فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (47):

{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}
ولو كان لمكرهم مفعولٌ أو فائدة لَمَا قال الحق سبحانه أن وعده لرسله لن يُخْلفَ، ولكن مكرَهم فاسدٌ من أوله وبلا مفعول، وسبحانه هو القائل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
إذن: فوَعْد الله لرُسله لا يمكن أن يُخْلفَ.
الوعود في القرآن كثيرة؛ فهناك وَعْد الشيطان لأوليائه، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً...} [البقرة: 168].
وهناك وَعْد من الله للمؤمنين: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض...} [النور: 55].
فإذا كان الحق سبحانه لا يُخلِف وَعْده لأتباع الرسول؛ أيُخلِف وَعْده للرسول؟
طبعاً لا؛ لأن الوعد على إطلاقه من الله؛ مُوفّى؛ فكيف إذا كان للرسل وللمؤمنين؟ يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} [غافر: 51] والنصر يقتضي هزيمة المقابل، ويحتاج النصر لصفة تناسبه؛ والصفة المناسبة هي صدوره من عزيز لا يُغلب؛ والهزيمة لمن كفروا تحتاج إلى صفة؛ والصفة المناسبة هي تحقُّق الهزيمة بأمر مُنتقِم جبّار.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض...}.

.تفسير الآية رقم (48):

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}
ويُخوّفهم الحق سبحانه هنا من يوم القيامة بعد أن صَوّر لهم ما سوف يدّعونه، بأن يُؤخّر الحق حسابهم، وأنْ يُعيدهم إلى الدنيا لعلّهم يعملون عملاً صالحاً، ويجيبوا دعوة الرسل.
ويوضح سبحانه هنا أن الكون الذي خلقه الله سبحانه، وطرأ عليه آدم وخلفتْه من بعده ذريته؛ قد أعدّه سبحانه وسخَّره في خدمة آدم وذريته من بعده؛ وهم يعيشون في الكون بأسباب الله المَمْدودة في أنفسهم، والمنثورة في هذا الكون لكل مخلوق لله، مؤمنهم وكافرهم؛ فمَنْ يأخذ بتلك الأسباب هو مَنْ يغلب.
وسبحانه القائل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
وهكذا شاء الله أنْ يهبَ عباده الارتقاء في الدنيا بالأسباب؛ أما حياة الآخرة فنحن نحياها بالمُسبِّب؛ وبمجرد أنْ تخطرَ على بال المؤمن رغبةٌ في شيء يجده قد تحقق.
وهذا أمر لا يحتاج إلى أرض قَدَّر فيها الحق أقواتها، وجعل فيها رواسي؛ وأنزل عليها من السماء ماء، إذن: فهي أرض غير الأرض؛ وسماء غير السماء؛ لأن الأرض التي نعرفها هي أرض أسباب؛ والسماء التي نعرفها هي سماء أسباب.
وفي جنة الآخرة لا أسبابَ هناك؛ لذلك لابد أن تتبدَّل الأرض، وكذلك السماء.
وقوله الحق: {وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
فهو يعني ألا يكون هناك أحد معهم سوِى ربهم؛ لأن البروز هو الخروج والمواجهة.
والمؤمن وجد ربه إيماناً بالغيب في دُنْياه؛ وهو مؤمن به وبكل ما جاء عنه؛ كقيام الساعة، ووجود الجنة والنار.
وكلنا يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أحد أصحابه حين سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحتَ؟ فقال الصحابي: أصبحت مؤمناً بالله حقاً. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لكل حق حقيقة؛ فما حقيقة إيمانك؟ قال الصحابي: عزفتْ نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومدرها- أي: تساوي الذهب بالتراب- وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون. فقال له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «عرفت فالزم».
هذا هو حال المؤمن، أما الكافر فحاله مختلف. فهو يبرز ليجد الله الذي أنكره، وهي مواجهة لم يَكُنْ ينتظرها، ولذلك قال الحق سبحانه في وَصْف ذاته هنا: {الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
وليس هناك إله آخر سيقول له(اتركهم من أجل خاطري) .
وفي آية أخرى يقول عن هؤلاء: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ...} [النور: 39].
أي: أنه يُفَاجأ بمثل هذا الموقف الذي لم يستعِد له.
وقوله: {الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
أي: القادر على قَهْر المخلوق على غير مُرَاده.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَتَرَى المجرمين....}.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)}
والمجرم هو مَن ارتكب ذنباً، وهو هنا مَنِ ارتكب ذنب القِمّة. وهو الكفر بالله، ومن بعده َمَنِ ارتكب الذنوب اليت دون الكفر، وتراهم جميعاً مجموعين بعضهم مع بعض في «قرنٍ» وهو الحبل أو الَيْد الذي يُقيَّدون.
والأصفاد جمع صَفَد، وهو القيد الذي يوضع في الرِّجلْ؛ وهو مِثْل الخُلْخال؛ وهناك مَنْ يُقيّدون في الأصفاد أي: من أرجلهم، وهناك مَنْ يقيد بالأغلال. أي: أنْ توضع أيديهم في سلاسل، وتُعلَّق تلك السلاسل في رقابهم أيضاً.
وكلُّ أصحاب جريمة مُعيّنة يجمعهم رباط واحد، ذلك أن أهل كل جريمة تجمعهم أثناء الحياة الدنيا- في الغالب- مودَّة وتعاطف، أما هنا فسنجدهم متنافرين، وعلى عداء، ويلعن كل منهم الآخر؛ وكل منهم يناكف الآخر ويضايقه، ويعلن ضِيقة منه، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].
وكأن كلاً منهم يُعذّب الآخر من قبل أنْ يذوقوا جميعاً العذاب الكبير.
ولذلك نجدهم يقولون: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29].
ويقولون: {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 67-68].
ويستكمل الحق سبحانه صورة هؤلاء المُذْنبين: فيقول: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ....}.

