فصل: تفسير الآية رقم (24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (24):

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)}
الملأ: من الملء يعني: الشيء الذي يملأ الشيء، فالملأ يعني الذين يملأون العيون بشرفهم ومكانتهم وعظمتهم وأبهتِهم، ومن ذلك قولهم: فلان مِلءُ العين، أو مِلْءُ السمع والبصر، ويقولون للرجل إذا بلغ في الحُسْن مبلغاً: فلان قَيْد العيون يعني: حين تراه لا تصرف بصرك إلى غيره من شِدَّة حسنه كأنه قيَّد بصرك نحوه. أما في المقابل فيقولون: فلان تتقحمه العين ولا تراه وكأنه غير موجود.
إذن: الملأ: هم الذين يملؤون صدور المجالس أُبَّهة وفخامة ووجاهة وسيادة، لكن، لماذا هؤلاء بالذات هم الذين تعصَّبوا ضده وواجهوه؟
قالوا: لأن منهج الله ما جاء إلا لإصلاح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر، فالحق تبارك وتعالى يُنزِل منهجاً على لسان رسول أول، ويطلب من قومه أن يُبلِّغوا منهج رسولهم من بعده، لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على عِدَّة صور:
فمنهم مَنْ يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب، إلا أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما يتوب ويندم، فزاجره من نفسه وواعظه من داخله، وهؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
ومنهم مَنْ يخرج على منهج ربه خروجاً لا رجعةَ له ولا زاجر، وهذا نسميه بلغتنا(فاقد) يعني: لم يَعُدْ له زاجر من شرع ولا من ضمير. ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلاء الخارجين عن منهج الحق عليه أنْ يتصدَّى لهم، ويقاطعهم ولا يودهم ولا يحترمهم، وإلا لو ظَلَّ المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم، ولو ظلَّ على مكانته في المجتمع لتمادى في غَيِّه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع، ويعُمّ الفساد وتشيع الفوضى.
ألاَ ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني: عائلة القاتل، لا على القاتل وحده؟ لماذا؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو بدَتْ عنده بوادر الاعتداء؛ لأنهم جميعاً سيحملون هذه التبعة.
ونقول: خُصَّ الملأ بالذات؛ لأنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع، ومن مصلحتهم أنْ يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم؛ لذلك هم أول مَنْ يقابلون الرسالات بالجحود والنكران. ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا..} [هود: 27].
فهؤلاء الذين يُسمُّونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخَلْق والدين والقيم، فما إنْ تسمع آذانهم عن رسالة إلا تلهَّفوا عليها وارتموا في أحضانها لأنها جاءت لتنقذهم؛ لذلك يكونون أول مَنْ يؤمن. وإنْ جاء المنهج لإنصاف هؤلاء، فقد جاء أيضاً لينزع من أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليهم، فلابد أن يواجهوه ويعاندوه.
ومعنى: {الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ..} [المؤمنون: 24] كفروا: يعني جحدوا وجود الله {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] فأول شيء صَدَّهم عن الرسول كونه بشراً، إذن: فماذا كنتم تنتظرون؟ وقد شرح هذا المعنى في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].
ولا بُدَّ في الرسول أن يكون من جنس المرسَل إليهم؛ ليصح أن يكون لهم أُسْوة، فيقلدوه ويهتدوا به، وإلا لو جاء الرسول مَلكاً فكيف تتحقق فيه القدوة؟ وكيف تطيعونه وأنتم تعلمون أنه مَلَكٌ لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل، وليست لديه شهوة، ولا مُقوِّمات المعصية؟
ولنفرض أن الله نزَّل عليكم ملَكاً، فكيف ستشاهدونه وتتلقوْن عنه؟ لا بُدَّ- إذن- أن يأتيكم في صورة رجل لتتمكنوا من مشاهدته والتلقِّي عنه، وهكذا نعود في نقاش هذه المسألة إلى أنه رجل؛ لذلك قال سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] وتظل الشبهة باقية.
