فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (47):

{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)}
اطيَّر: استعمل الطير، وهذه عملية كانوا يلجئون إليها عند قضاء مصالحهم أو عند سفرهم مثلاً، فكان الواحد منهم يُمسك بالطائر ثم يرسله، فإنْ طار ناحية اليمين تفاءل وأقبل على العمل، وإنْ طار ناحية الشمال تشاءم، وامتنع عما هو قادم عليه، يُسمُّونها السانحات والبارحات. فالمعنى: تشاءمنا منك، وممَّنْ اتبعك.
{قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله} [النمل: 47] يعني: قضاء مقضيٌّ عليكم، وليس للطير دَخْل في أقداركم، وما يجري عليكم من أحكام، فيكف تأخذون من حركته مُنطلقاً لحركتكم؟ إنما طائركم وما يُقدَّر لكم من عند الله قضاء يقضيه.
وفي آية يس: {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} [يس: 19] يعني تشاؤمكم هو كفركم الذي تمسكتم به.
لكن، لماذا جاء التشاؤم هنا، ونبيهم يدعوهم إلى الله؟ قالوا: لأنه بمجرد أنْ جاءهم عارضوه، فأصابهم قحْط شديد، وضنَّتْ عليهم السماء بالمطر فقالوا: هو الذي جَرَّ علينا القَحْط والخراب.
وقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] الفتنة: إما بمعنى الاختبار والابتلاء، وإما بمعنى فتنة الذهب في النار.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)}
وهذه المسألة أيضاً لقطة جديدة من القصة لم تُذكَر في الشعراء، وهكذا كل القَصَص القرآني لو تدبَّره الإنسان لوجده لقطاتٍ متفرقة، كلٌّ منها يضيف جديداً، ويعالج أمراً يناسب النجْم القرآني الذي نزل فيه لتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرَّهْط: اسم جمع، لا واحدَ له من لفظه، ويدل على العدد من الثلاثة إلى العشرة، فمعنى {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] كأنهم كانوا قبائل أو أسراً أو فصائل، قبيلة فلان وقبيلة فلان.. إلخ.
{يُفْسِدُونَ فِي الأرض} [النمل: 48] فلماذا قال بعدها: {وَلاَ يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]؟ قالوا: لأن الإنسان قد يُفسد في شيء، ويُصلح في آخر، كالذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهؤلاء عسى الله أنْ يتوبَ عليهم.
أما هؤلاء القوم، فكانوا أهل فساد مَحْض لا يعرفون الصلاح، فإنْ رأوْه عمدوا إليه فأفسدوه، فكأنهم مُصِرُّون على الإفساد، وللإفساد قوم ينتفعون به، لذلك يدافعون عنه ويعارضون في سبيله أهل الإصلاح والخير؛ لأنهم يُعطِّلون عليهم هذه المنفعة.
وقلنا: إن صاحب الدين والخلق والمبادئ في أيِّ مصلحة تراه مكروهاً من هذه الفئة التي تنتفع من الفساد، يهاجمونه ويتتبعونه بالهَمْز واللمز، يقولون: حنبلي، وربما يهزأون به.. إلخ؛ لذلك لم يقف في وجه الرسل إلا هذه الطائفة المنتفعة بالفساد.

.تفسير الآية رقم (49):

{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)}
{قَالُواْ} [النمل: 49] أي: الرهط {تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] انظر إلى هذه البجاحة وقلة العقل وتفاهة التفكير: إنهم يتعاهدون ويُقسمون بالله أنْ يقتلوا رسول الله، وهذا دليل غبائهم، وكأن الحق تبارك وتعالى يجعل لهم منافذ يظهر منها حُمْقهم وقِلّة عقولهم.
ومعنى {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل: 49] نُبيِّته: نجعله ينام بالليل، والبيتوتة أن ينقطع الإنسان عن الحركة حالَ نومه، ثم يعاود الحركة بالاستيقاظ في الصباح، لكن هؤلاء يريدون أنْ يُبيِّتوه بيتوتة لا قيامَ منها. والمعنى: نقلته.
فإذا ما جاء أولياء الدم يطالبوننا بدمه {لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} [النمل: 49] أي: وليّ الدم من عُصْبته ورحمه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49] أي: ما شهدنا مقتل أهله، فمن باب أَوْلَى ما شهدنا مقْتله، ولا نعرف عنه شيئاً.
هذا ما دبره القوم لنبي الله صالح عليه السلام يظنون أن الله يُسْلِم رسوله، أو يُمكِّنهم من قتله، فحاكوا هذه المؤامرة ولم يفتهم تجهيز الدفاع عن أنفسهم حين المساءلة، هذا مكرهم وتدبيرهم.

