فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (69):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}
هم- إذن- أربعة ألوان من الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله. وهذه الآية وردت في صورتها العامة ثلاث مرات، مرة في سورة البقرة، ومرة هنا في سورة المائدة، ومرة في سورة الحج.
ففي سورة البقرة يقول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
ولنلحظ أن كلمة (الصابئين) في هذه الآية منصوبة.
وفي سورة المائدة نجد قول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69].
ولنلحظ أن كلمة (الصابئون) هنا مرفوعة ومقدمة على كلمة (النصارى).
وفي آية سورة الحج يقول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].
هنا إخبار عن أربعة، وزاد الحق عليهم اثنين في آية الحج، ونجد أن الإخبار يختلف، وكذلك يختلف الأسلوب، فمرة تتقدم النصارى على الصابئين، ومرة تتقدم الصابئون على النصارى، ومرة تكون الصابئون مرفوعة، ومرة تكون منصوبة بالياء.
وأما اختلاف الإخبار، فهو سبحانه يخبرنا في سورة البقرة فيقول: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
والخبر في سورة المائدة هو: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69].
والخبر في سورة الحج هو: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].
والآيات الثلاث في مجموعها تتعرض لمعنى واحد، ولكن الأساليب مختلفة وكذلك الغايات فيها مختلفة.
ونلحظ هنا أن الحق قال: (آمنوا) والإيمان هنا هو الإيمان اللفظي أي بالفم وليس بالقلب، والمتصفون بذلك هم المنافقون والذين هادوا، هم أتباع موسى، والنصارى هم أتباع عيسى، والصابئون ليسوا أتباعاً لأحد فقد كانوا أتباعاً لنوح ثم صبأوا عن ديانة نوح وعبدوا الكواكب، أو هم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة. والمجوس وهم عبدة النار. إذن الحق يريد أن يجري تصفية إيمانية في الكون، فمن يبادر ويدخل في هذه التصفية. يسلم من شر ما فعله قبل ما مجيء الإسلام، ذلك أنهم أضلُّوا أناساً أو حكموا بالظلم.
والحق في سورة البقرة يقول: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أي أنه سبحانه غفر لهم ما فعلوا من سوء وجزاهم على عملهم الصالح الذي لم يحبطوه ويذهبوه بعمل السيئات والآثام. هذا ما يتعلق بالآيتين... آية سورة البقرة، وآية سورة المائدة، ونلاحظ أن آية سورة المائدة لم يرد فيها قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ولعل ذلك راجع إلى الاكتفاء بذكرها في سورة البقرة، وذلك له نظير في القرآن الكريم.
كحمل المطلق على المقيد ونحو ذلك.
أما في آية سورة الحج فهي التي يأتي فيها الحكم: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} كأنهم لن يؤمنوا ولن يعملوا الصالح، فتكون هذه هي التصفية العقدية في الكون.
وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصفي المسألة الإيمانية في الأرض ويقول عن المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} وهو ابتداء الخبر، وتكون فيه (الذين آمنوا) في محل نصب لأنه اسم (إن) كما يقول النحاة، وهو سبحانه قال هنا: و(الصابئون) وهي معطوفة على منصوب. وهذا كسر للإعراب. إنّ الإعراب يقتضي أن تكون الكلمة منصوبة فتكون (الصابئين) لماذا إذن عدل الحق عن إنزال الكلمة حسب سياقها من الإعراب وأنزلها بكسر الإعراب مع أنه في آية أخرى قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين}.
لقد جاءت هنا في مكانها ودون كسر للإعراب، وهي قد جاءت مرة قبل كلمة (النصارى) وجاءت مرة أخرى بعد كلمة (النصارى). وهنا لابد أن نتعرف على زمنية الصابئين، فقد كانوا قوماً متقدمين قبل مجيء النصرانية، فإن أردنا أن نعرف زمانهم نجد القول الحق يقدمهم على النصارى، وإن أردنا أن نعرف منزلتهم فإننا نقرؤها في موضع آخر من القرآن ونجدهم يأتون بعد (النصارى). إذن فعندما أرّخ الحق لزمانهم جاء بهم متقدمين، وعندما أرّخ لكمّهم وعددهم ومقدارهم يؤخرهم عن النصارى؛ لأنهم أقل عدداً فهم لا يمثلون جمهرة كثيرة كالنصارى.
