فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (44):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}
قوله: {بِجَانِبِ الغربي...} [القصص: 44] أي: الجانب الغربي من البقعة المباركة من الشجرة، وهو المكان الذي كلَّم الله فيه موسى وأرسله {إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر...} [القصص: 44] يعني: أمرناه به أمراً مقطوعاً به، وهو الرسالة.
{وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44].
ولك أنْ تسأل: إذا لم يكُنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداً لهذه الأحداث، فمَنْ أخبره بها؟ نقول: أخبره الله تعالى، فإنْ قُلْت فربما أخبره بها شخص آخر، أو قرأها في كتب السابقين.
نقول: لقد شهد له قومه بأنه أُميٌّ، لا يقرأ ولا يكتب، ولم يُعْلَم عنه أنه جلس في يوم من الأيام إلى مُعلِّم، كذلك كانوا يعرفون سيرته في حياته وسفرياته ورحلاته، ولم يكُنْ فيها شيء من هذه الأحداث.
لذلك لما اتهموا رسول الله أنه جلس إلى معلم، وقالوا: كما حكى القرآن: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ...} [النحل: 103] ردَّ القرآن عليهم في بساطة: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
وكانوا يقصدون بذلك حدادين روميين تردد عليهما رسول الله. وكذلك كانت الأمة التي بُعِث فيها رسول الله أمة أمية، فمَّمن تعلَّم إذن؟
وإذا كانت الأمية صفة مذمومة ننفر منها، حتى أن أحد سطحيي الفهم يقول: لا تقولوا لرسول الله أميٌّ ونقول: إن كانت الأمية مَذمَّة، فهي ميزة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمي يعني المنسوب إلى الأم وما يزال على طبيعته لا يعرف شيئاً.
واقرأ قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً...} [النحل: 78] ونقول في المثل(فلان زي ما ولدتْه أمه) يعني: لا يعرف شيئاً، وهذه مذمة في عامة البشر؛ لأنه لم يتعلم ممَّنْ حوله، ولم يستفِدْ من خبرات الحياة.
أما الأمية عند رسول الله فشرف؛ لأن قصارى المتعلِّم في أيِّ أمة من الأمم أنْ يأخذ بطرفٍ من العلم من أمثاله من البشر، فيكون مديناً له بهذا العلم، أمَّا رسول الله فقد تعلم من العليم الأعلى، فلم يتأثر في علمه بأحد، وليس لأحد فضل عليه ولا منة.
لذلك تعجب الدنيا كلها من أمة العرب، هذه الأمة الأمية المتبدية التي لا يجمعها قانون، إنما لكل قبيلة فيها قانونها الخاص، يعجبون: كيف سادتْ هذه الأمةُ العالمَ، وغزتْ حضارتهم الدنيا في نصف قرن من الزمان.
ولو أن العرب أمة حضارة لقالوا عن الإسلام قفزة حضارية، كما قالوا بعد انتصارنا في أكتوبر، وبعد أن رأى رجالنا أشياء غير عادية تقاتل معهم، حتى أنهم لم يشكُّوا في أنها تأييد من الله تعالى لجيش بدأ المعركة بصيحة الله أكبر، لكن ثالث أيام المعركة طلع علينا في جرائدنا من يقول: إنه نصر حضاري، وفي نفس اليوم فُتحت الثغرة في(الدفرسوار).
وعجيب أمر هؤلاء من أبناء جلدتنا؛ لماذا تردُّون فضل الله وتنكرون تأييده لكم؟ وماذا يضايقكم في نصر جاء بمدد من عند الله؟ ألم تقرأوا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ...} [المدثر: 31] وبعد أن فُتحت الثغرة ماذا قدمتم لسدِّها، تعالوا بفكركم الحضاري وأخرجونامن هذا المأزق.
وإذا ثَقُلَ على هؤلاء الاعتراف بجنود الله بين صفوفهم، أليس المهندس الذي اهتدى إلى فكرة استخدام ضغط الماء في فتح الطريق في(بارليف) لينفذ منه الجنود، أليس من جنود الله؟
لقد أخذتْ منَّا هذه الفكرة كثيراً من الوقت والجهد دون فائدة، إلى أن جاء هذا الرجل الذي نوَّر الله بصيرته وهداه إلى هذه العملية التي لم تَأْتِ اعتباطاً، إنما نتيجة إيمان بالله وقُرْب منه سبحانه وتضرُّع إليه، فجزاه الله عن مصر وعن الإسلام خيراً.
ومن العجيب، بعد نهاية الحرب أنْ يُجروا للحرب بروفة تمثيلية، فلم يستطيعوا اجتياز خط بارليف، وهم في حال أمْن وسلام.
نعود إلى قضية الأمية ونقول لمن ينادي بمحو الأمية عند الناس بأن يعلمهم من علم البشر؛ ليتكم قُلْتُم نمحو الأمية عندهم لنعلمهم عن الله.