.تفسير الآية رقم (50):

{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)}
معنى {وَمَكَرُواْ مَكْراً} [النمل: 50] أي: ما دبّروه لقتل نبي الله ورسوله إليهم {وَمَكَرْنَا مَكْراً} [النمل: 50] وفَرْق بين مكر الله عز وجل {والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] وبين مكْر الكافرين {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
إذن: حين تمكر بخير، فلا يُعَدُّ مكْراً، إنما إبطال لمكْر العدو، فلا يجوز لك أنْ تتركه يُدبِّر لك ويمكُر بك، وأنت لا تتحرك؛ لذلك قال تعالى: {والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] لأنهم يمكرون بشرٍّ، ونحن نمكر لدفع هذا الشر لِنُصْرة رسولنا، ونجاته من تدبيركم.

والمكْر: مأخوذ من قولهم: شجرة ممكورة، وهذا في الشجر رفيع السَّاق المتسلق حين تلتفُّ سيقانه وأغصانه، بعضها على بعض، فلا تستطيع أن تُميِّزها من بعضها، فكُلٌّ منها ممكور في الآخر مستتر فيه، وكذلك المكر أن تصنع شيئاً تداريه عن الخصم.
وقوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] أي: أنه مكْر محبوك ومحكم، بحيث لا يدري به الممكور به، وإلا لا يكون مَكْراً.
وحين نتأمل: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] و{والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] نعلم أن المكر لا يُمدح ولا يُذَمُّ لذاته، إنما بالغاية من ورائه، كما في قوله تعالى عن الظن: {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} [الحجرات: 12] فالظن منه الخيِّر ومنه السيئ.
ونسمع الآن تعبيراً جديداً يعبر عما يدور في المجتمع من انتشار المكر وسوء الظن، يقولون: الصراحة مكر القرن العشرين، فالذي يمكر بالناس يظن أنهم جميعاً ماكرون فلا يصدق كلامهم، ويحتاط له حتى إنْ كان صدقاً، فأصبح المكر وسوء الظن هو القاعدة، فإنْ صارحتَ الماكر لا يُصدقك ويقول في نفسه: إنه يُعمى عليَّ أو يُضلِّلني.

.تفسير الآية رقم (51):

{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)}
أي: تأمل ما حاق بهم لما مكروا بنبي الله، واتفقوا على التبييت له وقَتْله، يُرْوى أنهم لما دخلوا عليه أُلْقي على كل واحد منهم حجر لا يدري من أين أتاه، فهلكوا جميعاً، فقد سخَّر الله له ملائكة تولَّتْ حمايته والدفاع عنه.
أو: أن الله تعالى صنع له حيلة خرج بها وذهب إلى حضرموت، وهناك مات عليه السلام، فَسُمِّيت حضرموت. وآخرون قالوا: بل ذهبوا ينتظرونه في سفح جبل، واستتروا خلف صخرة ليُوقِعوا به فسقطت عليهم الصخرة فماتوا جميعاً.
المهم، أن الله دمرهم بأيِّ وسيلة من هذه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] لقد أرادوا أنْ يقتلوه وأهلَه، فأهلكهم الله.

.تفسير الآية رقم (52):

{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)}
قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] دليل على أن الله أهلكهم فلم يُبْقِ منهم أحداً، وتُركَتْ بيوتهم خاوية بسبب ظلمهم {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً} [النمل: 52] عبرة وعظة {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52].
وفي مقابل إهلاك الكافرين: {وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ}

.تفسير الآية رقم (53):

{وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)}
فمن آمن واتقى من قوم صالح نجّاه الله عز وجل من العذاب الذي نزل بقومهم قوم ثمود.
انتهى الكلام هنا عن قصة ثمود، وحين نقارن الأحداث هنا بما ورد في سورة الشعراء نجد أحداثاً جديدة لم تُذكَر هناك، كما لم يذكر هنا شيئاً عن قصة الناقة التي وردتْ هناك، مما يدلُّ على تكامل لقطات القصة في السور المختلفة.
ثم يقصُّ علينا طرفاً من قصة نبي آخر، وهو لوط عليه السلام: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}

.تفسير الآية رقم (54):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)}
(لُوطاً) جاءت منصوبة على أنها مفعول به، والتقدير: أرسلنا لوطاً، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعبدوا الله} [النمل: 45].
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54] فذكر الداء الذي استشرى فيهم. وفي سورة الشعراء قال سبحانه: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80] وهنا قال: {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54] أي: تتعالمون بها وتتجاهرون بها، فدلَّ على أنهم أجعوا عليها وارتضوْهَا، وأنه لم يَعُدْ عندهم حياء من ممارستها.
أو: يكون المعنى: وأنتم تبصرون ما حَلَّ بأصحاب الفساد قبلكم من أقضية الله عليهم.

