فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (42):

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)}
هذا الحديث من إبراهيم عليه السلام لأبيه على اعتبار أنه نبي جاء ليُعدِّل سلوك الناس على وَفْق منهج الله، وأوّلهم أبوه، وقد ذكره القرآن هكذا بأبوته لإبراهيم دون أن يذكر اسمه، إلا في آية واحدة قال فيها: {لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74].
وهذه الآية أحدثتْ إشكالاً فظنَّ البعض أن آزر هو أبو إبراهيم الحقيقي الصُّلبي، وهذا القول يتعارض مع الحديث النبوي الشريف الذي يُوضّح طهارة أصْل النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أنا خيار من خيار، ما زِلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات).
إذن: فأصول النبي إلى آدم (طاهر متزوج طاهرة)، فلو قلنا: إن آزر الذي قال الله في حقه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] هو أبو إبراهيم، لكَانَ في ذلك تعارض مع الحديث النبوي، فكيف يكون من آباء محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكافر؟
ولو تأملنا إطلاقات الأُبوّة في القرآن الكريم لخرجنا من هذا الإشكال، فالقرآن تكلم عن الأبوة الصُّلْبية المباشرة، وتكلم عن الأُبوة غير المباشرة في الجد وفي العم، فسمَّى الجد أباً، والعم أباً؛ لأنه يشترك مع أبي في جدي، فله واسطة استحق بها أن يُسمَّى أباً. وفي القرآن نصَّان: أحدهما: يُطلِق على الجد أباً، والآخر يُطلِق على العم أباً.
فالأول في قوله تعالى من قصة يوسف عليه السلام: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36].
فاختاروا يوسف لتأويل رؤياهم؛ لأنهم رأوه من المحسنين، فكأن الإحسان له مقاييس معروفة حتى عند غير المحسن، فلما تعرَّضوا لأمر يُهمهم لم يلجئوا إلا لهذا الرجل الطيب، فمقاييس الكمال محترمة ومعتبرة حتى عند فاقد الكمال.
فلما قالوا له {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] علم أنهم متتبعون حركاته وتصرفاته، وكيف سلوكه بينهم، فأراد أنْ يزيدهم مما عنده من إشراقات، فأمْره ليس مجرد سلوك طيب وسيرة حسنة بينهم، بل عنده أشياء أخرى، فقال: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} [يوسف: 37].
ثم ترك الإجابة عن سؤالهم، وأخذ في الحديث فيما يخصّه كنبيّ وداعية إلى الله، فأخبرهم أن ما عنده من مواهب هو عطاء من الله، وليس هو بأذكى منهم، فقال: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 37- 38].
ثم يلفت نظر رفاقه إلى بطلان ما هم عليه من عبادة أرباب متفرقين لم ينفعوهم بشيء، فهاهم يتركونهم ويلجئون إلى يوسف الذي له رَبٌّ واحد: {ياصاحبي السجن ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39].
وهكذا كان يوسف النبي الداعية حريصاً على نَشْر دعوته وهداية مَنْ حوله، حتى وهو في سجنه ما نسِيَ مهمته، وما قصَّر في دعوته، فلما فرغ من موعظته واستطاع بلباقة أنْ يُسمعِهم ما يريد، وإلاّ لو أجابهم عن سؤالهم من بداية الأمر لانصرفوا عن هذه الموعظة، وما أعاروها اهتماماً.
والآن يعود إلى سؤالهم وتفسير رؤياهم: {أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41].
شَاهِدُنا في هذه القصة هو قوله تعالى: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] ويوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، فسمَّى الأجداد آباءً.
وقد يُسمَّى العَمُّ أباً، كما جاء في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] فعَدَّ إسماعيلَ في آباء يعقوب، وهو عَمَّه.
إذن: لو أن القرآن الكريم حينما تحدث عن أبي إبراهيم فقال(لأبيه) في كل الآيات لا نصرف المعنى إلى الأُبوة الصُّلْبية الحقيقية، أما أنْ يقول ولو مرة واحدة {لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74] فهذا يعني أن المراد عمه؛ لأنه لا يُؤتي بالعَلَم بعد الأبوة إلا إذا أردنا العم، كما نقول نحن الآن حين نريد الأبوة الحقيقية: جاء أبوك هكذا مبهمة دون تسمية، وفي الأبوة غير الحقيقية نقول: جاء أبوك فلان.
وبناءً عليه فقد ورد قوله تعالى: {لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74] مرة واحدة، ليثبت لنا أن آزر ليس هو الأب الصُّلْبي لإبراهيم، وإنما هو عَمَّه، وبذلك يسْلَم لرسول الله صلى الله عليه وسلم طهارة نسبه ونقاء سِلْسلته إلى آدم عليه السلام.
وقوله: {ياأبت} [مريم: 42] وكان التركيب العربي يقتضي أن يقول: يا أبي، إلا أنهم يحذفون ياء المتكلم ويُعوِّضون عنها بالتاء، فلماذا؟ قالوا: لأن(أبت) لها مَلْحظ دقيق، فهو يريد أنْ يُثبت أنه وإنْ كان أباً إلا أن فيه حنان الأبوين: الأب والأم. فجاء بالتاء التي تشير إلى الجانب الآخر؛ لذلك نجدها لا تُقال إلا في الحنانية المطلقة(يَا أَبَتِ) كما لو ماتتْ الأم مثلاً، فقام الأب بالمهمتين معاً، وعوض الأبناء حنان الأم المفقود.
وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] يبدو من أسلوب إبراهيم عليه السلام مع أبيه أدَبُ الدعوة، حيث قدَّم الموعظة على سبيل الاستفهام حتى لا يُشعِر أباه بالنقص، أو يُظهِر له أنه أعلم منه.
{لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] نلحظ أنه لم يقُلْ من البداية: لِمَ تعبد الشيطان، بل أخّر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة، وبدل أنْ يقولَ الشيطان حلّل شخصيته، وأبان عناصره، وكشف عن حقيقته: لا يسمع ولا يبصر، ولا يُغني عنك شيئاً، فهذه الصفات لا تكون في المعبود، وهي العِلَّة في أنْ نتجنبَ عبادة ما دون الله من شجر أو حجر أو شيطان، وخصوصاً في بيئة إبراهيم عليه السلام وكانت مليئة بالأوثان والأصنام.
لأن العبادة ماذا تعني؟ تعني طاعةَ عابدٍ لمعبود في أَمْره ونَهْيه، فالذين يعبدون ما دون الله من صنم أو وَثَنٍ أو شمس أو قمر، بماذا أمرتْهم هذه المعبودات؟ وعن أيِّ شيء نهتْهُم؟ وماذا أعدَّتْ هذه المعبودات لمنْ عبدها؟ وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها؟ ما المنهج الذي جاءتْ به حتى تستحقَّ العبادة؟ لا يوجد شيء من هذا كله، إذن: فعبادتهم باطلة.
ثم يقول: {ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي}