.تفسير الآية رقم (50):

{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)}
و(السرابيل) جمع (سِرْبال) وهو ما يلي الجسد، وهو ما نسميه في عصرنا (قميص). وإذا كان السِّرْبال من قطران؛ فهو أسود لاذع نتن الرائحة سريع الاشتعال؛ وتلك صفات القطران، وهو شيء يسيل من بعض أشجار البادية وتلك صفاته، وهم يستخدمونه لعلاج الجمال من الجرب.
وعادة يضرب الحق سبحانه المثل من الصورة القريبة إلى الذِّهن من التي يراها العربي في بيئته.
ويقول عنهم الحق سبحانه أيضاً: {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار} [إبراهيم: 50].
والإنسان إذا ما تعرّض لأمر يصيبه بالعطب، فأوَّل ما يحاول الحفاظ عليه هو وجهه، ذلك أن الوجه هو أشرف شيء في الإنسان، فما بالنا حين تغشى وجوه الكفرةِ النارُ؟ إن مجرد تخيُّل ذلك أمر مؤلم.
وسبحانه يقول في آية اخرى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة...} [الزمر: 24].
وكأن الواحد منهم من فَرْط شدة العذاب يحاول أن يدفَع هذا العذاب بوجهه، وهكذا نجد أحاسيسَ شتَّى لهذا العذاب؛ وهو مُؤلِم أشدّ الألم.
ويقول سبحانه في موقع آخر: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ...} [القمر: 48].
وهكذا نجد أن الوجه قد جاء في أكثر من صورة؛ من صور هذا العذاب.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ...}.

.تفسير الآية رقم (51):

{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}
والجزاء أمر طبيعي في الوجود، وحتى الذين لا يؤمنون بإله؛ ويديرون حركة حياتهم بتقنينات من عندهم قد وضعوا لأنفسهم قوانين جزاء تحدد كل جريمة والعقاب المناسب لها.
وبطبيعة الحال لا يكون أمراً غريباً أن يضع خالق الكون نظاماً للجزاء ثواباً وعقاباً، ولو لم يَضَعْ الحق سبحانه نظاماً للجزاء بالثواب والعقاب؛ لَنالَ كل مُفسدِ بُغْيته من فساده؛ ولأحسّ أهل القيم أنهم قد خُدِعُوا في هذه الحياة.
وما دام الجزاء أمراً طبيعياً؛ فلا ظُلْم فيه إذن؛ لأنه صادر عَمَّنْ قال: {لاَ ظُلْمَ اليوم...} [غافر: 17].
ولا يجازي الحق سبحانه الجزاء العنيف إلا على الجريمة العنيفة.
وقوله سبحانه: {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ...} [إبراهيم: 51].
يعني أن المؤمن أو الكافر سَيلْقي جزاء ما فعل؛ إنْ ثواباً أو عقاباً.
والكسب- كما نعلم- هو أن تأخذ زائداً عن الأصل، فأنت حين تحرم نفسك من شيء في الدنيا؛ ستأخذ جزاء هو الثواب وما يزيد عن الأصل.
ومَنْ كسب سيئة سيأخذ عقاباً عليها، ويُقَال (كسب السيئة) ولا يقال (اكتسبها) ذلك أن ارتكابه للسيئة صار دُرْبة سلوكية؛ ويفرح بارتكابها، ولابد إذن من الجزاء؛ والجزاء يحتاج حساباً، والحساب يحتاج ميزاناً.
وقد يقول المؤمن: إنِّي أُصدِّق ربي، ولن يظلم ربِّي أحداً. ونقول: إن المقصود بالميزان هو إقامة الحجة؛ ولذلك نجده سبحانه يقول: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [القارعة: 6-7].
ويقول أيضاً: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 8-9].
ونجد القسمة العقلية في الميزان واضحة فهي مرة (ثَقُلَت) ومرة (خَفّت). أما مَنْ تساوت كِفَّتا ميزانه؛ فَفَسرت حالته سورة الأعراف التي قال فيها الحق سبحانه: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ...} [الأعراف: 46].
وما دام الحق سبحانه سيحاسب كل نَفْس بما كسبتْ؛ فقد يظنُّ البعض أن ذلك سيستغرق وقتاً؛ ولذلك يتابع سبحانه: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [إبراهيم: 51].
ليبين لنا أنه سبحانه سُيحاسِب كل الخَلْق من لَدُن آدم إلى أنْ تقومَ الساعة بسرعة تناسب قدرته المطلقة.
وحين سأل الناسُ الإمام- علياً- كرَّم الله وجهه-: كيف سيحاسب الله الخلق كلهم دفعة واحدة؟ أجاب الإجابة الدَّالة الشافية، وقال: (كما يرزقهم جميعاً).
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ....}.

