فصل: تفسير الآية رقم (66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (65):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)}
وساعة تسمع أن فلانا يحرض فلاناً، فهذا يعني أنه يحثه، ويثير حماسه ويغريه على أن يفعل، وأنواع الطلب كثيرة، فهناك طلب نسميه نداء، أي تناديه، وطلب نسميه أمراً أي تفعله، وطلب نسميه نهياً، أي لا تفعله. هذه كلها أفعال طلب يسبقها النداء. هناك مثلاً طلب أن يُقبل عليه، وطلب آخر أن يبتعد عنه، وطلب ثالث أن يقضي له حاجة، كل هذا يعني أن المتكلم يعرض على السامع أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا. وهناك لون من الطلب لا يحمل الإلزام، بل هو عَرْض فقط(وهو الطلب برفق ولين) كقولك لمن تعلوه: أنا لا آمرك، بل أعرض عليك فقط. وهناك لون ثالث من الطلب تحمله كلمة (حض) وهو الطلب بشدة؛ لأن المعروض معه دليل الإقبال عليه. فأنت حين تحض ابنك على المذاكرة مثلاً فهناك مبرر الإقبال على المذاكرة وهو النجاح. وأنت حين تحض الإنسان على فعل، فأنت لا تنهاه أو تأمره لأنك تريد أن يقبل على الشيء بحب، ولكن حين تأمره بقسوة قد يكره هذا الشيء. وقد تعرض على إنسان شيئاً فتجده يحب أن يفعله ولو بدون أمر منك.
إذن فقول الله تعالى: {حَرِّضِ المؤمنين} [الأنفال: 65].
أي حثهم وحضهم وحمسهم، والفعل يتكون من الحاء والراء والضاد، ومنها (حرض) و(يحرض) ومادة هذه الكلمة معناها القرب من الهلاك. ونجد قول الحق تبارك وتعالى على لسان إخوة يوسف لأبيهم: {قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} [يوسف: 85].
أي أنك ستستمر في ذكر يوسف حتى تقترب من الهلاك أو تهلك بالفعل.
ولكن هل معنى (حرِّض) هنا يعني: قرب المؤمنين من الهلاك؟ نقول: لا؛ لأن ما يسمونه الإزالة، وهي أن يأتي الفعل على صورة يزيل أصل اشتقاقه، عندما تقول: (قشرت البرتقالة) أي أزلت قشرتها. وكذلك قولنا: (مرّض) الطبيب فلانا وليس المعنى أن الطبيب قد أحضر له المرض، ولكن معناها أزال المرض، إذن فهناك أفعال تأتي وفيها معنى الإزالة. ويأتي معنى الإزالة مرة بتضعيف الحرف الأوسط مثل (حرَّض) و(قشَّر) ومرة تأتي بهمزة، فتعطي معنى الإزالة، فإذا قلت: (أعجم الكتاب). فمعناها أنه أزال عجمته، ولذلك نسمي كتب اللغة (المعاجم)، أي التي تزيل خفاء اللغة وتعطينا معاني الكلمات. ومن قبل شرحنا معنى (قسط) و(أقسط)؛ وقسط تعني (الجور) أي الظلم مصداقاً لقوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15].
وأقسط أي أزال الظلم.
إذن فهناك حروف حين تزاد على الكلمة؛ تزيل المعنى الأصلي لمادتها. وهناك تشديد يزيل أصل الانشقاق مثل (قشّر) أي أزال القشر، و(مَّرض) أي أزال المرض. و(حرَّض) أي أزال الحرض.
ومعنى الآية الكريمة: اطلب منهم يا محمد أن يزيلوا قربهم من الهلاك بالقتال. وهذه القاعدة اللغوية تفسر لنا كثيراً من آيات القرآن الكريم. ففي قوله تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15].
الذين يأخذون بالمعنى السطحي يقولون: (أكاد أخفيها) أي أقرب من أن أسترها ولا أجعلها تظهر، ونقول: الهمزة في قوله: (أكاد) هي همزة الإزالة، فيكون معنى (أكاد) أي أنني أكاد أزيل خفاءها بالعلامات الصغرى والعلامات الكبرى التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها. وبعضهم قد أرهق نفسه في شرح (أكاد أخفيها) ولم ينتبهوا إلى أن إزالة الاشتقاق تأتي إما بتضعيف الحرف الأوسط، وإما بوجود الهمزة. وقول الحق تبارك وتعالى هنا: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65].
أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من رسوله صلى الله عليه وسلم تحريض المؤمنين على الجهاد وكأنه يقول له: ادع قومك إلى أن يبعدوا الدنو من الهلاك عن أنفسهم؛ لأنهم إن لم يجاهدوا لتغلب عليهم أهل الكفر، فأهل الكفر يعيشون في الأرض بمنهج السيطرة والغلبة والجبروت، وحين يجاهدهم المؤمنون إنما ليوقفوهم عند حدهم. ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65].
فكأنهم إن لم يحاربوا أهل الكفر سوف يحيط بهم الهلاك في الدنيا وفي الآخرة. والله سبحانه وتعالى يريد لهم الحياة الآمنة الكريمة في الدنيا والجنة في الآخرة. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد وضع معياراً إيمانيا في القتال بين المؤمن والكافر، والمعيار هنا وضعه خالقهم، وخالق قواهم وملكاتهم وعواطفهم. والمعيار الإيماني هو في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 65].
إذن فالمعيار الإيماني باختصار يساوي واحداً إلى عشرة، أي أن القوة الإيمانية تجعل من قوة المؤمن ما يعادل قوة عشرة من الكفار، هذا هو المقياس. وهنا يأتي بعض الناس ليقول: أساليب القرآن مبنية على الإيجاز وعلى الإعجاز، فلماذا يقول الحق سبحانه وتعالى: (عشرون يغلبوا مائتين). ثم يقول (مائة يغلبوا ألفا)؛ ألم يكن من الممكن أن يقال: إن الواحد يغلب عشرة وينتهي القول؟.
نقول: إنك لم تلاحظ واقع الإسلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب مع المؤمنين في قتالهم ويحضر معهم بعضاً من أحداث القتال التي نسميها (غزوات). أما البعثات القتالية التي لم يخرج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يكتفي فيها بإرسال عدد من المؤمنين، فقد كانت تسمى سرايا، وهذه السرايا كانت لا تقل عن عشرين مقاتلاً ولا تزيد على مائة، فذكرها الله تعالى مرة بالعشرين ومرة بالمائة.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65].
ونحن نرى أن المقياس هنا ليس بعدد المقاتلين فقط، ولكن لابد أن يكونوا موصوفين بالصبر، وفي آية أخرى بالصبر والمثابرة، فمن الجائز أن يصبر عدوك فعليك حينئذ أن تصابره، أي إن صبر قليلاً، تصبر أنت كثيراً، وإن تحمل مشقة القتال، تتحمل أنت أكثر. إذن فالقوة القتالية لكي يتحقق بها ولها النصر لابد أن تكون قوة صابرة قوية في إيمانها قادرة على تحمل شدة القتال وعنفه.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى تعليل هذا الحكم الإيماني الذي أبلغنا به فيقول عز من قائل: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65].
إذن فالسبب في أن المؤمن يغلب عشرة من الكفار، هو أن الكفار قوم لا يفقهون، وما داموا لا يفقهون، يكون المقابل لهم من المؤمنين قوما يفقهون. وهنا نقارن بين المؤمنين الذين يفقهون، والكفار الذين لا يفقهون ونقول: إن الكافر حين يقاتل لا يعتقد في الآخرة، وليس له إلا الدنيا ويخاف أن يفقدها، ولذلك حين يوجد الكافر في ساحة الحرب فهو يريد أن يحافظ على حياته ولو بالفرار، ولكن الدنيا بالنسبة للمؤمن رحلة قصيرة والشهادة هي الفوز برضوان الله ودخول الجنة بلا حساب، ولذلك فإنه يقبل على القتال بشجاعة من يريد الاستشهاد. ونجد خالد بن الوليد يقول للفرس: أتيتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.
فلو أن الكفار فقهوا أي فهموا أن الدنيا دار ممر ومعبر للآخرة، وأن الآخرة هي المستقر لأنها الدار الباقية، لامتلكوا قوة دافعة للقتال، ولكنهم يريدون هذه الحياة لأنها بالنسبة لهم هي كل شيء. ولذلك يعلمنا القرآن الكريم فيقول: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52].
أي لن يحدث لنا في هذه الحرب إلا ما هو حسن، فإما أن ننتصر ونقهركم ونغنم أموالكم، وإما أن نُسْتَشْهَدَ فندخل الجنة وكلاهما حسن. ويكمل الحق سبحانه وتعالى: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].
