فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (52):

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)}
و{الدأب} هو العادة التي تتكرر مع الإنسان ويقال: دؤوب على كذا؛ أي يفعله باستمرار. ويوضح الله سبحانه وتعالى هنا لرسوله صلى الله عليه وسلم: دأب هؤلاء الكفار معك يا محمد، أي عادتهم معك، كدأب آل فرعون مع رسولهم، أي أنهم يفعلون معك يا محمد، أي عادتهم معك، كدأب آل فرعون مع رسولهم، أي أنهم يفعلون معك كما فعل آل فرعون مع موسى عليه السلام.
وقوله تعالى: {والذين مِن قَبْلِهِمْ}
أي قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم، ما الذي حدث لهؤلاء؟؛ هلاك أو اسئصال أو تعذيب أو إغراق أو خسف. إذن فالكفار الذين يعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاربونه، ويقفون موقف الأذى منه، هذا الدأب والموقف منهم معه مثل دأب وموقف آل فرعون مع موسى عليه السلام، وقوم لوط مع لوط عليه السلام، وكذلك الذين من قبلهم، ويقول الحق تبارك وتعالى: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} [الأنفال: 52].
فهل تركهم الله؟. لا. {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ}
فمنهم من أُغرقوا، ومنهم من أصابتهم الصاعقة، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، وما دام الله سبحانه وتعالى قد فعل ذلك مع الكفار السابقين كما هو ثابت. فسبحانه سوف ينزل عقابه على الكفار الذين يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم لن يخرجوا عن قاعدة التعامل مع المكذبين للرسل، وقد حدثت سوابق مشابهة في الكون وقضايا واقعية. فآل فرعون مثلاً بلغوا قمة التقدم والحضارة في عصرهم وسبحانه وتعالى يقول عن حضارة الفراعنة: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10].
وبالنسبة لثمود إذا ذهبنا إلى مدائن صالح في السعودية نجد آثار ثمود وقد حفروا بيوتهم في صخور الجبال، ويقول الحق عن حضارة ثمود: {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد} [الفجر: 9].
وكل الحضارات القديمة قد زالت في غالبيتها ولا أثر لها، وإن وجد أثر، فهو أثر قليل وبسيط لا يحمل كل سمات الحضارة، إلا آثار الفراعنة؛ حيث تحوي مسلات ضخمة وأعمدة عالية وأهرامات كبيرة وهي باقية، أما حضارة قوم عاد فالحق سبحانه قد طمس آثارها فلم نعثر منها على شيء حتى الآن. لقد انطمست غالبية آثار الحضارات إلا آثار حضارة آل فرعون التي يأتي إليها الناس من أنحاء الدنيا كلها؛ ليتعجبوا من جمال البناء وروعة الفن وقمة التقدم في التصميم الهندسي، وكيف نُقِلت هذه الأحجار الضخمة إلى الأماكن العليا بدون سقالات، وكيف ارتبطت الأحجار كلها مع بعضها البعض كل هذه السنوات الطويلة دون استخدام الأسمنت أو غيره من مواد التثبيت للأحجار، بل تم ذلك بتفريغ الهواء. فكيف استطاعت هذه الهندسة العجيبة أن تفرغ الهواء بين حجرين كبيرين ضخمين؛ ليلتصقا ببعضهما التصاقاً محكماً بغير لاصق ولا يستطيع أحد أن يزحزحه، فإذا كانت حضارة الفراعنة قد وصلت إلى هذا الفن الهندسي باستخدام تفريغ الهواء بين أثقال ضخمة فهي حضارة راقية جدا.
هذا إن نظرت إلى فن البناء فقط، وكذلك إن نظرنا إلى تحنيط الجثث التي لا يعرف أحد سرها حتى الآن، وكيف أمكن المحافظة على المومياوات آلاف السنين دون أن تتحلل. وكذلك إن نظرت إلى الألوان التي طليت بها المعابد والرسومات وبقيت زاهية كما هي رغم كل ذلك الزمن الطويل، وإلى الحبوب التي حُنطت وبقيت آلاف السنين دون أن يصيبها أي تلف، بل وصالحة للطعام، هذه الحضارة التي احتفظت بأسرار هذه الأشياء فلم تصل إليها البشرية حتى الآن، لابد أن تكون حضارة قوية وعالية، ولكنها رغم قوتها وعلوها لم تستطع أن تحفظ نفسها من الانهيار لتصبح أثراً وتظل آثارا.
أين ذهب صناع هذه الحضارة وقد بلغوا شأواً كبيرا وملكوا زمام الدنيا في عصرهم؟ لا بد- إذن- من وجود قوة أعلى منهم، قد دكتهم. ولماذا أتى الله بآل فرعون في هذه الآية بالاسم بينما أتى بالحضارات التي كانت قبلهم إجمالاً؟، فقال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} [الأنفال: 52].