.تفسير الآية رقم (55):

{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)}
هذا بيان وتفصيل للداء وللفاحشة التي انتشرت بينهم، ومعنى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] الآية في ظاهرها أنها تتعارض مع {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54] لكن المعنى {تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] الجهل هنا ليس هو ضد العلم، إنما الجهل بمعنى السَّفه.
والبعض يظن أن الجهل أَلاَّ تعلم، لا إنما الأمية هي الاَّ تعلم، أمَّا الجهل فأنْ تعلم قضية مخالفة للواقع؛ لذلك الأميُّ أسهل في الإقناع؛ لأنه خالي الذِّهْن، أمّا الجاهل فلديه قضية خاطئة، فيستدعي الأمر أن تنزع منه قضية الباطل، ثم تُدخِل قضية الحق، فالجهل إذن أشقُّ على الدعاة من الأمية.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}

.تفسير الآية رقم (56):

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)}
عجيبٌ أمر هؤلاء، فعِلَّة الإخراج عندهم وحيثيته {إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] سبحان الله، ومتى كان الطُّهْر ذنباً وجريمة تستوجب أنْ يخرج صاحبها من بلدة؟ إنها نغمة نسمعها دائماً من أهل الباطل في كل زمان ومكان حينما يهاجمون أهل الحق، ويَسْعَوْن لإبعادهم من الساحة لتخلو لباطلهم.
ومن عَدْل الله تعالى أن يظهر في منطقهم دليل إدانتهم وخُبْث طباعهم، فكلمة {يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] التي نطقوا بها تعني: أنهم أنفسهم أنجاسٌ تزعجهم الطهارة، وما أحلَّ الله من الطيبات، وكأن الله تعالى يجعل في كلامهم منافذ لإدانتهم، وليحكموا بها على أنفسهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته}

.تفسير الآية رقم (57):

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)}
أي: من المُهْلَكين مع قومها، فقد كانت تدل قومها على ضيفان لوط؛ ليأتوا إليهم ليفعلوا معهم الفاحشة، لذلك أصابها من العذاب مثلما أصاب قومها.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}
أي: قَبُح هذا المطر، وإنْ أبهم المطر هنا فقد وضَّحه الحق تبارك وتعالى في آيات أخرى فقال: من طين، ومن سِجِّيل، وهو الطين إذا حُرِق، فصار فخَّاراً، وهذه الحجارة منظمة مُسوَّمة صنعها الله لهم بحساب دقيق، فلكُلِّ واحد منهم حَجَره المسمَّى باسمه، والذي لا يُخطِئه إلى غيره.

.تفسير الآية رقم (59):