أي أنكم أيها الكفار لن يصيبكم إلا السوء والخزي. إما عذاب شديد من عند الله بغير أسباب، وإما عذاب بأيدينا أي بالأسباب. إذن فالكافر حين يدخل المعركة لا ينتظر إلا السوء، إما أن يقتل ويذهب إلى جهنم- والعياذ بالله-، وإما أن يصيبه الله بعذاب يدفع الخوف في قلبه أثناء المعركة.
والكفار في القتال لا يعتمدون إلا على قوتهم وعددهم وعُدتِهم؛ أما المؤمنون فيعتمدون أولاً على الله القوي العزيز ويثقون في نصره. ولذلك يقبلون على القتال ومعهم رصيد كبير من طاقة الإيمان وهي طاقة تفوق العدد والعدة، ويكون المقاتل منهم قويا في قتاله متحمساً له؛ لأنه يشعر أنه مؤيد بنصر الله. ونعلم أن كل إنسان يحرص على الغاية من وجوده؛ وغاية الكفار متاع الحياة الدنيا المحدود، أما غاية المؤمنين فممتدة إلى الآخرة. ولذلك فالكافر يحارب بقوته فقط وهو مجرد من الإيمان.
ونلاحظ أن النصوص خبرية في قوله الحق تبارك وتعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65].
والنصوص الخبرية ليس فيها طلب،، وإن كان الطلب يخرج مخرج الخبر ليوهمك أن هذا أمر ثابت. وعندما قام بعض المتمردين من سنوات ودخلوا الحرم بأسلحتهم وحاصروا الناس فيه قال بعض السطحيين: إنَّ القرآن يقول: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97].
وأن هذا خبر كوني معناه أن كل من دخل الحرم كان آمناً، وقلنا: إن قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97].
هذا كلام الله؛ فمن أطاع الله فليؤمِّن من يدخل الحرم. وقد تطيعون فتؤمِّنون من يدخل الحرم وقد تعصون فلا تؤمِّنونهم. إذن فالمسألة هي حكم تطيعونه أو لا تطيعونه، كذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228].
هذا كلام خبري. فإن أطاعت المطلقة الله؛ انتظرت هذه الفترة، وإن عصت لم تنتظر، وكذلك قوله تعالى: {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26].
وقد نرى في الكون زيجات عكس ذلك؛ تجد رجلاً لئيماً يتزوج بامرأة طيبة؛ وامرأة لئيمة تتزوج رجلاً طيباً، وقد تتساءل: لماذا لم يتزوج الطيب طيبة مصداقاً لقول الحق، ولماذا لم يتزوج الخبيث خبيثة؟
ونقول: لقد أخطأت الفهم لقول الله تعالى، فما قاله الله ليس خبراً كونيا، ولكنه خبر تشريعي ومعناه: زوجوا الطيبات للطيبين، وزوجوا الخبيثات للخبيثين، فإن فعلتم استقامت الحياة، وإن عصيتم لا تستقيم الحياة؛ لأن الرجل الخبيث إن عاير امرأته وأهانها فهي ترد عليه الإهانة بالمثل ويكون التكافؤ موجوداً حتى في القبح. ولكن الشقاء في الكون إنما يأتي من زواج الطيب بالخبيثة، والخبيث بالطيبة، وليس معنى الآية- إذن- أنك لا تجد طيباً إلا متزوجاً من طيبة، ولا خبيثاً إلا متزوجاً من خبيثة؛ لأن هذا أمر تكليفي تشريعي، فإن فعلت تكون قد أطعت، وإن لم تفعل تكون قد عصيت.
ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ...}.

.تفسير الآية رقم (66):

{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}
وفي هذا الحكم تخفيف عن الحكم السابق، الذي جاء فيه أن عشرين صابرين يغلبوا مائتين، ونعلم أن هناك شروطا للقتال، أولها أن يكون المقاتل قوي البدن وقوي الإيمان وعلى دراية بحيل الحرب وفنونه بحيث يستطيع أن يناور ويغير مكانه في المعركة ويخدع عدوه؛ لأن نتيجة المعركة لا تحسمها معركة واحدة، بل لابد من كرّ وفرّ وإقبال وإدبار وخداع للقتال ومناورات مثلما فعل خالد بن الوليد في كثير من المعارك.
إذن فلكي تضمن أن عشرين صابرين يغلبون مائتين لابد أن يتحقق في هؤلاء جميعاً قوة وصبر وجلد، ولكن قد لا تكون قوة البدن متوافرة والجلد ضعيفاً. وقد تأتي للإنسان فترات ضعف، وتأتيه أيضاً فترات قوة. ومن رحمته سبحانه وتعالى بالمؤمنين أنه خفف عنهم؛ لأنه يعلم أن هناك فترات ضعف تصيب الإنسان؛ لذلك جعل النسبة واحداً إلى اثنين. وقال سبحانه وتعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66].
وهل معنى ذلك أن الآية الأولى قد نسخت؟ نقول: لا، ولكن الآية الثانية أعطت حالات الأغيار والضعف البشري وحسب لها حساباً. ولذلك نجد الحكم الأول قائما وهو الحد الأعلى، كما أن الحكم الثاني- أيضاً- قائم وهو الحد الأدنى، فإذا لقي مؤمن ثلاثة كفار وفر منهم لا يعدُّ فارّاً يوم الزحف، ولا يؤاخذه الله على ذلك. لكن إن واجهه اثنان فانسحب وتركهما يعتبر فارّاً؛ لأن الحد الأدنى هو واحد لاثنين. وتكون هذه أقل نسبة موجودة. والنسب تتفاوت بين واحد إلى اثنين حتى واحد إلى عشرة، حسب قوة الصبر وقوة الجسم وعدم التحيز إلى فئة. وبطبيعة الحال نعلم أن القوي قد يصير ضعيفاً. وكذلك فإن بعضاً من النفوس قد تضيق بالصبر، وأيضاً حين زاد عدد المؤمنين، فمن المحتمل أن يتكل بعضهم على بعض. ولكنهم عندما كانوا قلة، كان كل واحد منهم يبذل أقصى قوته في القتال للدفاع عن عقيدته.
والمشرع لا يشرع للمؤمنين بما يحملهم ما لا يطيقون، ولكنه يشرع لهم ليخفف عنهم، والمثال على ذلك نجد أن الله قد أباح الإفطار في رمضان إذا كان الإنسان مريضاً أو على سفر، وكذلك شرع الحق تبارك وتعالى قصر الصلاة أثناء السفر، إذن فالمشرع قد عرف مواطن الضعف في النفس البشرية التي تجعلها لا تقوى على التكليف. وفي هذه الحالة يقوم المشرع ذاته بالتخفيف، ولا يتركنا نحن لنخفف كما نشاء.
وبعض الناس يقول: إن الحياة العصرية لم تعد تتحمل تنفيذ هذه التشريعات، وأنه ليس في وسعنا في هذا العصر أن نلتزم، وأن ربنا سبحانه وتعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا..} [البقرة: 286].
ونقول لكل من يقول ذلك: لقد فهمت وسع النفس خطأ، وكان عليك أن تقيس وسعك بالتكليف، ولا تقيس التكلف بوسعك. والسؤال: هل كلَّف الله سبحانه وتعالى أو لك يكلف؟ فإن كان قد كلف فذلك تأكيد على أنه في استطاعتك، ولا تقل: أنا سأقيس استطاعتي. ثم ابحث هل التكليف في نطاق هذه الاستطاعة أو لا؟ وعليك أن تبحث أولاً: هل كلفت بهذا الأمر أو لم تكلف؟ فإذا كنت قد كلفت به يكون في استطاعتك أداء ما كلفت به؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يكلف نفساً إلا ما آتاها؛ لا تفرض أنت استطاعة ثم تُخْضع التكليف لها، ولكن اخضع استطاعتك للتكليف.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً..} [الأنفال: 66].
و(الآن) تعني الزمن، وقد خفف الله أي هو سبحانه وتعالى الذي رفع المشقة، وأنت تقول هذا الشيء خفيف وهذا الشيء ثقيل. لكن أتعرف بأي شيء حكمت بمقدار المشقة التي تتحملها في أدائه؟. فإن رفعت قلماً تقول: هذا خفيف، وإذا رفعت قطعة حجر كبيرة تقول: هذه ثقيلة، بأي شيء حكمت؟ هل بمجرد النظر؟ لا. فأنت لا تستطيع أن تفرق بالنظر بين حقيبتين متماثلتين لتقول هذه ثقيلة وهذه خفيفة؛ لأن إحداهما قد تكون مملوءة بالحديد، والثانية فيها أشياء خفيفة؛ ولا تستطيع أن تحكم باستخدام حاسة السمع ولا حاسة اللمس؛ لأنك باللمس لا تستطيع أن تحكم على حقيبة بأنها خفيفة والأخرى ثقيلة، ولا بحاسة الشم أيضاً.