إذن: فقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44] يعني: ما رأى محمد هذه الأحداث ولا حضرها، ومنه قوله تعالى عن شهر رمضان: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...} [البقرة: 185] يعني: حضره.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ...}.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)}
أهل مدين هم قوم شعيب عليه السلام، وكان لهم شُغُل بالقراءة، لذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً...} [القصص: 45] أي: مقيماً {في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا...} [القصص: 45] أي: تلاوة المتعلم كما يتلو التلميذ على أستاذه ليُصحِّح له {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45] أي: أن الرسالات كلها منا: مَنْ كان يقرأ، ومن كان أمياً.

.تفسير الآية رقم (46):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)}
قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا...} [القصص: 46] أي: موسى عليه السلام {ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ...} [القصص: 46] أي: أنك يا محمد ما شهدت هذه الأحداث، إنما جاءتْك بالفضل من الله {لِتُنذِرَ قَوْماً ما أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46] يتذكَّرون ما غفلوا عنه من الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
وكلمة(وما كنت) في مواضع عدة في القرآن تدل على أن رسول الله جاء بأخبار لم يقرأها في كتاب، ولم يسمعها من مُعلِّم؛ لأنه لا يقرأ، ولم يُعرف عنه أنه جلس إلى مُعلِّم، وأهل الكتاب هم الذين يعرفون صدْق هذه الأخبار؛ لأنها ذُكِرت في كتبهم، لذلك قال القرآن عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ..} [الأنعام: 20].
ويقول سبحانه: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} [الأعلى: 18-19].
ومن علامات النبوة أن يخرق الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم حُجُب الغيب، والشيء يغيب عنك إما لأنه ماضٍ، ولا وسيلةَ لك إليه، وهذا هو حجاب الزمن الماضي، وهو لا يُعرف إلا بواسطة القراءة في كتاب أو التعلم من مُعلِّم، وقد نفى الله تعالى هذا بالنسبة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون الحجابُ الزمن المستقبل والأحداث التي لم تأْتِ بعْد، ولا يستطيع أن يخبرك بها إلا الذي يعلمها أزَلاً.
لذلك يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] فكان النجم من القرآن ينزل على رسول الله فلما يُسرى عنه يُمليه على أصحابه، كل آية في مكانها وترتيبها من السورة، ثم يقرؤها بعد ذلك كما أُنزلت، وكما أملاها.
وسبق أنْ قُلْنا: تستطيع أن تتحدَّى أيَّ شخص بأن يتكلم مثلاً لمدة ثُلث الساعة، ثم يعيد ما قال، ولن يستطيع، أما المسألة مع سيدنا رسول الله فتختلف؛ لأنها من الله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6].
وقلنا: إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول نزول القرآن عليه كان يُردد الآية خلف جبريل عليه السلام مخافة أن ينساها، فإنْ قال جبريل: {والضحى} [الضحى: 1] قال رسول الله {والضحى} [الضحى: 1] وهكذا، فأنزل الله عليه: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 16-18].
وقال سبحانه: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ...} [طه: 114].
أي: أرح نفسك يا محمد، ولا تخْشَ النسيان، وانتظر حتى تنتهي الآيات، وسوف تعيدها كما هي، لا تَنْسى منها حرفاً واحداً.
ومن كشف حُجُب الغيب المستقبل قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً...} [النحل: 8] ولو انتهتْ الآية إلى هذا الحدِّ لقالوا: ذكر القرآن البدائيات، ولم يذكر شيئاً عن السيارة والصاروخ.. إلخ.
لكن الحق تبارك وتعالى يكمل الآية {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] ليجعل في القرآن رصيداً لكل ما يستجد من وسائل المواصلات والانتقال إلى يوم القيامة.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] فكلُّ شيء في الوجود قائم على الزوجين ذكورةً وأنوثة حتى الجمادات التي لا نرى فيها حياة.
ومن ذلك قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ...} [الروم: 1-4].
فمَنْ يستطيع أن يحكم على نتيجة معركة بعد سبع سنين؟ وبعد ذلك يُصدِّقه الله، وتنتصر الروم، وكانوا أهل كتاب على الفرس، وكانوا يعبدون النار؛ لذلك قال سبحانه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله...} [الروم: 4-5].
ولما تشوَّق الصحابة لأداء العمرة ونزل على رسول الله قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 27].
فخرج بهم رسول الله حتى بلغوا الحديبية على بُعْد 22 كيلو من مكة تعرَّضَتْ لهم قريش، ومنعتهم من العمرة، واشترطوا عليهم العودة في العام المقبل، وقد كتبوا وثيقة تعاهدوا فيها، فلما أملى رسول الله على الكاتب: هذا ما تعاهد عليه محمد رسول الله، قام عمرو بن سهيل فقال: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما حاربناك ولا رددناك، إنما اكتب: هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد الله.
