فصل: تفسير الآيات (41- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآيات (41- 42):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}
أمرنا ربنا سبحانه بذكره ذِكْراً كثيراً؛ لأن الذكْر عمدة العبادات وأيسرها على المؤمن؛ لذلك نجد ربنا يأمرنا به عند الانتهاء من العبادات كالصلاة والصيام والحج، وجعله سبحانه أكبر فقال {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ...} [العنكبوت: 45].
والذكر شغل الذاكرة، وهي منطقة في المخ، قُلْنا: إن المعلومة يستقبلها الإنسان في بؤرة شعوره، فإذا أراد أنْ يحفظ بها لحين الحاجة إليها حفظها في الحافظة، أو في حاشية الشعور، فأنت مثلاً ترى شخصاً فتقول: هذا الرجل لم أَرَهُ منذ عشرين سنة، وآخر مرة رأيته كان في المكان الفلاني.
إذن: الذكر لشيء كان موجوداً في بؤرة الشعور، الذكر يعني قضية موجودة عندك بواقع كان لها ساعة وجودها، لكن حصلتْ عنها غفلة نقلتها إلى حاشية الشعور أو الحافظة، بعد ذلك نريد منك ألا تنساها في الحاشية أو في منطقة بعيدة بحيث تحتاج إلى مجهود لتذكرها، إنما اجعلها دائماً في منطقة قريبة لك، بحيث يسهل عليك تذكُّرها دون عناء.
وكذلك ينبغي أنْ يكون ذكرك لله، فهو القضية الحيوية التي ينبغي أنْ تظلَّ على ذِكْر لها دائماً وأبداً، وكيف تنسى ذكر ربك وقد أخذ عليك العهد، وأنت في عالم الذرِّ، وأخذ منك الإقرار بأنه سبحانه ربُّك، الحق سبحانه خلق العقل ليستقبل المعلومات بوسائل الإدراك، كما قال تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
فكأن السمع والبصر هما عُمْدة الحواسِّ، وبهما نعلم ما لم نكُنْ نعلمه حين نزولنا من بطون أمهاتنا، ونحن حين نستقبل المعلومات يظن بعض الناس أن الناس يختلفون في ذلك ذكاء وبلادةً، فواحد يلتقط المعلومة من مرة واحدة، وآخر يحتاج إلى أنْ تعيدها له عدة مرات.
والواقع أن العقل مثل آلة(الفوتوغرافيا) يلتقط المعلومة من مرة واحدة شريطةَ أن يكون خالياً ومستعداً لاستقبالها غير مشغول بغيرها؛ لأن بؤرة الشعور لا تسع ولا تستوعب إلا فكرة واحدة، وهذه المسألة تناولناها في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...} [الأحزاب: 4].
فالإنسان الذكي هو الذي لا يشغل باله بأمرين في وقت واحد، ولا يفكر في شيء وهو بصدد شيء آخر، فإذا كانت بُؤْرة الشعور خالية فالناس جميعاً سواسية في التقاط المعلومة.
لذلك، المدرس الموفّق هو الذي يستطيع أنْ يجتذب إليه انتباه التلاميذ، ولا يعطيهم الفرصة للانشغال بغير الدرس، وهذا لا يتأتى إلا بالتلطُّف إليهم وإشراكهم في الدرس بالأسئلة من حين لآخر، ليظل التلميذ متوقعاً لأنْ يسألَ فلا ينشغل، لذلك رأينا أن الطريقة الحوارية هي أنجح طرق التدريس، أما طريقة سَرْد المعلومات فهي تجعل المدرس في وادٍ والتلاميذ في واد آخر، كل منهم يفكر في شيء يشغله.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الطالب حين يعلم بأهمية درس من الدروس فيذاكره وهو ذاهب للامتحان وهو يصعد السلم إذا جاءه هذا الدرس يجيب عنه بنصه، لماذا؟ لأنه ذاكره في الوقت الحرج والفرصة ضيقة لا تحتمل انشغالاً ولا تهاوناً، فيلتقط العقل كل كلمة ويُسجِّلها، فإنْ أراد استرجاعها جاءت كما هي، لماذا؟ لأنها صادفتْ العقل خالياً غير مشغول.
