فصل: تفسير الآية رقم (9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (8):

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)}
{رَاعُونَ}: يعني يحافظون عليها ويراعونها بالتنفيذ، والأمانة: كل ما استُؤمِنْت عليه، وأول شيء استؤمِنتَ عليه عهد الإيمان بالله الذي أخذه الله عليك، وما دُمْت قد آمنت بالإله فعليك أن تُنفِّذ أوامره.
إذن: هناك أمانة للحق وأمانة للخَلْق، أمانة الحق التي قال الله تعالى عنها: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
فما دُمْتَ قد قبلت تحمُّل الأمانة، فعليك الأداء.
أما العهد: فكل ما يتعهد به الإنسان في غير معصية ويلزمه الوفاء بما عاهد به؛ لأنك حين تعاهد إنساناً على شيء فقد ربطْتَ حركته وقيدتها في دائرة إنفاذ هذا العهد، فحين تقول لي: سأقابلك غداً في المكان الفلاني في الوقت الفلاني لعمل كذا وكذا، فإنني سأُرتِّب حركة حياتي بناءً على هذا الوعد، فإذا أخلفتَ وعدك فقد أطلقتَ نفسك في زمنك وتصرفت حسْب راحتك، وقيَّدْت حركتي أنا في زمني وضيَّعت مصالحي، وأربكت حركة يومي؛ لذلك شدَّد الإسلام على مسألة خُلْف الوعد.

.تفسير الآية رقم (9):

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)}
في الآيات السابقة تحدِّث عن الصلاة من حيث هيئة الخشوع والخضوع فيها، وهنا يذكر الصلاة من حيث أدائها والحفاظ عليها؛ لأن الحفظ يعني أن تأخذ كل وقت من أوقات الصلاة بميلاده وميلاد الأوقات بالأذان، لكن البعض يقولون: إن الوقت مُمْتدُّ، فالظهر مثلاً مُمْتد من أذان الظهر إلى قبل أذان العصر، وهكذا في باقي الصلوات.
نقول: نعم هذا صحيح والوقت مُمتد، لكن مَنْ يضمن لك الحياة إلى آخر الوقت؟ مَنْ يضمن لك أن تصلي العشاء مثلاً قبل أذان الفجر؟ نعم، تظل غير آثم إلى آخر لحظة إذا تمكنتَ من الصلاة وصلَّيْتَ، لكن هل تضمن هذا؟ كالذي يستطيع أن يحج، إلا أنه أخّر الحج إلى آخر أيامه، فإنْ حج فلا شيء عليه، لكنه لا يضمن البقاء إلى أنْ يحج؛ لذلك يجب المبادرة بالحج عند أول استطاعة حتى لا تأثم إنْ فاتك وأنت قادر.

.تفسير الآية رقم (10):

{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)}
{أولئك} [المؤمنون: 10] يعني: أصحاب الصفات المتقدمة، وهم ستة أصناف: الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون.
هؤلاء هم الوارثون، والإرْث: أَخْذ حق من غير عقد أو هبة؛ لأن أَخْذ مال الغير لابد أن يكون إما ببيع وعقد، وإما هبة من صاحب المال. لذلك سألوا الوارث: أهذا حقك؟ قال: نعم، قالوا: فما صكُّك عليه؟ يعني: أين العقد الذي أخذته به؟ قال: عقدي وصَكّي: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] فهو عقد أوثق وأعلى من تعاقد البشر.
وما دام عقدي من الحق تبارك وتعالى فلا تقُلْ: إن الميراث مأخوذ بغير عقد؛ لأنه قائم على أوثق العقود، وهو العقد من الله.
وكثيراً ما يخرج الناس في مسألة الميراث عما شرع الله حُباً في المال واستئثاراً به، أو بخلاً على مَنْ جعل له الشرع نصيباً، فمَنْ كان عنده البنون والبنات يعطي البنين ويحرم البنات، ومَنْ كان عنده بنات يكتب لهُنَّ ما يملك حتى يحرم إخوته وأعمامهم من حقهم في ماله، وهذا كثيراً ما يحدث في المجتمع.
ويجب عليك أن تتنبه لمسألة الميراث وتحترم شرع الله فيه وتقسيم الله للمال، فقد وهبك الله المال وتركك تتصرف فيه طوال حياتك، وليس لك أن تتصرف فيه أيضاً بعد موتك، عليك أنْ تدعَ المال لصاحبه وواهبه يتصرف فيه؛ لذلك قال الله تعالى عن الإرث: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11] يعني: ليست من أحد آخر، وما دامت من الله فعليك أنْ تمتثل لها وتنفذها، وحين تتأبَّى عليها فإنك تتأبَّى على الله وترفض قِسْمته.
والمتأمل في مسألة الإرث يجد الخير كل الخير فيما شرعه الله، ومَنْ كان يحب البنين فليُعْط البنات حتى لا يفسد علاقة أولاده من بعده، ويأتي إلينا بعض الرجال الذين أخذوا كل مال أبيهم وحَرَموا منه البنات، يقولون: نريد أن نُصحِّح هذا الخطأ ونعيد القسمة على ما شرع الله.
ونجد عند بعض الناس إشراقات إيمانية، فإنْ رفض بعض الإخوة إعادة التقسيم على شرع الله يقول: أنا أتحمل ميراث أخواتي من مالي الخاص، ومثل هؤلاء يفتح الله عليهم ويبارك لهم فيما بقي؛ لأنهم جعلوا اعتمادهم على الله فيزيدهم من فضله ويُربي لهم القليل حتى يصير كثيراً، أما مَنِ اعتمد على ما في يده فإن الله يكِلُه إليه.
ونعجب من الذي يجعل ماله للبنات ليحرم منه إخوته، نقول له: أنت لستَ عادلاً في هذا التصرف، يجب أن تعاملهم بالمثل، فلو تركت بناتك فقراء لا مال لهن، فمَنْ يعولهُنَّ ويرعاهن من بعدك؟ يعولهن الأعمام.
إذن: لتكُنْ معاملة بالمثل.
والحق تبارك وتعالى حين يُورث هذه الأصناف يورثهم بفضله وكرمه، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
أما قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فهذا خاص بمجرد دخول الجنة، أما الزيادة فهي من فضل الله {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173].
ومن أسمائه تعالى(الوارث) وقال: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} [الأنبياء: 89] فماذا يرث الحق سبحانه وتعالى مِنَّا؟
لقد خلق الله الخَلْق، وأعطى للناس أسباب ملكيته، ووزَّع هذه الملكية بين عباده: هذا يملك كذا، وهذا يملك كذا من فضل الله تعالى. فإذا كان يوم القيامة عاد الملْك كله إلى صاحبه، وكان الحق سبحانه وتعالى هو الوارث الوحيد يوم يقول: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
والله خير الوارثين؛ لأن الوارث يأخذ ما ورثه لينتفع هو به، لكن الحق سبحانه يرث ما تركه للغير ليعود خَيْره عليهم ويزيدهم، ويعطيهم أضعافاً مضاعفة، وإذا كان يعطيهم في الدنيا بأسباب فإنه في الآخرة يرث هذه الأسباب، ويعطيهم من فضله بلا أسباب، حيث تعيش في الجنة مستريحاً لا تعبَ ولا نصبَ ولا سَعْيَ، وما يخطر ببالك تجده بين يديك دون أنْ تُحرِّك ساكناً.
إذن: البشر يرثون ليأخذوا، أمّا الحق سبحانه فيرث ليعطي؛ لذلك فهو خير الوارثين.
فأيُّ شيء يرثه المؤمنون الذين توفرت فيهم هذه الصفات؟ يجيب الحق سبحانه: {الذين يَرِثُونَ الفردوس..}

.تفسير الآية رقم (11):

{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}
إذن: الحق سبحانه ورَّثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الآخرة، والفردوس أعلى الجنة، فورث الحق لينفع عباده ويُصعِّد النفع لهم، ففي الدنيا كنا ننتفع بالأسباب، وفي الآخرة ننتفع بغير أسباب، الحق ورث ليعطي، لا مِثْل ما أخذ إنما فوق ما أخذ؛ لأننا نأخذ في الميراث ما يفنى، ولله تعالى يعطينا في ميراثه ما يبقى.
لكن مِمَّنْ يرثون الفردوس؟
قالوا: الحق تبارك وتعالى عندما خلق الخَلْق، وجعل فيهم الاختيار بين الإيمان والكفر، وبين الطاعة والمعصية رتَّبَ على ذلك أموراً، فجعل الجنة على فرض أن الخَلْق كلهم مؤمنون، بحيث لو دخلوا الجنة جميعاً ما كانت هناك أزمة أماكن ولا زحام، وكذلك جعل النار على فرض أن الخَلْق كلهم كافرون، فلو كفر الناس جميعاً لكان لكل منهم مكانه في النار.
وعليه فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ يتركون أماكنهم في النار، وحين يدخل أهل النارِ النارَ يتركّون أماكنهم في الجنة، فيرث أهل النار الأماكن الشاغرة فيها، ويرث أهل الجنة الأماكن الشاغرة فيها.
والفردوس أعلى مكان في الجنة، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة) ذلك؛ لأن الفردوس جنة على أعلى رَبْوة في الجنة. يعني: في مكان مُميّز منها، والعلو في مسألة المسكن والجنان أمر محبوب في الدنيا، الناس يُحبون السُّكْنى في الأماكن العالية، حيث نقاء الهواء ونقاء الماء، أَلاَ تراهم يزرعون في المرتفعات، وإنْ كانت الأرض مستوية يجعلون فيها مصارف منخفضة تمتصُّ الماء الزائد الذي يفسد الزرع؛ لذلك يقول سبحانه: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265].
كذلك الأرض المرتفعة لا تُسْقَى بالماء الغمر، إنما تُسْقَى من ماء السماء الذي يغسل الأوراق قبل أن يروي الجذور، فيكون النبات على أفضل ما يكون؛ لذلك يقول عنها رب العزة: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265].
ومعلوم أن الأوراق هي رئة النبات، وعليها تقوم عملية التمثيل الضوئي التي يصنع منها النبات غذاءه، فإذا ما سُدَّت مسام الأوراق وتراكم عليها الغبار فإن ذلك يُقلِّل من قدرة النبات على التنفس، مثل الإنسان حينما يُصَاب بشيء في رئته تزعجه وتُقلِّل من كفاءته.
وفي الفردوس ميزة أخرى هي أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي غرس شجرها بيده، كما كرَّم آدم عليه السلام فخلقه بيده تعالى، فقال: {ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..} [ص: 75].
ويُروى أن الحق تبارك وتعالى لما خلق الفردوس، وغرس أشجارها بيده قال للفردوس: تكلمي، فلما تكلمت الفردوس قالت: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1].
ثم يقول تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] لأن نعيم الجنة باقٍ ودائم لا ينقطع، وقد عرفنا أن نعيم الدنيا موقوت مهما أُوتِي الإنسان منه، فإنه منقطع زائل، إما أنْ يتركك بالفقر والحاجة، وإما أنْ تتركه أنت بالموت، لذلك يقول تعالى في نعيم الآخرة: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33].
وهكذا نلحظ على استهلال هذه السورة أن الحق سبحانه بدأ بالكلام عن الفلاح في الآخرة كأنه قدَّم ثمرة الإيمان أولاً، ووضع الجزاء بداية بين يديك كأنه سبحانه يقول لك: هذا جزاء مَنْ آمن بي واتبع منهجي. كما جاء في قوله تعالى في استهلال سورة(الرحمن): {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 1- 4] كيف وقد خلق الله الإنسان أولاً، ثم علَّمه القرآن؟
قالوا: لأن الذي يصنع صنعة يضع لها قانونها، ويُحدِّد لها مهمتها أولاً قبل أن يشرع في صناعتها، فمثلاً- ولله المثل الأعلى- الذي يصنع الثلاجة، قبل أن يصنعها حدد عملها ومهمتها وقانون صيانتها والغاية منها.
والقرآن هو منهج الإنسان، وقانون صيانته في حركة الحياة؛ لذلك خلق الله المنهج ووضع قانون الصيانة قبل أن يخلق الإنسان.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}
سبق أن تكلمنا عن خَلْق الإنسان، وعرفنا أن الخالق- عز وجل- خلق الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام من طين، ومن أبعاضه خلق زوجه، ثم بالتزاوج جاء عامة البشر كما قال تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} [النساء: 1].
ومسألة خَلْق السماء والأرض والناس مسألة احتفظ الله بها، ولم يطلع عليها أحد، كما قال سبحانه: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51].
فلا تُصْغ إلى هؤلاء المضلين في كل زمان ومكان، الذين يدَّعون العلم والمعرفة، ونسمعهم يقولون: إن العالم كان كتلة واحدة تدور بسرعة فانفصل عنها أجزاء كوَّنَت الأرض.. الخ وعن الإنسان يقولون: كان أصله قرداً، إلى آخر هذه الخرافات التي لا أساس لها من الصحة.
لذلك أعطانا الله تعالى المناعة الإيمانية التي تحمينا أنْ ننساق خلف هذه النظريات، فأخبرنا سبحانه خبر هؤلاء وحذرنا منهم؛ لأنهم ما شهدوا شيئاً من الخَلْق، ولم يتخذهم الله أعواناً فيقولون مثل هذا الكلام. إذن: هذا أمر استأثر الله بعلمه، فلا تأخذوا علمه إلاَّ مما أخبركم الله به.
وكلمة الإنسان اسم جنس تطلق على المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، فكل واحد منا إنسان، بدليل أن الله تعالى استثنى من المفرد اللفظ جمعاً في قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ..} [العصر: 1- 3] فاستثنى من المفرد الجماعة.
ومعنى {خَلَقْنَا} [المؤمنون: 12] أوجدنا من عدم، وسبق أن قلنا: إن الله تعالى أثبت للبشر صفة الخَلْق أيضاً مع الفارق بين خَلْق الله من عدم وخَلْق البشر من موجود، وخَلْق الله فيه حركة وحياة فينمو ويتكاثر، أما ما يخلق البشر فيجمد على حاله لا يتغير؛ لذلك وصف الحق سبحانه ذاته فقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
أما قَوْل القرآن حكايةً عن عيسى عليه السلام: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير..} [آل عمران: 49] فهذه من خاصياته عليه السلام، والإيجاد فيها بأمر من الله يُجريه على يد نبيه.
فالمعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان..} [المؤمنون: 12] أي: الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام {مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ..} [المؤمنون: 12] والسلالة: خلاصة الشيء تُسَلُّ منه كما يُسَلُّ السيف من غِمْده أي: الجراب الذي يُوضَع فيه، فالسيف هو الأداة الفتاكة الفاعلة، أما الغِمْد فهو مجرد حافظ وحامل لهذا الشيء الهام.
فالسلالة- إذن- هي أجود ما في الشيء، وقد خلق الله الإنسان الأول من أجود عناصر الطين وأنواعه، وهي زُبْد الطين، فلو أخذتَ قبضة من الطين وضغطتَ عليها بين أصابعك يتفلَّتْ منها الزبد، وهو أجود ما في الطين ويبقى في قبضتك بقايا رمال وأشياء خشنة.
«ولما أحب سيدنا حسان بن ثابت أنْ يهجوَ قريشاً لمعاداتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إئذن لي يا رسول الله أنْ أَهْجُوهم من على المنبر فقال صلى الله عليه وسلم: أتهجوهم وأنا منهم؟ فقال حسان: أسلُّك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين».
وتُطلَق السلالة على الشيء الجيد فيقولون: فلان من سلالة كذا، وفلان سليل المجد. يعني: في مقام المدح، حتى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويُسجِّلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها، ومن هنا جاءت شهرة الخيل العربية الأصيلة.
وقد أثبت العلم الحديث صِدْق هذه الآية، فبالتحليل المعمليّ التجريبي أثبتوا أن العناصر المكوِّنة للإنسان هي نفسها عناصر الطين، وهي ستة عشر عنصراً، تبدأ بالأكسوجين، وتنتهي بالمنجنيز، والمراد هنا التربة الطينية الخصْبة الصالحة للرزاعة؛ لأن الأرض عامة بها عناصر كثيرة قالوا: مائة وثلاثة عشر عنصراً.