فصل: تفسير الآية رقم (86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (86):

{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)}
الحق سبحانه في هذه الآية يريد أنْ يُربِّي الكفار ويُؤنّبهم، ويريد أن يُبَرّئ ساحة رسوله صلى الله عليه وسلم ويتحمل عنه المسئولية، فهو مجرد مُبلّغ عن الله، وإياكم أن تقولوا عنه مُفْترٍ، أو أتى بشيء من عنده، بدليل أنني لو شِئْتُ لسلبتُ ما أوحيتُه إليه وقرأه عليكم وسمعتموه أنتم وكتبه الصحابة.
فإنْ سأل متسائل: وكيف يذهب الله بوحي مُنزِّل على رسوله، وحفظه وكتبه الصحابة، وسمعه الكفار؟
نقول: أولاً: سياق الآية يدلُّنا على أن هذه العملية لم تحدث؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَلَئِن شِئْنَا..} [الإسراء: 86] بمعنى: لو شِئْنا فعلنا ذلك، فالفعل لم يحدث، والمراد بيان إمكانية ذلك ليُبَرِّئ موقف رسول الله، وأنه ليس له من الأمور شيء.
والغريب أن يفهم البعض من قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ..} [آل عمران: 128] أنها ضد رسول الله، وقَدْح في شخصه، وليس الأمر كذلك؛ لأنه ربه تبارك وتعالى يريد أنْ يتحمّل عنه ما يمكن أن يُفسِد العلاقة بينه وبين قومه، وكأنه يقول لهم: لا تغضبوا من محمد فالأمر عندي أنا، وشبَّهنا هذا الموقف بالخادم الذي فعل شيئاً، فيأتي سيده ليدافع عنه، فيقول: أنا الذي أمرته.
ثانياً: لماذا نستبعد في قدرة الخالق سبحانه أن يسلب مِنَّا ما أوحاه لرسوله وحفظناه وكتبناه، ونحن نرى فاقد الذاكرة مثلاً لا يكاد يذكر شيئاً من حياته، فإذا ما أرادوا إعادة ذاكرته يقومون بإجراء عملية جراحية مثلاً، فما أشبه هذه بتلك.
ونلاحظ في الآية جملة شرطية، أداة الشرط فيها (إنْ)، وهي تستخدم للأمر المشكوك في حدوثه، على خلاف (إذا) فتأتي للأمر المحقق.
ثم يُوضِّح لنا الحق سبحانه أنه إنْ ذهب بما أوحاه لرسوله، فلن يستطيع أحد إعادته {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} [الإسراء: 86].
ثم يقول الحق سبحانه: {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً}.

.تفسير الآية رقم (87):

{إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)}
قوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ..} [الإسراء: 87] أي: أنك لا تجد لك وكيلاً في أيِّ شيء إلا من جانب رحمتنا نحن، لأن فَضْلنا عليك كبير.
ثم يخاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلن تحديه للعالمين: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.

.تفسير الآية رقم (88):

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}
(قُلْ) لا يقولها الحق سبحانه بينه وبين رسوله، بل المراد: أعلنها يا محمد على الملأ، وأسمِعْ بها الناس جميعاً؛ لأن القضية قضية تَحَدٍّ للجميع.
{لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن..} [الإسراء: 88] وهما الثَّقَلان اللذان يكونان أمة التكليف لما منحهما الله من نعمة الاختيار الذي هو منَاطُ التكليف. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما جميعاً، وقد استمعت الجن إلى القرآن كما استمعت إليه البشر: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} [الجن: 1-2].
والتحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارض، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارض، فلا يتحدّاهم بشيء لا عِلْم لهم به، ولا خبرة لهم فيه؛ لأنه لا معنى للتحدي في هذه الحالة ولا جدوى منه، كما لو تحدَّيْتَ إنساناً عادياً برفع الأثقال ولم يسبق له أن ارتاض هذه الرياضة، إنما تتحدَّى بها بطلاً معروفاً عنه ممارسة هذه العملية.
لذلك جاءت كل معجزات الرسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدِّي في محلِّه، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر، وجاءت معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأن قومه نبغوا في الطب، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب.
وقد اقترح كفار مكة على رسول الله آيات معينة لإثبات صِدْق رسالته، لكن الآيات لا تُقترح على الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو الذي يختار الآيات التي تناسب الطباع وتكون معجزة تثبت صِدْق رسوله، وقد اقترحوا على رسول الله آيات ومعجزاتٍ في مجالات لا عِلْم لهم بها، فكيف يتحدّاهم الله في مجال لا نبوغَ لهم فيه، وليس لهم دراية به؟
والحق سبحانه أنزل القرآن، وجعله المعجزة الوحيدة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المعجزة الوحيدة لكل أمة الإسلام من لَدُن رسول الله إلى قيام الساعة. وهذا لا يمنع أن توجد معجزات كونية حدثتْ لرسول الله ليراها القوم الذي عاصروه، ومِثْل هذه المعجزات لا نطالب بها نحن، ولا نطالب بالإيمان بها، إلا إذا وردتْ من صادق معصوم؛ لأن الهدف من هذه المعجزات تثبيت الإيمان برسول الله في نفوس مَنْ شاهدوها، فنُبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وكَوْنُ الشجرة تسعى إليه والحيوان يُكلِّمه، فالمقصود بهذه المعجزات مَنْ شاهدها وعاصرها، لا مَنْ أتى بعد عصره صلى الله عليه وسلم.
وفي القرآن خاصية تفرّد بها عن الكتب السابقة، حيث نزل جامعاً بين أمرين: أنه منهج سماوي يُنظِّم حركة الحياة، وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة للمنهج لا تنفكّ عنه إلى قيام الساعة.
أما الكتب السابقة فكانت تأتي بمنهج فقط، أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب، فمعجزة موسى العصا واليد وكتابه التوراة، ومعجزة عيسى إبراء الأكمة والأبرص، وكتابه الإنجيل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد انفرد بأن تكون معجزته هي منهجه.
لذلك لما طلب كفار مكة من رسول الله أنْ يُفسِح لهم جبال مكة، ويُوسِّع عليهم الأرض، وأنْ يُحيي لهم موتاهم ليشهدوا بصدقه، خاطبهم الحق سبحانه بقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً..} [الرعد: 31].
أي: كان في القرآن غَنَاءٌ لكم عن كُلِّ هذه المسائل.
وقد اعترض المستشرقون على هذه القضية، فقالوا: إنْ كانت الرسالة المحمدية للناس كافة، وجاءت معجزته في البلاغة والفصاحة ليتحدَّى بها قومه من العرب، فما لَوْنُ الإعجاز لغير العرب؟
نقول: أولاً: إذا كان العرب ارتاضوا على الملَكَة العربية وأساليبها قد عجزوا أمام هذا التحدي، فغيرهم مِمَّنْ اتخذ العربية صناعة لا شكَّ أعجز.
ثانياً: مَنْ قال إن المعجزة في القرآن في فصاحته وبلاغته فقط؟
لقد جاءت بلاغة القرآن وفصاحته للأمة المتلقِّية للدعوة الأولى، هؤلاء الذين سيحملون عِبْءَ الدعوة، ويَسِيحُون بها في شتى بقاع الأرض، فإذا ما انتشرت الدعوة كانت المعجزة للناس الآخرين من غير العرب شيئاً آخر.
فالغيبيات التي يخبرنا بها، والكونيات التي يُحدّثنا عنها، والتي لم تكُنْ معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن، وهو مُنزِّل على نبي أُميٍّ، وفي أُمة أُميّة غير مثقفة، فهذه كلها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم، وما زِلْنا حتى الآن نقف أمام آيات، وننتظر من العلم أنْ يكشفَ لنا عن معناها.
وفي الماضي القريب توصّل العلم إلى أن الذرة أصغر شيء في الوجود، وقد ذكر القرآن الذرة في مثل قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
وبتقدُّم وسائل البحث توصَّلوا إلى تفتيت الذرة أو شطرها، ووجدنا في الكون ما هو أقل من الذرة، فظنّ البعض أن هذه لا ذِكْر لها في القرآن، وظنوا أنهم تصيَّدوا على القرآن مأخذاً، ولو أمعنوا النظر في كتاب الله لوجدوا لهذا التطور العلمي رصيداً في كتاب الله حيث قال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61].
والقرآن يقول {أَصْغَرَ} لا صغير، فلو فتَّتْنَا أجزاء الذرة لوجدنا لها رصيداً واحتياطاً في كتاب الله، أَلاَ ترى في ذلك إعجازاً؟
إذن: تحدَّاهم الحق سبحانه بقوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن..} [الإسراء: 88] وأُدخِل الجنّ في مجال التحدي؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن لكل شاعر نابغ، أو أديب مُفوِّه، أو عبقري عنده نبوغ بياني شيطاناً يلهمه، وهذه الشياطين تسكن وادياً عندهم يسمونه (وادي عَبْقَر)، لذلك لم يكتَف القرآن بتحديهم هم، بل تحدى أيضاً مَنْ يُلهمونهم، أو مَنْ ينسبونَ إليهم القوة في هذا الأمر.
ثم يقول تعالى: {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن..} [الإسراء: 88] فالتحدِّي أنْ يأتوا(بمثله) لأنه لا يمكن أنْ يأتوا به نفسه؛ لأنه نزل من عند الله وانتهى الأمر، فمستحيل أنْ يأتُوا به نفسه مرة أخرى؛ لأنْ الواقع لا يقع مرتين.
إذن: المتصوَّر في مجال التحدي أنْ يأتوا بمثله، فلو قلت: هذا الشيء مثل هذا الشيء، فلا شَكَّ أن المشبّه به أقوى وأصدق من المشبه، ولا يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله، فإذا انتفى المثل فقد انتفى الأصل من باب أَوْلَى.
فالحق سبحانه في قوله: {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ..} [الإسراء: 88] لا ينفي عنهم أن يأتُوا بقرآن، بل بمثل القرآن، فإذا كانوا لا يأتون بالصورة، فهل يقدرون على الأصل؟!
ثم يقول تعالى زيادةً في التحدِّي: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88].
والظهير: هو المعاون والمساعد والمعين على الأمر، ومنه قوله تعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] لأنه قد يقول قائل: إن هذه المهمة لا يقوم بها فرد واحد، فقال لهم سبحانه: بل هاتوا كل ما لديكم من طاقات إبداعية وعبقريات بيانية، واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجن، وتعاونوا جميعاً في سبيل هذا التحدي، حتى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الآخر.
لكن، هل ظَلَّ التحدي قائماً على أنْ يأتُوا بمثل القرآن؟
المتتبع لهذا الموضوع في القرآن الكريم يجد الحق تبارك وتعالى يتنزل معهم في القدر المطلوب للتحدِّي، وهذا التنزَّل يدل على ارتقاء التحدِّي، فبعد أنْ تحدّاهم بأنْ يأتوا بمثل القرآن، تحدّاهم بعشْر سُور، ثم تحدّاهم بسورة واحدة، وكلما تنزل معهم درجة ارتقى بالتحدي، فلا شكَّ أن تحديهم بسورة واحدة أبلغ من تحديهم بمثل هذا القرآن.
وهذا التنزُّيل الذي يفيد الارتقاء كما نجمع مثلاً بين المتناقضات، فنقول: صعد إلى الهاوية، وانحدر إلى القمة. ومع هذا التنزُّل لم يستطيعوا الإتيان بمثل آية واحدة من كتاب الله.
ويجب أن نلتفت إلى مغزى آخر من وراء هذا التحدّي، فليس الهدف منه تعجيز القوم، بل أن نثبت لهم السواسية بين الخَلْق، فالجميع أمام الإله الواحد سواء، وهذه هي القضية التي تُزعجهم وتقضّ مضاجعهم، والقرآن سيثبت لهم صِدْق محمد، وسيرفع من مكانته بين القوم، وهم الذين يحاولون إيذاءه ويُدبِّرون لقتله.
ولذلك من غبائهم أن قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
إذن: فاعتراضهم ليس على القرآن في حَدِّ ذاته، بل على محمد الذي نزل القرآن عليه، فهم يحسدونه على هذه المكانة، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على ما آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ..} [النساء: 54].
وسبحان الله، إذا كان الخَلْق يختلفون أمام رحمة الله في مسائل الدنيا التي لهم فيها أسباب وسَعْي واجتهاد، فكيف بالأمر الذي ليس في أيديهم؟ كيف يريدون التدخُّل فيه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ..} [الزخرف: 32].
ثم يتحدث الحق سبحانه عن طبيعة الأداء القرآني، فيقول: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ..}.

.تفسير الآية رقم (89):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)}
التصريف: هو التحويل والتنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان، والمراد أن القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد، بل يُحوِّل الكلام بين أساليب متعددة؛ لأنه يخاطب طباعاً متعددة، ويتعرض أيضاً لموضوعات متعددة ومعاني مختلفة، فلابد أن يصرف الأسلوب ويَقلِبه على أكثر من وجه، فالذي لا يفهم هذه يفهم هذه، فيعرض المعنى الواحد بأساليب متعددة وأمثال مختلفة.
ونأخذ مثالاً على ذلك قضية القمة، وهي الألوهية ووحدانية الله تعالى، فنرى القرآن يعرضها في معارض مختلفة هكذا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا..} [الأنبياء: 22].
أي: في السماء والأرض.
وهذا الأسلوب قد لا يفهمه غير العربي؛ لأنه يفتقد الملَكَة اللغوية التي يتلقّى بها كلام الله، وقد يعترض فيقول:(إلا) أداة استثناء. فالمعنى: لو كان فيهما آلهة خارج منهم الله لَفَسدتَا، فلو كانت هناك آلهة ومعهم الله فهذه لا تجوز؛ لأنها مشاركة، لكنها تفيد أن الله تعالى موجود، وإنْ كان معه آخرون، والمنطق في هذه الحالة يقول: لو كان في السماء والأرض آلهة ومعهم الله لا تفسد.
لكن الحقيقة أن {إِلاَّ} هنا ليس للاستثناء، بل هي اسم بمعنى(غير). فالمعنى إذن: لو كان فيهما آلهة غير الله لَفسدَتا.
ثم يعرضها بأسلوب آخر، فيقول تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ..} [المؤمنون: 91].
فالحق تبارك وتعالى مُنزّه عن الولد والشريك، إذ لو كان معه إله آخر لَذهبَ كل إله بما خلق، واختصّ نفسه بمنطقة معينة، ولعلا بعضُهم على بعض، فإن أرادوا إبراز شيء للوجود، فأيّهما يبرزه؟ إنْ قدر على إبراز واحد فالآخر عاجز، وإنْ لم يقدر عليه واحد بمفرده، فهما عاجزان لا يصلحان للألوهية.
ثم يعرض نفس القضية بأسلوب آخر، فيقول: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42].
أي: إنْ كان مع الله آلهة كما يدَّعي المشركون لَذهَب هؤلاء الآلهة إلى ذي العرش يُعاتبونه أو يُؤدِّبونه، أو يُعاقبونه؛ لأنه انفرد بالملْك من دونهم.
وبأسلوب آخر يقول تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ..} [آل عمران: 18].
ولم يَأْتِ مَنْ ينازعه هذه المكانة، أو يدَّعيها لنفسه، إذن: فقد ثبتتْ له هذه القضية إلى أنْ يُوجَد معارض، فالمختلف فيه يتفق عليه إنْ لم يظهر له معارض.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً، ولله المثل الأعلى: هَبْ أن جماعة انصرفوا من مجلس، ثم وجد صاحب البيت حافظة نقود في مكان مجلسهم فعرضها عليهم، فلم يدَّعها أحد لنفسه إلا رجل واحد قال: هي لي، أيشكُّ صاحب البيت أنها له؟
نرى هذا التصرف أيضاً في أسلوب القرآن في مسألة ادعاء أن لله تعالى ولداً، تعالى الله عما يقول المبطلون عُلُواً كبيراً، فيعرضها القرآن هكذا: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30].
فيردُّ القرآن هذا الزعْم بقوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ..} [الأنعام: 101].
وفي موضع آخر يعرض المسألة هكذا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57].
أي: فإن كنتم تريدون مقاسمة الخالق سبحانه، فهل يليق أنْ تأخذوا أنتم البنين؛ لأنهم المفضلون حَسْب زعمكم، وتتركوا له تعالى البنات: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21-22] أي: قسمة جائرة.
وهكذا يُصرِّف القرآن أسلوبه، ويُحوّله ليقنع به جميع العقول؛ ليناسب كل الطبائع. وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل، وهو تعبير مُوجَز، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته.
