فصل: تفسير الآية رقم (40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (37):

{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)}
الأحزاب: أي الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من قومه، فمنهم مَنْ قال: هو إله، ومنهم مَن قال: ابن إله. وآخر قال: هو ثالث ثلاثة. ومنهم مَنْ رماه بالسحر وقال عنه بعضهم: ابن زنى نستغفر الله مما يقوله الظالمون والكافرون.
والأحزاب: جمع حِزْب، وهم طائفة من الناس اجتمعوا حول مبدأ من المبادئ، ورأْي مَن الآراء يدافعون عنه ويعتقدونه، ويسيرون في حياتهم على وفقه، ويُخضِعون حركة حياتهم لخدمته.
ومعنى: {مِن بَيْنِهِمْ} [مريم: 37] يعني من داخل المؤمنين به ومن أتباع عيسى أنفسهم، فالذين قالوا عنه هذه الأباطيل ليسو من أعدائه، بل من المؤمنين به.
وهكذا اختلف القوم في أمر عيسى، وكان لكل منهم رَأْي، وجميعها مُنَافِية للصواب بعيدة عن الحقيقة؛ لذلك توعّدهم الخالق سبحانه بقوله: {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم: 37].
فقد قلتم في عيسى ما قُلْتم في الدنيا، وخُضْتم فيه بما أحببتُمْ من القول؛ لأن الله تعالى جعل إرادتكم نافذة على جوارحكم، وأعطاكم حرية الفعل والاختيار، فوجَّهتم جوارحكم واخترتم ما يُغضب الله، فكأن عقوبة الدنيا لا تناسب ما فعلوه، ولابُدَّ لهم من عقوبة آجلة في الآخرة تناسب ما حدث منهم في حَقِّ نبيهم وفي حَقِّ ربهم تبارك وتعالى.
{فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم: 37] ومشهد يوم عظيم هو يوم القيامة، يوم تُبْلَى السرائر، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله.
وسماه المشهد العظيم؛ لأنه يوم مشهود يشهده الجميع؛ لأن العذاب في الدنيا مثلاً لا يشهده إلا الحاضرون المعاصرون، ولا يشهده السابقون ولا اللاحقون، أما عذاب الآخرة فهو المشهد العظيم الذي يراه كل الخَلْق.
وربما كان بعض العذاب أهونَ من رؤية الغير للإنسان وهو يُعذِّب، فربما تحمَّل هو العذاب في نفسه أما كونه يُعذَّب على مرأىً من الناس جمعياً، ويرونه في هذه المهانة وهذه الذلة وقد كان في الدنيا عظيماً أو جباراً أو عاتياً أو ظالماً، لا شكَّ أن رؤيتهم له في هذه الحالة تكون أنكَى له وأبلغ.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عنهم في آية أخرى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام: 27] هذا منهم مجرد كلام: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} [الأنعام: 28] أي: ظهر لهم ما كانوا يخفون ولم يقُلْ يخفَى عنهم، كأنهم كانوا يعلمون عنه شيئاً ولكنهم أخفوْه.
وقال عنهم: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12].
فلماذا أبصروا وسمعوا الآن؟ لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا عن غير وَعْي، فينكرون ويُبصرون آيات الله في الكون ولا يؤمنون، أما في الآخرة فقد انكشفتْ لهم الحقائق التي طالما أنكَروها، ولم يَعُدْ هناك مجال للمكابرة أو الإنكار؛ لذلك يقول تعالى بعدها: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}

.تفسير الآية رقم (38):