.تفسير الآية رقم (43):

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)}
يُكرِّر نبي الله إبراهيم هذا النداء الحنون مرة أخرى، وكأنه يريد أنْ يثير في أبيه غريزة الحنان، ويُوقِظ عنده أواصر الرحم، كأنه يقول له: إن كلامي معك كلام الابن لأبيه، كما نفعل نحن الآن إنْ أراد أحدنا أنْ يُحنّن إليه قلب أبيه يقول: يا والدي كذا وكذا.. يا أبي اسمع لي. وكذلك حال إبراهيم عليه السلام حيث نادى أباه هذا النداء في هذه الآيات أربع مرات متتاليات، وما ذلك إلا لحرصه على هدايته، والأخْذ بيده إلى الطريق المستقيم.
وقوله: {إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 43] أي: لا تظن يا أبي أنِّي متعالم عليك، أو أَنِّي أفضل، أو أذكى منك، فهذا الكلام ليس من عندي، بل من أعلى مني ومنك، فلا غضاضةَ في سماعه والانصياع له، وهو رسالة كُلِّفْتُ بإبلاغك إياها، وهذا الذي جاءني من العلم لم يأتِكَ أنت، وهذا اعتذار رقيق من خليل الله، فالمسألة ليستْ ذاتية بين ولد وعمه، أو ولد وأبيه، إنها مسألة عامة تعدَّتْ حدود الأُبُوة والعمومة.
ولذلك لما تحدَّثْنا في سورة الكهف عن قصة موسى والخضر عليهما السلام، قلنا: إن العبد الصالح التمس لموسى عُذْراً؛ لأنه تصرَّف بناءً على علم عنده، ليس عند موسى مثله، فقال له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68] وكذلك قال إبراهيم لأبيه حتى لا تأخذه العِزّة، ويأنف من الاستماع لولده.
ثم يقول: {فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43] لأن هذا المنهج الذي أدعوك إليه ليس من عندي، بل من أعلى مني ومنك، والصراط السَّويّ: هو الطريق المستقيم الذي يُوصِّلك للغاية بأيسر مشقة، وفي أقصر وقت.
ثم يقول: {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان}