وعندها ثار صحابة رسول الله وغضبوا حتى راجعوا رسول الله فقال عمر: يا رسول الله ألسْنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى قال: فَلِمَ نعطى الدَّنية في ديننا، فقال الصِّديق: الزم غَرْزَهُ يا عمر، يعني قف عند حدَّك- إنه رسول الله.
ولما أصر علي بن أبي طالب أن يكتب محمد رسول الله نظر إليه رسول الله، وقال: (يا علي ستُسام مثلها فتقبل) ومرَّتْ الأيام والسنون، وقُبض رسول الله، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلما تولّى عليٌّ الخلافة وحدثت الفتنة بينه وبين معاوية، وقامت بينهما حرب الجمل ثم صفِّين حتى اضطر عليّ لأنْ يكتب مع معاوية وثيقة لإنهاء القتال أملى عليّ: هذا ما تعاهد عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، فقالوا له: لو أنك أمير المؤمنين ما حاربناك، فاسترجع عليٌّ قول رسول الله: (سَتُسام مثلها فتقبل).
إذن: خرق الله لرسوله حجاب الزمن الماضي، والزمن المستقبل، فماذا عن الزمن الحاضر؟ وكيف يكون خرق الحجاب فيه؟ هذا في مثل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ...} [المجادلة: 8] فأطلعه الله على ما في نفوس القوم.
وفي غزوة مؤتة، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك سُمِّيت غزوة- لأن الغزوة لا تُقَال إلا للمعركة التي حضرها رسول الله، أما في مؤتة فقد حضرها وشاهدها وهو في المدينة، حيث كشف الله له حجاب الحاضر، فصار يخبر أصحابه في المدينة بما يجري في مؤتة وكأنها رَأْيُ العين.
ويومها تولى القيادة جماعة من كبار الصحابة: زيد بن حارثة، وابن رواحة، وجعفر بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: قُتِل فلان وسقطت الراية، فأخذها فلان وقُتِل وحملها فلان.. إلخ فلما عادوا من الغزوة أخبروا بنفس ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول الحق سبحانه: {ولولا أَن تُصِيبَهُم...}.

.تفسير الآية رقم (47):

{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)}
المعنى: لولا أن تصيبهم مصيبة بما قدَّمَتْ أيديهم لَعذَّبناهم فاحتجوا قائلين: {رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [القصص: 47] فلو عذَّبهم الله دون أن يرسل إليهم رسولاً لكانت حجة لهم.
وسبق أنْ قُلْنا: إنه لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنصٍّ ولا نصَّ إلا بإعلام، لذلك تُنشر الأحكام في الوقائع الرسمية ليعرفها الجميع، فتلزمهم الحجة، ولا يُعْذَر أحد بالجهل بالقانون، ولا يُعفى من العقاب.
إذن: قطع الله عليهم الحجة، حين بعث إليهم رسول الله بمنهج الحق الذي يدلهم على الخير والثواب عليه في الجنة، ويحذرهم من الشر والعقاب عليه في النار {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل...} [النساء: 165].
إذن: الحكمة من إرسال الرسول إقامة الحجة على المرسَل إليهم مجرد إقامة الحجة؛ لأن قضايا الدين قضايا حقٍّ فطري يهتدي إليها العقل السليم بفطرته؛ لذلك وقف المستشرقون طويلاً عند شخصية عمر- رضي الله عنه-.
يقولون: تذكرون عمر في كل شيء: في العدل تقولون عمر، وفي القوة تقولون عمر، وفي وجود رسول الله تقولون نزل القرآن موافقاً لكلام عمر، أليس عندكم إلا عمر؟
وكأن الحق تبارك وتعالى يدلُّنا بشخصية عمر إلى أنه سبحانه لم يُكلِّفنا بقضايا تنفر منها الفطرة، إنما بقضايا تقبلها فطرتنا السليمة، وتهتدي إليها بطبيعتها السوية الخالية من الهوى، وهذا عمر لم يكُنْ نبياً ولا رسولاً، لكن كان يصل إلى الحق بما فيه من فطرة إيمانية وعقلية سالمة من الأهواء، حتى وصلت به الفطرة السليمة إلى أنْ ينطق القرآن بنفس ما نطق به.
وكلمة {ولولا...} [القصص: 47] تأتي بأحد معنيين: إنْ دخلتْ على الجملة الاسمية فهي حرف امتناع لوجود، كما لو قلت: لولا زيد عندك لَزرتُكَ، فامتنعتْ الزيارة لوجود زيد، ومن هذه قوله تعالى: {ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ...} [القصص: 47] والتقدير: لولا إصابتهم.
فإنْ دخلتْ(لولا) على الجملة الفعلية أفادتْ الحثَّ والحضَّ، كما تقول لولدك: لولا ذاكرتَ دروسك، وكذلك لولا الثانية في الآية {فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [القصص: 47].
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا...}.