فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (49):

{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)}
الاستفهام في الآية استفهام للتعجّب والإنكار لموضع البعث يوم القيامة بعد أنْ صاروا رُفَاتاً وعظاماً.
والرفات: هو الفتات ومسحوق الشيء، وهو التراب أو الحُطَام، وكذلك كل ما جاء على وزن(فُعال).
لقد استبعد هؤلاء البعث عن الموت؛ لأنهم غفلوا في بداية الوجود وبداية خَلْق الإنسان، ولو استعملنا علم الإحصاء الذي استحدثه العلماء لوجدناه يخدم هذه القضية الإيمانية، فلو أحصينا تعداد العالم الآن لوجدناه يتزايد في الاستقبال ويقلّ في الماضي، وهكذا إلى أنْ نصل بأصل الإنسان إلى الأصل الأصيل، وهو آدم وحواء، فمن أين أتَيَا إلى الوجود؟ فهذه قضية غيبية كان لابد أن يُفكّروا فيها.
ولأنها قضية غيبية فقد تولَّى الحق سبحانه وتعالى بيانها؛ لأن الناس سوف يتخبّطون فيها، فينبهنا الخالق سبحانه بمناعة إيمانية عقدية في كتابه العزيز، حتى لا ننساق وراء الذين سيتهورون ويَهْرفون بما لا يعلمون، ويقولون بأن أصل الإنسان كان قرداً، وهذه مقولة باطلة يسهُل رَدُّها بأن نقول: ولماذا لم تتحول القرود الباقية إلى إنسان؟ وعلى فرض أن أصل الإنسان قرد، فمن أين أتى؟ إنها نفس القضية تعود بنا من حيث بدأتْ، إنها مجرد شوشرة وتشويه لوجه الحقيقة بدون مبرر.
وكذلك من القضايا التي تخبَّط فيها علماء الجيولوجيا ما ذهبوا إليه من أن السماء والأرض والشمس كانت جميعاً جزءاً واحداً، ثم انفصلت عن بعضها، وهذه أقوال لا يقوم عليها دليل.
لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يعطينا طرفاً من هذه القضية، حتى لا نُصغِي إلى أقوال المضلِّلين الذين يخوضون في هذه الأمور على غير هدى، ولتكون لدينا الحصانة من الزَّلَل؛ لأن مثل هذه القضايا لا تخضع للتجارب المعملية، ولا تُؤخَذ إلا عن الخالق سبحانه فهو أعلم بما خلق.
يقول تعالى: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ..} [الكهف: 51] أي: لم يكن معي أحد حين خلقتُ السماء والأرض، وخلقتُ الإنسان، ما شهدني أحد لِيَصِفَ لكم ما حدث {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] أي: ما اتخذت من هؤلاء المضللين مُساعِداً أو مُعاوِناً، وكأن الحق سبحانه يقول لنا: احكموا على كل مَنْ يخوض في قضية الخَلْق هذه بأنه مُضلّل فلا تستمعوا إليه.
ولكي تُريحوا أنفسكم من مثل هذه القضايا لا تُحمِّلوا العقل أكثر مما يحتمل، ولا تعطوه فوق مقومات وظائفه، وجَدْوى العقل حينما ينضبط في الماديات المعملية، أما إنْ جنح بنا فلا نجني من ورائه إلا الحُمْق والتخاريف التي لا تُجدي.
وكلمة (العقل) نفسها من العقال الذي يمنع شرود البعير، وكذلك العقل جعله الله ليضبط تفكيرك، ويمنعك من الجموح أو الانحراف في التفكير.
وأيضاً، فالعقل وسيلة الإدراك، مثله مثل العين التي هي وسيلة الرؤية، والأذن التي هي وسيلة السمع.
وما دام العقل آلة من آلات الإدراك فله حدود، كما أن للعين حدوداً في الرؤية، وللأذن حدوداً في السمع، فللعقل حدود في التفكير أيضاً حتى لا يشطح بك، فعليك أنْ تضبط العقل في المجال الذي تُجوِّد فيه فقط، ولا تُطلق له العنان في كُلِّ القضايا.