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)}
قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أي: أسمع بهم وأبْصِر بهم، وهذه من صِيَغ التعجُّب على وزن(أفعل به) يعني ما أشدّ سمعهم، وما أشدّ بصرهم، فهم الآن يُرهِفون السمع ويُدقِّقون النظر حتى إن الإنسان ليتعجب من سمعهم الدقيق، وبصرهم المحيط بعد أن كانوا في الدنيا يضعون أصابعهم في آذانهم فلا يسمعون، ويستغشون ثيابهم فلا يبصرون، كانوا في عَمىً عن آيات الله الواضحات التي تثبت صِدْق الرسل، وعن الآيات التي تحمل الأحكام، وعن الآيات الكونية التي تدلُّ على قدرة الصانع الحكيم.
وقوله: {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] أي: أسمع بهم وأبصر بهم في هذا اليوم يوم القيامة، والإنسان بحكم خَلْق الله تعالى له، واستخلافه في الأرض جعل له السيطرة على جوارحه فهو يأمرها فتطيعه، فجوارح الإنسان وطاقاته مُسخّرة لإرادته، فلسانك تستطيع أنْ تنطقَ ب لا إله إلا الله. كما تستطيع أن تقول: لا إله أو تقول: الله ثالث ثلاثة. واللسان مِطْواع لك لا يعصاك في هذه أو تلك، وما أعطاك الله هذه الحرية وكفَل لَك الاختيار إلا لأنه سيحاسبك عليها يوم القيامة: أأردتَ الخير الذي وجَّهك إليه أم أردتَ الشر الذي نهاك عنه؟
أما يوم القيامة فتنحلّ هذه الأرادة، ويبطل سلطانها على الجوارح في يوم يُنادِي فيه الحق تبارك وتعالى: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] يومها ستشهد الجوارح على صاحبها، وكما قال الحق سبحانه تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
ويقول تعالى: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].
لم لا؟ وقد تحررتْ الجوارح من قَيْد الإرادة، وجاء الوقت لتشتكي إلى الله، وتنطق بكلمة الحق التي كتمتْها تحت وطأة الإرادة وقهْرها.
وسبق أن ضربنا مثالاً لذلك بمجموعة من الجنود يسيرون تحت إمْرة قائدهم المباشر، ويأتمرون بأمره، ويطيعونه طاعة عمياء، فإذا ما عادوا إلى القائد الأعلى انطلقتْ ألسنتُهم بالشكوى من تعسُّف قائدهم وغَطْرسته.
ثم يقول تعالى: {لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [مريم: 38] فيا ليتهم فهموا هذه المسألة، لكنهم ظلموا، وما ظلموا إلا أنفسهم، فالله تبارك وتعالى لا يضره كفر الكافرين، ولا ينقص من مُلْكه تعالى وسلطانه، لكن كيف يظلم الإنسان نفسه؟
يظلم الإنسان نفسه؛ لأنه صاحب عَقْل واعٍ يستقبل الأشياء ويميزها، وصاحب نفس شهوانية تصادم بشهواتها العاجلة هذا العقل الواعي، وتصادم المنهج الربّاني الذي يأمرها بالخير وينهاها عن الشر، هذه النفس بشهواتها تدعو الإنسان إلى مرادها وتوُقِعه في المتعة الوقتية واللذة الفانية التي تستوجب العذاب وتُفوِّت عليه الخير الباقي والنعيم الدائم.
لذلك يقول تعالى: {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة}

.تفسير الآية رقم (39):

