فصل: تفسير الآية رقم (9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (8):

{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)}
{جَعَلْنَاهُمْ..} [الأنبياء: 8] أي: الرسل {جَسَداً...} [الأنبياء: 8] يعني: شيئاً مصبوباً جامداً لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، إنما هم بشر يأكلون ويشربون كأيّ بشر، ويمشون في الأسواق، ويعيشون حياة البشر العادية {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8] فليس الخلود من صفة البشر وقد تابعوا الرسل، وعَلِموا عنهم هذه الحقيقة، وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30].
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد...}.

.تفسير الآية رقم (9):

{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)}
وهذه سُنة من سُنَن الله في الرسل أنْ يَصْدقهم وعده، وهل رأيتم رسولاً عانده قومه وحاربوه واضطهدوه، وكانت النهاية أن انتصروا عليه؟
ألم يقل الحق تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
وكان صِدْق الوعد أن أنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين والمسرفون هم الذين تجاوزوا الحدَّ المعروف. فنهاية الرسل جميعاً النُّصْرة من الله، والوفاء لهم بما وعدهم. {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً...}.

.تفسير الآية رقم (10):

{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)}
الحق سبحانه يخاطب المكذِّبين للنبي: ما أنزلتُ إليكم آية بعيدة عن معرفتكم، إنما أرسلتُ إليكم رسولاً بآية من جنس ما نبغتُم فيه، ولما نزل فهمتموه وعرفتم مراميه، بدليل أن في القرآن ألفاظاً تُستقبل بالغرابة ولم تعترضوا أنتم عليها، ولم تُكذِّبوا محمداً فيها مع أنكم تتلمسون له خطأ، وتبحثون له عن زلة.
فمثلاً لما نزلتْ(الم) ما سمعنا أحداً منهم قال: أيها المؤمنون بمحمد، إن محمداً يدَّعي أنه أتى بكتاب مُعْجز فاسألوه: ما معنى(ألم)؟ مما يدل على أنهم فهموها وقبلوها، ولم يجدوا فيها مَغْمزاً في رسول الله؛ لأن العرب في لغتهم وأسلوبهم في الكلام يستخدمون هذه الحروف للتنبيه.
فالكلام سفارة بين المتكلَّم والسامع، المتكلِّم لا يُفَاجأ بكلامه إنما يعدّه ويُحضره قبل أن ينطق به، أمّا السامع فقد يُفَاجأ بكلام المتكلم، وقد يكون غافلاً يحتاج إلى مَنْ يُوقِظه ويُنبِّهه حتى لا يفوته شيء.
وهكذا وُضِعَتْ في اللغة أدوات للتنبيه، إنْ أردتَ الكلام في شيء مهم تخشى أنْ يفوتَ منه شيء تُنبِّه السامع، ومن ذلك قول عمرو ابن كلثوم:
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبِحينَا

وقول آخر:
أَلاَ أنعِمْ صَبَاحاً أُيُّها الطَّلَلُ البَالي ** وَهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كَانَ في العَصْر الخالي