.تفسير الآية رقم (52):

{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}
وهذه الآية هي مِسْك الختام لسورة إبراهيم، ذلك أنها ركَّزَتْ الدعوة؛ بلاغاً صدر عن الله ليبلغه لرسوله الذي أُيِّد بالمعجزة؛ لِيحمِلَ منهج الحياة للإنسان الخليفة في الأرض.
وإذا ما صدرتْ قوانينُ حركة الحياة للإنسان الخليفة في الأرض المخلوق لله، وجب ألاَّ يتزيّد عليها أحدٌ بإكمال ولا بإتمام؛ لأن الذي خلق هو الذي شرَّع، وهذه مسألة يجب أن تكون على ذِكْر من بَالِ كل إنسان مُكلَّف.
وحين تقرأ هذا القَوْل الحكيم: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ...} [إبراهيم: 52].
تجد أنه يحمل إشارة إلى القرآن كله؛ ذلك أن حدود البلاغ هو كل شيء نزل من عند الله.
وقول الحق سبحانه: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ...} [إبراهيم: 52].
قد أعطانا ما يعطيه النص القانوني الحديث، ذلك أن النصَّ القانوني الحديث يوضح أنه لا عقوبةَ إلا بنصٍّ يُجرِّم الفعل، ولابد من إعلان النصِّ لكافَّة الناس؛ ولذلك تُنشَر القوانين في الجريدة الرسمية للدولة، كي لا يقولَ أحد: أنا أجهل صدور القانون.
وكلنا يعلم أن الحق سبحانه قد قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
فمهمة الرسول- إذنْ- هي البلاغ عن الله لمنهج الحياة الذي يصون حركة الحياة.
ويقول سبحانه عن مهمة الرسول: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40].
ويقول سبحانه: {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله...} [الأحزاب: 39].
ويقول الحق سبحانه على لسان الرسول: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي...} [الأعراف: 93].
ويقول أيضاً: {أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ...} [هود: 57].
وهكذا لا توجد حُجّة لقائل: إني أُخِذْتُ بذنب لم أعرف أنه ذنبٌ وقْتَ التكليف. لا حُجّة لقائلِ هذا القول؛ لأن الحق سبحانه يقول في نفس الآية: {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ..} [إبراهيم: 52].
والإنذار: تخويف بشرٍّ سوف يقع من قبل زمنه، ليوضح لك بشاعة المخالفة، وكذلك التبشير هو تنبيه لخير قادم لم يَأتِ أوانه كي تستعدّ لاستقباله.
وقَوْل الحق سبحانه: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ...} [إبراهيم: 52].
يتضمن البشارة أيضاً؛ ولكنه يرتكز ويؤكد من بعد ذلك في قوله: {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ...} [إبراهيم: 52].
لأن الخيبة ستقع على مرتكب الذنوب.
وأقول: إن الإنذار هنا هو نعمة؛ لأنه يُذكِّر الإنسان فلا يُقدِم على ارتكاب الذنب أو المعصية، فساعةَ تُقدم للإنسان مغبة العمل السيء؛ فكأنك تُقدم إليه نعمة، وتُسدي إليه جميلاً ومعروفاً.
ويتابع سبحانه: {وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ..} [إبراهيم: 52].
وهذه هي القضية العقدية الأولى، والتي تأتي في قِمّة كل القضايا؛ فهو إله واحد نصدر جميعاً عن أمره؛ لأن الأمر الهام في هذه الحياة أن تتضافر حركة الأحياء وتتساند؛ لا أن تتعاند. ولا يرتقي بنيان، ما إذا كنتَ أنت تبني يوماً ليأتي غيرك فيهدم ما بنيتَ.
ومهمة حركة الحياة أن نُؤدِّي مهمتنا كخلفاء لله في الأرض؛ بأن تتعاضدَ مواهبنا، لا أن تتعارضَ، فيتحرك المجتمع الإنساني كله في اتجاه واحد؛ لأنه من إله واحد وأمر واحد.
وحين يقول الحق سبحانه: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ...} [إبراهيم: 52].
فهو يحدد لنا قِوَام الدين بعد تلقّيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُبلّغه مَنْ سمعه لمن لم يسمعه.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «نضَّر الله امْرءاً سمع مقالتي فوعاها، وأداها إلى مَنْ لم يسمعها».
وذلك لتبقى سلسلة البلاغ متصلة، وإنْ لم يُبلغ قوم فالوِزْر على مَنْ لم يُبلّغ، وبذلك يحرم نفسه من شرف التبعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَمنْ يعلم حكماً من أحكام الدين؛ فالمطلوب منه هو تبليغه للغير؛ مثلما طلب الحق سبحانه من رسوله أن يُبلِّغ أحكامه.
والحق سبحانه هو القائل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً...} [البقرة: 143].
وهكذا شهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بلَّغكم وبَقِي على كل مسلم يعلم حُكْما من أحكام الدين أن يُبلِّغه لِمَنْ لا يعرفه؛ فقد ينتفع به أكثر منه؛ وبعد أن سمع الحكم قد يعمل به، بينما مَنْ أبلغه الحكم لا يعمل به.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ مُبلَّغٍ أوْعَى من سامع».
ولذلك أقول دائماً: إياك أن تخلط بين المعلومة التي تُقال لك: وبين سلوك مَنْ قالها لك، ولنسمع الشاعر الذي قال:
خُذْ عِلْمي ولاَ تركَنْ إلى عَملِي ** وَأجْنِ الثمارَ وخَلِّ العُودَ للحطَبِ

