فصل: سورة الحجر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.سورة الحجر:

.تفسير الآية رقم (1):

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}
السورة التي نبدأ خواطرنا عنها هي سورة الحجر تبدأ بالكلام عن جامع البلاغ، ومنهج لحياة الحياة وهو القرآن الكريم الذي قد جاء بالخبر اليقين في قضية الألوهية الواحدة، والتي ذكرنا في آخر السورة السابقة بأن أُولِي الألباب يستقبلونها بتعقولهم.
ويقول الحق سبحانه في مُسْتهل السورة: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1].
والسورة كما نرى قد افْتُتِحَتْ بالحروف التوفيقية؛ والتي قلنا: إن جبريل عليه السلام نزل وقرأها هكذا؛ وحفظها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبلغها لنا هكذا؛ وهي نزلتْ أوَّل ما نزلت على قوم برعوا في اللغة؛ وهم أهل فصاحة وبيان، ولم نجد منهم مَنْ يستنكرها.
وهي حروف مُقطّعة تنطَق بأسماء الحروف لا مُسمَّياتها، ونعلم أن لكل حرف اسماً، وله مسمى؛ فحين نقول أو نكتب كلمة (كتب)؛ فنحن نضع حروفاً هي الكاف والباء والتاء بجانب بعضها البعض، لتكون الكلمة كما ننطقها أو نقرؤها.
ويقال عن ذلك إنها مُسمَّيات الحروف، أما أسماء الحروف؛ فهي «كاف» و(باء) و(تاء). ولا يعرف أسماء الحروف إلا المُتعلِّم؛ ولذلك حين تريد أن تختبر واحداً في القراءة والكتابة تقول له: تَهَجَّ حروف الكلمة التي تكتبها، فإن نطق أسماءَ الحروف؛ عرفنا أنه يُجيد القراءة والكتابة.
وهذا القرآن كما نعلم نزل مُعجِزاً للعرب الذين نبغوا في اللغة، وكانوا يقيمون لها أسواقاً؛ مثل المعارض التي نقيمها نحن لصناعاتنا المتقدمة.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي معجزة القرآن من نفس الجنس الذي نبغوا فيه، فلو كانت المعجزة من جنسٍ غير ما نبغوا فيه ولم يَألفوه لَقَالوا: لو تعلمنا هذا الأمر لَصنعْنَا ما يفوقه.
وجاءتهم معجزة القرآن من نفس الجنس الذي نبغُوا فيه؛ وباللغة العربية وبنفس المُفْردات المُكوّنة من الحروف التي تُكوِّنون منها كلماتكم، والذي جعل القرآن مُعْجِزاً أن المُتكلّم به خالق وليس مخلوقاً. وفي «الر» نفس الخامات التي تصنعون منها لُغَتكم.
وهذا بعض ما أمكن أن يلتقطه العلماء من فواتح السور. علينا أن نعلم أن لله في كلماته أسراراً؛ فهو سبحانه: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا...} [آل عمران: 7].
أي: أن القرآن به آيات مُحْكمات، هي آيات الأحكام التي يترتب عليها الثواب والعقاب، أما الآيات المتشابهات فهي مثل تلك الآيات التي تبدأ بها فواتح بعض السور؛ ومَنْ في قلوبهم زَيْغ يتساءلون: ما معناها؟
وهم يقولون ذلك لا بَحْثاً عن معنى؛ ولكن رغبةً للفتنة.
ولهؤلاء نقول: أتريدون أنْ تفهموا كل شيء بعقولكم؟ إن العقل ليس إلا وسيلةَ إدراك؛ مِثْله مِثْل العين، ومِثْل الأذن.
فهل ترى عيناك كل ما يمكن أن يُرَى؟ طبعاً لا؛ لأن للرؤية بالعين قوانينَ وحدوداً، فإنْ كنتَ بعيداً بمسافة كبيرة عن الشيء فلن تراه؛ ذلك أن العين لا ترى أبعد من حدود الأفق.
وكل إنسان يختلف أُفْقه حسب قوة بصره؛ فهناك مَنْ أنعم الله عليه ببصر قوي وحادٍّ؛ وهناك مَنْ هو ضعيفُ البصرِ؛ ويحتاج إلى نظارة طبية تساعده على دِقّة الإبصار.
فإذا كانت للعين وهي وسيلة إدراك المرائي حدود، وإذا كانت للأذن، وهي وسيلة إدراك الأصوات بحد المسافة الموجية للصوت؛ فلابُدَّ أن تكون هناك حدود للعقل، فهناك ما يمكن أن تفهمه؛ وهناك مَا لا يمكن أن تفهمه.
والرسول صلى الله عليه وسلم قال عن آيات القرآن: (ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به).
وذلك حفاظاً على مواقيت ومواعيد ميلاد أيِّ سِرٍّ من الأسرار المكنونة في القرآن الكريم، فلو أن القرآن قد أعطى كل أسراره في أول قَرْن نزل فيه؛ فكيف يستقبل القرونَ الأخرى بدون سِرٍّ جديد؟
إذن: فكٌلَّما ارتقى العقل البشري؛ كلما أَذِن الله بكشف سِرٍّ من أسرار القرآن. ولا أحد بقادر على أن يجادل في آيات الأحكام.
ويقول الحق سبحانه عن الآيات المتشابهة: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا...} [آل عمران: 7].
وهناك مَنْ يقرأ هذه الآية كالآتي: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم م) وتناسى مَنْ يقرأ تلك القراءة أن مُنْتهى الرسوخ في العلم أن تؤمن بتلك الآيات كما هي.
والحق سبحانه يقول: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1].
و(تلك) إشارة لما سبق ولِمَا هو قادم من الكتاب، و(آيات) جمع (آية). وهي: الشيء العجيب الذي يُلْتفت إليه. والآيات إما أنّ تكونَ كونية كالليل والنهار والشمس والقمر لتثبت الوجود الأعلى، وإما أنْ تكونَ الآيات المُعْجزة الدالة على صِدْق البلاغ عن الله وهي معجزات الرسل، وإما أن تكونَ آيات القرآن التي تحمل المنهج للناس كافّة.
ويضيف الحق سبحانه: {... قُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1].
فهل الكتاب هو شيء غير القرآن؟ ونقول: إن الكتاب إذا أُطلِق؛ فهو ينصرف إلى كل ما نزل من الله على الرسل؛ كصحف إبراهيم، وزبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى؛ وكل تلك كتب، ولذلك يسمونهم (أهل الكتاب).
أما إذا جاءت كلمة (الكتاب) مُعرَّفة بالألف واللام؛ فلا ينصرف إلا للقرآن، لأنه نزل كتاباً خاتماً، ومُهيْمناً على الكتب الأخرى.
وبعد ذلك جاء بالوصف الخاص وهو(قرآن)، وبذلك يكون قد عطف خاصاً على عامٍّ، فالكتاب هو القرآن، ودلَّ بهذا على أنه سيكتب كتاباً، وكان مكتوباً من قبل في اللوح المحفوظ.
وإن قيل: إن الكتب السابقة قد كُتِبت أيضاً؛ فالردّ هو أن تلك الكتب قد كُتِبت بعد أن نزلتْ بفترة طويلة، ولم تُكتب مِثْل القرآن ساعة التلقِّي من جبريل عليه السلام، فالقرآن يتميز بأنه قد كُتب في نفس زمن نُزوله، ولم يُترك لقرون كبقية الكتب ثم بُدئ في كتابته.
والقرآن يُوصف بأنه مُبِين في ذاته وبين لغيره؛ وهو أيضاً مُحيط بكل شيء.
وسبحانه القائل: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ...} [الأنعام: 38].
وأيُّ أمر يحتاج لحكم؛ فإما أن تجده مُفصَّلاً في القرآن، أو نسأل فيه أهل الذكر، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {... فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ...}.

.تفسير الآية رقم (2):

{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
و(رُبَّ) حرف يستعمل للتقليل، ويُستعمل أيضاً للتكثير على حَسْب ما يأتي من بعده، وهو حَرْفٌ الأصل فيه أن يدخلَ على المفرد. ونحن نقول (رُبَّ أخٍ لك لم تلدْه أمك) وذلك للتقليل، مثلما نقول (ربما ينجح الكسول).
ولكن لو قُلْنا (ربما ينجح الذكي) فهذا للتكثير، وفي هذا استعمال للشيء في نقيضه، إيقاظاً للعقل كي ينتبه.
وهنا جاء الحق سبحانه ب (رُب) ومعها حرف (ما) ومن بعدهما فعل. ومن العيب أن تقول: إن (ما) هنا زائدة؛ ذلك أن المتكلم هو ربُّ كل العباد.
وهنا يقول الحق سبحانه: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2].
فهل سيأتي وقت يتمنى فيه أهل الكفر أنْ يُسلموا؟ إن (يودّ) تعني «يحب» و(يميل) و(يتمنى)، وكل شيء تميل إليه وتتمناه يسمى (طلب).
ويقال في اللغة: إن طلبت أمراً يمكن أن يتحقق، ويمكن ألاّ يتحقق؛ فإنْ قُلْتَ: (يا ليت الشبابَ يعود يوماً) فهذا طَلبٌ لا يمكن أن يتحققَ؛ لذلك يُقال إنه (تمني). وإنْ قلت (لعلِّي أزور فلاناً) فهذا يُسمّى رجاء؛ لأنه من الممكن أن تزور فلاناً. وقد تقول: (كم عندك؟) بهدف أن تعرف الصورة الذهنية لمَنْ يجلس إليه مَنْ تسأله هذا السؤال، وهذا يُسمّى استفهاماً.
وهكذا إنْ كنت قد طلبتَ عزيزاً لا يُنال فهو تمنٍّ؛ وإن كنت قد طلبتَ ما يمكن أن يُنَال فهو الترجي، وإن كنتَ قد طلبتَ صورته لا حقيقته فهو استفهام، ولكن إنْ طلبت حقيقة الشيء؛ فأنت تطلبه كي لا تفعل الفعل.
والطلب هنا في هذه الآية؛ يقول: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2].
فهل يتأتَّى هذا الطلب؟
وَلنر متى يودُّون ذلك. إن ذلك التمنِّي سوف يحدث إنْ وقعتْ لهم أحداثٌ تنزع منهم العناد؛ فيأخذون المسائل بالمقاييس الحقيقية.
والحق سبحانه هو القائل: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً...} [النمل: 14].
وقد حدث لهم حين وقعت غزوة بدر، ونال منهم المسلمون الغنائم أنْ قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين، وأخذنا تلك الغنائم.
أي: أن هذا التمنِّي قد حدث في الدنيا، ولسوف يحدث هذا عند موت أحدهم.
يقول الحق سبحانه: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ...} [المؤمنون: 100].
ويعلق الحق سبحانه على هذا القول: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا...} [المؤمنون: 100].
وسيتمنون أيضاً أن يكونوا مسلمين، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12].
إذن: فسيأتي وقت يتمنّى فيه الكفار أن يكونوا مسلمين، إذَا مَا عاينوا شيئاً ينزع منهم جحودهم وعنادهم، ويقول لهم: إن الحياة التي كنتم تتمسَّكون بها فانية؛ ولكنكم تطلبون أن تكونوا مسلمين وقت أنْ زال التكليف، وقد فات الأوان.
ويكفي المسلمين فَخْراً أن كانوا على دين الله، واستمسكوا بالتكليف، ويكفيكم عاراً أنْ خَسِرْتم هذا الخسران المبين، وتتحسروا على أنكم لم تكونوا مسلمين.
وفي اليوم الآخر يُعذِّب الحق سبحانه العصاة من المسلمين الذين لم يتوبوا من ذنوبهم، ولم يستغفروا الحق سبحانه، أو ممَّنْ لم يغفر لهم سبحانه وتعالى ذنوبهم؛ لعدم إخلاص النية وحُسْن الطوية عند الاستغفار، ويدخل في ذلك أهل النفاق مصداقاً لقوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ...} [التوبة: 80].
فيدخلون النار ليأخذوا قدراً من العذاب على قدر ما عَصَوْا وينظر لهم الكفار قائلين: ما أغنتْ عنكم لا إله إلا الله شيئاً، فأنتم معنا في النار.
ويطلع الحق سبحانه على ذلك فيغار على كل مَنْ قال لا إله إلا الله؛ فيقول: أخرجوهم وطهِّروهم وعُودوا بهم إلى الجنة، وحينئذ يقول الكافرون: يا ليتنا كنا مسلمين، لنخرج من النار، ونلحق بأهل الجنة.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ...}.

.تفسير الآية رقم (3):

{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}
و(ذرهم) أمْر بأن يدعَهم ويتركهم. وسبحانه قال مرة(ذرهم)، ومرة قال: {وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة...} [المزمل: 11].
أي: اتركهم لي، فأنا الذي أعاقبهم، وأنا الذي أعلم أجلَ الإمهال، وأجل العقوبة.
ويستعمل من (ذَرْهم) فعل مضارع هو (يَذَر)، وقد قال الحق سبحانه: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ...} [الأعراف: 127].
ولم يستعمل منها في اللغة فِعْل ماضٍ، إلا فيما رُوِى من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذروا اليمن ما ذروكم»، أي: اتركوهم ما تركوكم.
ويشارك في هذا الفعل فعل آخر هو (دَعْ) بمعنى (اترك). وقيل: أهملت العرب ماضي «يدع» و(يذر) إلا في قراءةٍ في قول الحق سبحانه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3].
وهنا يقول الحق سبحانه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ...} [الحجر: 3].