إذن:(ألا) هنا أداة للتنبيه فقط يعني: اسمعوا وانتبهوا لما أقول.
وكذلك أسلوب القرآن: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ...} [هود: 5].
إذن: عندما نزل القرآن عليهم فهموا هذه الحروف، وربما فهموا منها أكثر من هذا، ولم يردُّوا على رسول الله شيئاً من هذه المسائل مع حرصهم الشديد على نقده والأخذ عليه.
وقوله تعالى: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ..} [الأنبياء: 10] الذكر: سبق أنْ أوضحنا أن الذكر يُطلق بمعنى: القرآن، أو بمعنى: الكتب المنزّلة، أو بمعنى: الصِّيت والشرف. أو بمعنى: التذكير أو التسبيح والتحميد.
والذكر هنا قد يُرَاد به تذكيرهم بالله خالقاً، وبمنهجه الحق دستوراً، ولو أنكم تنبهتم لما جاء به القرآن لعرفتُم أن الفطرة تهدي إليه وتتفق معه، ولعرفتم أن القرآن لم يتعصّب ضدكم، بدليل أنه أقرَّ بعض الأمور التي اهتديتم إليها بالفطرة السليمة ووافقكم عليها.
ومن ذلك مثلاً الدِّيَة في القتل هي نفس الدية التي حدَّدها القرآن، مسائل الخطبة والزواج والمهر كانت أموراص موجودة أقرها القرآن، كثيرون منهم كانوا يُحرِّمون الخمر ولا يشربونها، هكذا بالفطرة، وكثيرون كانوا لا يسجدون للأصنام، إذن: الفطرة السليمة قد تهتدي إلى الحق، ولا تتعارض ومنهجَ الله.
أو: يكون معنى {ذِكْرُكُمْ...} [الأنبياء: 10] شرفكم وصيْتكم ومكانتكم ونباهة شأنكم بين الأمم؛ لأن القرآن الذي نزل للدنيا كلها نزل بلغتكم، فكأن الله تعالى يثني عقول الناس جميعاً، ويثني قلوبهم للغتكم، ويحثّهم على تعلّمها ومعرفتها والحديث بها ونشرها في الناس، فمَنْ لم يستطع ذلك ترجمها، وأيُّ شرف بعد هذا؟!
وقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] أفلا تُعملِون عقولكم وتتأملون أن خيركم في هذا القرآن، فإنْ كنتم تريدون خُلقاً وديناً ففي القرآن، وإنْ كنتم تريدون شرفاً وسُمعة وصيتاً ففي القرآن، وأيُّ شرف بعد أن يقول الناس: النبي عربي، والقرآن عربي؟
ثم يقول الحق سبحانه: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ}.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)}
قصمنا: القَصْم هو الكَسْر الذي لا جَبْرَ فيه، وكأن الحق سبحانه وتعالى يضع أمام أعينهم القُرَى المكذِّبة الظالمة، ليأخذوا منها عِبْرة وعِظَة، فليس بِدَعاً أنْ نقصم ظهور المكذِّبين، بل لها سوابق كثيرة في التاريخ.
لذلك قال: {وَكَمْ قَصَمْنَا...} [الأنبياء: 11] وكم هنا خبرية تفيد الكثرة التي لا تُعَدُّ، فأحذروا إنْ لويتُم أعناقكم أَنْ يُنزِل بكم ما نزل بهم.
وقوله: {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الأنبياء: 11] أي: خَلف بعدهم خَلْف آخرون. {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ...}.

.تفسير الآية رقم (12):

{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)}
أي: حين أحسُّوا العذاب {إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 12] حتى لا يلحقهم العذاب. والركْضُ: الجَرْى السريع بهَرْولة، والأصل فيه: رَكْضُ الدابة. يعني: ضَرْبها برِجلْه كي تُسرع. ومنها: {اركض بِرِجْلِكَ...} [ص: 42] يعني: اضرب الأرض برِجلْك لِتُخرج الماء {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42].
وفي هذه الآية مَلْمحٌ من ملامح الإعجاز القرآني، فقد أصاب أيوبَ عليه السلام مرضٌ في جلده، وأراد له ربُّه- عز وجل- الشفاء. فقال له: اضرب الأرض برِجْلك تُخرج لك ماءً بارداً، منه مُغْتَسل ومنه شراب، فالماء هنا دواء يعالج أمرين: يعالج الظاهر والباطن.
وآفةُ المعالجين أنهم إذا رأوا مثلاً البثور والدمامل في الجلد يعالجونها بالمراهم التي يندمِلُ معها الجُرْح، لكنها لا تعالج أسباب الظاهرة من الداخل، أما العلاج الإلهي فمغتسلٌ لعلاج الظاهرة، وشرابٌ لعلاج أسباب الظاهرة في الجوف.
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا...}.