ومن هنا تعب الفلاسفة وأتعبوا الدنيا معهم؛ لأنهم خاضوا في قضايا فوق نطاق العقل، وأنا أتحدى أي مدرسة من مدارس الفلسفة من أول فلاسفة اليونان أن يكونوا متفقين على قضية إلا قضية واحدة، وهي أن يبحثوا فيما وراء المادة، فَمنِ الذي أخبرك أن وراء المادة شيئاً يجب أن يُبحث؟
لقد اهتديتُم بفطرتكم الإيمانية إلى وجود خالق لهذا الكون، فليس الكون وليد صدفة كما يقول البعض، بل له خالق هو الغيبيات التي تبحثون عنها، وتَرْمَحُون بعقولكم خلفها، في حين كان من الواجب عليكم أنْ تقولوا: إن ما وراء المادة هو الذي يُبين لنا نفسه.
لقد ضربنا مثلاً لذلك ولله المثل الأعلى وقلنا: هَبْ أننا في مكان مغلق، وسمعنا طَرْق الباب فكلنا نتفق في التعقُّل أن طارقاً بالباب، ولكن منا مَنْ يتصور أنه رجل، ومنا مَنْ يتصوّر أنه امرأة، وآخر يقول: بل هو طفل صغير، وكذلك منا مَنْ يرى أنه نذير، وآخر يرى أنه بشير. إذن: لقد اتفقنا جميعاً في التعقُّل، ولكن اختلفنا في التصوُّر.
فلو أن الفلاسفة وقفوا عند مرحلة التعقُّل في أن وراء المادة شيئاً، وتركوا لمن وراء المادة أنْ يُظهر لهم عن نفسه لأراحوا واستراحوا، كما أننا لو قُلْنا للطارق: مَنْ؟ لقال: أنا فلان، وجئت لكذا، وانتهتْ المسألة.
ولقد رَدَّ عليهم القرآن إنكارهم للبعث وقولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49].
بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34].
وبقوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
وبقوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ..} [الروم: 27] فإعادة الشيء أهون من خَلْقه أَوّلاً.
وقف الفلاسفة طويلاً أمام قضية البعث، وأخذوا منها سبيلاً لتشكيك الناس في دين الله، ومن مغالطاتهم في هذه المسألة أنْ قالوا: ما الحل إذا مات إنسان مثلاً ثم تحوَّل جسمه إلى رفات وتراب، ثم زُرِعَتْ فوقه شجرة وتغذَّت على عناصره، فإذا أكل إنسان من ثمار هذه الشجرة فسوف تنتقل إليه بالتالي عناصر من عناصر الميت، وتتكوّن فيه ذرات من ذراته، فهذه الذرات التي تكوّنت في الثاني نقُصَتْ من الأول، فكيف يكون البعث إذن على حَدِّ قَوْلهم؟
والحقيقة أنهم في هذه المسألة لم يفطِنُوا إلى أن مُشخّص الإنسان شيء، وعناصر تكوينه شيء آخر.
كيف؟
هَبْ أن إنساناً زاد وزنه ونصحه الطبيب بإنقاص الوزن فسعى إلى ذلك بالطرق المعروفة لإنقاص الوزن، وهذه العملية سواء زيادة الوزن أو إنقاصه محكومة بأمرين: التغذية والإخراج، فالإنسان ينمو حينما يكون ما يتناوله من غذاء أكثر مما يُخرِجه من فضلات، ويضعف إن كان الأمر بعكس ذلك، فالولد الصغير ينمو لأنه يأكل أكثر مِمّا يُخرِج، والشيخ الكبير يُخرِج أكثر مِمّا يأكل؛ لذلك يضعف.
فلو مرض إنسان مرضاً أَهْزَلَهُ وأنقص من وزنه، فذهب إلى الطبيب فعالجه حتى وصل إلى وزنه الطبيعي، فهل الذرات التي خرجتْ منه حتى صار هزيلاً هي بعينها الذرات التي دخلتْه حين تَمَّ علاجه؟ إن الذرات التي خرجتْ منه لا تزال في(المجاري)، لم يتكون منها شيء أبداً، إنما كميّة الذرّات ومقاديرها هي التي تقوي وتشخص.
وربنا سبحانه وتعالى رحمة منه، قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] فالحق سبحانه سيجمع الأجزاء التي تُكوِّن فلاناً المشخّص.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً}.