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}
نعرف أن الله تعالى يُحمد على النعمة، لكن هناك {الحمد لِلَّهِ} [النمل: 59] جاءت بعد نقمة وعذاب وأَخْذ للمكذِّبين. قالوا: الخطاب هنا مُوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن جُنْد الله هم الغالبون، وأن العاقبة لهم ليطمئن رسول الله، كما أن تطهير الكون من المفسدين فيه، وحين تستريح منهم البلاد والعباد، هذه نعمة تستوجب {الحمد لِلَّهِ} [النمل: 59].
وفي أهلاك الكافرين والمكذِّبين عبرة ودرسٌ لغيرهم، حتى لا يتورطوا في أسباب الهلاك، وهذه نعمة أخرى تستحق الحمد.
لذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نحمده إنْ رأينا خيراً نزل بالأخيار، أو شراً حَلَّ بالأشرار. فالمعنى {قُلِ الحمد لِلَّهِ} [النمل: 59] أن الرسل انتصروا وغلبوا، وأن المفسدين انهزموا واندحروا.
ألاَ ترى قَوْلَ أهل الجنة: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 73- 74].
كذلك حين نرى الشرير الذي شاع شرُّه وكثُرَ فساده حين ينزل به ما يستحق من عقاب الله نقول جميعاً ساعةَ نسمع خبره: الحمد لله، هكذا بعملية لا شعورية عند الجميع أنْ تلهج ألسنتُهم بالحمد عند نزول النعمة على أصحابها، والنقمة على مَنْ يستحقها.
ويقول تعالى عن أهل الشر والفساد: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 42- 45].
فبعد أنْ قطع الله دابر الظالمين قال: الحمد لله رب العالمين، ونلحظ هنا الفرق بين فتح لك، وفتح عليك؛ فتح لك يعني: فتح في صالحك، ومنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1].
أما فتح عليهم يعني: بالسوء نكايةَ فيهم، فمعنى {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44].
أعطاهم الخير ليهلكهم به، وهم في حال نعمة ومكانة، حتى إذا أخذهم الله كان أَخْذه أليماً شديداً.
وفي قصة نوح عليه السلام: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} [المؤمنين: 28].
فحَمْد الله هنا على أمرين: الحمد لله لأنه أغرق الكافرين الظالمين وخلًّصنا منهم، والحمد لله لأنه نجَّى المؤمنين.
ثم يقول سبحانه: {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} [النمل: 59] وهم المؤمنون الذين نصرهم الله، وجعل العاقبة لهم، والسلام عليهم بعدها لاقوه من عَنَتِ الكفار وعنادهم، فالحمد لله الذي أهلك المفسدين، وأتى بالسلام على المهتدين.
ثم يطرح الحق سبحانه قضية، ويأتي بها في صورة سؤال واستفهام؛ لتكون أبلغ في النفس من مجرد الإخبار بها: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59].
ولو أن الآية قالت: قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى لأن الله خير وما يشركون به شرٌّ لكان الكلامُ خبراً، والخبر في ذاته وبصرف النظر عن قائله يحتمل الصدق أو الكذب.
أمَّا حين تُعرض هذه القضية في صورة الاستفهام، فقد جعلتَ مخاطبك هو الذي ينطق بها، كما لو أنكر أحد الأصدقاء جميلَك وأياديك عليه، فبدل أن تخبر أنت: فعلتُ لك كذا وكذا تدَعْه هو الذي يُخبر فتقول: ألم أفعل لك كذا وكذا؟ ولا يقول هذا إلا واثقٌ ومعتقدٌ أن الإجابة ستكون في صالحه.
فالمعنى: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] قولوا لنا أنتم ونحن نرتضي حكمكم بعدما رأيتُم وسمعتم من هذه القصة: آالله خير أم الذين أشركوا به خير؟ ولابد أن تأتي الإجابة: الله خير؛ لذلك لما نزلت هذه الآية انفعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرع بالجواب: (بل الله خير وأبقى وأجلُّ وأكرم).
مما يدل على أن الانفعال بالقرآن واجب ونقصد الانفعال بمعانيه، لا الانفعال بالصوت والنغمات كالذي نسمعه من هؤلاء(الذكِّيرة) الذي يُشجِّعون المقرئين بالصياح والضجيج الذي لا يتناسب وجلال الآيات، وهم مع ذلك لا يفهمون المعاني ولا يتأثرون بها، لدرجة أن منهم مَنْ يسمع آيات العذاب فيقول بأعلى صوته: اللهم زِدْنا.
وقد كان الكتبة من الصحابة ينفعلون بالآيات معنىً، حتى إن أحدهم ليكمل الآية ويختمها بما يناسبها قبل أن تُملَي عليه، لماذا؟ لأنهم فهموا عن الله وتأثروا بالمعنى، مما يدل على أن القرآن جاء موافقاً للفطرة السليمة، ومن هذا التوافق قول أحد الصحابة {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنين: 14] فنزل بها القرآن كما قالها.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن سورة الرحمن (لقد قرأتُ سورة الرحمن على إخوانكم الجن، فكانوا أحسن استجابة منكم، فكانوا كلما قلت {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13].
قالوا: لا بشيء من نعمائك ربنا نكذب فلكَ الحمد).
إذن: حين نسمع كلام الله علينا أن ننفعل به، وأنْ نتجاوبَ معه تجاوباً واعياً، فعند آية التسبيح نُسبِّح، وعند آية الحمد نحمد الله، وعند آية الدعاء نقول: آمين، هذه مواجيد انفعالية لسماع القرآن والتجاوب معه، لا أنْ نسمعه أو نهذه كهذ الشِّعْر.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض}