماله، وتأخذه دون وجه حق.
وقوله: {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ..} [الإسراء: 34] استثناء من الحكم السابق {وَلاَ تَقْرَبُواْ..} يبيح لنا أن نقرب مال اليتيم، ولكن بالتي هي أحسن.
و{أَحْسَنُ} أفعل تفضيل تدل على الزيادة في الإحسان فكأن لدينا صفتين ممدوحتين: حسنة وأحسن، وكأن المعنى: لا تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب، بل بالطريقة الأحسن. فما الطريقة الحسنة؟ وما الطريقة الأحسن؟
الطريقة الحسنة: أنك حين تقرب مال اليتيم لا تُبدده ولا تتعدَّى عليه. لكن الأحسن: أنْ تُنمي له هذا المال وتُثمّره وتحفظه له، إلى أن يكون أَهْلاً للتصرّف فيه.
لذلك فالحق سبحانه حينما تكلم عن هذه المسألة قال: {وارزقوهم فِيهَا} [النساء: 5].
ولم يقل: وارزقوهم منها؛ لأن الرزق منها يُنقِصها، لكن معنى: {وارزقوهم فِيهَا} [النساء: 5] أي: من ريعها وربحها، وليس من رأس المال.
وإلاَّ لو تصوّرنا أن أحد الأوصياء على الأيتام عنده مال ليتيم، وأخذ ينفق عليه من هذا المال، ويُخرج منه الزكاة وخلافه، فسوف ينتهي هذا المال ويبلغ اليتيم مبلغ الرُّشْد فَلا يجد من ماله شيئاً يُعتَدُّ به.
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول: حقِّقوا الحسن أولاً بالمحافظة على مال اليتيم، ثم قدِّموا الأحسن بتنميته له وزيادته زيادة تتسع لنفقات حياته، وإلاَّ فسوف يشبّ الصغير، وليس أمامه من ماله شيء.
والحق سبحانه وتعالى يريد ألاَّ يحرم اليتيم من خبرة أصحاب الخبرة والصلاحية الاقتصادية وإدارة الأموال، فقد يكون من هؤلاء مَنْ ليس لديه مال يعمل فيه، فليعمل في مال اليتيم ويُديره له ويُنمّيه، وليأكل منه بالمعروف، وإنْ كان غنياً فليستعفف عنه؛ لأنه لا يحلّ له، يقول تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف..} [النساء: 6].
لأن الإنسان إذا كان عنده خبرة في إدارة الأموال ولديْه الصلاحية فلا نُعطِّل هذه الخبرة، ولا نحرم منها اليتيم، وهكذا نوفر نفقة صاحب الخبرة الذي لا يجد مالاً، ونفقة اليتيم الذي لا يستطيع إدارة أمواله، وبذلك يتم التكامل في المجتمع الإيماني.
ثم يقول تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ..} [الإسراء: 34].
أي: حتى يكبر ويبلغ مبلغ الرجال، ولكن هل هذه الصفة كافية لكي نُعطِي لليتيم ماله وقد بلغ سِنّ الرُّشْد والتكليف؟
في الحقيقة أن هذه الصفة غير كافية لنُسلّم له ماله يتصرف فيه بمعرفته؛ لأنه قد يكون مع كِبَر سِنّه سفيهاً لا يُحسِن التصرُّف، فلا يجوز أن نتركَ له المال لِيُبدّده، بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ..} [النساء: 6].
وقال في آية أخرى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].
ولم يقل: أموالهم، لأن السفيه ليس له مال، وليس له ملكية، والمال مال وليه الذي يحافظ عليه ويُنمّيه له.
إذن: فالرُّشْد وهو سلامة العقل وحُسْن التصرُّف، شرط أساسي في تسليم المال لليتيم؛ لأنه أصبح بالرُّشْد أهْلاً للتصرُّف في ماله.
وكلمة: {أَشُدَّهُ..} [الإسراء: 34] أي: يبلغ شِدّة تكوينه، ويبلغ الأشدّ أي: تستوي ملكاته استواءً لا زيادة عليه، فأعضاء الإنسان تنمو وتتربى مع نموه على مَرِّ الزمن، إلى أن يصل سِنّ الرشد ويصبحَ قادراً على إنجاب مثله، وهذه سِنّ الأشُدّ أي: الاستواء.
لذلك أجَّلَ الله تعالى التكليف للإنسان إلى سِنِّ البلوغ؛ لأنه لو كلَّفه قبل أن يبلغ ثم طرأ عليه البلوغ بعد التكليف لاحتجَّ بما طرأ عليه في نفسه من تغيرات لم تكن موجودة حال التكليف.
ثم يقول تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] {العهد} ما تعاقد الإنسان عليه مع غيره عقداً اختيارياً يلتزم هو بنتائجه ومطلوباته، وأول عقد أُبرٍمَ هو العَقْد الإيماني الذي أخذه الله تعالى علينا جميعاً، وأنت حُرٌّ في أن تدخل على الإيمان بذاتك مختاراً أو لا تدخل، لكن حين تدخل إلى الإيمان مُخْتاراً يجب أن تلتزم بعهد الإيمان؛ لأن الله لا يريد منّا قوالب تخضع، ولكن يريد مِنّا قلوباً تخشع، ولو أراد الله منّا قوالب تخضع ما استطاع واحد مِنّا أنْ يشذّ عن الإيمان بالله.
لذلك خاطب الحق تبارك وتعالى رسوله بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
فالله لا يريد أعناقاً، وإنما يريد قلوباً، لكن يخلط كثير من الناس إنْ أمرته بأمر من أمور الدين فيقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين..} [البقرة: 256].
نقول له: أنت لم تحسن الاستدلال، المراد: لا إكراه في أنْ تدخل الدين، ولكن إذا دخلتَ فعليك الالتزام بمطلوباته.
ومن باطن هذا العهد الإيماني تنشأ كل العقود، لذلك يجب الوفاء بالعهود؛ لأن الوفاء بها جزء من الإيمان، فأنت حُرٌّ أن تقابل فلاناً أولا تقابله، إنما إذا عاهدتَه على المقابلة فقد أصبحتَ مُلْزماً بالوفاء؛ لأن المقابل لك قد رتَّبَ نفسه على أساس هذا اللقاء، فإنْ أخلفتَ معه العهد فكأنك أطلقتَ لنفسه حرية الحركة، وقيَّدتَ حركة الآخر.
وهذه صفة لا تليق أبداً بالمؤمنين، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من صفات المنافقين.
وقوله: {إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34].
قد يكون المعنى: أي مسئولاً عنه، فيسأل كل إنسان عن عهده أوفَّى به أم أخلفه؟
وقد يراد {مَسْؤُولاً} أي: مسئول ممَّنْ تعاقد عليه أنْ يُنقّذه، وكأنه عدَّى المسئولية إلى العهد نفسه، فأنا حُرٌّ وأنت حُرٌّ، والعهد هو المسئول.
والحق سبحانه وتعالى يستعمل اسم المفعول في مواضع تقول للوهلة الأولى أنه في غير موضعه، ولكن إذا دققتَ النظر تجده في موضعه بليغاً غايةَ البلاغة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45].
هكذا بصيغة اسم المفعول، والحجاب في الحقيقة ساتر وليس مستوراً، ولكن الحق سبحانه يريد أنْ يجعلَ الحجاب صفيقاً، كأنه نفسه مستور بحجاب الغير، كما يصنع بعض المترفين ستائر البيوت من طبقتين، فتصبح الستارة نفسها مستورة، وكما في قوله تعالى: {ظِلاًّ ظَلِيلاً..} [النساء: 57] أي: أن الظلَّ نفسه مُظَلّلٌ.
وانظر إلى حال المجتمع إذا لم تُرَاعَ فيه العهود، ولم تُحترمَ المواثيق، مجتمع يستهين أهله بالوفاء وشرف الكلمة، فسوف تجده مجتمعاً مُفكّكاً فُقِدت فيه الثقة بين الناس، وإذا ما فُقِدت الثقة وضاع الوفاء وشرف الكلمة الذي تُدار به حركة الحياة فاعلم أنه مجتمع فاشل، وليس أَهْلاً لرقيٍّ أو تقدُّم.
ولأهمية العهد في الإسلام نجده ينعقد بمجرد الكلمة، وليس من الضروري أن يُسجَّل في سجلات رسمية؛ لأن المؤمن تثق في كلمته حتى إن لم تُوثَّق وتكتب.
ومن هنا وُجِد ما يسمونه بالحق القضائي وبالحق الديني، فيقولون: هذا قضاءً وهذا ديانة، والفرق واضح بينهما، ويمكن أن نضرب له هذا المثل: هَبْ أنك أخذتَ دَيْناً من صديق لك، وكتب له مستنداً بهذا الدين ليطمئن قلبه، ثم قابلته بعد أن تيسَّر لك السداد ووفَّيت له بدَيْنه. لكنه اعتذر لعدم وجود المستند معه الآن، فقلت له: لا عليك أرسله لي متى شئتَ، فلو تصوَّرنا أنه أراد الغدر بك وأنكر سداد الدين، فالقضاء يقول: له الحق في أخذ دَيْنه، أما ديانة فليس له شيء.
إذن: العهد الذي نعقده مع الناس يدخل تحت المسئولية الدينية وليس القضائية.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم...}.