لأن آثار آل فرعون قد كشف الله عنها ورَغّبَ فيها البشرية كلها؛ ليأتوا ويروا تلك الحضارة الهائلة التي لم تستطع أن تحمي نفسها، وذلك الفرعون الذي ادعى أنه إله يستطع أن يضمن لنفسه البقاء. وشاء الله سبحانه أن تبقى آثار هذه الحضارة ليشاهدها الناس جميعاً، ثم يروا أن الله عز وجل قد أهلك أصحابها وأصبحوا أثراً بعد عين؛ ليعرفوا أن القوة لله جميعاً، وأن الألوهية لله وحده، وأن كل شيء هالك إلا الله؛ لذلك ذكرت حضارة آل فرعون مخصصة، وهذا الذكر لآثار قوم فرعون من إعجازات القرآن؛ لأنه ذكر هذه الحضارة تخصيصاً ثم جاء الحق بخير الحضارات الأخرى إجمالاً؛ قوم نوح وعاد وإرم وثمود. وكلهم: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله}
وعرفنا أن الآيات تطلق ثلاث إطلاقات: الآيات الكونية التي تثبت وجود الخالق الأعلى مثل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37].
وكذلك المعجزات التي يؤتيها الله رسله لإثبات صدق بلاغهم عن الله مثل انشقاق البحر لموسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى عليه السلام، ثم آيات القرآن الكريم التي هي محكم منهج الله في الأرض.
وقول الحق: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله}، نعلم منه أنهم أنكروا وجود الخالق، والأصل في الكفر هو الستر، وكفر يعني ستر. ولذلك يسمون الزارع بالمعنى اللغوي: كافر؛ لأنه يحضر الحب ويستره بالتراب، ويسمون الليل لغويا: كافر؛ لأنه يستر الأشياء. والشاعر يقول:
لي فيك أجر مجاهد ** إن صح أن الليل كافر

ومعنى (كفروا) أي ستروا وجود الله تعالى، إذن فالله عز وجل موجود ثابت الوجود قبل أن يستروه بالكفر؛ لأن الإيمان أصل في وجود الخلق، والخلق قد وجدوا على الإيمان، ثم جاء أناس ستروا هذا الإيمان.
إذن فكلمة الكفر التي معناها الستر دليل من أدلة الإيمان، وإلا لو لم يكن الله موجوداً فكيف يسترون ما ليس له وجود؟، فإذا قال لك أحد: إنه كفر- والعياذ بالله- تقول: الكفر هو الستر؛ فماذا سترت؟ لابد أنك سترت ما هو موجود، وقول الحق سبحانه وتعالى: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله}
أي كفروا بآياته الكونية فلم يؤمنوا رغم الآيات الظاهرة التي تملأ الكون، وكفروا بآيات الرسل فكذبوا رسلهم رغم أنهم جاءوهم بمعجزات تخرق قوانين الحياة، ولم يصدقوا آيات الكتاب التي أنزلت من السماء لتبين لهم منهج الله تعالى.
وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} [الأنفال: 52].
إيجاز معبر يذكر لك لماذا أخذهم الله بذنوبهم: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 52].
والأخذ في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ} كان بسبب ما ارتكبوه من ذنوب وإفساد في الأرض. والإنسان حين يجد سوءاً يحيط به وعذاباً أليماً يأتيه فهو يحاول أن يفّر منه، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى: {أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42].
أي أن قدرة الله تعالى تمسك الكافر مسكة محكمة فلا يستطيع فرارا أو هروبا.
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 52].
أي أن الله أقوى من كل ما تصنعون في كونه، وعقابه تعالى شديد وأليم. ونعلم أن العقاب لا يعم الناس إلا بقدر ذنوبهم، فليس معنى أن الله شديد العقاب أن تصيب شدة العذاب مَنْ فعل ذنباً بسيطاً، ولكنْ لكلٍ جزاؤه على قدر ذنبه؛ وهذا العقاب مهما كان بسيطاً فهو شديد أليم، وقول الحق سبحانه وتعالى: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ}
هذا القول لا يدخل في الجبرية التي يقول عنها الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماء

ويخطئ من يظن أن الله قد كتب جبرا على إنسان أن يكون كافراً ثم يلقى به في نار جهنم، لا؛ لأن مثل هذا الأمر يتنافى مع عدالة الله سبحانه وتعالى، فأنت أيها الإنسان مخير بين الطاعة وبين المعصية، بين الإيمان وبين الكفر. وعلى هذا نفهم قول الحق: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52].
أي بسبب ذنوبهم، وما دام الحق تبارك وتعالى قد توعدهم بعقاب شديد فهذا دليل على شدة ظلمهم.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى الحيثية لذلك فيقول تعالى: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ...}.