وتأمل عظمة الخالق سبحانه في مسألة التذكُّر، فالذاكرة جزء صغير في المخ، فكيف بالطفل الصغير الذي لا يتجاوز الثامنة يحفظ القرآن كاملاً ويُعيده عليك في أيِّ وقت، ونحن نتعجب من شريط التسجيل الذي يحفظ لنا حلقة أو حلقتين.
والقرآن ليس حفظاً فحسب، إنما معايشة، فحروف القرآن ملائكة، لكل حرف منه ملك، والملَك يحب مَنْ يودُّه، فإذا كنتَ على صلة بالقرآن تكثر من تلاوته، فكأنك تود الملائكة، فساعة تريد استرجاع ما حفظت تراصتْ لك الملائكة، وجرى القرآن على لسانك. فإنْ هجرْته هجرك، وتفلَّت من ذاكرتك؛ لذلك حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هجر القرآن، فقال: (تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشدُّ تفصياً من الإبل في عقلها).
وسبق أنْ قُلْنا: إن الذكر هو العبادة الوحيدة التي لا تكلفك شيئاً، ولا تُعطل جارحة من جوارحك، ولا يحتاج منك إلى وقت، ولا إلى مجهود، وليس له وقت مخصوص، فمَنْ ذكر الله قائماً وذكر الله قاعداً وذكر الله على جَنْبه عُدَّ من الذاكرين- هذا بالنسبة لوضعك- ومَنْ ذكر الله بُكْرة، وذكر الله أصيلاً، أو غدواً وعشياً، أصبح من الذاكرين- هذا بالنسبة للزمان.
ومن قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حْولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثلاثين مرة في اليوم كُتِبَ من الذاكرين، ومَنِ استيقظ ليلاً فأيقظ أهله، وصلَّى ركعتين فهو من الذاكرين.
إذن: فذِكْر الله مسألة سهلة تستطيع أنْ تذكر الله، وأنت تعمل بالفأس، أو تكتب بالقلم، تذكر الله وأنت تأكل أو تشرب.. إلخ فذكر الله وإنْ كان أكبر إلا أنه على المؤمن سهل هَيِّن.
وقوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 42] التسبيح: هو التقديس، والتقديس هو التنزيه، فعن أيِّ شيء نُنزه الله؟ قالوا: ننزه الله في ذاته، وفي أفعاله، وفي صفاته، فالله تعالى له وجود، ولك أنت وجود، وللنهر وللجبل وجود، لكن وجوده تعالى ليس كوجود ما سواه، وجوده تعالى عن غير عدم، أما وجود ما سواه فوجود عن عدم، هذا في الذات.
أما في الأفعال، فالله تعالى له فِعْل كما أن لك فعلاً، لكن نزِّه ربك أنْ يكون فعله كفعلك، وهذا ما قلناه في حادثة الإسراء والمعراج، وفي الفرق بين سَرَى وأسرى به، فإذا كان الفعل لله تعالى فلا تنظر إلى الزمن لأنه ليس فعلك أنت، بل فعلْ الله، وفعل الله بلا علاج، إنما يقول للشيء: كٌنْ فيكون.
وقلنا: إنه حتى في طاقات البشر نجد الفعل يأخذ من الزمن على قدر قوة فاعله، فالولد الصغير ينقل في ساعة ما ينقله الكبير في دقيقة، فلو قِسْتَ فعلَ الله بقدرته تعالى وجدت الفعل بلا زمن.
كذلك نُنزه الله في صفاته، فالله تعالى له سمع نُزِّه أن يكون كسمعك، وله وجه نُزِّه أنْ يكون كوجهك.. إلخ كل هذا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11].
وحين تستعرض آيات التسبيح في القرآن تجدها كثيرة، لكن للتسبيح طابع خاص إذا جاء في استهلالات السور، ففي أول الإسراء: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ...} [الإسراء: 1].