.تفسير الآية رقم (13):

{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)}
الحق سبحانه وتعالى في قصة هؤلاء المكذِّبين قدَّم الغاية من العذاب، فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ...} [الأنبياء: 11] ثم فصَّل القَصمْ بأنهم لما أحسًّوا العذاب تركوا قريتهم، وأسرعوا هاربين أنْ يلحقهم العذاب، وهنا يقول لهم: لا تركضوا وعودوا إلى مساكنكم، وإلى ما أُترِفْتم فيه.
والتُّرفُ: هو التنعُّم نقول: ترف الرجل يترف مثل: فرح يفرَح أي: تنعَّم، فإذا زِيدتْ عليها همزة فقيل: أترف الرجل فمعناها: أخذ نعيماً وأبطره.
ومنها أيضاً: أترفَهُ الله يعني: غرَّه بالنعيم؛ ليكون عقاباً له.
فقوله هنا {إلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ..} [الأنبياء: 13] من أترافه الله يعني: أعطاهم نعيماً لا يؤدون حقَّه، فيجرّ عليهم العذاب. لكن ما دام أن الله تعالى يريد بهم العذاب، فلماذا يُنعِّمهم؟
قالوا: فَرْق بين عذاب واحد وعذابين: العذاب أن تُوقع على إنسان شيئاً يؤلمه، أما أن تُنعِّمه وترفعه ثم تعذبه، فقد أوقعتَ به عذاباً فوق عذاب.
وقد مثَّلْنا لذلك بأن إنْ أردت أَنْ تُوقِع عدوك لا توقعه من فوق حصيرة مثلاً، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون أشدَّ عليه وآلمَ له.
ومن ذلك قَوْلُ القرآن {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ...} [الأنعام: 44] أعطيناهم الصحة والمال والجاه والأرض والدُّور والقصور {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] وهكذا يكون أَخذْه أليماً شديداً، فعلى قَدْر ما رفعهم الله على قَدْر ما يكون عذابهم.
ومَلْمَح آخر في قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 44] لا لهم كما في: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] فليس هذا كله في صالحهم، بل هو وَبَال عليهم، فلا تغترُّوا بها، فقد أعطاها الله لهم، وهم سيَبَطْرون بها، فتكون سببَ عذابهم.
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 13] أي: عودوا إلى مساكنكم وقصوركم وما كنتم فيه من النعيم، لعل أحداً يمرُّ بكم فيسألكم: أين ما كنتم فيه من النعيم؟ أين ذهب؟ لكن ما هم فيه الآن من الخزي سيُخرس ألسنتهم، ولن يقولوا شيئاً مما حدث، إنما سيكون قولهم وسلوكهم. {قَالُواْ ياويلنآ...}.

.تفسير الآية رقم (14):

{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)}
لما أحسَّ المكذِّبون بأْسَ الله وعذابه حاولوا الهرب ليُفوِّتوا العذاب، فقال لهم: ارجعوا إلى ما كنتم فيه، فلن يُنجيكم من عذاب الله شيء، ولا يفوت عذاب الله فائت، فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف لم يجدوا شيئاً إلا الحسرة فتوجَّهوا إلى أنفسهم ليقرعوها، ويحكموا عليها بأنها تستحق ما نزل بها.
فقولهم: {ياويلنآ...} [الأنبياء: 14] ينادون على العذاب، كما تقول(يا بؤسي) أو(يا شقائي) وهل أحد ينادي على العذاب أو البُؤْس أو الشقاء؟ الإنسان لا ينادي إلا على ما يُفرِح.
فالمعنى: يا ويلتي تعالى، فهذا أوانك، فلن يشفيه من الماضي إلا أنْ يتحسَّر عليه، ويندم على ما كان منه. فالآن يتحسَّرون، الآن يعلمون أنهم يستحقون العذاب ويلومون أنفسهم.
{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 14] ظالمين لأنفسنا بظلمنا لربنا في أننا كفرنا به، كما قال في آية أُخْرى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله...} [الزمر: 56].