.تفسير الآية رقم (44):

{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)}
نلحظ أن إبراهيم في بداية محاورته لأبيه قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] وهنا يقول: {لاَ تَعْبُدِ الشيطان} [مريم: 44] مع أن الشيطان يمكن أن يسمع ويبصر، فكيف يكون ذلك؟
قالوا: لأن الشيطان هو الذي يُسوِّل عبادة الصنم أو الشجر أو الشمس أو القمر، فالأمر مردود إليه وهو سببه، إلا أن إبراهيم عليه السلام حَلَّل المسألة المباشرة؛ لأن أباه يعبد صنماً لا يسمع ولا يُبصر، ولا يُغني عنه شيئاً، وهذا بشهادتهم أنفسهم، كما جاء في قوله تبارك وتعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72- 73].
فهذا استفهام، ولا يستفهم مُستفهِم مجادل ممَّن يجادله عن شيء، إلا وقد عَلِم أن الجواب لابد أن يكون في صالحه؛ لأنه ائتمنه على الجواب. إذن: فعبادة ما دون الله مردُّها إلى إغواء الشيطان.
ثم يستطرد إبراهيم قائلاً: {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} [مريم: 44] عصياً: مبالغة في العصيان، فالشيطان ليس عاصياً، بل عَصِياً يعصي أوامر الله بلَدَدٍ وعناد.
ثم يقول: {ياأبت إني أَخَافُ}

.تفسير الآية رقم (45):

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)}
مازال خليل الله يتلطف في دعوة أبيه فيقول: {يَمَسَّكَ عَذَابٌ} [مريم: 45] ولم يقُلْ مثلاً: يصيبك. فهو لا يريد أنْ يصدمه بهذه الحقيقة، والمسُّ: هو الالتصاق الخفيف، وكأنه يقول له: إن أمرك يُهمني، وأخاف عليك مجرد هبو التراب أن ينالك. وهذا منتهى الشفقة عليه والحرص على نجاته.
ثم يقول: {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم: 45] أي: قريباً منه، وتابعاً له يصيبك من العذاب مَا يصيبه، وتُعذّب كما يُعذّب.
وهكذا انتهتْ هذه المحاورة التي احتوتْ أربعة نداءات حانية، وجاءت نموذجاً فريداً للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فراعتْ مشاعر الأب الذي يدعوه ولده ويُقدِّم له النُّصْح، ورتبت الأمور ترتيباً طبيعياً، وسَلْسَلَتْها تسلْسُلاً لطيفاً لا يثير حفيظة السامع ولا يصدمه.
وقد راعى الحق تبارك وتعالى جوانب النفس البشرية فأمر أنْ تكونَ الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى لا تجمع على المدعو قسوة الدعوة، وقسوة أنْ يترك ما أَلِف، ويخرج منه إلى ما لم يألف.
فأنت حين تدعو شخصاً إلى الله فإنما تُخرِجه عن الفساد الذي أَلِفه، وهو لم يألف الفساد إلا بعد أن اشتهاه أولاً، ثم اعتاده بالفعل والممارسة ثانياً، وهاتان مصيبتان آخذتان بزمامه، فما أحوجه لأسلوب لَيِّن يستميل مشاعره ويعطفه نحوك فيستجيب لك.
وما أشبه الداعية في هذا الموقف بالذي يحتال ليخلص الثوب الحرير من الأشواك، أما إنْ نهرته وقسوْتَ عليه فسوف يُعرض عنك وينصرف عن دعوتك، ويظلّ على ما هو عليه من الفساد؛ لذلك قال تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ويقولون: النصح ثقيل فلا تُرسِلْه جبلاً، ولا تجعله جدلاً، وقالوا: الحقائق مُرّة فاستعيروا لها خِفّة البيان.
وبعد أنْ أنهى إبراهيم مقالته يرد الأب قائلاً: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي}