إذن فكل وسائل الإدراك عاجزة عن أن تدرك خفة الشيء أو ثقله، فبأي شيء ندرك؟. ونقول: قد اهتدى علماء وظائف الأعضاء أخيراً إلى أن الثقل والخفة لهما حاسة هي حاسة العضل، فحين يجهد ثقل ما عضلات الإنسان ويحملك مشقة أنه ثقيل، فهو يختلف عن تقل لا يؤثر على العضل ولا تحس فيه بأي إجهاد؛ لأن هذا الثقل يكون خفيفاً.
إذن فهناك وسائل للإدراك لم نكن نعرفها في الماضي واكتشفها العلم الحديث. أنت مثلاً حين تمسك قماشاً بين أصابعك تقول: هذا قماش كثيف أو سميك وهذا خفيف أو رقيق، ما هي الحاسة التي عرفت بها ذلك؟ نقول: إنها حاسة (البين) فقد ابتعدت أصابعك قليلاً في القماش الثقيل، وقربت من بعضها في القماش الرقيق، وقد يصل الفرق إلى ملليمتر واحد أو أقل لا تدركه بالنظر؛ ولكن تدركه بحاسة البين.
وإياكم أن تحسبوها رياضيا وعدديا وتقولوا إن النصر بالعدد؛ لأنكم بذلك تعزلون أنفسكم عن الله، أو إنَّما تفتنون بالأسباب، فكل نصر هو بإذن الله ومن عند الله تبارك وتعالى.
ولماذا لم يقل الحق سبحانه: علم فيكم ضعفاً وخفف عنكم؟ لأنه سبحانه وتعالى أراد أن يكون الترخيص في الحكم أثبت من الحكم، على أن هذا التخفيف قد يعود إلى عدة أسباب؛ منها أن حكم الله أزلي.
ولذلك وضع الله سبحانه وتعالى حدا أعلى يتناسب مع قوة الإيمان في المسلمين الأوائل، وحدا أدنى يتناسب مع ضعف الإيمان الذي سيأتي مع مرور الزمن، أو يتناسب مع العزوف عن الدنيا بالنسبة للمسلمين الأوائل، وعلى الإقبال على الدنيا بالنسبة لأولئك الذين سيأتون من بعدهم، أو مع قلة الفتن التي كانت في عصر النبوة وكثرة الفتن في عصر كالذي نعيش فيه.
ويذيل الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: {والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66].
وأنت قد تقول: فلان سافر إلى الخليج ومعه عشرون جنيهاً. فإذا اندهش من يسمعك وتساءل: (ماذا يفعل بهذا المبلغ الصغير)؟ تقول له: إن معه فلاناً (المليونير) فيطمئن السائل. فإن قلت: إن فلاناً وهو رجل كبير السن ذهب إلى الجبل ليحضر صخرة.. نتساءل: كيف؟. يقال لك: إن معه فلاناً القوي فتطمئن.
إذن فمعية الضعيف للقوي أو الأدنى للأعلى تصنع نوعاً من الاستطراق، وتعطي من القوي للضعيف، ومن الغني للفقير، ومن العالم للجاهل، إذن فالمعية تعطي من قوة التفوق قدرة للضعيف.
وهنا يوضح المولى سبحانه وتعالى للمؤمين: إن قوتكم وقدرتكم على الصبر محدودة لأنكم بشر، فلا تعزلوا هذه القوة المحدودة عن قدرة الله غير المحدودة، واصبروا لأن الله مع الصابرين. ولأنه سبحانه معكم فهو يعطيكم من قوته فلا تستطيع أي قوة أن تتغلب عليكم وتقهركم.
ولقد تعرضنا لهذا وقت أن تكلمنا عن الغار، حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبو بكر رضي الله عنه الغار في طريق الهجرة إلى المدينة وجاء الكفار ووقفوا على باب الغار فماذا قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. وهذا كلام منطقي مع الأسباب. فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له ليطمئنه؟. قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ولكن ما وجه الحجة في ذلك؟. لقد قال: ما دام الله ثالثهما، والله لا تدركه الأبصار، فالذين في معيته لا تدركهم الأبصار.
وفي هذه الآية مثل سابقتها؛ يتحدث المولى سبحانه وتعالى عن المعارك والنصر.
ومن الطبيعي أن يكون من معايير النصر كسب الغنائم. والغنائم التي تمت في بدر قسمان؛ منقولات، وقد نزل حكم الله فيها بأن لله ولرسوله الخمس، بقي جزء آخر من الغنائم لم ينزل حكم الله فيه وهم الأسرى، ففي معركة بدر قتل من قريش سبعون وأسر سبعون، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس. فقال: ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ إنَّ الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس.
فقال أبو بكر: يا رسول الله أهلك وقومك، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، هؤلاء بنو العمّ والعشيرة والإخوان استبقهم، وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك، فيكونوا لك عضدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول يابن الخطاب؟
قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان- أخيه- حتى يضرب عنقه، حتى ليعلم الله تعالى أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، هؤلاء صناديد قريش وأئمتهم وقادتهم فاضرب أعناقهم، ما أرى أن يكون لك أسرى، فإنما نحن راعون مؤلفون.
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم ناراً. فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك. قال أبو أيوب: فقلنا- يعني الأنصار- إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج فقال: إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله تعالى ليشد قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة. مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم إذ قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى، ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] ومثلك في الأنبياء مثل موسى، إذ قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] لو اتفقتما ما خالفتكما، أنتم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق، ومن بين الأسرى كان عدد من أغنياء قريش.
وسبق له صلى الله عليه وسلم أن استشار الصحابة في معركة بدر. وحدث أن اختار رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام أماكن جيش المسلمين، فتقدم أحد الصحابة وهو الحباب بن المنذر بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فأشار الحباب بن المنذر بتغيير موقع المسلمين ليكون الماء وراءهم فيشربوا هم ولا يشرب الكفار.
إذن فلو أنه منزل أنزله الله لرسوله لما جرؤ أحد على الكلام؛ لأن لله علماً آخر لا نعلمه، فنحن ببشريتنا لنا علم محدود؛ والله له علم بلا نهاية. وكذلك في مسألة الأسرى؛ لم يكن فيها حكم قد نزل من الله. ولذلك استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته، وكان أمامه رأي فيه شدة لعمر بن الخطاب ومعه عبد الله بن رواحة، ورأي لين يخالف الرأي السابق وكان لسيدنا أبي بكر الصديق.
وكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجز ما قاله الفريقان؛ فريق اللين بقيادة أبي بكر رضي الله عنه وفريق الشدة بقيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي الفداء. وجعل فدية الواحد من ألف درهم إلى أربعة آلاف درهم، وكان في الأسر العباس وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع النبي أنينه من قيده فقال: فكوا عنه قيده. وفسر بعض الناس هذا على أنه ميل من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه، ولكنه كان ردا على جميل فعله العباس في بيعة العقبة؛ حينما حضر وفد من أهل المدينة إلى مكة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام.
وقد حضر العباس هذه البيعة، وكان أول من تكلم فيه رغم أنه كان ما زال على دين قومه. فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج.. خزرجها وأوسها. قال العباس: إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة من بلده، أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم؛ فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.
إذن فالعباس قد وقف موقفاً لابد أن يجازى بمثله، ورغم أنه كان كافراً وقتئذ، إلا أن الكفر لم يمنع عاطفة العباس أن ينجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقف بمثله؛ لأن المبدأ الإسلامي واضح في قول الحق: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} [النساء: 86].
فلا يؤخذ هذا التصرف- إذن- على أنه مجاملة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه، ولكنها حق على رسول الله من موقف العباس في بيعة العقبة.
وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عباس افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عقبة بن عمرو بن جحدم أخا بني الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني. فقال رسول الله: الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقا فالله يجزيك به. أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك. وكان المسلمون قد أخذوا من العباس عشرين أوقية من ذهب كغنيمة، فقال العباس: يا رسول الله احسبها لي في فدائي، فقال الرسول: لا، ذلك شيء أعطاناه الله عز وجل منك. قال العباس: فإنه ليس لي مال. لقد جعلتني يا محمد أتكفف قريشاً، فضحك النبي وقال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد، ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا؛ فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا. قال العباس: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله. ففدى العباس نفسه بأربعة آلاف درهم، وفدى كلا من ابني أخيه وحليفه بألف لكل منهم.
إذن ففي التقييم المادي دفع العباس أربعة أمثال ما دفعه الأسير العادي كفدية. ثم ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوج ابنته زينب وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته زينب، أسرة خراش بن الصمة، فلما بعثت قريش في فداء الأسرى بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص وأخيه عمرو ابن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوا وردوا عليها الذي لها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب إليه، وكان فيما شرط عليه في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم. ما هو، إلا أنه لما خرج بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، مكانه، فقال: كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها، فخرجا مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر أو شيعة، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تجهز.
ومن بعد ذلك نزل قول الحق تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض...}.