إذن: من الحُمْق أن نقول بأن يكون الرسول مَلَكاً.
أما قولهم: {بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] نعم، هو بشر، لكن ليس كمثلكم، فأنتم كاذبون في هذه المثلية، لأنه بشر اصطفاه الله بالوحي؛ لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤخذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم، وأُعْطَى من الله فأقول: أنا لست كأحدكم».
ويقول تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} [فصلت: 6] ومن هنا كانت الأفضلية في أنه بَشر يُوحَى إليه، وما بشريته إلا للإيناس والإلْف.
ثم يتابع الحق سبحانه مقالة هؤلاء الكافرين من قوم نوح: {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] يتفضّل: يعني ينسب نفسه إلى الفضل والشرف والسيادة ليكون متبوعاً وهم تابعون {وَلَوْ شَآءَ الله} [المؤمنون: 24] يعني: لو شاء أنْ يرسل رسولاً {لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} [المؤمنون: 24] أي: رسلاً، وقد رَدَّ الله تعالى عليهم هذا القول، فقال تبارك وتعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95].
ثم يقولون: {مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} [المؤمنون: 24] المراد بهذا: يعني أن يأتي مَنْ يقول اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، لأن آباءنا الأولين كانوا يعبدون الأصنام، ولم يأْتِ مَنْ يقول لنا هذا الكلام مثل نوح.
وهذا دليل على أنهم مُقلِّدون للآباء، ليس لديهم تفكير واستقلال في الرأي ينظرون به إلى الأشياء نظرة الحق والعدالة، وفي موضع آخر قال تعالى عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
ولو تأملنا حال المجتمعات، ومنها مجتمعنا الذي نعيش فيه لوضح لنا كذب هؤلاء في ادعائهم التقليد للآباء، كيف؟ تأمل حال الأجيال المختلفة تجد كل جيل له راية وتطلعاته ورغباته التي ربما اختلف فيها الأبن عن أبيه، فالأبناء الآن لهم رأي مستقل، فالولد يختار مثلاً الكلية التي يرغبها، الملابس التي يحبها، وإنْ خالفتْ رأي أبيه، بل ويصل الأمر إلى اتهام الآباء بالجمود والتخلف إنْ لزم الأمر، وهذا موجود في كل الأجيال.
إذن: لماذا لم تقولوا في مثل هذه الأمور: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ لماذا كانت لكم ذاتية ورأْيٌ مستقل في أمور الدنيا دون أمور الدين؟ إنكم تتخذون الذاتية فيما يُلبِّي رغباتكم وشهواتكم وانحرافاتكم، وتتخذون التقليد فيما يُقلِّل تكليفكم؛ لأن التكليف سيُقيِّد هذه الرغبات والشهوات ويقضي على هذه الانحرفات؛ لذلك يتمرد هؤلاء على منهج الله.
لذلك، نعجب لما نراه ونسمعه من حال أبنائنا اليوم، وكيف أفلتَ الزمام من الآباء والأمهات، فالشاب يسير على هواه في أمور انحرافية، فإن وجَّهه أبوه أعرض عنه واتهمه بأنه من جيل قديم وقد ذهب زمانه بلا رجعة، وقد تعدى الأمر من الأولاد إلى البنات، فصِرْن أيضاً يتمردْنَ على هذه القيم ولا يهتممن بها.
فقولهم: {مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} [المؤمنون: 24].
فقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] هم كاذبون أيضاً في هذه المقولة؛ لأنهم لو صَدَقوا لقلَّدوهم في كل شيء وما عليهم في أمور الدنيا وفي أمور الدين والقيم والأخلاق.
لذلك الحق تبارك وتعالى يعالج هذه القضية في مواضع عدة من كتابه الكريم، وبأساليب مختلفة، منها قوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا ما أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ..} [البقرة: 170].
لأن هذا يريحهم من مشقة التكاليف، وإنْ كانت العبادة: طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه، فما أسهلَ عبادة الأصنام؛ لأنها آلهة كما يدعون لكن ليس لها منهج، وليس معها تكاليف، فبأيِّ شيء أمرك الصنم؟ وعن أيِّ شيء نهاك؟ وماذا أعدَّ من جزاء لمن أطاعه؟ وماذا أعدَّ من عقاب لمن عصاه، إذن: معبود بلا منهج وبلا تكاليف، وهذا دليل كذبهم في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم.
الم يقولوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] فهذا حُمْق وسَفَه وجهل؛ لأن الكلام منطقياً لا يستقيم، كيف تقولون نعبدهم وليس لهم منهج، وليس لهم تكاليف، والعبادة طاعة عابد لمعبود؟
إذن: ما هو إلا خِوَاء وإفلاس عقديّ؛ لذلك يردُّ الحق تبارك وتعالى عليهم فيقول سبحانه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وفي موضع آخر يقول سبحانه وتعالى عنهم: {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ..} [المائدة: 104] وهذه أبلغ من سابقتها، لأنهم يُصعِّدون كفرهم ويُصِرون عليه، فقولهم: {بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ..} [البقرة: 170] فلربما يراجعون أنفسهم فيهتدون إلى الحق، ويخالفون الآباء.
لكن هنا: {حَسْبُنَا..} [المائدة: 104] يعني: كافينا، ولن نغيره ولن نحيد عنه؛ لذلك يأتي كل آية بما يناسبها: ففي الأولى قال تعالى رداً عليهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} [البقرة: 170] وفي الأُخْرى قال رداً عليهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً..} [المائدة: 104].
فذكر العقل في الأولى؛ لأن الإنسان يأتمر فيه بنفسه، وذكر في الأخرى العلم؛ لأن الإنسان في العلم يأتمر بعقله، وعقل العلم أيضاً، فالعلم- إذن- أوسع من العقل؛ لذلك ذكره مع قولهم {حَسْبُنَا..} [المائدة: 104] الدالة على المبالغة والإصرار على الكفر.
كما نلحظ عليهم في قولهم: {مَّا سَمِعْنَا بهذا..} [المؤمنون: 24] أن الغفلة قد استحكمت فيهم؛ لأن نوحاً عليه السلام يعتبر الجد الخامس بعد آدم عليه السلام، فبينهما فترة طويلة، فكيف ما سمعوا طوال هذه الفترة برسول أو نبي، يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره؟

.تفسير الآية رقم (25):

{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}
{إِنْ هُوَ..} [المؤمنون: 25] يعني: ماهو و{جِنَّةٌ}: يعني جنون، وهو ستر العقل الذي ستر العقل الذي يسيطر على حركة الإنسان في الحياة فيسير حسب تقنيناتها(افعل كذا) و(لا تفعل كذا)، أما المجنون فيعمل ما يخطر له دون أنْ يعرض الأعمال على العقل أو التفكير؛ لذلك من عدالة الله في خَلْقه أننا لا نؤاخذ المجنون على تصرُّفاته حين يعتدى على أحد منا بالسبِّ أو الضرب مثلاً، ولا نملك إلا أن نبتسم له، وندعو الله أن يعافينا مما ابتلاه به.
فإنْ كان هذا الحال المجنون في حركة حياته، فهل يكون ذو الخلق الذي يسير وَفْق قوانين الحياة ومحكوماً بنظم وقيم خلقية، هل يكون مجنوناً؟ ومن العجيب أن تهمة الجنون هذه سائرة على لسان المكذِّبين للرسل في كل زمان ومكان، وقد اتُّهِم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردَّ الله عليهم ونفى عن رسوله هذه الصفة في قوله: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ ما أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1- 4].
فكيف يكون ذو الخلق مجنوناً؟ ولو كان صلى الله عليه وسلم مجنوناً، فلماذا استأمنوه على ودائعهم ونفائسهم، واطمأنوا إليه، وسمَّوْه الصادق الأمين؟ إنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم يعلمون خُلقه، وأنه محكوم بقيم من الحق والخير لا تتزحزح.
وما دام الأمر لا يعدو أن يكون رجلاً به جِنَّة {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} [المؤمنون: 25] أي: انتظروا واتركوه وشأنه، فربما عاد إلى صوابه، وترك هذه المسألة من تلقاء نفسه حين يرانا منصرفين عنه غير مُهتمين به، أو دَعُوه فإنْ كان على حق ونصرة الله وأظهر أمره عندها نتبعه، وإنْ كانت الأخرى فها نحن مُعرِضون عنه من بداية الأمر.

.تفسير الآية رقم (26):

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)}
بعد أنْ كذَّبه قومه دعا الله ان ينصره {بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26] يعني: انصرني بسبب تكذيبهم، واجعل تكذيبهم لا مدلولَ له فينتصر عليهم رغم تكذيبهم، أو: يا رب عوِّضني بتكذيبهم نصراً، يعني: أبْدِلني من كذبهم نصراً، كما تقول: اشتريت كذا بكذا، فأخذت هذا بدل هذا.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا..}

.تفسير الآية رقم (27):

{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)}
استجاب الله تعالى دعاء نبيه نوح- عليه السلام- في النُّصْرة على قومه، فأمره بأن يصنع الفلك. والفُلْك هي السفينة، وتُطلق على المفرد والجمع، قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} [الشعراء: 119] وقال: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12] فدلَّتْ مرة على المفرد، ومرة على الجمع.
وقوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا..} [المؤمنون: 27] دليل على أن نوحاً- عليه السلام- لم يكن نجاراً كما يقول البعض، فلو كان نجاراً لهداه عقله إلى صناعتها، إنما هو صنعها بوحي من الله وتوجيهاته ورعايته، كما قال سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] فالمعنى: اصنع الفُلْك، وسوف أوفقك إلى صناعتها، وأهديك إلى ما يجب أن يكون، وأُصحِّح لك إنْ أخطأت في وضع شيء في غيرموضعه، إذن: أَمَرْتُ وأَعَنْتُ وتابعتُ. والوحي: هو خطاب الله لرسوله بخفاء.
ثم يقول تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [المؤمنون: 27].
وهنا لم يتعرض السياق للفترة التي صنع فيها نوح السفينة، والتي جاءت في قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] ذلك لأنهم لا يعلمون شيئاً عن سبب صناعتها.
وفي موضع آخر يُعْلِمنا سبحانه وتعالى عن كيفية صُنْعها فيقول: {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] وقلنا: إن الدُّسُر: الحبال التي تُضَمُّ بها ألواح الخشب بعضها إلى بعض شريطة أن تكون جافة، وتُضَم إلى بعضها بحكمة حتى إذا ما نزل الماء وتشرَّبت منه يزيد حجمها فتسدُّ المسام بين الألواح، كما نراهم مثلاً يصنعون براميل الزيت من شرائح الخشب.
وقد صنع أحدهم سفينة من البَرْدى بهذه الطريقة، وسافر بها إلى أمريكا واستخدم فيها الحبال بدلاً من المسامير.
ثم يقول سبحانه: {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا..} [المؤمنون: 27] يعني: بإنجاء المؤمنين بك، وإهلاك المكذبين {وَفَارَ التنور..} [المؤمنون: 27] والتنور: هو الفرن الذي يخبزون فيه الخبز، ويقال: إنه كان موروثاً لنوح من أيام آدم، يفور بالماء يعني: يخرج منه الماء، وهو في الأصل محلٌّ للنار، فيخرج منه الماء وكأنه يغلي. لكن هل كل الماء سيخرج من التنور؟ الماء سيخرج من كل أنحاء الأرض وسينزل من السماء، وفوران التنور هو إيذان بمباشرة هذه العملية وبداية لها.