.تفسير الآية رقم (53):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)}
و(ذلك) إشارة إلى ما تقدم، وأنت إن نظرت إلى بداية البشرية تجد أن الله تعالى خلق آدم ليجعله خليفة في الأرض، وخلق حواء لإبقاء النوع الإنساني. وقبل أن ينزل آدم على الأرض أعطاه الله سبحانه وتعالى المنهج، ومن آدم وحواء بدأت ذريتهما، ولو ساروا على المنهج الذي علمه آدم لهذه الذرية، لصارت البشرية إلى سعادة. ولكن الذرية تغيرت، وجحدوا النعمة وأنكروا أنَّ للنعمة خالقاً، فهل يبقي الله عليهم الأمن والسلامة والنعم ما داموا قد تغيروا؛ لا. بل لا بد- إذن- أن يغير الله نعمه عليهم، وإلا لما أصبح هناك أي منطق للدين؛ لأن الإنسان قد طرأ على النعم، بمعنى أن الله لم يخلق الإنسان ثم خلق له النعم. بل خلق النعم أولاً ثم جاء الإنسان إلى كون أعد له إعداداً كاملاً؛ وفيه كل مقومات الحياة واستمرار الحياة. وظل الإنسان فترة طويلة في طفولة الحياة يرتع في نعم الله، فقبل أن يعرف الزراعة؛ وجد الثمار التي يأكلها. وقبل أن يعرف كيف يبحث عن الماء وجد الماء الذي يشربه، وعلمه الله كيف يعيش. وذلل له من الحيوان ما يعطيه اللبن واللحم، وكل هذه النعم وغيرها كان لابد أن يأخذها الإنسان بالشكر واستمرار الولاء لله الخالق المنعم.
ولكن الإنسان جحد نعمة الله تعالى وجحد المنعم، أتبقى له سعادة وحياة مطمئنة في الأرض؟ طبعاً لا، وما دام الإنسان قد غير، لابد أن يغير الحق النعمة إلى نقمة، ومن رحمته سبحانه أنه شاء أن يكون الإنسان هو البادئ، فالحق سبحانه منزّه أن يكون البادئ بالظلم، بل بدأ الإنسان يظلم نفسه.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
إذن فذرية آدم بدأت أولاً بتغيير نعمة الإيمان إلى الكفر، ومن شكر النعمة إلى جحودها، فجزاهم الله تعالى بالطوفان وبالصواعق وبالهلاك؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم، ولو أنهم عادوا إلى شكر الله وعبادته؛ لأعاد لهم الله نعَم الأمن والاستقرار والحياة الطيبة.
ويلفتنا المولى سبحانه وتعالى إلى أن اتباع المنهج يزيد النعم ولا ينقصها، فيقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96].
وطبقاً لهذا القانون الإلهي نجد أن تغير الناس من الإيمان إلى الكفر لابد أن يقابله تغيير من نعمة الله عليهم وإلا لأصبح منهج الله بلا قيمة، والمثال أن كل طالب يدخل امتحاناً، ولكن لا ينجح إلا من ذاكر فقط، وأما من لم يستذكر فإنه يرسب؛ حتى لا تكون الدنيا فوضى. ولو أن الله سبحانه وتعالَى أعطى لمن اتبعوا المنهج نفس العطاء الذي يعطيه لمن لا يتبعون المنهج فما هي قيمة المنهج؟.
إذن لابد أن يدخل الإنسان إلى الإيمان، وأن يكون هذا الإيمان متغلغلاً في أعماقك وليس أمراً ظاهريا فقط، فلا تدَّع الإصلاح وأنت تفسد، ولا تدع الشرف والأمانة وأنت تسرق، ولا تدع العدل وأنت تظلم الفقير وتحابي الغني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يعطي نعمه الظاهرة والباطنة إلا لمن يتبعون منهجه. وإذا رأيت قوماً عمّ فيهم الفساد فاعلم أن نفوسهم لم تتغير رغم أنهم يتظاهرون باتباع المنهج الإلهي.
وإن شكونا من سوء حالنا فلنعرف أولاً ماذا فعلنا ثم نغيره إلى ما يرضي الله عز وجل فيغير الله حالنا. ولذلك إذا وجدت كل الناس يشكون فاعلم أن هذا قد حدث بسبب أن الله غير نعمه عليهم؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم. أي أن حالتهم الأولى أنهم كانوا في نعمة ومنسجمين مع منهج الله، فغيروا انسجامهم وطاعتهم فتغيرت النعمة، أي أن هناك تغييرين أساسيين، أن يغير الله نعمة أنعمها على قوم، وهذا لا يحدث حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
أي أن الله تعالى يعلم حقيقة ما يفعلون ويسمع سرّهم وجهرهم، ولذلك إذا غيروا، سمع الله سبحانه وعلم؛ لأن التغيير إما أن يكون بالقول وإما أن يكون بالفعل، فإن كان التغيير بالقول فالحق سبحانه يسمعه ولو كان مجرد خواطر في النفوس، وإن كان التغيير بالعمل فالحق يراه ويعلمه ولو كان في أقصى الأرض.
يعود الحق سبحانه وتعالى إلى آل فرعون فيقول: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ...}.