.تفسير الآية رقم (50):

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)}
أي: قُلْ ردّاً عليهم: إنْ كُنتم تستبعدون البعث وتَسْتصعبِونه مع أنه بَعْثٌ للعظام والرُّفات، وقد كانت لها حياة في فترة من الفترات، ولها إِلْف بالحياة، فمن السهل أنْ نعيدَ إليها الحياة، بل وأعظم من ذلك، ففي قدرة الخالق سبحانه أنْ يُعيدكم حتى وإنْ كنتم من حجارة أو من حديد، وهي المادة التي ليس بها حياة في نظرهم.
وكأن الحق سبحانه يتحدَّاهم بأبعد الأشياء عن الحياة، ويتدرج بهم من الحجارة إلى الحديد؛ لأن الحديد أشدّ من الحجارة وهو يقطعها، فلو كنتم حجارة لأعدْناكم حجارة، ولو كنتم حديداً لأعدْناكم حديداً.
ثم يترقّي بهم إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..}.

.تفسير الآية رقم (51):

{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)}
قوله تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ..} [الإسراء: 51] أي: هاتوا الأعظم فالأعظم، وتوغّلوا في التحدِّي والبُعْد عن الحياة، فأنا قادر على أنْ أهبَ له الحياة مهما كان بعيداً عن الحياة على إطلاقها.
وقوله: {مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ..} [الإسراء: 51].
يكبر: أي يعظُم مِنْ كَبُر يكْبُر. ومنه قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] أي: عَظُمت. والمراد: اختاروا شيئاً يعظم استبعادُ أن يكون فيه حياة بعد ذلك، وغاية ما عندهم في بيئتهم الحجارة والحديد، فَهُما أبعد الأشياء عن الحياة، وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم ما هو أقسى من الحجارة والحديد. ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فَرْضية الأمر إلى أنْ يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء، يكون أعظمَ استبعاداً من الحجارة والحديد.
ونلاحظ في قوله تعالى: {مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ..} [الإسراء: 51] جاء هذا الشيء مُبْهَماً؛ لأن الشيء العظيم الذي يعظُم عن الحجارة والحديد استبعاداً عن أصل الحياة مختلفٌ فيه، فإن اتفقوا في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الأشياء الأخرى، فجاءت الآية مُبْهمة ليشيع المعنى في نفس كُلّ واحد كل على حَسْب ما يرى.
بدليل أنهم حينما سألوا الإمام علياً رضي الله عنه، وكرّم الله وجهه عن أقوى الأجناس في الكون، وقد علموا عن الإمام عليّ سرعة البديهة والتمرُّس في الفُتْيَا، فأرادوا اختباره بهذا السؤال الذي يحتاج في الإجابة عليه إلى استقصاء لأجناس الكون وطبيعة كل منها.
دخل عليهم الإمام علي وهم مختلفون في هذه المسألة، منهم من يقول: الحديد أقوى. ومنهم من يقول: بل الحجارة. وآخر يقول: بل الماء، فأفتاهم الإمام في هذه القضية، وانظر إلى دِقّة الإفتاء واستيعاب العلم، فلم يَقُل: أقوى جنود الله كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله، لا بل حصرها أولاً، فقال: أشد جنود الله عشرة.
فالمسألة ليست ارتجالية، بل مسألة مدروسة لديه مُسْتَحضرة في ذِهْنه، مُرتَّبة في تفكيره، فبسط الإمام لمستمعيه يده وفَردَ أصابعه، وأخذ يعدّ هذه العشرة، وكأنه المعلم الذي استحضر درسه وأعدَّه جيداً.
قال: (أشد جنود الله عشرة، الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته، والسكر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله في الكون الهم).
فهذه الأجناس هي المراد بقوله تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ..} [الإسراء: 51] فاختاروا أيّاً من هذه الأجناس، فالله تعالى قادر على إعادتكم وبعثتكم كما كنتم أحياء.
ثم يقول تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..} [الإسراء: 51].
أي: أن الذي خلقكم بدايةً قادرٌ على إعادتكم، بل الإعادة أَهْوَن من الخَلْق بدايةً، ولكن الجواب لا يكون مُقنِعاً إلا إذا كانت النتيجة التي يأتي بها الجواب مُسلّمة. فهل هم مقتنعون بأن الله تعالى فطرهم أوّل مرة؟
نعم، هم مؤمنون بهذه الحقيقة رغم كُفْرهم، بدليل قولهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] فهم مقتنعون بذلك، ولكنهم نقلوا الجدل إلى قضية أخرى فقالوا: مَنْ يُعيدنا؟ فإنْ قلت لهم: الذي فطركم أول مرة. {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ..} [الإسراء: 51].
معنى يُنغِض رأسه: يهزُّها من أعلى لأسفل، ومن أسفل لأعلى استهزاءً وسخريةً مما تقول، والمتأمل في قوله {فَسَيُنْغِضُونَ} يجده فِعْلاً سيحدث في المستقبل ويقع من مُختارٍ، والمقام مقام جَدلٍ بين الكفار وبين رسول الله، وهذه الآية يتلوها رسول الله على أسماعهم ويخبر أنه إذا قال لهم: {الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..} [الإسراء: 51] فسينغضون رؤوسهم.
فكان في وُسْع هؤلاء أنْ يُكذِّبوا هذا القول، فلا يُنغِضون رؤوسهم لرسول الله ويمكرون به في هذه المسألة، ولهم بعد ذلك أنْ يعترضوا على هذا القول ويتهموه، ولكن الحق سبحانه غالبٌ على أمره، فهاهي الآية تُتْلىَ عليهم وتحْتَ سَمْعهم وأبصارهم، ومع ذلك لم يقولوا، مما يدلُّ على غباء الكفار وحُمْق تفكيرهم.
وما أشبه هذا الموقف منهم بموقفهم من حادث تحويل القبلة حينما قال الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا..} [البقرة: 144].
ثم أخبره بما سيحدث من الكفار، فقال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142].
وهذا قَوْلٌ اختياريّ في المستقبل، وكان بإمكانهم إذا سمعوا هذه الآية أَلاّّ يقولوا هذا القول ويجدوا بذلك مِأْخَذاً على القرآن، ولكنهم مع هذا قالوا ما حكاه القرآن؛ لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيقولون لا محالة: {وَيَقُولُونَ متى هُوَ..} [الإسراء: 51].
والاستفهام هنا كسابقه للإنكار والتعجُّب الدالّ على استبعاد البعث بعد الموت، ولاحظ هنا أن السؤال عن الزمن، فقد نقلوا الجدل من إمكانية الحدث على ميعاد الحدث، وهذا تراجعٌ منهم في النقاش، فقد كانوا يقولون: مَنْ يُعيدنا؟ والآن يقولون: متى؟ فيأتي الجواب: {عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء: 51].
عسى: كلمة تفيد الرجاء، والرجاء أمر مُتوقّع يختلف باختلاف الراجي والمرجو منه، فإذا قُلْت مثلاً: عسى فلاناً أنْ يعطيك كذا، فالرجاء هنا بعيد شيئاً ما؛ لأنه رجاء من غيري لك، أما لو قلْت: عسى أنْ أُعطيك كذا، فهي أقرب في الرجاء؛ لأنني أتحدَّث عن نفسي، وثقة الإنسان في نفسه أكثر من ثقته في الآخرين، ومع ذلك قد يتغير رأييِّ فلا أعطيك، أو يأتي وقت الإعطاء فلا أجد ما أعطيه لك.
لكن إذا قُلْتَ: عسى الله أن يعطيك فلا شكَّ أنها أقربُ في الرجاء؛ لأنك رجوت الله تعالى الذي لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء. وإنْ كان القائل هو الحق سبحانه وتعالى، فالرجاء منه سبحانه مُحقَّق وواقع لا شكَّ فيه؛ فالرجاء من الغير للغير رتبة، ومن الإنسان لغيره رتبة، ومن الله تعالى للغير رتبة.
وقد شرح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة القرب فقال: (بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين) وأشار بالسَّبابة والوسطى؛ لأنه ليس بعده رسول، فهو والقيامة متجاوران لا فاصلَ بينهما، كما أننا نقول: كُلُّ آتٍ قريب، فالأمر الآتي مستقبلاً قريب؛ لأنه قادم لا محالةَ.
ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}.