فإذا أرسلتَ أحداً في مهمة أو جماعة، فيمكنك حين عودتهم تقول لهم مستفهماً:(ماذا وراءكِ يا عصام؟) هكذا بصيغة المؤنثة المفردة، لأن المثل قيل هكذا، حيث أرسل أحدهم امرأة تسمى عصام لتخطب له إحدى النساء وحينما أقبلت عليه خاطبها بهذه العبارة، فصارت مثلاً.
وكما تقول لصاحبك الذي يتعالى عليك:(إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً) إذن: المثل يمتاز بأنه يثبت على لفظه الأول ولا يتغير عنه.
أما الحكمة فهي: قول شارد يقوله كل واحد، وهو كلام يقلُّ لفظه، ويجِلُّ معناه.
كما تقول: (رُبَّ أخ لك لم تَلِدْهُ أمك).
(لا تُعلِّم العَوانُ الخِمْرة).
(إن المنبتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) أي: أن الذي يُجهِد دابته في السير لن يصل إلى ما يريد؛ لأنها ستنقطع به ولا تُوصِّله.
ومن الحكمة هذه الأبيات الشعرية التي صارت حكمة متداولة:
وَمَنْ يكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ ** يَجِدْ مُرّاً بِهِ المَاءَ الزُّلاَلاَ

وقوله:
وَأَتْعَس النَّاسِ حَظَّاً مَنْ تكونُ لَه ** نَفْسُ الملُوكِ وحالاتُ المسَاكين

وهَبْ أن ولدك أهمل دروسه طوال العام وعند الامتحان أخذ يجدّ ويَجْتهد ويُرهِق نفسه، هنا يمكنك أن تقول له:(قبل الرماء تُملأُ الكنائن) والكنانة هي المخلاة التي تُوضَع بها السهام، وهذه لابد أنْ يُعِدّها الصياد قبل صَيْده لا وقت الصيد.
إذن: لأهمية المثل في لغة العرب جعله القرآن لَوْناً أسلوبياً، وأداةٍ للإقناعٍ، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا..} [البقرة: 26].
لأن الله تعالى يخاطب بالقرآن عقولاً مختلفة وطبائع متعددة؛ لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلاً بما يناسبه.
وقوله: {فَمَا فَوْقَهَا} قد يقول قائل: ولماذا قال {فَمَا فَوْقَهَا}، فالعجيب هنا مسألة الصِّغَر؟
نقول: المراد بما فوقها.
أي: في المعنى المراد، وهو الصِّغر. أي: ما فوقها في الصِّغر لا أكبر منها.
ثم يأتي بالمعنى في صورة أخرى: {ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].
إذن: يُصرِّف الله الأمثال ويُحوِّلها ليأخذ كل طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به، وليس القرآن على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يعطي للجميع. بل يُشخّص الداءات ويُحلِّلها ويعالجها بما يناسبها؛ لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً.
وهذه المسألة واضحة في الحديث النبوي الشريف، حيث كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال الواحد، وتأتي الإجابة مختلفة من شخص لآخر، فقد سُئِل صلى الله عليه وسلم كثيراً: ما أفضل الأعمال يا رسول الله؟ فقال للسائل: (الصلاة لوقتها) وقال لآخر: (بر الوالدين) وقال لآخر: (أنْ تلقىَ أخاك بوجه طَلْق).
وهكذا جاءت الإجابة مختلفة من شخص لآخر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حال سائله، ويحاول أنْ يعالج نقطة الضعف فيه، فالأمر ليس(أكلشيه) ثابتاً يعطيه للجميع، بل هي مراعاة الأحوال والطباع.
ثم يقول تعالى: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} [الإسراء: 89].
نعرف أن(إلاّ) أداة استثناء، تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما تقول: جاء القوم إلا زيداً، ولو طبَّقْنَا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها، كما لو قلت: ضربت إلا زيدا، والآية أسلوب عربي فصيح.
نقول: لأن معنى أبى: لم يقبل ولم يَرْضَ، فالمراد: لم يَرْضَ إلا الكفور، فلابد للاستثناء المفرّغ أنْ يُسبق بنفي.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً}.