فصل: تفسير الآية رقم (60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (59):

{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)}
البعض يظن أن خَلْق السموات والأرض شيء سهل، وأعظم منه خَلْق الإنسان، لكن الحق تبارك وتعالى يقول: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57].
فالإنسان يخلقه الله، وقد يموت بعد يوم، أو بعد مائة عام، وقد تصيبه في حياته الأمراض، أمّا السموات والأرض، فقد خلقها الله تعالى بهندسة دقيقة، وقوانين لا تختلف ولا تختل مع ما يمرُّ عليها من أزمنة، وكأن الحق سبحانه يقول للإنسان: إن السموات والأرض هذه خلْقتي وصَنْعتي، لو تدبرتَ فيها وتأملتَها لوجدتَها أعظم من خَلْقك أنت.
وقوله تعالى: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] سبق أن تكلَّمنا في هذه المسألة وقلنا: إن جمهرة آيات القرآن تدل على أن الخَلْق تمَّ في مدة ستة أيام إلا سورة واحدة تُشعِر آياتها أن الخلق في ثمانية أيام، وهي سورة فصلت.
حيث يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} [فصلت: 912].
وجملة هذه ثمانية أيام، وكل مُجْمل يخضع للتفصيل إلا تفصيل العدد فيرجع للمجمل، كيف؟
الحق سبحانه يتكلم هنا عن خَلْق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم تكلَّم عن خَلْق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام، فالأربعة الأيام هذه تكملة لخلّق الأرض فهي تكملة لليومين، كأنه قال في تتمة أربعة أيام، فالأرض في يومين والباقي أكمل الأربعة. كما تقول: سِرْتُ إلى طنطا في ساعة، وإلى الأسكندرية في ساعتين أي يدخل فيهما الساعة الأولى إلى طنطا، فاليومان من الأربعة الأيام.
لكن، كيف نُقدِّر هذا اليوم؟ الله يخاطبنا باليوم الذي نعرفه ونعرف مدلوله، فالمعنى: في ستة أيام من أيامكم التي تعرفونها. وإلاَّ لو كان المراد يوماً لا نعرفه نحن، فسيكون لا معنى له؛ لأننا لا نفهمه.
ولقائل أن يقول: كيف يستغرق الخَلْق كل هذه المدة والحق تبارك وتعالى يخلق بكُنْ، وكن لا تحتاج وقتاً؟ قالوا: فَرْق بين عملية الخَلْق وما يحتاجه المخلوق في ذاته.
فأنت مثلاً، إنْ أردتَ أنْ تصنع كوباً من الزبادي تحضر اللبن مثلاً وتضع عليه خميرة الزبادي المعروفة المأخوذة من زبادي دسم سبق صُنْعه، وتضعه في درجة حرارة معينة، بعد هذه العملية تكون قد صنعت الزبادي فعلاً، لكن هل يمكنك أن تأكل منه فَوْر الانتهاء من صناعته؟ لا، بل لابد أن تتركه عدة ساعات لتتفاعل عناصره، فهل تقول: أنا صنعت الزبادي في عدة ساعات مثلاً؟
كذلك، حين تذهب إلى(الترزي) لتفصيل ثَوْب مثلاً يقول لك: موعدنا بعد شهر، فهل تستغرق خياطة الثوب شهراً؟ لا، إنما مدته عنده شهر.
فالحق تبارك وتعالى يفعل ويخلق دون معالجة، وبالتالي دون زمن؛ لأنه سبحانه يقول للشيء: كُنْ فيكون.
وقوله: سبحانه: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الفرقان: 59] سبق أن تكلمنا في هذه المسألة: فاستوى تعني: صعد وارتفع وعلا وجلس، ونحن نُنزِّه الله تعلى عن استواء يشابه استواء خَلْقه.
والاستواء هنا رمزية لتمام الأمر بما نعرفه في عادة الملوك في الجلوس على كرسي العرش، حين يتم لهم الأمر ويستتبّ.
و{الرحمن} [الفرقان: 59] دليل على أن مسألة الخَلْق كلها تدور في إطار الرحمانية {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] لأنه سبحانه خلق السموات والأرض وخلقنا، ومع ذلك لا نعرف: كيف تم هذا الخَلْق؟ ولن نستطيع أن نقف على تفصيل هذا الخَلْق، إلا إذا أطعلنَا الخالق عليه، وإلاَّ فهذا أمر لم نشاهده، فكيف نخوض فيه، كمن يقول: إن الأرض كانت قطعةَ من الشمس، ثم انفصلتْ عنها مع دوران الشمس.. إلخ هذه الأقوال.