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} [مريم: 39] الإنذار: هو التحذير من شر قادم.
والحسرة: هي الندم البالغ الذي يصيب النفس الإنسانية حينما يفوتها خير لا يمكن تداركه، وحينما تلقى شيئاً لا تستطيع دفعه أما الندم فيكون حزناً على خير فاتَكَ، لكن يمكن تداركه، كالتلميذ الذي يخفق في امتحان شهر من الشهور فيندم، لكنه يمكنه تدارك هذا الإخفاق في الشهر التالي، أما إذا أخفق في امتحان آخر العام فإنه يندم ندماً شديداً، ويتحسَّر على عام فات لا يمكن تداركُ الخسارة فيه.
لذلك سيقول الكفار يوم القيامة: {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31].
والمعنى: يا حسرتنا تعالَىْ فهذا أوانك، واحضري فقد فاتتْ الفرصة إلى غير رجعة. إذن: فيوم الحسرة هو يوم القيامة، حيث لن يعود أحدٌ ليتدارك ما فاته من الخير في الدنيا، وليتَ العقول تعي هذه الحقيقة، وتعمل لها وهي ما تزال في سَعَة الدنيا.
ومعنى: {إِذْ قُضِيَ الأمر} [مريم: 39] أي: وقع وحدث، ولا يمكن تلافيه، ولم يَعُدْ هناك مجال لتدارُكِ ما فات؛ لأن الذي قضى هذا الأمر وحكم به هو الله تبارك وتعالى الذي لا يملك أحدٌ ردَّ أمرِه أو تأخيره عن موعده أو مناقشته فيه، فسبحانه، الأمر أمره، والقضاء قضاؤه، ولا إله إلا هو.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الله حينما يُدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ، ويُدخِل أهلَ النارِ النار يأتي بالموت على هيئة كبش، فيقول للمؤمنين: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم هو الموت جاءنا وعرفناه، ويقول للكفار: أتعرفون هذا؟ يقولون: عرفناه، فيميت الله الموت ويقول لأهل الجنة: خلود بلا موت. ولأهل النار: خلود بلا موت».
وهكذا قضى اللهُ الأمرَ ليقطع الأمل على الكفار الذين قد يظنُّون أن الموت سيأتي ليُخرجهم مما هُمْ فيه من العذاب ويريحهم، فقطع الله عليهم هذا الأمل وآيسهم منه، حيث جاء بالموت مُشخّصاً وذبحه أمامهم، فلا موتَ بعد الآن فقد مات الموت.
لذلك يخبر عنهم الحق تبارك وتعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77].
ثم يقول تعالى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39].
الغفلة: أن يصرف الإنسان ذِهْنه عن الفكر في شيء واضح الدليل على صحته؛ لأن الحق تبارك وتعالى ما كان لِيُعذّب خَلْقه إلا وقد أظهر لهم الأدلة التي يستقبلها العقل الطبيعي فيؤمن بها.
فالذي لا يؤمن إذن: إما غافل عن هذه الأدلة أو متغافل عنها أو جاحد لها، كما قال سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14].
ومن الغفلة غفلتهم عن الموت، وقد قالوا: من مات قامت قيامته.
ومن حكمة الله أنْ أبهم الموت، أبهمه وقتاً، وأبهمه سبباً، وأبهمه مكاناً، فكان إبهام الموت هو عَيْن البيان للموت؛ لأن إبهامه يجعل الإنسان على استعداد للقائه في أيّ وقت، وبأيّ سبب، وفي أيّ مكان، فالموت يأتي غفلة؛ لأنه لا يتوقف على وقت أو سبب أو مكان.
فالطفل يموت وهو في بطن أمه، ويموت بعد يوم، أو أيام من ولادته، ويموت بعد مائة عام، ويموت بسبب وبدون سبب، وقد نتعجَّب من موت أحدنا فجأة دون سبب ظاهر، فلم تصدمه سيارة، ولم يقع عليه جدار أو حجر، ولم يداهمه مرض، فما السبب؟ السبب هو الموت، إنه سيموت، أي أنه مات لأنه يموت، كما يقال: والموت من دون أسباب هو السبب.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض}

.تفسير الآية رقم (40):

{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
كيف يقول الحق سبحانه: {نَرِثُ الأرض} [مريم: 40] وهي والكون كله مِلْك له تعالى؟ قالوا: لأنه تبارك وتعالى هو المالك الأعلى، وقد ملَّك من خَلْقه من ملَّك، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فليس لأحد ملك على شيء، ليس للإنسان سيطرة حتى على جوارحه وأعضائه، فالأمر كله يومئذ لله تعَالى، فيُردّ الملْك إلى صاحبه الأعلى، ولا أحدَ يرث هذا الملْكَ إلا الله تعالى.
لذلك، فالذين اغترُّوا بنعم الله في الدنيا فظنوا أن لهم مثْلها في الآخرة، فقال أحدهم: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] نقول له: لا، صحيح ستُردّ إلى ربك، لكن لن يكون لك عنده شيء؛ لأن الذي ملّكك في الدنيا ملّكك من باطن مِلكيته تعالى، فإذا ما جاءت الآخرة كان هو الوارث الوحيد.
وقوله: {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40] أي: أن الأمر لا يتوقف على أنْ نرث مُلْكهم، ويذهبوا هم لحال سبيلهم، بل سنرث مُلْكهم، ثم يرجعون إلينا لنحاسبهم فلن يخرجوا هم أيضاً من قبضة الملكية.
ثم يقول الحق سبحانه: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ}