وهكذا يتحمل المسلم مسئولية الإبلاغِ بما يعرف من أحكام الدين لمن لا عِلْمَ لهم بها؛ لتظل الرسالة موصولة، وكلنا نعلم أن الحق سبحانه قد قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر...} [آل عمران: 110].
أي: أنكم يا أمة محمد، قد أخذتم مهمة الأنبياء.
ولأن البلاغ قد جاء من الله على الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول أمين في تبليغه؛ لذلك لا يمكن أنْ يصدرَ عن الواحد الحكيم أوامر متضاربة، ولكن التضارب إنما ينشأ من اختلاف الآخر؛ أو من عدم حكمة الآمر، ولْنُدقِّق جيداً في قول الحق سبحانه: {وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ...} [إبراهيم: 52].
فكلمة (واحد) جاءت لتمنع مجرّد تصوُّر الشراكة؛ فلا أحدَ مثله، وهو أحدٌ غير مُركَّب من أجزاء؛ فليس له أجهزة تشبه أجهزة البشر مثلاً؛ فلو كان له أجهزة لَكانَ في ذاته يحتاجُ لأبعاضه، وهذا لا يصِحُّ ولا يمكن تخيُّله مع الله سبحانه وتعالى.
وتلك هي القضية الأساسية التي يعيها أولو الألباب الذين يستقبلون هذا البلاغ. وأولو الألباب هي جمع، ومفرد (ألباب) هو (لُبّ)، ولُبّ الشيء هو حقيقة جوهره؛ لأن القشرةَ توجد لتحفظَ هذا اللُّب، والمحفوظ دائماً هو أنفَسُ من الشيء الذي يُغلّفه لِيحفظه.
وهكذا يكون أولو الألباب هم البشر الذين يستقبلون القضية الإيمانية بعقولهم؛ ويُحرِّكون عقولهم ليتذكروها دائماً؛ ذلك أن مشاغل الحياة ومُتعتها وشهواتها قد تَصْرِف الإنسان عن المنهج؛ ولذلك قال الحق سبحانه هنا: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} [إبراهيم: 52].
أي: يتذكر أصحاب العقول أن الله واحدٌ أحد؛ فلا إلهَ إلا هو؛ ولذلك شهد سبحانه لنفسه قبل أنْ يشهدَ له أيُّ كائن آخر، وقال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ...} [آل عمران: 18].
وهذه شهادةُ الذات للذاتِ، ويُضيف سبحانه: {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18].
وشهادة الملائكة هي شهادة المُواجهة التي عايشوها، وشهادة أُولي الألبابِ هي شهادة الاستدلال.
وشهد الحق سبحانه أيضاً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول: وكذلك شهد الرسول لنفسه، فهو يقول مثلنا جميعاً: (أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).
وهكذا فعَلى أُولي الألباب مهمة. أنْ يتذكَّروا ويُذكِّروا بأنه إله واحد أحدٌ.