لذلك الحق تبارك وتعالى يُحذِّرنا من سماع مثل هذه النظريات، لأن مسألة الخَلْق لا تخضع للعلم التجريبي أَبداً، فيقول سبحانه: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51].
إذن: سيوجد في الكون مُضلون يقولون للناس مثل هذه الأقوال في الخَلْق ويدَّعُون بها أنهم علماء يعرفون ما لا يعرفه الناس، فاحذروهم فما شاهدوا عملية الخَلْق، وما كانوا مساعدين لله تعالى، فيطلعوا على تفاصيل الخَلْق.
لذلك تقوم هذه الأقوال في خَلْق الإنسان وخَلْق السماء والأرض دليلاً على صِدْق هذه الآية، فما موقف هذه الآية إذن إذا لم تقل هذه الأقوال؟
ومثال ذلك الذين يحلو لهم التعصب للقرآن الكريم ضد الحديث النبوي يقول لك أحدهم: حدِّثني عن القرآن، سبحان الله، أتتعصّب للقرآن ضد الرسول الذي بلَّغك القرآن، وما عرفتَ القرآن إلا من طريقه؟ يعني(الواد ربَّانيّ) لا يعترف إلا بالقرآن. ونقول لمثل هذا الذي يهاجم الحديث النبوي: أنت صليتَ المغرب ثلاث ركعات، فأين هذا من القرآن؟
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُوشك الرجل يتكئ على أريكته يُحدَّث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما كان حراماً حرَّمْناه، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله».
لماذا؟ لأنِّي أقول لكم من باطن قَوْل الله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
بالله، لو لم يُوجَد الآن مَنْ يقول بهذا القول، فماذا سيكون موقف هذا الحديث؟ وكيف لنا أن نفهمه؟ لقد فضحهم هذا الحديث، وأبان ما عندهم من غباء، فقد كان بإمكانهم بعد أنْ عرفوا حديث رسول الله أنْ يُمسِكوا عن التعصب للقرآن ضد الحديث النبوي، فيكون الحديث ساعتها غير ذي معنى لكن هيهات.
نعود إلى موضوعنا، ونحن بصدد الكلام عن خَلْق السموات وخَلْق الأرض، واستواء الحق تبارك وتعالى على العرش، وهاتان المسألتان لا تسأل فيهما إلا الله {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] لأنه وحده الذي يعلم خبايا الأمور، وهذه أمور لم يطلّع عليها أحد فيخبرك بها.
وكلمة:(سأل) الإنسان لا يسأل عن شيء إلا إذا كان يجهله، والسؤال له مراحل: فقد تجهل الشيء ولا تهتم به، ولا تريد أن تعرفه، فأنت واحد من ضمن الذين لا يعرفون، وقد تجهل الشيء لكن تهتم به، فتسأل عنه لاهتمامك به، فمرَّة نقول: اسأل به. ومرة نقول: اسأل عنه.
والمعنى: اسأل اهتماماً به، أي: بسبب اهتمامك به اسأل عنه خبيراً ليعطيك ويخبرك بما تريد، فهو وحده الذي يعرف خبايا الأمور ودقائقها، وعنده خبر خَلْق السموات وخَلْق الأرض، ويعلم مسألة الاستواء على العرش؛ لذلك إنْ سألتَ عن هاتين المسألتين، فلا تسأل إلا خبيراً.
والذين قالوا في قوله تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] أي: ممَّنْ يعلم الكلام عن الله من أهل الكتاب نقول: لا بأسَ؛ لأنه سيؤول إلى الله تعالى في النهاية.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}
نلحظ أن الحق تبارك وتعالى حينما ذكر الصفة الملزمة لأنْ تخضع له سبحانه لم يَقُلْ مثلاً: اسجدوا لله، إنما {اسجدوا للرحمن} [الفرقان: 60] وأتى بالصفة التي تُعدِّي رحمانيته إليك، فكان من الواجب أنْ تطيع، وأن تخضع له. كما قُلْنا سابقاً: اجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه.
{قَالُواْ وَمَا الرحمن} [الفرقان: 60] كأنهم لا يعرفون هذه الكلمة، إنهم لا يعرفون إلا رحمن اليمامة.
وقولهم: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60] دليل على أن الامتناع عن السجود ليس للذات المسجود لها، بل لمن أمر بالسجود، كما سبق وأنْ قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] فكأنهم إنْ أمرهم الله بالسجود لسجدوا، لكن كيف يأتي الأمر من الرسول خاصة؟ وما مَيْزته عليهم حتى يأمرهم؛ لذلك قال بعدها: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60] والنفور: الانفكاك عن الشيء بكُرْه.
ثم يقول الحق سبحانه: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء}

.تفسير الآية رقم (61):

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}
يعود السياق مرة أخرى لذِكْر آية كونية؛ لأن الحق تبارك وتعالى يراوح بين آية تطلب منهم شيئاً، وأخرى تلفتهم إلى قدرة الله وعظمته، وهذا يدل على مدى تعنتهم ولجاجتهم وعنادهم، وحرص الحق سبحانه وتعالى على لَفْتهم إليه، والأخْذ بأيديهم إلى ساحته تعالى.
ولو شاء سبحانه لَسرَد الآيات الكونية مرة واحدة، وآيات التكذيب مرة واحدة، ولكن يُزاوج سبحانه وتعالى بين هذه وهذه لتكون العبرة أنفذ إلى قلوب المؤمنين.
قلنا: {تَبَارَكَ} [الفرقان: 61] يعني: تنزّه، وعَلاّ قدره، وعَظُم خيره وبركته. والبروج: جمع بُرْج، وهو الحصن الحصين العالي الذي لا يقتحمه أحد، والآن يُطلقونها على المباني العالية يقولون: برج المعادي، برج النيل.. إلخ، ومنه قوله تعالى: {والسمآء ذَاتِ البروج} [البروج: 1].
وقوله سبحانة: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
والبروج: منازل في السماء يحسب الناسُ بها الأوقات، ويربطون بينها وبين الحظوظ، فترى الواحد منهم أول ما يفتح جريدة الصباح ينظر في باب (حظك اليوم)، وقد دلَّتْ الآيات على أن هذه البروج جعلها الله لتُسهِّل على الناس أمور الحساب.
كما قال سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
وقال تعالى: {والشمس والقمر حُسْبَاناً} [الأنعام: 96].
يعني: بها تُحسب المواقيت، فالشمس تعطيك المواقيت اليومية والليلية، والقمر يدلُّك على أول كل شهر؛ لأنه يظهر على جِرْم معين، وكيفية مخصوصة تُوضّح لك أول الشهر ومنتصفه وآخره، ثم تعطيك الشمس بالظل حساب جزيئات الزمن.
ومعلوم أن في السماء اثنيْ عَشَر بُرْجاً جمعها الناظم في قوله:
حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزةَ السَّرطَانِ ** وَرَعَى الليْثُ سُنْبُلَ الميزاَنِ

عَقْرب القَوْس جَدْي دَلْو ** وحُوت مَا عَرفنَا من أُمَّة السُّرْيَانِ

فهي: الحملَ، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. فأوّلها الحَمل، وآخرها الحوت، وكلُّ بُرْج يبدأ من يوم 21 في الشهر وينتهي يوم 20.
ثم يقول تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] السراج هو المصباح الذي نشعله ليعطي حرارة وضوءاً ذاتياً، والمراد هنا الشمس؛ لأن ضوءها ذاتيٌّ منها، وكذلك حرارتها، على خلاف القمر الذي يضيء بواسطة الأشعة المنعكسة على سطحه، فإضاءته غير ذاتية؛ لذلك يقولون عن ضوء القمر: الضوء الحليم؛ لأنه ضوء بلا حرارة.
والعجيب أن سطح القمر كما وجدوه حجارة، ولما أخذوا منه حجراً ليُجروا عليه بحوثهم فهلْ قَلَّ ضوء القمر؟ لا لأن دائرته الكاملة هي التي تعكس إلينا ضوء الشمس وحين تأخذ منه حجراً يعكس لك ما تحته أشعة الشمس.
وفي موضع آخر، يوضح الحق سبحانه هذه المسألة، فيقول تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] فالضياء هو الذي يأتي من الكوكب ذاتياً، والنور هو انعكاس الضوء على جسم آخر، فهو غير ذاتي.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار}

.تفسير الآية رقم (62):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}
عرفنا أن الليل: غياب الشمس عن نصف الكرة الأرضية، والنهار مواجهة الشمس للنصف الآخر، والليل والنهار متعاقبان {خِلْفَةً} [الفرقان: 62] يأتي الليل ثم يعقبه النهار، كل منهما خَلْف الآخر، وهذه المسألة واضحة لنا الآن، لكن كيف كانت البداية عندما خلق الله تعالى الخَلْق الأول، فساعتها، هل كانت الشمس مواجهة للأرض أم غائبة عنها؟
إنْ كان الحق سبحانه خلق الشمس مواجهةً للأرض، فالنهار هو الأول، ثم تغيب الشمس، ويأتي الليل ليخلف النهار، أما النهار فلم يُسبق بليْل. وكذلك كانت الشمس عند الخَلْق غير مواجهة للأرض، فالليل هو الأول، ولا يسبقه نهار، وفي كلتا الحاليتن يكون أحدهما ليس خلْفة للآخر، ونحن نريد أن تصدُقَ الآية على كليْهما.
إذن: لابد أنهما خِلْفة منذ الخَلْق الأول؛ ذلك لأن الأرض كما عرفنا ولم يَعُدْ لدينا شك في هذه المسألة كروية، والحق تبارك وتعالى حينما خلق الشمس والقمر الخَلق الأول كان المواجه منها للشمس نهاراً، والمواجهة منها للقمر ليلاً، ثم تدور حركة الكون، فيخلف أحدهما الآخر منذ البداية.
وهذه النظرية لا تستقيم إلا إذا قُلْنا بكروية الأرض، وهذه يؤيدها قوله تعالى: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} [يس: 40].
والمعنى أيضاً: ولا النهار سابق الليل، لكن ذكر الليلَ؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الليل خُلِق أولاً، لماذا؟ لأن الزمن عندهم يثبت بليله، كما يحدث مثلاً في الصوم، فهل تصوم أولاً في النهار ثم ترى الهلال بالليل؟ إنما ترى الهلال بالليل أولاً، فكأن رمضان يبدأ يومه بليله.
وما دام الأمر كذلك فالليل سابقُ النهار عندهم، وهذه قضية يعتقدونها ومُسلَّمة عندهم، وجاء القرآن وخاطبهم على أساس هذا الاعتقاد: أنتم تعتقدون أن الليلَ سابقُ النهار يعني: النهار لا يسبق الليل، نعم لكن: اعلموا أيضاً أن الليل لا يسبق النهار. إذن: المحصلة: لا الليلُ سابقُ النهار، ولا النهار سابق الليل.
ولو قلنا بأن الأرض مسطوحة لَمَا استقام لنا هذا القول.
لكن أيّ ليل؟ وأيّ نهار؟ نهاري أنا، أم نهار المقابل لي؟ وكل واحد على مليون من الثانية يولد نهار ويبدأ ليل؛ لأن الشمس حين تغيب عني تشرق على آخرين، والظهر عندي يوافقه عصر أو مغرب أو عشاء عند آخرين.
إذن: كل الزمن فيه الزمن، وهذا الاختلاف في المواقيت يعني أن نغمة الأذان(الله أكبر) شائعة في كل الزمن، فالله معبود بكل وقت وفي كل زمن، فأنت تقول: الله أكبر وغيرك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله.. وهكذا.
وإنْ كان الحق تبارك وتعالى خلق الليل للسُّبات وللراحة، والنهار للسعي والعمل، فهذه الجمهرة العامة لكنها قضية غير ثابتة، حيث يوجد من مصالح الناس ما يتعارض وهذه المسألة، فمن الناس مَنْ تقتضي طبيعة عمله أن يعمل بالليل كالخبازين والحراس والممرضين.
إلخ.
فهؤلاء يُسمح لهم بالعمل بالليل والراحة بالنهار، ولو لم يكُنْ لهؤلاء منفذ لقلنا: إن هذا الكلام متناقض مع كونيات الخَلْق؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار} [الروم: 23] فتراعي هذه الآية ظروف هؤلاء الذين يضطرون للعمل ليلاً، وللراحة نهاراً.
وقوله تعالى: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] يعني: يا مَنْ شغله نهار عمله عن ذكر ربه انتهِزْ فرصة الليل، ويا مَنْ شغله نوم الليل عن ذِكْر ربه انتهز فرضة النهار، وذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل».
فمَن فاته شيء في ليله فليتداركه في نهاره، ومَنْ فاته شيء في نهاره فليتداركه في ليله، وإذا كان الله تعالى يبسط يده بالليل ويبسط يده بالنهار، وهما مستمران، فمعنى ذلك أن يده تعالى مبسوطة دائماً.
ومعنى {يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62] يتمعنّ ويتأمل في آيات الله، في الليل وفي النهار، كأنه يريد أن يصطاد لله نعماً يشكره عليها، على خلاف الغافل الذي لا يلتفت إلى شيء من هذا، فمن فضل الله علينا أن يُنبِّهنا إلى هذه النعم، ويلفت نظرنا إليها؛ لأننا أهل غفلة.
وقوله: {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] أي: شكراً، فهي صغية مبالغة في الشكر.