فبدأت السورة بتنزيه الله لما تحتويه من أحداث عجيبة وغريبة؛ لذلك قال بداية {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ...} [الإسراء: 1] فالله له التسبيح والتقديس ثابت قبل أنْ يفعل، وسبحان الله قبل أنْ يوجد المسبِّح، كما أنه تعالى خالق قبل أنْ يوجد من خلق، فهو بالخالقية فيه أولاً خلق، كما قلنا في الشاعر: تقول فلان شاعر، هل لأنك سمعت له قصيدة أم هو شاعر قبل أن يقولها؟ هو شاعر قبل أنْ يقولها، ولولا أنه شاعر ما قال.
والمتتبع لألفاظ التسبيح في القرآن يجد أنه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق المسبِّحين في قوله {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ..} [الإسراء: 1] ثم بعد أن خلق الله الخَلْق {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض...} [الحشر: 1].
وما يزال الخلق يُسبِّح في الحاضر: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض...} [الجمعة: 1] فتسبيح الله كان وما يزال إلى قيام الساعة، لذلك يأمر الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ومعه أمته ألاَّ يخرج عن هذه المنظومة المسبِّحة، فيقول له: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1].
وجاء الأمر بذكر الله وبعد الأمر بتسبيحه تعالى، وكأنه يقول لك كلما ذكرته: نزِّهه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً، فمن مصلحتك في رحلة الحياة ألاَّ يكون لله مثيل ولا شبيه ولا نظير ولا نِدٌّ؛ لأن الجميع سيكونون تحت عَدْله سبحانه، فتنزيه الله لمصلحَتك أنت أيها المسبِّح.
وسبق أنْ ذكرنا في ذلك قول أهل الريف(اللي ملوش كبير يشتري له كبير) فوجود كبير فوق الجميع يحميك أنْ يتكبر أحد عليه، إذن: عظمته تعالى وكبرياؤه من أعظم النعم علينا، فساعة تُسبِّحه وتُنزِّهه أحمد الله لأنه مُنزَّه، أحمد الله أنه لا شريك له، وأن الناس جميعاً عنده سواء، أحمد الله لأن كلامه وأمره نافذ على الجميع، أحمد الله أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وليس بينه وبين أحد من خَلْقه نَسَب.
وكيف لا نذكر الله ولا نسبّحه ونحمده، وهو سبحانه الذي خلق الخَلْق، وقبل أنْ يخلقهم رتَّب لهم غاياتهم- والخَلْق: إيجاد على تقدير لغاية- بل وأعدَّ لهم ما يخدمهم، فطرأ الإنسان على كون مُعَدٍّ لاستقباله، فقبل أنْ يخلقه خلق له.
ثم ما كلفك بمنهجه مباشرة، إنما تركك تربع في نعمه، منذ ميلادك إلى سِنِّ البلوغ بدون تكليف، ومعنى البلوغ أنْ تصل سنَّ الرشد فتُقبل على الله بعقل وفكر، فالدين ليس تقليداً إنما عقدة واقتناع.
وسبق أنْ شبَّهنا نضج الإنسان بنضج الثمرة، فالثمرة لا تحلو إلا حين تنضج بذرتها، وتصير صالحة للإنبات إنْ زُرعت، وهذه من عظمة الخالق سبحانه، ولو أن الثمرة تحلو وتستوي قبل نُضْج بذرتها لأكلنا الثمار مرة واحدة، ولما انتفع بها أحد بعدنا، ومثَّلْنا لذلك ببذرة البطيخ إن وجدتها سوداء صلبة فاعلم أن ثمرتها استوت وحَلَتْ وصارتْ صالحة للأكل، وهذه المسألة جعلها الخالق سبحانه لحفظ النوع.
شيء آخر: بعد أن بلغتْ سنَّ التكليف، أجاءك التكليف مستوعباً لكل حركة في حياتك؟ أجاء قَيْداً لك؟ حين تتأمل مسائل التكليف تجدها في نطاق محدود أمرك الله فيه بافعل كذا ولا تفعل كذا، وهذه المنطقة لا تشغل أكثر من خمسة في المائة من حركة حياتك، وترك لك نسبة الخمسة والتسعين أنت حُرٌّ فيها، تفعل أو لا تفعل، فأيُّ عظمة هذه! وأيُّ رحمة التي يعاملنا بها ربنا عز وجل! وهذا إنْ دلَّ فإنما يدلُّ على حبِّ الخالق سبحانه لخَلْقه وصنعته. أفلا يستوجب ذلك منَّا ألاَّ نغفل عن ذكره، وأن نكثر من تسبيحه وشكره، في كل غدوة وعشية.
والأعظم من هذا كله أنه سبحانه وتعالى جعل ذكْرك له وتسبيحك إياه لصالحك أنت، وفي ميزانك؛ لذلك قال في الآية التي بعدها: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (43):

{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)}
معنى {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ...} [الأحزاب: 43] الصلاة هي الدعاء، والدعاء لا يكون إلا بطلب الخير للداعي، ولا يدعو إلا قادر على هذا الخير، وعليه كيف نفهم هذا المعنى؟ أيدعو ربنا نفسه تبارك وتعالى؟ قالوا: إذا كانت نهاية الصلاة طلبَ الخير، وهذا الخير إذا طلب حصل، فالحق سبحانه هو الداعي، وهو الذي يملك مفاتح الخير كله، فهو الذي يُصلِّي عليكم، وهو الذي يعطيكم، وهو الذي يرحمكم.
وأيضاً يُصلِّي عليكم الملائكة {وَمَلاَئِكَتُهُ...} [الأحزاب: 43] وقد أخبرنا سبحانه عنهم أنهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27].
وقال: {لاَّ يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
والملائكة أقسام: منهم المكلفون بخدمتنا ومنافعنا في الأرض، ومنهم مَنْ يحفظنا من الأحداث التي قد تفاجئنا بإقدار الله لهم عليها، ومنهم الحفظة والكرام الكاتبون، وهؤلاء الملائكة المتعلقون بنا هم الذين أُمروا بالسجود لآدم عليه السلام في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
وهذا دليل على أنهم سيكونون في خدمته.
وكأن الله تعالى قال لإبليس: طلبتُ منك أنْ تسجد لآدم، وطلبت من الملائكة وأنت معهم، فإنْ كنتَ من الملائكة فينبغي أن تستجيب، وإنْ لم تكُنْ من الملائكة وحشرتك بطاعتك في زمرتهم كان يجب عليك أنْ تطيع لأن الأعلى منك سجد.
وقد أوضحنا هذه المسألة بمثَل، ولله تعالى المثل الأعلى قُلْنا: إذا أعلن في أحد الدواوين الحكومية أن الرئيس سيزور هذ الديوان يوم كذا، وعلى الوزراء أنْ يصطفُّوا لتحيته، ألم يشمل هذا الأمر وكلاء الوزارة من باب أَوْلى؟
فإذا قال الله للملائكة: اسجدوا لآدم وكان معهم إبليس وهو أقلّ منهم، فكان عليه أنْ يسجد. ثم إنْ كنتَ يا إبليسُ أخذتَ منزلة أعلى من الملائكة بالطاعة، فلابد أنْ تكون طاعتك لله على هذه المنزلة، فأنت مَلُوم على أيِّ حال، إلا أنه كان من الجن، والجن مختار، ففسق عن أمر ربه.
وهناك نوع آخر من الملائكة لا دخلَ لهم بالإنسان ولا بدنياه، وهم الملائكة العالون أو المهيَّمون، وهم الذين قال الله فيهم لما أبى إبليس أنْ يسجد قال له ربه: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75].
وهؤلاء العالون لم يشملهم الأمر بالسجود؛ لأنهم لا يدرون شيئاً عن آدم، وليس لهم علاقة به، وأخصُّهم حَمَلة العرش وهم أكرم الملائكة، وهؤلاء هم الذين يُصلُّون عليكم بعد أنْ صلَّى الله عليكم؛ لذلك يُبيِّن لنا الحق سبحانه هؤلاء الملائكة ودورهم في الصلاة علينا والاستغفار لنا، فيقول سبحانه: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ...} [غافر: 7].
فهؤلاء هم أخصُّ الملائكة وأكرمهم يُسبِّحون بحمد ربهم ويؤمنون به، لكن ما فائدة(يؤمنون به) بعد أن سبَّحوه؟ قالوا: لأن التسبيح قد يكون عن خوف ورهبة، أما تسبيح هؤلاء فتسبيح عن حبٍّ وعن إيمان، وأنه سبحانه وتعالى يستحق أنْ يُسبَّح، ومن مهام هؤلاء أيضاً أنهم يستغفرون للذين آمنوا، وإنْ لم تكن لهم علاقة بالناس وليسوا في خدمتهم، إلا أنهم يُصَلُّون عليهم ويستغفرون لهم.
إذن: نقول الصلاة من مالك الدعوة القادر على الإجابة رحمة وعطف وحنان، والصلاة ممَّنْ دونه دعاء للقادر المالك للخير، فهم يدعون الله للمؤمنين ويستغفرون الله لهم، بل ويبالغون في الدعاء ويتعطَّفون فيه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7].
بل لم يقفوا عند حَدِّ طلب النجاة للمؤمنين من النار، إنما يطلبون لهم الجنة {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [غافر: 8].
ثم يزيدون على ذلك: {وَقِهِمُ السيئات وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [غافر: 9].
ووالله، لو أراد المؤمن أنْ يدعو لنفسه ما وجد أعمَّ ولا أشمل من دعاء الملائكة له، فبعد أنْ طلبوا له المغفرة والنجاة من النار لم يتركوه هكذا في أهل الأعراف، لا هُمْ في الجنة، ولا هُمْ في النار، إنما سألوا الله لهم الجنة عملاً بقوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ...} [آل عمران: 185].
وهذه المسألة من المسائل التي وقف أمامها المستشرقون، فقالوا: إنها تتناقض مع الحديث النبوي: (ما من يوم تطلع شمسه إلا وينادي ملكان يقول أحدهما: اللهم أَعْط مُنفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعْط مُمسكاً تَلَفاً)، فكيف تقولون: إن الملائكة يدعون للناس بالخير وهم يدعون عليهم بالشر؟
وهم معذورون في اعتراضهم؛ لأن ملكاتهم لا تستطيع فَهْم المعاني في الحديث الشريف، والتناقض في نظرهم في قوله صلى الله عليه وسلم: «ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً»، فالأولى واضحة لا تناقض فيها؛ لأنها دعوة بالخير، أما الثانية فهي دعوة بالشر. «اللهم أعْط ممسكاً تلفاً».
ولو تأملوا نصَّ هذه العبارة لوجدوا فيها الجواب، فالتلف يُعطي أم يؤخذ؟ المفروض أنه يُؤخذ، فحين يقول رسول الله: «اللهم أعط ممسكاً تلفاً» فاعلم أنه عطاء لا أَخْذٌ وإن كان في ظاهره تلفاً، والمعنى أن شيئاً شغلك، وفتنك فتصيبك فيه مصيبة تخلصك منه فتعود إلى ربك، إذن: هو أَخْذ في الظاهر عطاء في الحقيقة.
ثم يبيّن لنا الحق سبحانه العلَّة في صلاة الله وصلاة الملائكة على المؤمنين، فيقول {لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور...} [الأحزاب: 43] فكأن منهج الله بافعل ولا تفعل هو أول صلاة الله علينا؛ لأنه الوسيلة التي تُخرجنا من الظلمات إلى النور، وجاء هنا بالشيء الحسِّيِّ لنقيس عليه المعنوي، فأنت في النور ترى طريقك وتهتدي إلى غايتك بلا معاطب، أمَّا في الظلام فتتخبط خُطَاك وتضلّ الطريق في الظلام، تسير على غير هُدى، وعلى غير بصيرة، فتحطم الأضعف منك، ويُحطِّمك الأقوى منك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يُوجِّهنا حين ننام بالليل أنْ نطفيء المصابيح فيقول: (واطفئوا المصابيح إذا رقدتم) وقد أثبت العلم أن للأنوار المضاءة أثناء النوم تأثيراً ضاراً على صحة الإنسان، وأنه لا يرتاح في الضوء الراحة التامة لما يصيبه أثناء النوم من إشعاع الضوء، كما حذرونا أيضاً من التعرُّض لأضواء التليفزيون مثلاً.
إذن: للنور مهمة، وللظلمة مهمة- هذا في الحسِّيات.
كذلك منهج الله بافعل ولا تفعل هو النور المعنوي الذي يقيك العطب، ويمنحك الإشراقات التي تهتدي بها في دروب الحياة، لذلك قال تعالى بعدها: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 43].
لكن إنْ كان سبحانه رحيماً بالمؤمنين، فما بال الكافرين؟ قالوا: هو سبحانه بالكافرين رحمن، فالله تعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة؛ لأن رحمن الدنيا يعني أن خيره يعُمُّ الجميع المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، أما في الآخرة فتتجلَّى صفة الرحيم؛ لأن رحمته في الآخرة تخصُّ المؤمنين دون غيرهم.
والحق سبحانه حين يقول: {الله نُورُ السموات والأرض...} [النور: 35] لا يعني هذا وَصْفاً لذاته سبحانه، إنما يعني أنه سبحانه نور السماوات والأرض أي: مُنوِّرهما كما نقول: المصباح نور المسجد.
وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بقول أبي تمام في مدح المعتصم:
إقْدَامُ عَمروٍ في سَمَاحةِ حاتم ** في حِلْم أحنْفَ في ذَكَاءِ إيَاسِ

وعمرو مضرب المثل عند العرب في الشجاعة، وحاتم في الكرم، وأحنف بن قيس في الحِلْم، وإياس بن معاوية في الذكاء، فقام إليه أحد الحاضرين وقال له- وكان حاقداً عليه-: أمير المؤمنين فوق ما تقول، أتُشبِّهه بأجلاف العرب؟ وأنشأ يقول:
وشبَّهه المدَّاح في البَأسِ والنَّدَى ** بمَنْ لوْ رآهُ كَانَ أصْغر خَادِمِ

فََفِي جَيْشهِ خَمْسونَ ألْفاً كعنتْر ** وفي خُزَّانِهِ أَلْفُ حَاتِمِ

عندها أطرق أبو تمام هُنيهة، ثم قال:
لاَ تُنكِرُوا ضَرْبي له مَنْ دُونَهُ ** مَثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِ

فَاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلّ لِنُورِهِ ** مثَلاً من المشْكاةِ والنِّبراس

إذن: فالنور المعنوي يُجنّبك العطب المعنوي، كما أن النور الحسيَّ يُجنَّبك العطب الحسِّيَّ؛ لذلك قال سبحانه عن نوره {نُّورٌ على نُورٍ...} [النور: 35] يعني: نور حِسّيّ يقيكم المعاطب الحسية، ونور معنوي يقيكم المعاطب المعنوية {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ...} [النور: 35] والمراد به هنا النور المعنوي الذي يهتدي به المؤمن ويسير عليه، أما الكافر فهو لا يعرف إلا النور الحسيَّ فقط.
فإنْ سألت: فأين نجد هذا النور يا رب؟ يُجيبك ربك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله...} [النور: 36-37].
فإنْ أردتَ النور الحق فهو في خَلْوتك مع ربك وفي بيته، حيث تتجلَّى عليك إشراقاته ويغمرك نوره.
وقبل أن نترك مسألة صلاة الله وصلاة الملائكة على المؤمنين نذكر صلاتنا نحن على النبي صلى الله عليه وسلم، عملاً بقوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
فالصلاة من الله تعالى تعني الحنان والرحمة والعطف، والصلاة من الملائكة تعني الدعاء والطلب من الذي يملك، أما الصلاة منا نحن على سيدنا رسول الله، فلبعض يظن أنها دعاء منا لرسول الله، وهي ليست كذلك؛ لأنك تقول في الصلاة على رسول الله: اللهم صَلِّ على محمد، فأنت لا تصلي عليه صلى الله عليه وسلم، إنما تطلب من الله تعالى أنْ يصلي عليه، لكن كيف تطلب من الله أن يصلي على رسوله؟ قالوا: لأن كل خير ينال الرسول منثور على أمته.
والحق سبحانه وتعالى لم يدع محمداً يصلي عليه كل مَنْ آمن به، ثم لا يرد رسول الله عليه هذه التحية بصلاة مثلها، فقال سبحانه: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ...} [التوبة: 103] وكأنها رَدٌّ للتحية ولصلاة المؤمنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول الحق سبحانه: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ...}.