.تفسير الآية رقم (15):

{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)}
قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ...} [الأنبياء: 15] أي: قولهم: {قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 14] فلم يقولوها مرة واحدة سرقة عواطف مثلاً، إنما كانت ديدنهم، وأخذوها تسبيحاً: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فلا شيءَ يشفي صدورهم إلا هذه الكلمة يُردِّدونها. كما يجلس المرجم يُعزِّي نفسه نادماً يقول: أنا مُخطيء، أنا أستحق السجن، أنا كذا وكذا.
وقوله تعالى: {حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15] الحصيد: أي المحصود وهو الزرْع بعد جمعه {خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15] الخمود من أوصاف النار بعد أنْ كانت مُتأجِّجة مشتعلة ملتهبة صارت خامدة، ثم تصير تراباً وتذهب حرارتها. كأن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى حرارتهم في عداء الرسول وجَدَلهم وعنادهم معه صلى الله عليه وسلم، وقد خمدتْ هذه النار وصارتْ تراباً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء...}.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)}
ربنا سبحانه وتعالى يعطينا المثل الأعلى في الخلْق؛ لأن خَلْق السماوات والأرض مسألة كبيرة: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس...} [غافر: 57] فالناس تُولَد وتموت وتتجدد، أمّا السماء والأرض وما بينهما من نجوم وكواكب فهو خلْق هائل عظيم منضبط ومنظوم طوال هذا العمر الطويل، لم يطرأ عليه خَلَل أو تعطُّل.
والحق سبحانه لا يمتنُّ بخَلْق السماء والأرض وما بينهما؛ لأنها أعجب شيء، ولكن لأنها مخلوقة للناس ومُسخَّرة لخدمتهم، فالسماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وهواء ومطر وسحاب والأرض وما عليها من خَيْرات، بل وما تحتها أيضاً {وَمَا تَحْتَ الثرى} [طه: 6].
الكل مخلوق لك أيها الإنسان، حتى ما تتصوره خادماً لغيرك هو في النهاية يصبُّ عندك وبين يديك، فالجماد يخدم النبات، والنبات يخدم الحيوان، وكلهم يخدمون الإنسان.
فإنْ كان الإنسان هو المخدوم الأعلى في هذا الكون فما عمله هو؟ وما وظيفته في كون الله؟ فكل ما دونك له مهمة يؤديها فما مهمتك؟ إذن: إنْ لم يكن لك مهمة في الحياة فأإنت أتفه من الحيوان، ومن النبات، حتى ومن الجماد، فلابد أنْ تبحثَ لك عن عمل يناسب سيادتك على هذه المخلوقات.
ثم هل سخَّرْتَ هذه المخلوقات لنفسك بنفسك، أم سخَّرها الله وذلَّلها لخدمتك؟ فكان عليك أن تلتفت لمن سخَّر لك هذه المخلوقات وهي أقوى منك، ألك قدرة على السماء؟ أتطول الشمس والقمر؟
{إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} [الإسراء: 37].
إذن: كان يجب عليك أن تبحث بعقلك فيمَنْ سخَّر لك هذا كله، كان عليك أنْ تهتدي إلى الخالق للسماء والأرض وما بينهما، لأنه سبحانه ما خلقها عبثاً، ولا خلقها للعب، إنما خلقها من أجلك أنت.
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: (يا ابن آدم، خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عمن أنت له).
فالكون مملوك لك، وأنت مملوك لله، فلا تنشغل بالمملوك لك عن المالك لك.
فما الحكمة من خَلْق السماء والأرض وما بينهما؟ الحكمة أن هذه المخلوقات لولاها ما كُنَّا نستدل على القوة القادرة وراء خَلْق هذه الأشياء، وهو الخالق سبحانه، فهي- إذن- لإثبات صفات الجلال والجمال لله عز وجل. فلو ادَّعَى أحد أنه شاعر- ولله المثل الأعلى- نقول له: أين القصيدة التي قلتها؟ فلا نعرف أنه شاعر إلا من خلال شِعْره وآثاره التي ادَّعاها. وهي دعوى دون دليل؟!
وقد خلق الله هذا الخَلْق من أجلك، وتركك تربَع فيه، وخلقه مقهوراً مُسيَّراً، فالشمس ما اعترضتْ يوماً على الشروق، والقمر والنجوم والمطر والهواء والأرض والنبات كلها تعطي المؤمن والكافر والطائع والعاصي؛ لأنها تعملبالتسخير، لا بالإرادة والاختيار.
أما الإنسان هو المخلوق صاحب الاختيار في أن يفعل أو لا يفعل.
ولو نظرتَ إلى هذا الكون لأمكنك أنْ تُقسِّمه إلى قسمين: قسم لا دَخْلَ لك فيه أبداً، وهذا تراه منسجماً في نظامه واستقامته وانضباطه، وقسم تتدخل فيه، وهذا الذي يحدث فيه الخَلَل والفساد.
قال الحق سبحانه وتعالى: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38-40].
فالكَوْن من حولك يسير بأمر خالقه، منضبط لا يتخلف منه شيء، فلو أخذتَ مثلاً سنة كاملة 365 يوماً، ثم حاولتَ أنْ تعيدها في عام آخر لوجدتَ أن الشمس طلعتْ في اليوم الأول من نفس المكان، وفي اليوم الثاني من نفس مكان اليوم الثاني، وهكذا بدقة متناهية، سبحان خالقها.

لذلك؛ فالذين يضعون التقويم لمعرفة الأوقات يضعون تقويم ثلاث وثلاثين سنة يُسجِّلون دورة الفلك، ثم يتكرر ما سجَّلوه بانضباط شديد، ومن ذلك مثلاً إذا حدَّد العلماء موعد الكسوف أو الخسوف أو نوعه جزئي أو حَلْقي، فإذا ما تابعته وجدته منضبطاً تماماً في نفس موعده، وهذا دليل على انضباط هذا الكون وإحكامه؛ لأنه لا تدخلُّ لنا فيه أبداً.
وفي المقابل انظر إلى أيِّ شيء للإنسان فيه تدخّل: فمثلاً نحن يكيل بعضنا لبعض، ويزن بعضنا لبعض، ويقيس بعضنا لبعض، ويخبز بعضنا لبعض، ويبيع بعضنا لبعض.. الخ انظر إلى هذه العلاقات تجدها- إلاّ ما رحم الله- فاسدة مضطربة، ما لم تَسِرْ على منهج الله، فإن سارت على منهج الله استقامت كاستقامة السماء والأرض.
إذن: كلما رأيتَ شيئاً فاسداً شيئاً قبيحاً فاعلم أن الإنسان وضع أنفه فيه.
وكأن الخلق- عز وجل- يقول للإنسان: أنت لستَ أميناً حتى على نفسك، فقد خلقتُ لك كل هذا الكون، ولم يشذ منه شيء، ولا اختلَّتْ فيه ظاهرة، أمّا أنت- لأنك مختار- فقد أخللْتَ بنفسك وأتعبتها.
فاعلم أن المسائل عندي أنا آمَنُ لك، فإذا أخذتُك من دنيا الأسباب إلى الآخرة وإلى المسبِّب، فأنا أمين عليك أُنعمك نعيماً لا تعبَ فيه ولا نصبَ ولا شقاء، وإنْ كنت تخدم نفسك في الدنيا، فأنا أخدمك في الآخرة، وأُلبِّي لك رغبتك دون أن تُحرِّك أنت ساكناً.
إذن: لو أنني شغلت نفسي بمَنْ يملكني وهو الله تعالى لاستقام لي ما أملكه.
فهذا الكون وهذا الإيجاد خلقه الله لخدمة الإنسان، فلماذا؟ كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: لأنِّي يكفيني من خلقي أن يشهدوا مختارين أنه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وإنْ كانت المخلوقات قد شهدتْ هذه الشهادة مضطرة، فالعظمة أن يشهد المختار الذي يملك أنْ يشهد أو لا يشهد.
كما أنني بعد أنْ أنعمتُ عليك كلَّ هذه النعم أنزلتُ إليك منهجاً بافعل كذا ولا تفعل كذا، فإنْ أطعتَ أثبتك، وإنْ عصيت عاقبتك، وهذه هي الغاية من خَلْق السماء والأرض، وأنها لم تُخلَق لعباً.
وهذا المنهج تعرفه من الرسل، والرسل يعرفونه من الكتاب. فلو كذَّبْتَ بالرسل لم تعرف هذه الأحكام ولم تعرف المنهج، وبالتالي لا نستطيع أنْ نثيب أو نعاقب، فيكون خَلْقُ السماء والأرض بدون غاية.
ثم يقول الحق سبحانه: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً...}.