.تفسير الآية رقم (41):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في استهلال سورة مريم عن ميلاد سيدنا يحيى لزكريا، وعن ميلاد سيدنا المسيح بن مريم، أراد أن يعرض لنا موكباً من مواكب الرسالات التي أرسلها الله نوراً من السماء لهداية الأرض، فقال: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 41].
فهو أبو الأنبياء وقمتهم؛ لأن الله تعالى مدحه بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120].
فليس هناك فرد يحتوي على خصال الكمال ومواهب الفضل كلها، لكن المجموع يحتويها فهذا شجاع قوي البنية، وهذا ذكي، وهذا حادّ البصر، وهذا نابغ في الطب، وهذا في الزراعة، مواهب متفرقة بين البشر، لا يجمعها واحد منه، فلا طاقته ولا حياته ولا مجهوده يستطيع أن يكون موهوباً في كل شيء، فالكمال كله مُوزّع في الخَلْق، إلا إبراهيم، فقد كان عليه السلام يساوي في مواهبه أمةً بأكملها.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} [مريم: 41] صِدّيق: من مادة صدق، ومعناها: تكلّم بواقع؛ لأن الكذب أنْ يتكلّم بغير واقع. وهذا يُسمَّى: صادق في ذاته، أما قولنا: صِدِّيق أي: مبالغة في الصدق، فقد بلغ الغاية في تصديق ما يأتي من الحق تبارك وتعالى، فهو يطيع ويُذعِن ولا يناقش، كما رأينا من أم موسى عليه السلام لما قال لها الحق سبحانه: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني} [القصص: 7].
بالله، أي أم يمكن أن تُصدِّق هذا الكلام، وتنصاع لهذا الأمر؟ وكيف تُنجِّي ولدها من شر أو موت مظنون بموت مُحقَّق؟
إذن: فهذا كلام لا يُصدَّق، وفوق نطاق العقل عند عامة الناس، أما في موكب الرسالات فالأمر مختلف، فساعة أنْ سمعتْ أم موسى هذا النداء لم يساورها خاطر مخالف لأمر الله، ولم يراودها شَكٌّ فيه؛ لأن وارد الله عند هؤلاء القوم لا يُعارض بوارد الشيطان أبداً، وهذه قضية مُسلَّمة عند الرسل.
إذن: الصِّدِّيق هو الذي بلغ الغاية في تصديق الحق، فيورثه الله شفافية وإشراقاً بحيث يهتدي إلى الحق ويُميّزه عن الباطل من أول نظرة في الأمر ودون بحث وتدقيق في المسألة؛ لأن الله تعالى يهبُكَ النور الذي يُبدّد عندك غيامات الشك، ويهبك الميزان الدقيق الذي تزنُ به الأشياء، كما قال سبحانه: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29].
ومن هنا سُمِّي أبو بكر رضي الله عنه صِدِّيقاً، ليس لأنه صادق في ذاته، بل لأنه يُصدِّق كل ما جاءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج الذي كذَّب به كثيرون، ماذا قال؟ قال: (إنْ كان قال فقد صدق).
فالأمر عنده متوقف على مجرد قول رسول الله، فهذا هو الميزان عنده، وطالما أن رسول الله قد قال فهو صادق، هكذا دون جدال، ودون مناقشة، ودون بَحْث في ملابسات هذه المسألة؛ لذلك من يومها وهو صِدِّيق عن جدارة.
والسيدة مريم قال عنها الحق تبارك وتعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] فسماها صديقة؛ لأنها صدَّقتْ ساعة أنْ قال لها الملَك: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} [مريم: 19].
فوثقتْ بهذه البشارة، وأخذتْها على أنها حقيقة واقعة، فلما جاء الوليد أشارت إليه وهي على ثقة كاملة ويقين تام أنه سينطق ويتكلم.
إذن: فالصِّديق ليس هو الذي يَصدُق، بل الذي يُصدِّق. وهكذا كان خليل الله إبراهيم(صديقاً) وكان أيضاً(نبياً) لأن الإنسان قد يكون صديقاً يعطيه الله شفافية خاصة، وليس من الضروري أن يكون نبياً، كما كانت مريم صِدِّيقة وأبو بكر صِدِّيقاً، فهذه إذن صفة ذاتية إشراقية من الله، أما النبوة فهي عطاء وتشريع يأتي من أعلى، وهُدى يأتي من السماء يحمل النبي مسئوليته؟.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت}