فصل: تفسير الآية رقم (91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (90):

{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)}
يعني: دعوني أخبركم عن أمرهم، ولماذا أنكروا الحق ولم ينطقوا به، إنهم ينكرون الحق لأنهم كاذبون ويريدون أنْ يُثبتوا أن ما هم عليه أمر طبيعي، لماذا؟ لأنهم مستفيدون من الانحراف ومن الباطل؛ لذلك يقفون في وجه الرسالة التي جاءت لتعديل الميزان والقضاء على الانحراف والباطل، ويلجئون إلى تكذيبها وصَرْف الناس عنها ليظلوا ينتفعون هم بالباطل.
لذلك تأمل: لماذا يُكذِّب الناس؟ يُكذِّبون لأنهم ينتفعون من الكذب، ويتعبهم الصدق، ويَضيِّق عليهم الخناق.
ثم يقول الحق سبحانه: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ..}.

.تفسير الآية رقم (91):

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}
يا ليت الأمر وقف بهم عند مجرد عدم الإيمان بالله، إنما تعداه إلى أن وصفوا الله تعالى بما لا يليق من الصفات، وما دام أن الله تعالى ينفي عن نفسه تعالى اتخاذ الولد {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ..} [المؤمنون: 91] فلابد أنهم قالوا: اتخذ الله ولداً، فترقوا في فجورهم وطغيانهم، وتجرأوا حتى على مقام العزة.
ونقول أولاً: ما الولد؟ الولد ما ينجبه الإنسان من ذكر أو أنثى، وقد سمعنا هؤلاء يقولون: عيسى ابن الله، والعزير ابن الله، وقالوا عن الملائكة: بنات الله، وقد قال تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ..} [المؤمنون: 91] ليشمل البنين والبنات.
ومعنى {اتخذ الله مِن وَلَدٍ..} [المؤمنون: 91] أن الله تعالى كان موجوداً، ثم اتخذ له ولداً، فاتخاذ الولد إذن حادث، وهذا يعني أنه قد مرت فترة لم يتخذ الله له فيها ولداً، لذلك نسأل: ما الذي زاد في مُلْك الله بوجود الولد؟ هل أصبحت السموات ثمانية؟ هل زاد في الكون شمس أخرى أو قمر؟ الكون كما خلقه الله تعالى، وجعل فيه ضرورياته وأصوله وفروعه لم يزد فيه شيء. إذن فاتخاذ الولد عَبَثٌ لم يحدث منه شيء.
ويقولون: اتخذ الله الولد ليُؤْنس خَلْقه بوجود ولده وشيء من رائحته بين الخلق، قالوا هذا في مؤتمر(نيقية)، كأنه عندهم يقوم مقام الألوهية. لكن كم كانت مدة بقائه بينكم؟ لقد أقام المسيح في الأرض بضعاً وثلاثين سنة قبل أن يُرْفع، فكيف يحرم من هذا الأنس مَنْ سبقوا ميلاده عليه السلام؟ وكيف يُحْرم منه مَنْ أتوا بعده؟
أليس في هذا ما يتعارض وعدالة الربوبية؛ لأن الخَلْق جميعاً خَلْق الله، وهم عنده سواء؟
ومنهم مَنْ يقول: إنه جاء ليرفع الخطيئة، لكن الخطيئة ما زالت في الأرض بعدما فعل ما فعل. إذن: فكلها حَجَج واهية.
ولو ناقشنا هذه المسألة مناقشةً منطقيةً فلسفيةً: لماذا يتخذ الإنسانُ الولدَ؟ يتخذ الإنسانُ الولدَ لأنه يحب الحياة، وموته يختصر هذه الحياة، فيريد الولد ليكون امتداداً لحياته، ويضمن به بقاء الذكْر جيلاً من بعده، فإنْ جاء للولد ولد ضمن جيلين؛ لذلك يقولون (أعزّ من الوِلْد وِلْد الولد). لكن أي ذِكْر هذا الذي يتمسَّكون به؟ إن الذكر الحقيقي ما تخلفه من بعدك من عمل صالح يسبقك عند الله.
والحق سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى ذِكْر من بعده تعالى؛ لأنه باقٍ لا يموت، فهذه المسألة إذن ممنوعة في حقِّه تَعالى.
وقد يتخذ الولد ليكون سنداً وعَوْناً لأبيه حين يكبر وتضعف قواه؛ لذلك يقولون: خير الزواج الزواج المبكر؛ لأنه يساعدك على إنجاب أب يعولك في طفولة شيخوختك؛ لأنك تنجب طفلاً وأنت صغير، فيعاصرك أكبر مدة من الزمن، وتطول به قُرّة عينك في خلاف مَنْ ينجب على كِبَر؛ لذلك قال: أب يعولك في طفولة شيخوختك ولم يقل ابناً لأنك في هذه الحال تحتاج إلى حنان الأب.
وهذه أيضاً ممتنعة في حقه تعالى؛ لأنه سبحانه القوي، الذي لا يحتاج إلى معين، ولا إلى عزوة.
مسألة أخرى: أن الإنسان يحب الولد؛ لأنه بَعْضٌ منه، وهو سبب في وجوده، فيحب أن يكون له ولد من صُلْبه، وهذا فرع من حُبِّه للتملُّك، فالإنسان أول ما يحب يحب أن تكون له أرض، ثم يحب أن يزرعها ويأكل من خيراتها، ثم يحب أن تكون له حيوانات يشرب لبنها ويستفيد منها، ثم إنْ تَمَّ له هذا كله يتطلع إلى الولد، وكأنه تدرَّج من حب الجماد إلى النبات، إلى الحيوان، إلى الإنسان.
وهذه المسألة أيضاً لا تجوز في حقه تعالى، فإنْ أحببتَ الولد ليكون جزءاً منك ومن صُلْبك تعتز به وببُنوته، فالخَلْق جميعاً عيال الله وأولاده، فكيف يحتاج إلى الولد بعد ذلك؟
إذن: كلها حجج ومسائل باطلة؛ لذلك رَدَّ الله عليهم {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ..} [المؤمنون: 91] وأتى بِمِنْ الدالة على العموم، يعني: ما اتخذ الله شيئاً من بداية مَا يُقال له ولد، ولو كان حتى مُتبنَّى، كما تقول: ليس عندي مال، فتنفي أن يكون عندك مال يُعْتد به أو ذو قيمة، لكن هذا لا يمنع أن يكون عندك عدة جنيهات أو قروش. فإنْ قلت: ما عندي من مال، فقد نفيتَ أنْ يكون عندك أقلّ ما يُقَال له مال.
ونردّ بهذه المسألة على مَنْ يقول أن(من) هنا زائدة؛ لأن كلام الله دقيق لا زيادة فيه، الزيادة في كلام البشر، والحق سبحانه مُنزَّه عن هذه المسألة.
ثم يرتقي بنا الحق سبحانه في الردِّ عليهم فيقول: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ..} [المؤمنون: 91] يعني: معبود بحق أو بغير حق؛ لذلك سمّى الأصنام آلهة، لكن كلمة الله انصرفت إلى المعبود بحق سبحانه وتعالى، فنفى الحق سبحانه الشركاء معه في العبادة، كما جاء في موضع آخر: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا..} [الأنبياء: 22].
يعني: لو كان فيهما آلهة الله خارج منها لَفَسدت السماء والأرض، وكذلك لو كان فيهما آلهة مع الله لَفسدتَا أيضاً؛ لأن إلا هنا ليست استثنائية، إنما هي اسم بمعنى غير، وقد ظهر إعرابها على لفظ الجلالة بعدها(الله).
ومسألة تعدُّد الآلهة لو تأملتها لَبانَ لك بطلانها، فإنْ كان مع الله آلهة لاقتسموا هذا الكون فيما بينهم، وجعلوه قطاعات، يأخذ كل منهم قطاعاً فيه، فواحد للأرض، وآخر للسماء، وثالث لما بين الأرض والسماء وهكذا.
ولكن، هل يستغني قطاع من الكون عن الآخر؟ اتستغني الأرض عن السماء؟ إذن: سيحدث تضارب لا يستقيم معه حال الكون.
كذلك نقول: الإله الذي أخذ الأرض مثلاً، لماذا لم يأخذ السماء؟ لابد أنه أخذ الأرض بقُوَّته، وترك السماء لعجزه، ولا يصلح إلهاً مَنْ وُصِف بهذه الصفة، فإن قالوا: إنهم جميعاً أقوياء يستطيع كل واحد منهم أن يخلق الخَلْق بمفرده نقول: إذن ما فائدة الآخرين؟
ثم يقول سبحانه: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ..} [المؤمنون: 91] يعني: لو استقل كل منهم بقطاع من الكون دون الآخر لَفَسدتْ الأمور، كما رأينا في دنيا البشر أن يحاول أحد الملوك أنْ يستقلّ بقطاع من الأرض لا حَقَّ له فيه، ورأينا ما أحدثه من فساد في الأرض، هذا مثال لقوله تعالى: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ..} [المؤمنون: 91] وهي صورة من صور الفساد.
لذلك يعالج الحق سبحانه هذه القضية ويعلنها على الملأ: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم..} [آل عمران: 18].
فليس هذا كلامنا، وليست هذه شهادتنا، بل كلام الله وشهادته سبحانه لنفسه، لكن هل علم هؤلاء الآلهة بهذه الشهادة؟ إنْ علموا بهذه الشهادة فسكوتهم عليها وعدم اعتراضهم عَجْز، وإن لم يدروا فَهُم غافلون نائمون، ففي كلتا الحالتين لا يصحّ أن يكونوا آلهة.
وفي موضع آخر يردّ عليهم الحق سبحانه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً..} [الإسراء: 42] يعني في هذه الحالة {لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] يعني: ذهبوا يبحثون عن الإله الذي أخذ منهم الكون، وتعدَّى على سلطانهم، إما ليجابهوه ويحاكموه، وإما ليتقربوا إليه.
لذلك سيقول عن الذين تدَّعون أنهم آلهة من دون الله: {يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة..} [الإسراء: 57] يعني: عيسى والعزير والملائكة الذين قلتم إنهم بنات الله، هؤلاء جميعاً يتوسلون إلى الله ويتقربون إليه {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ..} [الإسراء: 57].
وفي موضع آخر يقول تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون..} [النساء: 172].
إنهم لا يستنكفون عن عبوديتهم لله، بل يعتزون بهذه العبودية، ويُغضبهم ويسوؤهم أن نقول عنهم آلهة، أو نعطيهم من التقديس أكبر مما يستحقون؛ ذلك لأن ولاءهم وعصبيتهم لله تعالى أكبر من ولائهم وعصبيتهم لأنفسهم.
لذلك، فإن هذه الأشياء التي يتخذونها آلهة من دون الله هي أول مَنْ يلعنهم، فالأحجار التي عبدوها من دون الله- مع أن كلمة العبادة هنا خطأ ونقولها تجاوزاً؛ لأن العبادة طاعة العابد لأمر المعبود، وانتهاؤه ينهيه، والأحجار ليس لها أوامر وليس لها نَوَاهٍ- هذه الأحجار أعبد منهم لله، وأعرف منهم بالله؛ لذلك تكرههم الحجارة وتلعنهم، وتتحول عليهم في القيامة ناراً تَحْرقهم.
اقرأ هذا الحوار الذي يتنافس فيه غار حراء الذي شهد بداية الوحي وأَنِس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول آيات القرآن، وغار ثور الذي احتمى فيه رسول الله عند الهجرة، وكلاهما أحجار، يقول الشاعر:
كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حِينَ تَرى ** الرُّوحَ أميناً يغْذُوكَ بالأنْوارِ

فَحِراءُ وثَوْرُ صَارَا سَوَاءً ** بهما اشْفع لدولةِ الأحجارِ

عَبدُونا ونَحْن أَعْبَدُ لله ** مِنَ القائمين بالأسْحَارِ

تَخِذُوا صَمْتنَا علينا دليلاً ** فغدَوْنا لهم وَقُودَ النارِ

قد تجنَّوا جَهْلاً كما قد تجنَّوْه ** علَى ابْن مريم والحَوارِى

للمُغَالِى جزاؤه والمغَالَى ** فيه تُنجيهِ رحمةُ الغَفارِ

لذلك يقول تعالى لعيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله..} [المائدة: 116].
فيقول عيسى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116].
نعم، الله تعالى يعلم ما قال عبده ونبيه عيسى، لكن يريد أنْ يقر عليهم بأنه كاره لقولهم هذه الكلمة.
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما هُزِم الرومان من الفرس حزن لهزيمة الرومان، لماذا؟ لأنهم أهل كتاب يعرفون الله، ويعرفون البلاغ عن الله، وإنْ كانوا كافرين به، أما الفُرْس فكانوا مَجُوساً يعبدون النار؛ لذلك يُطمئنه ربه بقوله: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله..} [الروم: 1- 5].
فإنْ كانوا لا يؤمنون بمحمد، فهم يؤمنون بربِّ محمد، فالعصبية- إذن- لله أكبر من العصبية للرسول المبلّغ عن الله.
ثم يقول سبحانه: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
يصفون بمعنى: يكذبون، لكن عبَّر عنه بالوصف كأن المعنى: إنْ أردت أنْ تعرف الكذب فاسمع إلى كلامهم فهو الوصف الدقيق له، وقال في موضع آخر: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب..} [النحل: 62] فكلامهم هو الكذب بعينه، وهو أصدق وَصْف له؛ لأن الكذب ما خالف الواقع، وهم لا يقولون إلا ما خالف الواقع.
كما لو سألت: ما الحماقة؟ فأقول لك: انظر إلى تصرفات فلان، يعني: هي الوصف الصادق للحماقة، والترجمة الواضحة لها، وكأنه بلغ من الوصف مَبْلَغاً يُجسِّم لك المعنى الذي تريده.
ومعنى: {سُبْحَانَ الله..} [المؤمنون: 91] تنزه، وهي مصدر وُجِد قبل أنْ يُوجَد المسيح، فهي صفة لله تعالى أزلية، حيث ثبت تنزيه الله قبل أن يخلق الخَلْق، فلما خلق الله السماء والأرض سبَّحت لله: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض..} [الحديد: 1] ولم ينقطع التسبيح بعد ذلك، قال الحق سبحانه: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض..} [الجمعة: 1].
وما دام الكل يُسبّح لله، وما زال مُسبِّحاً، فسبِّح أنت يا محمد: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1].
فكيف يكون الكون كله مُسبِّحاً، ولا تُسبِّح أنت، وأنت سيد هذا الكون؟
ثم يقول الحق سبحانه عن ذاته العلية: {عَالِمِ الغيب والشهادة فتعالى..}.