فصل: تفسير الآية رقم (111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (111):

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}
فما المحمود عليه في الآية؟
الحق سبحانه يقول: {الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً..} [الإسراء: 111].
فكَوْنه سبحانه لم يتخذ ولداً نعمة كبيرة على العباد يجب أنْ يحمدوه عليها، فإنْ كان له ولد فسوف يخصُّه برعايته دون باقي الخَلْق، فقد تنزّه سبحانه عن الولد، وجعل الخَلْق جميعهم عياله، وكلُّهم عنده سواء، فليس من بينهم مَنْ هو ابن لله أو مَنْ بينه وبين الله قرابة، وأحبّهم إليه تعالى أتقاهم له، وهكذا ينفرد الخَلْق بكل حنان ربهم وبكل رحمته.
ثم، ما الحكمة من اتخاذ الولد؟ الناس يتخذون الولد ويحرصون على الذَّكَر، خاصة لأمرين: أن يكون الولد ذكرى وامتداداً لأبيه بعد موته، كما قال الشاعر:
أَبُنيّ يَا أنَا بَعْدَمَا أقْضِي

والحق سبحانه وتعالى باقٍ دائمٌ، فلا يحتاج لمَنْ يُخلِّد ذكراه، أو يكون امتداداً له، تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً، فالحمد لله أنه لم يتخذ ولداً.
أو يكون الولد للعِزْوة والمكاثرة والتقوّى به من ضعف، والحق سبحانه وتعالى هو الغالب القهار، فلا يحتاج إلى عِزْوة أو كثرة، لذلك يأمرنا سبحانه أن نُمجِّده لأنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، والمتأمل في حال الملوك والسلاطين يجد أكثر فسادهم إما من الولد وإما من الصاحبة.
ثم يقول سبحانه: {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك..} [الإسراء: 111].
وهذا أيضاً من النعم التي تستوجب الحمد، ولك أنْ تتصوّر لو أن لله تعالى شريكاً في الملْك، كم تكون حَيْرة العباد، فأيُّهما تُطيع وأيهما تُرضِي؟
لقد أوضح لنا الحق سبحانه هذه المسألة في هذا المثل الذي ضربه لنا: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً..} [الزمر: 29].
لذلك، ففي أعراف الناس وأمثالهم يقولون:(المركب التي بها ريسين تغرق) وكَوْنه سبحانه واحداً لا شريك له يجعلك تطمئن إلى أمره ونَهْيه فتُطيعه وأنت مطمئن، فأوامره سبحانه نافذة لا مُعقِّب لها، ولا مُعترِض عليها، فليس هناك إله آخر يأمرك بأمر مخالف، أليست هذه نعمة تستوجب الحمد؟
وأيضاً فإن الحق سبحانه يقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل..} [الإسراء: 111].
الوليّ: هو الذي يليك، وأنت لا تجعل أمرك إلا لمن تثق به أنه يجلب لك نَفْعاً، أو يدفع عنك ضُرّاً، أو ينصرك أمام عدو، أو يُقوِّي ضعفك، فإذا لم يكُنْ لك ذاتية تحقق بها ما تريد تلجأ لمن له ذاتية، وتحتمي برحابه، وتجعل ولاءك له.
والحق سبحانه ليس له وليٌّ يلجأ إليه ليعزه؛ لأنه سبحانه العزيز المعِزّ القائم بذاته سبحانه، ولا حاجة له إلى أحد.
ثم يقول تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111].
لأن عظمة الحق سبحانه في نفس المؤمن أكبر من كل شيء، وأكبر من كل كبير؛ لذلك جُعلتْ(الله أكبر) شعار أذانك وصلاتك، فلابد أن تُكبِّر الله، وتجعله أكبر مِمّا دونه من الأغيار، فإنْ ناداك وأنت في أيّ عمل فقُلْ: الله أكبر من عملي، وإنْ ناداك وأنت في حضرة عظيم، فقل: الله أكبر من أيِّ عظيم، كبِّره تكبيراً بأن تُقدِّم أوامره ونواهيه على كل أمر، وعلى كل نهي.
ولا تنسَ أنك إن كبَّرْتَ الحق سبحانه وتعالى أعززْتَ نفسك بعزة الله التي لا يعطيها إلا لمَنْ يخلص العبودية له سبحانه، فَضْلاً عن أن العبودية لله شرفٌ للعبد، وبها يأخذ العبد خَيْر سيده، أما العبودية للبشر فهي مذمومة مكروهة، وهي مذلة وهوان، حيث يأخذ السيد خير عبده.
وصدق الشاعر حين قال:
حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ ** يَحْتفِي بي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّ

هُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ وَلكِنْ ** أَنَا ألْقَي متَى وأَينَ أحِبُّ

فكم تتحمل من المشقة والعنت في مقابلة عظيم من عظماء الدنيا، أما في مقابلة رب العزة سبحانه، فبمجرد أنْ آمنتَ به أصبح الزمام في يدك تلقاه متى شئتَ، وفي أيِّ مكان أردتَ، وتُحدّثه في أيّ أمر أحببتَ، فأيُّ عِزَّة بعد هذا؟
ولذلك كانت حيثية الرفعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج أنه عبد لله، حيث قال تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى..} [الإسراء: 1].
فالعزة في العبودية لله، والعزة في السجود له تعالى، فعبوديتك لله تعصمك من العبودية لغيره، وسجودك له تعالى يعصمك من السجود لغيره، أَلاَ ترى قول الشاعر:
وَالسُّجُودُ الذِي تَجْتَوِيه ** مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةٌ

إذن: فكبِّر الله تكبيراً وعَظِّمه، والتجئ إليه، فَمن التجأ إلى الله تعالى كان في معيته، وأفاض عليه الحق من صفاته، وعصمه من كَيْد الآخرين وقهرهم. وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالولد الصغير الذي يعتدي عليه أقرانه إنْ سار وحده، فإنْ كان في يد أبيه فلا يجرؤ أحد على الاعتداء عليه.
فعليك إذن أن تكون دائماً في معيّة ربك تأمن كيد الكائدين ومكْر الماكرين، ولا ينالك أحدٌ بسوء، فإن ابتلاه الله بشيء فكأنما يقول له: أبتليك بنعمتي لتأخذ من ذاتي، لأن الصحيح المعَافَى إنْ كان في معية نعمة الله، فالمبتلى في معية الله ذاته.
ألم يَقُلْ الحق سبحانه في الحديث القدسي: (يا بن آدم مرضْتُ فلم تَعُدْني، قال: يا رب وكيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْه، أما علمتَ أنك لو عُدْتَهُ لوجدتني عنده).
فالمريض الذي يأنس بزائريه ويسعد بهم ويرى في زيارتهم تخفيفاً من آلامه ومواساة له في شدته، ما باله إن أنس بالله وكان في جواره وكلاءته، والله الذي لا إله إلا هو لا يشعر بوخْز المرض أبداً، ويستحي أن يتأوّه من ألم، ولا ييأس مهما اشتد عليه البلاء؛ لأنه كيف يتأوه من معية الله؟ وكيف ييأس والله تعالى معه؟
إذن: كبِّره تكبيراً.
أي: اجعل أمره ونَهْيه فوق كل شيء، وقُلْ: الله أكبر من كل كبير حتى الجنة قل: الله أكبر من الجنة. أَلاَ ترى قَوْل رابعة العدوية:
كُلُّهُمْ يعبدُونَك من خَوْف نارٍ ** ويَروْن النجاةَ حَظّاً جَزِيلا

أَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنَانَ فَيَحْظَوْا ** بقُصُورٍ ويَشْرَبُون سَلْسَبِيلا

لَيْسَ لِي بالجنانِ وَالنَّارِ حَظٌّ ** أنَا لاَ أَبْتغِي بِحُبّي بَدِيلاً

وفي الحديث القدسي: (أَولَوْ لَم أخلق جنة وناراً، أما كنتُ أهلاً لأنْ أُعبد؟).
فالله تعالى بذاته سبحانه أكبر من أيّ شيء، حتى إن كانت الجنة، ففي آخر سورة الكهف يقول تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} [الكهف: 110].
فلم يَقُلْ: مَنْ كان يرجو جزاء ربه، أو جنة ربه، أو نعيم ربه، إن المؤمن الحق لا ينظر إلى النعيم، بل يطمع في لقاء المنعم سبحانه، وهذا غاية أمانيه.
وفي حديث آخر يقول الحق سبحانه للملائكة: (أما رأيتم عبادي، أنعمتُ عليهم بكذا وكذا، وأسلب عنهم نعمتي ويحبونني).
وبهذه الآية خُتِمَتْ سورة الإسراء، فجعلنا الحق سبحانه نختمها بما أنعم علينا من هذه النعم الثلاث، وليس هذه هي كل نعم الله علينا، بل لله تعالى علينا نِعَم لا تُعَدّ ولا تُحصَى، لكن هذه الثلاث هي قِمة النعم التي تستوجب أنْ نحمده عليها.
فالحمد لله الذي لم يتخذ ولداً؛ لأنه لم يلد ولم يولد وهو واحد أحد، والحمد لله الذي لم يتخذ شريكاً لأنه واحد، والحمد لله الذي لم يكُنْ له وليٌّ من الذل لأنه القاهر العزيز المعز، ولهذا يجب أن نُكبِّر هذه الإله تكبيراً في كل نعمة نستقبلها منه سبحانه.

.سورة الكهف:

.تفسير الآية رقم (1):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)}
ختم الحق سبحانه سورة الإسراء بالحمد، وبدأ سورة الكهف بالحمد، والحمد لله دائماً هو الشعار الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير الكلمات: (سبحان الله والحمد لله) سبحان الله بُدئتْ بها سورة الإسراء، والحمد لله بُدئت بها سورة الكهف. سبحان الله تنزيه لذاته سبحانه أن يكون له شريك، لا في الذات، ولا في الأفعال، ولا في الصفات، والحمد لله كذلك تكبرة للذات، وبعد ذلك جاء العطاء من الذات فقُلْنا: الحمد لله، فسبحان الله تنزيه، والحمد لله شكر على العطاء.
والحمد يشترك معه في المعنى العام: ثناء وشُكْر ومدح، إلا أن هذه الألفاظ وإنْ تقاربت في المعنى العام فلكُلٍّ منها معناه الخاص، وكل هذه الألفاظ فيها ثناء، إلا أن الشكر يكون من مُنعَم عليه بنعمة خاصة به، كأن يُسدي لك إنسان جميلاً لك وحدك، فتشكره عليه.
أما الحمد فيكون على نعمة عامة لك ولغيرك، فرُقْعة الحمد أوسع من رُقْعة الشكر، أما المدح فقد تمدح ما لا يعطيك شيئاً، كأن تمدح مثلاً الشكل الجميل لمجرد أنه أعجبك.
فقَوْلُ الحق: {الحمد لِلَّهِ} بالألف واللام الدالة على الحصر، فالمراد الحمد المطلق الكامل لله، الحمد المستوعب لكل شيء، حتى إنَّ حمدك لأيِّ إنسان قدَّم لك جميلاً فهو إذا سَلْسَلْتَهُ حَمْدٌ لله تعالى الذي أعان هذا الإنسان على أن يحسن إليك، فالجميل جاء من حركته، وحركته موهوبة له من خالقه، والنعمة التي أمدّك بها موهوبة من خالقه تعالى، وهكذا إذا سلسلتَ الحمد لأيِّ إنسان في الدنيا تجده يصل إلى المنعِم الأول سبحانه وتعالى.
وكلمة {الحمد لِلَّهِ} هذه هي الصيغة التي علمنا الله أنْ نحمدَهُ بها، وإلا فلو ترك لنا حرية التعبير عن الحمد ولم يُحدِّد لنا صيغة نحمده ونشكره بها لاختلف الخَلْق في الحمد حَسْب قدراتهم وتمكّنهم من الأداء وحَسْب قدرتهم على استيعاب النعم، ولوجدنا البليغ صاحب القدرة الأدائية أفصح من العيي والأُمّي. فتحمّل الله عنا جميعاً هذه الصيغة، وجعلها متساوية للجميع، الكل يقول {الحمد لِلَّهِ} البليغ يقولها، والعيي يقولها، والأُمّي يقولها.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم وهو يحمد الله ويُثنِي عليه: (سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك).
فإنْ أردنا أنْ نُحصي الثناء عليك فلن نستطيع؛ لأن الثناء عليك لا يعرف مداه إلا أنت، ولا يُحصيه غيرك، ولا نملك إلا أنْ نقولَ ما علَّمتنا من حمدك: الحمد لله.
إذن: فاستواء الناس جميعاً في الحمد لله نعمة كبرى في ذاتها تستحق الحمد، فنقول: الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله، والحمْد الأول أيضاً نعمة، وبذلك نقول: الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله بالحمد لله.
وهكذا، لو تتبعتَ الحمدَ لوجدته سلسلةً لا تنتهي، حَمْد على حَمْد على حَمْد على حَمْد، فيظل الله محموداً دائماً، يظل العبد حامداً إلى ما لا نهاية.
والحمد لله استهل بها الحق سبحانه خَمْس سور من القرآن: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
{الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب..} [الكهف: 1] {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة} [سبأ: 1] {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ..} [فاطر: 1].
ولكن، لكُلِّ حَمْد في كل سورة حيثية خاصة، فالحمد في الأولى لأن الله ربُّ العالمين، وربٌّ يعني الخالق والمتولي للتربية، خلق من عدم، وأمدَّ من عُدم، وتولّى تربية عباده، فهو رَبٌّ لكل العالمين؛ لذلك يجب أنْ نحمدَ الله على أنه هو الربُّ الذي خلق العالمين، وأمدَّهم بفضله.
وفي الثانية: نحمده سبحانه الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وهذه آيات من آيات الله ونِعَم من نِعَمه، فالسماوات والأرض فيها قيام البشر كله بما يمدُّ حياتهم بالقوت، ويستبقي نوعهم بالتكاثر.
والظلمات والنور مِنَ نعم الله، وهما متكاملان لا متضادان، فَلِلْظُّلمة مهمة، كما أن للنور مهمة، الظلمة للسكون والراحة، والنور للسعي والحركة، ولا يمكن لسَاعٍ أنْ يسعى ويجدّ في عمل، إلا إذا ارتاح وسكن وجدَّد نشاطه، فتقابُل الظلمة والنور للتكامل، فالحياة لا تستقيم في ظلام دائم، كما أنها لا تستقيم في نور دائم.
وفي السورة الثالثة من السور التي افتتحها الحق سبحانه ب {الحمد لِلَّهِ} والتي نحن بصددها أراد الحق سبحانه أنْ يُوضّح أنه لم يُربِّ الخلْق تربية مادية فقط، بل هناك تربية أعلى من المادة تربية روحية قيمية، فذكر هنا الحيثية الحقيقية لخَلْق الإنسان، فهو لم يُخلق لمادته فحسْب، ولكن لرسالة أسمى، خلق ليعرف القيم والرب والدين، وأنْ يعملَ لحياة أخرى غير هذه الحياة المادية، فقال تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب..} [الكهف: 1].
فحيثية الحمد هنا إنزالُ الكتاب الذي يجمع كل القيم. وقلنا: إن الحق سبحانه محمود برحمانيته قبل أنْ يخلق الخَلْق وضع له النماذج التي تُصلِح حركة الحياة، كما قال تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 1-4].
فتعليم القرآن جاء قبل خَلْق الإنسان، إذن: وضع الحق سبحانه لعباده المنهج المنظِّم لحياتهم قبل أن يخلقَهم، لعِلْمه سبحانه بطبيعة خَلْقه، وبما يصلحهم، كالمخترع للآلة الذي يعلم مهمتها ويُحدد قانون صيانتها، فالكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو المهمة الأساسية، فيجب أنْ تُوطّن عليها نفسك، وتعلَم أنه المنظِّم لحياتك، وبه قانون صيانتك.
وقوله: {على عَبْدِهِ..} [الكهف: 1] كما قلنا: في سورة الإسراء: إن العبودية كانت حيثية الرِّفْعة في الإسراء والمعراج، فقال سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ..} [الإسراء: 1].
فالعبودية رفعتْه إلى حضرته تعالى؛ لأنه كان عبداً بحقّ، وهذا يعني إنزال الكتاب عليه، فكان عبداً بحق قبل أن يُسرَى به، وحمل منهج الله أولاً فالتفتَ لربه لَفْتةً أراد أنْ يلفتَ بها سواه، فأخلص هو أولاً في العبودية، وتحمَّل ما تحمّل، فكان من جزائه أن يرتفع إلى مقام الحضرة فَعُرِج به، وهناك أعطاه الله الصلاة لينزلَ بها إلى الخَلْق ليرفع بها صوته إلى المقام الذي سعى إليه بالمعراج.
إذن: فالنبي تناول ليناوِل، وتناول لأنه أخلصَ العبودية، فصعد إلى حضرة ربه، وأخذ فريضة الصلاة وبلَّغها لقومه، وكأنه يقول لهم: مَنْ أراد أن يلتقي بالله، فليدخل في الصلاة.
و{الكتاب..} [الكهف: 1] هو القرآن الكريم، لكن سورة الكهف ترتيبها الثامنة عشرة بين سور المصحف من المائة والأربعة عشرة سورة، أي: أن القرآن لم يكتمل بعد، فلماذا قال تعالى: {الكتاب} وهو لم يكتمل بعد؟
نقول: الكتاب يُطلَق ويُرَادُ به بعضه، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18].
فالآية الواحدة تُسمَّى قرآناً، والسورة تُسمَّى قرآناً، والكل نُسمِّيه قرآناً.
أو: يكون المراد أَنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ، ثم نزَّله بعد ذلك مُنَجَّماً حَسْب الوقائع، فالمراد هنا الإنزال لا التنزيل.
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] أي: جعله مستقيماً، لا عِوجَ فيه، كما قال في آية أخرى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ..} [الزمر: 28] والاعوجاج، أن يأخذ الشيءُ امتداداً مُنْحنياً ملتوياً، أما الاستقامة فهي الامتداد في نفس الاتجاه، لا يميل يميناً أو شمالاً، ومعلوم أن الخطَّ المستقيم يمثل أقرب مسافة بين نقطتين، ولا تستقيم حياة الناس في الدنيا إلا إذا ساروا جميعاً على منهج مستقيم يعصمهم من التصادم في حركة الحياة.
فالحق سبحانه وتعالى خلق الخَلْق متكاملين، فكُلٌّ منهم لديه موهبة يحتاجها الآخرين، فهذا طبيب، وهذا مهندس، وهذا نجار، وهذا خياط، ولا يستطيع أحد أن يقومَ بذاته أو يستغني عن مواهب غيره، فلابد أن يتواجه الناس في الحياة، وأنْ يتكاملوا.
هذا التواجه إنْ لم يُنظِّم وتوضع له قوانين مرور دقيقة لتصادمت حركات الناس، كما يحدث على الطريق الملتوي كثير المنحنيات، فالقادم من هنا لا يرى القادم من هناك، فيحدث التصادم. إذن: لابد من استقامة الطريق ليرى كلٌّ مِنّا الآخر، فلا يصطدم به. والمنهج الإلهي هو الطريق المستقيم الذي يضمن الحركة في الحياة.
وقد ذُكر الاعوجاج أيضاً في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 105-107].
أي: أرضاً مستوية خالية من أي شيء {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} [طه: 107] أي: مستقيمة {ولا أَمْتاً} [طه: 107].
أي: مُسْتوية لا يُوجد بها مرتفعات ومنخفضات تعوق الرؤية أيضاً وتسبب التصادم، وهذا ما يُسمِّيه رجال المرور(العقبة).
ثم يقول الحق سبحانه واصفاً القرآن الكريم: {قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين...}.