.تفسير الآية رقم (46):

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}
الفعل(رغب) يحمل المعنى وضده حَسْب حرف الجر بعده، نقول: رغب في كذا. أي: أحبه وذهب إليه، ورَغب عن كذا أي: كرهه واعتزله، فمعنى {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم} [إبراهيم: 46] أي: تاركها إلى غيرها، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] أي: تركها إلى مِلَّة أخرى.
ونلاحظ أن الفعل رَغِب لم يأْتِ مقترناً بعده بفي إلا مرة واحدة، وإنْ كانت(في) مُقدَّرة بعد الفعل، وهذا في قوله تعالى عن نكاح يتامى النساء: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: 127].
والرغبة في الشيء تعني حُبه وعِشْقه، والرغبة في الطريق الموصّل إليه، إلا أنك لم تسلك هذا الطريق بالفعل، ولم تأخذ بالأسباب التي تُوصّلك إلى ما ترغب فيه، وهذا المعنى واضح في قصة أصحاب الجنة في سورة(ن) حيث يقول تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم} [القلم: 17- 20].
فقد اتفقوا على قَطْف ثمار بستانهم في الصباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، فدمّرها الله وأهلكها وهم نائمون، وفي الصباح انطلقوا إلى جنتهم وهم يقولون فيما بينهم: {لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} [القلم: 24].
وهكذا قطعوا الطريق على أنفسهم حينما حَرَمُوا المسكين {فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 26- 27] ثم تنبهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ، وعادوا إلى صوابهم فقالو: {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم: 32].
أي: راغبون في الطريق الموصّل إليه تعالى، فقبل أنْ تقول: أنا راغب في الله. قل: أنا راغب إلى الله، فالمسألة ليست حُباً فقط بل حُباً بثمن وسَعْي وعَمل يُوصِّلك إلى ما تحب. إذن: قبل أنْ تكونوا راغبين في ربكم ارغبوا إليه أولاً.
وفي موضع آخر يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58] أي: يعيبك في توزيعها {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] فهم إذن لا يحبون الله، وإنما يحبون العطاء والعَرَض الزائل، بدليل أنهم لما مُنِعُوا سخطوا وصرفوا نظرهم عن دين الله كمَنْ قال الله فيهم: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ} [الحج: 11].
لذلك يُعدِّل لهم الحق سبحانه سلوكهم، ويرشدهم إلى المنهج القويم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ ما آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] أي: آخذين الوسيلة الموصِّلة إليه، فالذي يرغب في حب الله عليه أنْ يرغبَ في الطريق الموصّل إليه.
ثم يقول أبو إبراهيم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] أي: تترك هذه المسألة التي تدعو إليها. والرجْم: هو الرمي بالحجارة، ويبدو أن عملية الرجم كانت طريقة للتعذيب الشديد، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف: 20].
{واهجرني مَلِيّاً} [مريم: 46] أي: ابتعد عني وفارقني {مَلِيّاً} [مريم: 46] المليّ: البُرْهة الطويلة من الزمن. ومنها الملاوة: الفترة الطويلة من الزمن، والملوَان: الليل والنهار.
فماذا قال نبي الله إبراهيم لعمه بعد هذه القسوة؟ لم يخرج إبراهيم عن سَمْته العادل، ولم يتعدَّ أدب الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. قال: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ}