فصل: تفسير الآية رقم (68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (64):

{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)}
وسبق أن ناداهم {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] أي: في زعمكم؛ لأنه سبحانه ليس له شركاء، وهنا يقول لهم {ادعوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} [القصص: 64] ولم يقُلْ شركائي، مع أنهم اتخذوهم شركاء لله.
فمعنى {شُرَكَآءَكُمْ...} [القصص: 64] أفي دعوى الألوهية؟ لا، لأنهم تابعون لهم، إذن: فما معنى {شُرَكَآءَكُمْ...} [القصص: 64]؟ قالوا: الإضافة تأتي بمعَانٍ ثلاثة: إما بمعنى(من) مثل: أردب قمح أي: من قمح، أو بمعنى(في) مثل: مكرالليل أي: مكر في الليل، أو: بمعنى(لام) الملكية مثل: قلم زيد أي: قلم لزيد.
فالمعنى هنا {شُرَكَآءَكُمْ...} [القصص: 64] أي: من جنسكم أو فيكم يعني: لا يتميز عنكم بشيء، والإله لابد أن يكون من جنس أعلى، فإنْ كان من جنسكم، فهو مُسَاوٍ لكم، لا يصلح أن تتخذوه إلهاً.
ومعنى {ادعوا شُرَكَآءَكُمْ..} [القصص: 64] يعني: نادوهم لينصروكم، ويشفعوا لكم، كما قلتم: {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18].
وقلتم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3].
إذن: فنادوهم ليُقربوكم من الله، وليشفعوا لكم، والذي يقوم بهذه المهمة لابد أنْ يكون له منزلة عند الله يضمنها، وهل يضمن هؤلاء الشركاء منزلة عند الله؟ كيف وهم لا يضمنونها لأنفسهم؟
{فَدَعَوْهُمْ...} [القصص: 64] يا شركاءنا، يا مَنْ قُلْتم لنا كذا وكذا أدركونا {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ...} [القصص: 64] لأنهم مشغولون بأنفسهم {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} [القصص: 64] يعني: لو كانوا يهتدون بهَدْي الله، وهَدْي رسوله، ويروْن العذاب الذي أنذرهم به حقيقة وواقعاً لا يتخلفون عنه لَمَا حدث لهم هذا، ولما واجهوا هذه العاقبة.
أو: أنهم لما رأوا العذاب حقيقة في الآخرة تمنَّوا لو أنهم كانوا مهتدين.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ...}.

.تفسير الآيات (65- 66):

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)}
قال هنا أيضاً {يُنَادِيهِمْ...} [القصص: 65] فما الغرض من كل هذه النداءات؟ إنها للتقريع وللسخرية منهم، وممَّنْ عبدوهم واتبعوهم من دون الله، ومضمون النداء: {مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين} [القصص: 65] والإجابة: موافقة المطلوب من الطالب، فماذا كانت إجابتكم لهم بعد أن آمنتم بإله، أأخذتُم بما جاءوا به من أحكام؟ أعلمتم منهم علماً يقينياً حقاً؟
وهذا الاستفهام للتعجيز؛ لأنهم إنْ حاولوا الإجابة فلن يجدوا إجابة فيخزون ويخجلون؛ لذلك يقول بعدها {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء...} [القصص: 66] أي: خفِيَتْ عليهم الحجج والأعذار وعموا عنها فلم يروْهَا {فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ} [القصص: 66] لا يملكون إلا السكوت كما قالوا: جواب ما يكره السكوت، وكما قال سبحانه: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10].
وهؤلاء لا يتساءلون؛ لأنهم في الجهل سواء، وفي الضلال شركاء، وكل منهم مشغول بنفسه {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37].
وكما سُئِل المشركون: {مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين} [القصص: 65] في موضع آخر يسأل الرسل: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ...} [المائدة: 109] أي: فيما علمتم من العلم، وأوله: علم اليقين الأعلى، وثانيها: علم الأحكام، فبماذا أجابكم الناس؟
وتأمل هنا أدب الرسل ومدى فهمهم في مقام الجواب لله، وهم يعلمون تماماً بماذا أجاب أقوامهم، وأن منهم مَنْ آمن بهم، وتفانى في خدمة دعوتهم وضحّى واستشهد، ومنهم مَنْ كفر وعاند، ومع ذلك يقولون: {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 109].
فكيف يقولون: {لاَ عِلْمَ لَنَآ..} [المائدة: 109] وهم يعلمون؟ قالوا: لأنهم غير واثقين أن مَنْ آمن آمن عن عقيدة أم لا، فهم يأخذون بظواهر الناس، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله، كأنهم يقولون: أنت يا ربنا تسأل عن إجابة الحق لا عن إجابة النفاق، وإجابة الحق نحن لا نعرفها، وأنت سبحانك علاَّم الغيوب.
إذن: جعلوا الحق تبارك وتعالى هو السُّلْطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية في محكمة العدل الإلهي التي سيُعلن فيها على رؤوس الأشهاد {لِّمَنِ الملك اليوم...} [غافر: 16].
والسؤال عند العرب يُطلق، إما للمعرفة حيث تسأل لتعرف، كما يسأل التلميذ أستاذه، أو يكون السؤال للإقرار بما تعرف، كما يسأل الأستاذ تلميذه ليقرّ على نفسه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] أي: سؤالَ علم؛ لأننا نعلم.
وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] أي: سؤال إقرار منهم، وإنْ كان كلامي يوم القيامة حجة، لأنه لا مردَّ له، لكن مع ذلك نسألهم ليقروا هم، وليشهدوا على أنفسهم.
والحق تبارك وتعالى يدلُّك على أنه تعالى يُبشِّع مظاهر يوم القيامة على الكافرين، لا لأنه كاره لهم، بل يريدهم أنْ يستحضروا هذه الصورة البشعة لعلّهم يرعوون ويتوبون؛ لذلك يفتح لهم باب التوبة لأنه رب ورحيم.
لذلك جاء في الحديث القدسي: (قالت الأرض: يا رب إئذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك. وقالت الجبال: يا رب إئذن لي أنْ أخِرَّ على ابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك. فقال تعالى: دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم، دعوهم فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وأنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم).
أعالجهم بالترغيب مرة، وبالترهيب أخرى، أشوِّقهم إلى الجنة، وأخوِّفهم من النار، وأفتح باب التوبة، وفتْح باب التوبة ليس رحمة من الله للتائب فقط، ولكن رحمة لكل مَنْ يشقى بعصيان غير التائب.
ولو أغلق باب التوبة في وجه العاصي ليئس وتحول إلى(فاقد) يشقى به المجتمع طوال حياته، إذن: ففتْح باب التوبة رحمة بالتائب، ورحمة بمجتمعه، بل وبالإنسانية كلها، رحمة بالعاصي وبمَنِ اكتوى بنار المعصية.

.تفسير الآية رقم (67):

{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)}
لماذا استخدم هنا(عسى) الدالة على الرجاء بعد أنْ قال {مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً...} [القصص: 67] ولم يقل: يكون من المفلحين فيقطع لهم بالفلاح؟
قالوا: لأنه ربما تاب، لكن عسى أن يستمر على توبته ليستديم الفلاح أو نقول أن(عسى) من الله تدل على التحقيق، وسبق أنْ قُلْنا: إن الرجاءات على درجات: فالرجاء في المتكلم أقوى من الرجاء في الغائب، فإنْ كان الرجاء في الله فهو أقوى الرجاءات كلها.
لذلك يقول سبحانه في خطابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79] فأيُّ رجاء أقوى من الرجاء في الله؟
إذن:(عسى) رجاء حين تصدر ممن لا يملك إنفاذ المرجو، وتحقيق حين تصدر ممَّنْ يملك إنفاذ المرجو، وهو الحق سبحانه وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ...}.

.تفسير الآية رقم (68):

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)}
كنا ننتظر أنْ يُخبرنا السياق بما سيقع على المشركين من العذاب، لكن تأتي الآية {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ...} [القصص: 68] وكأن الحق سبحانه يقول: أنا الذي أعرف أين المصلحة، وأعرف كيف أُريحكم من شرِّهم، فدعوني أخلق ما أشاء، وأختار ما أشاء، فأنا الرب المتعهد للمربي بالتربية التي تُوصله إلى المهمة منه.
والمربِّي قسمان: إما مؤمن وإما كافر، ولابد أنْ يشقى المؤمن بفعل الكافر، وأنْ يمتد هذا الشقاء إنْ بقي الكافر على كفره؛ لذلك شَرعتُ له التوبة، وقَبِلْتُ منه الرجوع، وهذا أول ما يريح المؤمنين.
ومعنى: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة...} [القصص: 68] يعني: لا خيارَ لكم، فدعوني لأختار لكم، ثم نفِّذوا ما أختاره أنا.
أو: أن هذه الآية {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ...} [القصص: 68] قيلت للردِّ على قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. يقصدون الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي، فردَّ الله عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ...} [الزخرف: 32].
فكيف يطمعون في أنْ يختاروا هم وسائل الرحمة، ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، فجعلنا هذا غنياً، وهذا فقيراً، وهذا قوياً، وهذا ضعيفاً، فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها، فهل يريدون أنْ يتحكموا في مسائل الآخرة وفي رحمة الله يوجِّهونها حسب اختيارهم؟!!
{مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة..} [القصص: 68] أي: الاختيار في مثل هذه المسائل.
ويجوز {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة...} [القصص: 68] أي: المؤمنون ما كان لهم أنْ يعترضوا على قبول توبة الله على المشركين الذين آذوهم، يقولون: لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا، وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب؟
والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء، ويفعل ما يريد، وحين يقبل التوبة من المشرك لا يرحمه وحده، ولكن يرحمكم أنتم أيضاً حين يُريحكم من شرِّه.
وقوله: {سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] أي: تعالى الله وتنزَّه عما يريدون من أنْ يُنزِلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الأهواء من البشر، ولو أن الحق سبحانه نزل على مرادات أصحاب الأهواء من البشر- وأهواؤهم مختلفة- لفسدتْ حياتهم جميعاً.

ألا ترى أن البشر مختلفون جميعاً في الرغبات والأهواء، بل وفي مسائل الحياة كلها، فترى الجماعة منهم في سنٍّ واحدة، وفي مركز اجتماعي واحد، فإذا توجَّهوا لشراء سلعة مثلاً اختار كل منهم نوعاً ولوناً مختلفاً عن الآخر.

.تفسير الآية رقم (69):

{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)}
ما تُكنُّ صدورهم أي: السر {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] والسر: ما تركته في نفسك محبوساً، وأسررْتَه عن الخَلْق لا يعرفه إلا أنت، أو السر: ما أسررت به إلى الغير، وساعتها لن يبقى سِراً، وإذا ضاق صدرك بأمرك، فصدر غيرك أضيق.
وإذا كان الحق سبحانه يمتنُّ علينا بأن علمه واسع يعلم السر، فهو يعلم الجهر من باب أَوْلَى؛ لأن الجهر يشترك فيه جميع الناس ويعرفونه. أما الأخفى من السر، فلأنه سبحانه يعلم ما تُسِره في نفسك قبل أنْ يوجد في صدرك، وهو وحده الذي يعلم الأشياء قبل أن توجد.
ولك أن تسأل: إذا كان من صفاته تعالى أنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فماذا عن الجهر وهو شيء معلوم للجميع؟ وهذه المسألة استوقفتْ بعض المستشرقين وأتباعهم من المسلمين(المنحلين) الذين يجارونهم.
وحين نستقرئ آيات القرآن نجد أن الله تعالى سوَّى في علمه تعالى بين السر والجهر، فقال سبحانه: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ...} [الرعد: 10].
وقال سبحانه: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ...} [الملك: 13].
والآية التي معنا: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69] وفي هذه الآيات قدّم السر على الجهر، أما في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} [الأعلى: 6-7].
وقال سبحانه: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] فقدَّم العلم بالجهر على العلم بالسرِّ، ولا يقدم الجهر إلا إذا كان له ملحظية خفاء عن السر، وهذه الملحظية غفل عنها السطحيون، فأخطأوا في فهم الآية.
فأنت مثلاً لو أسررتَ في نفسك شيئاً، فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملامح وجهك، وربما خانك التعبير فدلَّ على ما أسررتْه، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول...} [محمد: 30].
إذن: هناك قرائن وعلامات نعرف بها السر، أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهراً واحداً؛ لأنه مقابل بالجمع: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] فالمعنى: ويعلم ما تجهرون وما تكتمون.
ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس، يهتف كل منهم هتافاً، أتستطيع أن تميز بين هذه الهتافات، وأنْ تُرجع كلاً منها إلى صاحبها؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبُّره، لذلك امتن الله علينا بعلمه للجهر من القول الذي لا نعلمه نحن مهما أوتينا من آلات فَرْز الأصوات وتمييزها.
لذلك يقولون: لا تستطيع أنْ تُحدِّد جريمة في جمهور من الناس؛ لأن الأصوات والأفعال مختلطة، يستتر كلٌّ منها في الآخر كما يقولون: الفرد بالجمع يُعْصَم.
ويقولون: الجماهير ببغائية، كما قال شوقي في مصرع كليوباترا، لما انهزموا في يوم(أكتيوما) وأشاعوا أنهم انتصروا، لكن هذه الحيلة لا تنطلي على العقلاء من القوم، فيقول أحدهم للآخر عن غوغائية الجماهير:
اسْمع الشَّعْبَ دُيُونُ ** كَيْفَ يُوحُون إليْهِ

مَلأ الجوَّ هتافاً ** بِحيَاتيْ قَاتليْهِ

أثَّر البهتانُ فيه ** وَانْطلى الزُّور عليْه

يَا لَهُ مِنْ ببغاء ** عقلُه في أُذُنَيْه

إذن: فَعِلْم الجهر هنا مَيْزة تستحق أنْ يمتنَّ الله بها، كما يمتنُّ سبحانه بعلم السر.
وقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ...} [القصص: 69] ليُطمئن رسول الله؛ لأنه سبحانه ربه، والمتولي لتربيته والعناية به، يقول له: لا تحزن مما يقولون، فأنا أعلم سِرَّهم وجهرهم، فإنْ كنتَ لا تعرف ما يقولون فأنا أعرفه، وسوف أخبرك به، ألم يقل سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ...} [المجادلة: 8].
فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس، كأنه سبحانه يقول لرسوله: إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم بما عرفتَ من أفعالهم فحسب، بل بما لا تعلم مما فعلوه، ليطمئن رسول الله أنه سبحانه يُحصي عليهم كل شيء.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ...}.