فصل: تفسير الآية رقم (67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (67):

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)}
و(أسرى) جمع كلمة (أسير)، وتعريف الأسير أنه مشدود عليه الوثاق ممن أخذه بحيث يكون في قبضة يده، والأسير في الإسلام هو نبع العبودية والرق؛ لأن الأسير يقع في قبضة عدوه الأقوى منه ويمكنه أن يقتله أو يأخذه عبداً.
إذن ففي هذه الحالة لا نقارن بين أسير أصبح عبداً وبين حر، وإنما نقارن بين قتل الأسير وإبقائه على قيد الحياة. وأيهما أنفع للأسير أن يبقى على قيد الحياة ويصبح أسيراً أم يقتل؟.
إن بقاءه على قيد الحياة أمر مطلوب منه ومرغوب فيه. وبذلك يكون تشريع الله سبحانه وتعالى في تملك الأسرى إنما أراد الله به أن يحقن دماءهم ويبقي حياتهم؛ لأن الأسير مقدور عليه بالقتل، وكان من الممكن أن يترك الأسرى ليقتلوا وتنتهي المشكلة. ولكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يحفظ حتى دم الكافر؛ لأن الله هو الذي استدعاه إلى هذه الحياة وجعله خليفة، ولذلك يحفظه. ولعله من بعد ذلك أن يهتدي ويؤمن. ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن من يهدم بنيان الله إلا بحقه.
على أن الإسلام قد اتهم زوراً بأنه هو الذي شرع الرق، ولكن الحقيقة أنه لم يبتدع أو ينشيء الأسر والرق، ولكنه كان نظاماً موجوداً بالفعل وقت ظهور الإسلام، وكانت منابع الرق متعددة بحق أو بباطل، بحرب أو بغير حرب، فقد يرتكب أحد جناية في حق الآخر ولا يقدر أن يعوضه فيقول: (خذني عبداً لك)، أو (خذ ابنتي جارية)، وآخر قد يكون مَديناً فيقول: خذ ابني عبداً لك أو ابنتي جارية لك. وكانت مصادر الرق- إذن- متعددة، ولم يكن للعتق إلا مصرف واحد. وهو إرادة السيد أن يعتق عبده أو يحرره.
ومعنى ذلك أن عدد الرقيق والعبيد كان يتزايد ولا ينقص؛ لأن مصادره متعددة وليس هناك إلا باب واحد للخروج منه، وعندما جاء الإسلام ووجد الحال هكذا أراد أن يعالج مشكلة الرق ويعمل على تصفيته. ومن سمات الإسلام أنه يعالج مثل هذه الأمور بالتدريج وليس بالطفرة؛ فألغي الإسلام كل مصادر الرق إلا مصدراً واحداً وهو الحرب المشروعة التي يعلنها الإمام أو الحاكم. وكل رق من غير الحرب المشروعة حرام ولا يجوز الاسترقاق من غير طريقها، وفي ذات الوقت، عدد الإسلام أبواب عتق العبيد، وجعله كفارة لذنوب كثيرة لا يكفر عنها ولا يغفرها سبحانه وتعالى إلا بعتق رقبة، بل إنه زاد على ذلك في الثواب الكبير الذي يناله من يعتق رقبة حبا في الله وإيماناً به فقال سبحانه وتعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11-13].
فإذا لم يرتكب الإنسان ذنباً يوجب عتق رقبة ولا أعتق رقبة بأريحية إيمانية، فإنه في هذه الحالة عليه أن يعامل الأسير معاملة الأخ له في الإسلام. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه سيدنا أبو ذَر رَضي الله عنه. (إخوانكم خولكم جعلهم الله فتنة تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه).
إذن فقد ساوى هذا الحديث الشريف بين العبد والسيد، وألغي التمييز بينهما؛ فجعل العبد يلبس مما يلبس سيده ويأكل مما يأكل أو يأكل معه؛ وفي العمل يعينه ويجعل يده بيده، ولا يناديه إلا ب (يا فتاي) أو (يا فتاتي).
إذن فالإسلام قد جاء والرق موجود وأبوابه كثيرة متعددة ومصرفه واحد؛ فأقفل الأبواب كلها إلا باباً واحداً، وفتح مصارف الرق حتى تتم تصفيته تماماً بالتدريج. وبالنسبة للنساء جاء التشريع السماوي في قول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3].
وكان ذلك باباً جديداً من ابواب تصفية الرق؛ لأن الأمة إن تزوجت عبداً مثلها تظل على عبوديتها وأولادها عبيد، فإن أخذها الرجل إلى متاعه وأصبحت أم ولده يكون أولادها أحراراً، وبذلك واصل الإسلام تصفية الرق، وفي ذات الوقت أزاح عن الأنثى الكبت الجنسي الذي يمكن أن يجعلها تنحرف وهي بعيدة عن أهلها مقطوعة عن بيئتها، وترى حولها زوجات يتمتعن برعاية وحنان ومحبة الأزواج وهذه مسألة تحرك فيها العواطف، فأباح للرجل إن راقت عواطفهما لبعضهما أن يعاشرها كامرأته الحرة وأن ينجب منها وهي أمَة، وفي ذلك رفع لشأنها لأنها بالإنجاب تصبح زوجة، وفي ذات الوقت تصفية للرق.
إن هذه المسألة أثارت جدلاً كثيراً حول الإسلام، وقيل فيها كلام كله كذب وافتراء. والآن بعد أن ألغي الرق سياسيا بمعاهدات دولية انتهت إلى ذات المبادئ التي جاء بها الإسلام وهي تبادل الأسرى والمعاملة بالمثل. وهو مبدأ أول ما جاء، إنما جاء به الإسلام، فليس من المعقول أن يأخذ عدو لي أولادي يسخرهم عنده لما يريد، وأنا أطلق أولاده الأسرى عندي، ولكن المعاملة بالمثل فإن منّوا نُمنّ، وإن فدوا نفد. ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الرق الناشيء عن الأسر مقيداً في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67].
ونقول: إن هناك فرقاً بين حكم يسبق الحدث فلا يخالفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم يجيء مع الحدث، ولابد أن نفرق بين الحكمين؛ حكم يسبق الحدث إن خولف تكون هناك مخالفة ولكنَّ حكماً يأتي مع الحدث، فهذا أمر مختلف، لنفرض أنك جالس وجاء لك من يقول إن قريبك فلان ذهب إلى المكان الفلاني، وأنه ينفق على كذا، وأعطي كمبيالة على نفسه بمبلغ كذا.
اذهب إليه لتمنعه، فتذهب إليه وتمنعه، هنا جاء الحكم مع الحدث، فلا تكون هناك مخالفة.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67].
قد جاء هذا الحكم بعد أن تم أسر كفار قريش وأخذوا إل المدينة، وتشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة بشأنهم ووصلوا إلى رأي. إذن فالحكم جاء بعد أن انتهت العملية، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يغير الحكم، فظل الأسر والفداء. إذن: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} أي ما ينبغي لنبي أن يكون له أسرى حتى يقسو على الكفار في القتال.
ويريد الحق سبحانه وتعالى هنا أن ينبه المؤمنين إلى أنهم لو كانوا يريدون الأسرى لعرض الدنيا، كأن يطمع أي واحد في من يخدمه، أو يطمع في امرأة يقضي حاجته منها، أو في مال يبغي به رغد العيش، كل ذلك مرفوض؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يريد من المؤمن أن يجعل الدنيا أكبر همه، بل يريد الحق من المؤمنين أن يعملوا ويحسنوا الاستخلاف في الأرض؛ ليقيموا العدل على قدر الاستطاعة؛ وليجزيهم الله من بعد ذلك بالحياة الدائمة المنعمة في الجنة.
ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67].
وسبحانه العزيز الذي لا يغلب، والحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه.
ويجيء من بعد ذلك قوله سبحانه وتعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (68):

{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)}
هذه الآية الكريمة تشرح وتبيِّن أن الحق سبحانه وتعالى لا يحاسب أحداً إلا بعد أن ينزل التشريع الذي يرتب المقدمات والنتائج، ويحدد الجرائم والعقوبات، ولولا ذلك لنزل بالمؤمنين العذاب لأخذ الأسرى، من قبل أن تستقر الدعوة، وبما أن الحق تبارك وتعالى لا ينزل العذاب إلا بمخالفة يسبقها التشريع الذي يحددها، لولا ذلك لأنزل العذاب بالمؤمنين، ولكن بما أن هذا الفعل لم يجرَّم من قبل فلا عقاب عليه.
وينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى الغنائم التي حصل عليها المؤمنون في غزوة بدر فيقول تبارك وتعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً...}.

.تفسير الآية رقم (69):

{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)}
أي إياكم أن تنفقوا ما غنمتموه بسفاهة في أي شيء لا لزوم له، بل اتقوا الله فيما أعطاكم ومنحكم من غنائم. سواء كانت منقولات أم مالا أم أسرى تجعلونهم يقومون بأعمال يعود نفعها وعائدها إليكم. اتقوا الله في كل هذا ولا تنفقوه بحماقة، وقوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي أن الله تعالى قد غفر لكم ما فعلتم قبل أن تنزل هذه الآية الكريمة: ثم يخاطب الحق سبحانه وتعالى الأسرى بعد ذلك فيقول: {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً...}.

.تفسير الآية رقم (70):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)}
أي إن صح كلام العباس في إسلامه وأنه كتم الإسلام؛ فالله يعلم ما في قلبه وسوف يعطيه الله خيراً مما أخذ منه. وبالفعل فاء الله على العباس بالخير. فقد أسند الطبري إلى العباس أنه قال: فيّ نزلت- أي هذه الآية- حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى وقال: (ذلك فَيْءٌ) فأبدلني الله من ذلك عشرين عبداً كلهم تاجر بمالي.
وفي الرواية التي ذكرها ابن كثير(قال العباس فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجوه من مغفرة الله عز وجل)، وهكذا تحقق قول الله عز وجل: {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ..} [الأنفال: 70].
وبعد أن نزلت هذه الآية الكريمة، وكانت موافقة لما اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرارات، وأبلغ صلى الله عليه وسلم الأسرى بالحكم النهائي من الله: لا تفكون إلا بالفداء أو بضرب الرقاب. وهنا قال سيدنا عبد الله بن مسعود: يا رسول الله إلا سَهْل بَن بيضاء فإنني عرفته يذكر الإسلام ويصنع كذا وكذا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليَّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سَهْل بن بيضاء، وقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 70].
أي ما دام في قلوبكم الخير وقد آمنتم أو ستدخلون في الإسلام؛ فالله يعلم ما في وسيغفر لكم لأنه غفور رحيم. وعندما استقر الأمر قال بعض من الأسرى: يا رسول الله: إن عندنا مالاً في مكة، اسمح لنا نذهب إلى هناك ونحضر لك الفداء، وخشي صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه خدعة واحتيال، فماذا يفعل؟ أيطلق سراحهم ويصدقهم فيحضروا الفدية؟ أم هذه حيلة وقد أضمروا الخيانة والغدر؟.
فنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ...}.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
ويوضح الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: لا توافقهم على ما يريدون، فهم إن أضمروا لك الخيانة فقد خانوا الله من قبل فمكنك منهم فلا تأمن لهم، وسبحانه يعلم ما في صدورهم.
وبعد أن تكلم سبحانه عن قصة بدر وأسرى بدر، والمواقف التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في هذه القصة، أراد سبحانه وتعالى أن يصنف الأمة الإسلامية المعاصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عناصرها، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاح بالدعوة الإسلامية في مكة، ومكة هي مركز سيادة العرب، وكانت قبيلة قريش هي سيدة جميع قبائل العرب وسيدة الجزيرة كلها، لأن قريشاً سيدة مكة، ومكة فيها بيت الله الحرام، وكانت كل قبيلة من قبائل العرب يكون بعض من أبنائها في بطن سيادة قريش خلال الحج، وما دامت كل قبيلة تذهب إلى مكة فهي تطلب حماية قريش، ولم توجد قبيلة تعادي قريشاً أو تجرؤ على مهاجمتها؛ لأنها تعلم أنه سيجيء يوم تكون فيه تحت حماية قريش وتحت رحمتها حين الحج إلى بيت الله الحرام.
إذن فسيادة قريش نشأت من وجود البيت. ولو أن هذا البيت لم يكن موجوداً لكان مركز قريش كمركز أي قبيلة من العرب، ولو أن البيت قد هدم من أبرهة، لكانت سيادة قريش قد انتهت. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].
ثم تأتي بعدها مباشرة السورة الكريمة التي توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى حين حفظ بيته وفتك بجيوش المعتدين فجعلهم كعصف مأكول، قد أكد هذه السيادة لقريش فيقول تبارك وتعالى في السورة التي سميت باسمها: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].
إذن فالذي أعطى السيادة لقريش هو بيت الله الحرام. ولذلك تذهب قوافلهم بالتجارة لليمن والشام ولا يجرؤ أحد من القبائل أن يتعرض لها. ولو لم يكن بيت الله الحرام في مكة وقريش سادة مكة؛ لما كان لهم هذا الوضع المتميز والمكانة العالية، إذن فعز قريش في بيت الله الحرام، وأمنهم وسيادتهم في أنهم جالسون في راحة وتنتقل قوافلهم إلى الشام وإلى اليمن. ثم تعود محملة بالخير والربح وهم آمنون مطمئنون. وحين أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته كان ذلك الإعلان في مكة، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم في وجه الجبابرة وأقوياء الجزيرة العربية كلها.
ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته في قبيلة ضعيفة خارج مكة لقالوا: استضعفهم وغرر بهم، أو لقالوا يريدون به السيادة، أي أنهم كقبيلة مستضعفة لم يأخذوا رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانا، ولكنهم أخذوها سلماً ليسودوا بها الجزيرة العربية. ولكن شاء الحق تبارك وتعالى أن يكون ميلاد الرسالة في مكة وأول من سمعها هم سادة قريش؛ لتأتي في مركز السيادة ويكون المراد بها هو الحق، وإعلاءه في وجه سادة الجزيرة العربية.
ثم كانت المعركة بين سادة قريش والإسلام وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه وحاولوا إيقاف الدعوة بكل الطرق وشتى الحيل. لكن هل انتصروا؟ ثم هل امتد الإسلام وانتشر من مكة؟. لا، بل كانت الهجرة إلى المدينة، ومن هناك امتد الإسلام.
إذن فقد بدأ الإسلام من مكان السيادة في الجزيرة العربية، ولكنه انتشر من مكان لا سيادة فيه، لماذا؟ لأن الإسلام لو انتشر من مكة لقالوا: قوم ألفوا السيادة على الناس، وتعصبوا لواحد منهم؛ ليمدوا سيادتهم من الجزيرة العربية إلى أماكن أخرى في العالم. ولكن النصر جاء من المدينة لتعلم الدنيا كلها: أن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، وهو الذي حقق النصر لمحمد، ولم يخلق العصبية لرسول الله أنه من قريش، أو أنه من قبيلة اعتادت سيادة الجزيرة العربية.
ويصنف الحق سبحانه وتعالى لنا المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهؤلاء منهم المهاجرون. ومنهم الأنصار، ومنهم جماعة مؤمنة لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم هاجروا بعد ذلك. ومنهم جماعة آمنوا ولم يهاجروا من مكة وبقوا فيها حتى الفتح.
إذن: هناك أربع طوائف: الذين هاجروا مع الرسول إلى المدينة، والأنصار الذين استقبلوهم وآووهم. وطائفة لم يهاجروا مع رسول الله ولكنهم هاجروا بعد ذلك، وطائفة بقيت في مكة حتى الفتح.
ويقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ...}.