وجاء بها الحق مرة منصوبة ومرة مرفوعة، لنعرف ونلتفت إليهم. وكسر الإعراب كان لمقتضى لفت الانتباه. وكان الصابئة قوماً يعبدون الكواكب والملائكة، وهذا لون من الضلال.
إذن فهناك اليهود الذي عرفوا أن هناك إلهاً، وجاء موسى عليه السلام مبلغاً عنه، وهناك النصارى الذين عرفوا أن هناك إلهاً، وجاء عيسى ابن مريم- عليه السلام- مبلغاً عنه، وهناك المنافقون الذي أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولكن لم يلمس الإيمان قلوبهم.
وأراد الحق أن يلفتنا إلى أن الصابئين هم قوم خرجوا عن دائرة التسليم بوجود إله خالق غيب، ويحدثنا الحق أنه يغفر لهم إن آمنوا وعملوا صالحاً. فالإيمان بالله شرط أساسي لقبول العمل الصالح والإثابة عليه. وجاء بهم متقدمين على النصارى احتراساً وتوقيا من مظنة أنه لا يعفو عنهم إن آمنوا وعملوا العمل الصالح.
ونلحظ أنها جاءت أيضاً في معرض جمع الله فيه بينهم وبين من يعبدون أغياراً من دون الله؛ لأن من يلصق ألوهية بغير الله يكون كمن عبد الكواكب وخرج عن التوحيد.
إنه سبحانه وتعالى يتيح لكل إنسان أن يدخل حظيرة الإيمان ويقيم تصفية عقدية يدخل فيها الكل إلى رحاب الإيمان ويقطعون صلة لهم بالشرك. فلو آمن المنافقون واليهود والنصارى والصابئون وعملوا الصالحات فلهم الأجر والمثوبة من الله ولا خوف عليهم من عذاب الآخرة ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، وجاء العمل الصالح بعد الإيمان؛ لأن الإيمان إذا لم يقترن بعمل صالح يكون عرضة للسلب والعياذ بالله ولا فائدة فيه، وسبحانه يريد أن يسيطر الإيمان على حركة الحياة بالعمل الصالح فيأمر كل مؤمن بصالح العمل حتى يكون لهم الأجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما الذين يصرّون على موقفهم الكفري، فإن الله يفصل بينهم يوم القيامة لأنه على كل شيء شهيد. وكلمة (يفصل) تدلنا على أنه سبحانه وتعالى سيصدر الحكم الذي يبين صاحب الحق من غيره. ونعرف أن الذي يحكم إنما يحكم ببينة. والبينة هي الإقرار، والإقرار- بلغة القانون- سيد الأدلة. أو الحكم بشهود. أو الحكم باليمين، وهو سبحانه يفصل بين المواقف المختلفة. والفصل هو القضاء بحكم. وعندما يكون الذي يحكم هو الذي شهد، فهو العادل. لذلك قال الحق: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
ويقول الحق بعد ذلك: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ...}.

.تفسير الآية رقم (70):

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}
والميثاق هو العهد المؤكد الموثق، الذي يقتضي الوفاء الشديد. ولا تُوثق العهود إلا مظنة المخالفة. والمواثيق في الإيمان بالله كثيرة. فهناك الميثاق الأول عندما كنا جميعاً في ظهور الآباء. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} [الأعراف: 172].
أو الميثاق الذي أخذه الله لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
أو الميثاق الخاص الذي أخذ على كل أمة. وفي كل جزئية من جزئيات الدين يؤخذ ميثاق، فنحن في الإسلام مأخوذ علينا الكثير من المواثيق. وكذلك رأينا النبي وقد أخذ لنفسه الميثاق في العقبة، رأى الرسول أن ما يربطه بالأوس والخزرج الكثير، كما يربطه بكل قوم يحنون إلى الوحدة تحت راية إيمان واحد، وكان اليهود يعتبرون عرب الأوس والخزرج مجرد همج وخدم يعملون لهم، وأرتأوا السيادة لأنفسهم. وكلما اختلفوا معهم هددوهم بمجيء رسول قادم سيؤمنون به وسيقتلونهم تقتيلاً.
وكان كل من الأوس والخزرج يحاول أن يستميل اليهود إليه، فالأوس حالفت بني قريظة. وحالف الخزرج بني قينقاع وبني النضير. وتلقى الاثنان الوعيد من اليهود بعد ظهور النبي القادم، وذلك ما جعل كلاً من الأوس والخزرج يُسرع إلى التعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء في موسم الحج نفر من ستة رجال ودعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فآمنوا به صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
وجاءوا في العام الذي يلي ذلك إلى موسم الحج وزادوا حتى صاروا اثني عشر رجلاً. وكانت المعاهدة ألا يشرك منهم أحد بالله وألا يسرق ألا يزني وألا يقتل أولاده وألا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصي رسول الله في معروف. وعادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن. وفي العام الثالث جاء ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان هما نسبية بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرة بن عديّ، وكانت مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد من ذلك إرباك قريش، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلْقَة(السلاح) وتكلم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم . وبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه).
وكانت بيعة العقبة ميثاقاً يضمن لأهل البيعة الجنة إن أوفوا به. وقد أوفوا. وهذا لون من العهود والمواثيق. وحين يخبرنا الحق هنا أنه أخذ من بني إسرائيل الميثاق، فمعنى ذلك أن هناك عهداً موثقاً مؤكداً: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
وقد أخذ الحق الميثاق وأرسل رسلاً بالمنهج، لكنهم كلما جاء إليهم رسول تباحثوا: هل المنهج الذي جاء به على هواهم أولا؟. فإن لم يكن المنهج على هواهم قتلوا الرسول أو كذبوه على الرغم من أن الميثاق عهد مؤكد باتباع الرسول إن جاء بمعجزة ومنهج بلاغاً عن الله وتنفيذاً له في حركة الحياة.
لكنّ بني إسرائيل كانوا يتمردون على مناهج الرسل لأنها لا تأتي بما تهواه أنفسهم وأول التمرد التكذيب. وهو أول خطوة في طريق الإخلال بالميثاق، ولم يكتفوا بالتكذيب، إنما حاولوا حصار الرسول حتى لا يصل المنهج إلى آذان تهتدي به. ولذلك لا يكتفون بالتكذيب بل قد يقتلون الرسول لأنه جاء بما لا تهوى أنفسهم.
ما هو الهوى أولاً؟. هو من مادة (الهاء والواو والألف المقصورة التي ترسم ياء). ونجدها منطوقة مرة هَوى ومرة هواء. ومرة (هوى) بضم الهاء وكسر الواو وتشديد الياء، وكلها تدل على التغلغل والانحياز. والهوى هو لطف الشيء في النفس والميل إليه. فالشيء تستلطفه في نفسك فتنزع إليه نزوعاً وقد يكون غير مستحب أو غير مقبول ولا مشروع.
وهل كل الهوى كذلك؟. لا، لأن هناك هوى الإيمان الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
إذن فمن الممكن أن يتجه الهوى إلى الخير. وهو الهوى الذي يحمل النفس على أن يسير الإنسان تبعاً للحق. أما الهواء فهو الذي يتنفسه الإنسان ويستخلص منه الأوكسجين ليغذي به الجسم وتسير به الحياة. ولذلك يقول الأثر: وأقبلْت كالنَّفَس المرتَدِّ.
إنه الإقبال الرقيق، فنحن نعرف أننا إن أكلنا شيئاً نحبه فإننا نشعر بطعمه، وعندما نشرب شيئاً نحبه نتذوق طعمه، أما التنفس فهو أمر لا إرادي فعندما نتنفس شيئاً نحبه يكون إحساساً لطيفاً.
وهناك نطق ثالث ويعبر عن السقوط، وهو الهُوِىّ من هَوى يهوى- بالكسر للواو- ولذلك يقال: هُوِىّ الدلو، أي نزول الدلو إلى المياه التي في البئر. فأي نوع من الهوى تقصده الآية؟
يقول الحق: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} إذن الهوى الذي يُتَحَدّث عنه هنا هو هوى النفس المجردة عن المنهج، وهو الذي يتحكم في حركة هذه النفس ويقودها إلى غير طاعة الله. وهل ترك الحق النفس الإنسانية دون عاصم لها؟ لا؛ لأنه أنزل الرسل تحمل منهجاً ملخصه (افعل) و(لا تفعل). وهكذا يمكن أن يصير المنهج قَيِّماً على خواطر النفس.
لكن ما دام الحق قد أراد أن يكون المنهج قَيِّماً على خواطر النفس، فلماذا أوجد النفس؟. لقد أوجد سبحانه النفس لأن وجودها ينبني عليه أن يَهوَى إنسان الحق والحلال لاستبقاء النوع وتجويد العمل لحلال الرزق. إذن فالغريزة تكون موجودة وقد خلقها الله لمهمة، ولكنه يعصمها بالمنهج من الخروج عن مهمتها.
ويقول قائل: ما دام الله قد خلق غريزة الجنس.. فلماذا لا نتركها لتعبر عن نفسها؟ ونقول له: اتق الله واعلم أن الغريزة الجنسية إنما جاءت لبقاء النوع، واستخدامها فيما يغضب الله فناء للنوع وانحراف يعاقب عليه المنهج.
وكذلك أوجد الحق غريزة حب الطعام ليقيم الإنسان حياته ولم يوجدها للقضاء على الحياة بالنهم والتخمة والشره. وكذلك غريزة حب الاستطلاع ليست موجودة للتجسس على الناس، ولكن هي لاستكشاف أسرار الكون واستنباط الجديد فيما ينفع الناس. إذن فكل غريزة إنما توجد من أجل مهمة، فإن خرجت عن مهمتها، فالشرع يتحكم ويقول: لا. إن هناك إطاراً يمكن أن تستخدم فيه الغرائز، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز، ولكن ليعلِىَ من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر.
ويقال في المثل العربي: (آفة الرأي الهوى) فإذا ما وقف اثنان أمام القاضي وأحدهما مظلوم والآخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم حتى وإن كان له هوى مع الظالم. ولذلك نجد الحق قد عصم رسوله فقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3].
والسطحيون هم الذين لا يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون: ما دام الحق يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى. ونقول: أنتم لا تحسنون الفهم عن الله ولا عن رسول الله، فعندما صوّب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم إراده الله، ولم يعدل حكماً لله حسب هواه الشخصي، وإنما هو ببشريته صلى الله عليه وسلم كان يصل إلى حكم ما ويراه ثم ترى السماء تعديلاً له، فينطق محمد بالتعديل كما انزله الله.
ولم يخالف صلى الله عليه وسلم ربه في أي أمر. وجاء كل تصويب لله في أشياء لم يسبق فيها لله حكم، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشرى من رسول الله، ولم يكن في ذلك أي هوى.
وحين قال الحق: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}. إنما يبلغنا أنه لم يكن عند محمد حكم من الله فخالفه الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً لهوى، فمعنى الهوى أن يكون هناك منهج ثم يعدل عنه، وكل التصويبات التي صوّبها الله جاءت في أمور لم يكن فيها حكم. ولهذا نجد تصويب الحق لرسوله يتسم باللطف، فيقول سبحانه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43].
وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء، ولكن هو عفو سمح؛ لأن رسول الله أخذ بالاجتهاد البشرى في الأمور التي لم يكن فيها حكم الله، وهو قول الحق: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرّم أموراً على نفسه، ولم يحرمها على الناس، وهنا يوضح له الحق: لا تحرم على نفسك ما أحللتُ لك. إذن هذا أمر لمصلحة الرسول. وعندما جاء زيد بن حارثة ليخبر بين أن يكون مع رسول الله كعبد له، وأن يكون مع أهله، آثر زيدٌ رسول الله، فكافأه صلى الله عليه وسلم بأن جعله في مقام الابن، وكان التبني معروفاً عند العرب، ونادى الناس زيدا بزيد بن محمد، فلما أراد الله أن يبطل التبني قال: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله}.
وكلمة (أقسط) تعني أعدل، ومعناها أن القسط أيضاً في دائرة العدل. وعندما يقال: فلان له القسط، أي له العدل. إذن فالقسط أولاً لرسول الله، والأكثر قسطاً هو حكم الله، فكأنك يا محمد قمت بالقسط عند البشر، ولكن الله يريد لك الأقسط.
إذن فقوله الحق سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}. هو قول لا يستدرك عليه من مخالف لمنهج الإسلام، فإذا ما قال مخالف لمنهج الإسلام: إن الله يصوب لمحمد، فكيف لا ينطق محمد عن الهوى؟. نقول: وهل تعرف معنى الهوى؟ إن الحكم بالهوى يعني أنّه وجد حكما لله فيعدل الحكم لهواه، ولم يحدث ذلك من سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل تصويب من الله لم يأت على لسان رجل آخر، إنما جاء على لسان رسول الله نفسه. وهذه هي منتهى الأمانة في البلاغ عن الله.
والحق يقول عن بني إسرائيل: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} إذن فهم فريقان: منهم من لا يقبل عن الإيمان بالمنهج لهوى في نفسه فيكذب. ومنهم من تمتلئ نفسه باللدد وشدة الخصومة على الرسول، ويخشى أن يحيا الرسول لإبلاغ قوم آخرين، فيحاول أن يقتل الرسول.
والتكذيب هو أول نقطة في اللدد، ثم هناك من يترقى في اللدد ويخشى أن يصل البلاغ إلى قوم آخرين فيحاول أن يقتل الرسول. والتكذيب هو إنكار لقول أو فعل. أما القتل فهو إزالة لأصل الحياة. والذي يقتل هو الأكثر لدداً.
وتتجلى دقة القرآن حين يأتي الحق بصيغة الماضي، لفئة وصيغة المضارع لفئة أخرى: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} لأن التكذيب هو تأب من المكذِّب، أما القتل فهو تأبٍ على وجود الرسول من الذين يكذبون. والأبشع هو القتل؛ لأنه إزالة لكل أثر من آثار وجود المقتول. وجاء التكذيب في صيغة الماضي. وجاء في المسألة البشعة بصيغة المضارع.
فالحدث حين يكون بشعاً فهو يبرد بعد مرور فترة من الزمن. وهذا ما يجعل المجتمع يثور عندما تحدث جريمة بشعة، ولكن ما إن تمر عليها عشر سنوات ويصدر الحكم بقتل المجرم لا ينفعل الناس، بل منهم من يتعاطف مع المجرم. ولذلك يحذرنا الحق أن ننسخ من الأذهان صورة قتلهم للرسل، بل يجب أن نستحضر بشاعته دائما فلا نعطف على الذين قتلوا الرسل، وقد قال علماء العربية: إن التعبير بالفعل المضارع يكون لاستحضار صورة الفعل.
وساعة يأمر القاضي العادل بالقصاص من إنسان قتل إنساناً آخر، فهو لا يجعل القتل حدثاً منسياً لأنه ماضٍ، بل يستحضره في ذهنه وكأن دمه ما زال ينزف ومكان الطعنة واضحاً؛ لأنه لا يأخذ شيئاً مستوراً بالماضي، بل يأخذ شيئاً واقعاً في الحال. وكأن الحق يأمرنا باستحضار صورة ما حدث أمامنا. ومثال آخر لاستحضار الصورة: نجد الحق يقول لنا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} [الحج: 63].
إنه أنزل الماء، لكنه يتبع ذلك: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63].
هو سبحانه يستخدم الفعل المضارع لتظل الصورة في أذهاننا مستحضرة في الحال وفي الاستقبال. والحق يقول: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} وكيف يقول الحق: إنهم يقتلون الرسل، والرسل لا تقتل، وأنه سبحانه يريد أن يجعل لهم من العمر ما يمكنهم من تمام البلاغ عنه، إن الأنبياء فقط هو الذين يجوز عليهم القتل؟ ونقول: إن الأنبياء رسل أيضاً بدليل أن الحق قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52].
إن كليهما مرسل، والفرق أن الرسول يصحب وينزل معه منهجه، والنبي مرسل كنموذج هداية بمنهج قد سبق. ويقول الحق من بعد ذلك: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ...}.