ونحن أيضاً نأكل، وهناك فرْق بين الأكل كوقود للحركة وبين الأكل كلذّة وتمتُّع، والحيوانات تأكل لتأخذ الطاقة بدليل أنها حين تشبع؛ لا يستطيع أحد أنْ يُجبرها على أكل عود برسيم زائد.
أما الإنسان فبعد أن يأكل ويغسل يديه؛ ثم يرى صِنْفاً جديداً من الطعام فهو يمدُّ يده ليأكلَ منه؛ ذلك أن الإنسان يأكل شهوةً ومتعةً، بجانب أنه يأكل كوقود للحركة.
والفرق بيننا وبينهم أننا نأكل لتتكوَّن عندنا الطاقة، فإنْ جاءت اللذة مع الطعام فأهلاً بها؛ ذلك أننا في بعض الأحيان نأكل ونتلذذ، لكن الطعام لا يمري علينا؛ بل يُتعِبنا؛ فنطلب المُهْضِمات من مياه غازية وأدوية.
ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه».
أي: أنه صلى الله عليه وسلم ينهانا عن أن نأكل بالشهوة واللذة فقط.
ولنلحظ الفارق بين طعام الدنيا وطعام الجنة في الآخرة؛ فهناك سوف نأكل الطعام الذي نستلذّ به ويَمْري علينا؛ بينما نحن نُضطر في الدنيا في بعض الأحيان أن نأكلَ الطعام بدون مِلْح ومسلوقاً كي يحفظ لنا الصحة؛ ولا يُتعِبنا؛ وهو أكل مَرِيء وليس طعاماً هنيئاً، ولكن طعام الآخرة هَنِيءٌ ومَرِيءٌ.
وعلى ذلك نفهم قول الحق سبحانه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ...} [الحجر: 3].
أي: أن يأكلوا أكْلاً مقصوداً لذات اللذَّة فقط.
ويقول الحق سبحانه متابعاً: {وَيُلْهِهِمُ الأمل...} [الحجر: 3].
أي: أن يَنصبوا لأنفسهم غايات سعيدة؛ تُلهِيهم عن وسيلة ينتفعون بها؛ ولذلك يقول المثل العربي: (الأمل بدون عمل تلصُّص) فما دُمْت تأمل أملاً؛ فلابد أن تخدمه بالعمل لتحققه.
ولكن المثل على الأمل الخادع هو ما جاء به الحق سبحانه على لسان مَنْ غَرَّتْه النعمة، فقال: {ما أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً...} [الكهف: 35- 36].
ولكن الساعة ستقوم رَغْماً عن أَنْف الآمال الكاذبة، والسراب المخادع.
ويقول الحق سبحانه: {... وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
وكلمة(سوف) تدل على أن الزمن مُتراخٍ قليلاً؛ فالأفعال مثل (يعلم) تعني أن الإنسان قد يعلم الآن؛ ويعلم من بَعْد الآن بوقت قصير، أما حين نقول (سوف يعلم) فتشمل كل الأزمنة.
فالنصر يتحقق للمؤمنين بإذن من الله دائماً؛ أما غير المؤمنين فلسوف يتمنَّوْنَ الإيمان؛ كما قُلْنا وأوضحنا من قبل.
وهكذا نرى أن قوله: {... فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
يشمل كُلّ الأزمنة. وقد صنع الحق سبحانه في الدنيا أشياء تُؤذِن بصِدْق وَعْده، والذين يظنُّون أنهم يسيطرون على كُلِّ الحياة يُفاجِئهم زلزال؛ فيهدم كل شيء، على الرغم من التقدُّم فيما يُسمّى (الاستشعار عن بعد) وغير ذلك من فروع العلم التطبيقي.
وفي نفس الوقت نرى الحمير التي نتهمها بأنها لا تفهم شيئاً تهُبُّ وهي الماشية من قبل الزلزال لتخرج إلى الخلاء بعيداً عن الحظائر التي قد تتهدم عليها، وفي مثل هذا التصرُّف الغريزي عند الحيوانات تحطيمٌ وأدبَ للغرور الإنساني، فمهما قاده الغرور، وادعى أنه مالك لناصية العلم، فهو مازال جاهلاً وجهولاً.
وكذلك نجد مَنْ يقول عن البلاد المُمطرة: إنها بلاد لا ينقطع ماؤها، لذلك لا تنقطع خُضْرتها. ثم يصيب تلك البلاد جفافٌ لا تعرف له سبباً، وفي كل ذلك تنبيهٌ للبشر كي لا يقعوا أسْرى للغرور.
ويقول سبحانه من بعد ذلك ضارباً لهم المثل: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ...}.