إذا حدث هذا {فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين..} [المؤمنون: 27] يعني: احمل وأدخل فيها زوجين ذكراً وأنثى من كل نوع من المخلوقات، كما في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] يعني: أدخلكم، وقال سبحانه: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ..} [القصص: 32] يعني: أدخلها، وقال سبحانه: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} [الحجر: 12].
ومن مادة(سلك) أخذنا في أعرافنا اللغوية.
نقول: سلَّك الماسورة أو العين يعني: أدخل فيها ما يزيل سدَّتها.
والتنوين في {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين..} [المؤمنون: 27] يعني: من كل شيء نريد حِفْظ نوعه واستمراره؛ لأن الطوفان سيُغرق كل شيء، والحق تبارك وتعالى يريد أن يحفظ لعباده المؤمنين مُقوِّمات حياتهم وما يخدمهم من الحيوانات والأنعام وجميع أنواع المخلوقات الأخرى من كل ما يلِدُ أو يبيض.
ومعنى {زَوْجَيْنِ} [المؤمنون: 27] ليس كما يظنُّ البعض أن زوج يعني: اثنين، إنما الزوج يعني فرد ومعه مثله، ومنه قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين..} [الأنعام: 143- 144].
فسمَّى كلَّ فرد من هذه الثمانية زوجاً؛ لأن معه مثله.
هذا في جميع المخلوقات، أما في البشر فلم يقُلْ زوجين، إنما قال {وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27] أياً كان نوعهم وعددهم، لكن الأهلية هنا أهلية نسب، أم أهلية إيمانية؟
الأهلية هنا يُراد بها أهلية الإيمان والاتباع، بدليل أن الله تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى، فقال على لسان نوح عليه السلام: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي..} [هود: 45].
فقال له ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46].
فبنوة الأنبياء بنوة عمل واتباع، فإنْ جاءت من صُلْبه فأهلاً وسهلاً، وإنْ جاءت من الغير فأهلاً وسهلاً. لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن سلمان الفارسي: (سلمان منا آل البيت) فقد تعدى أن يكون مسلماً إلى أن صار واحداً من آل البيت.
وكذلك أدخل فيها أهلك من النسب بدليل أنه استثنى منهم: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] وكان له امرأتان، واحدة كفرت به وخانته هي وولدها كنعان، والتي ذُكرت في قول الله تعالى في سورة التحريم: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا..} [التحريم: 10].
وكنعان هو الذي قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وهذه اللقطة لم تذكر هنا؛ لأن أحداث القصة جاءت مُفرَّقة في عِدَّة مواضع، بحيث لو جُمعت تعطي الصورة العامة للقصة، فإنْ قُلْتَ: فلماذا لم تأتِ مرة واحدة كما في قصة يوسف عليه السلام؟
نقول: جاءت قصة يوسف كاملة في موضع واحد ليعطينا بها الحق سبحانه وتعالى نموذجاً للقصة الكاملة المحبوكة التي تدل على قدرته تعالى على الإتيان بالقصة مرة واحدة لمن أراد ذلك، فإنْ أردتها كاملة فنحن قادرون على ذلك، وها هي قصة يوسف، إنما الهدف من القصص في القرآن هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيقابل مواقف تكذيب وعداء وعناد من قومه، وسيتعرض لأزمات شديدة ويحتاج إلى ما يُسلِّيه ويُثبِّته أمام هذه الأحداث.
لذلك جاءت لقطات القصص القرآني في عدة مواضع لتسلية رسول الله، والتخفيف عنه كلما تعرَّض لموقف من هذه المواقف، وبجَمْع هذه اللقطات المتفرقة تتكون لديك القصة الكاملة المستوية.
وقد أدخل نوح معه زوجته الأخرى المؤمنة وأولاده: سام وحام ويافث وزوجاتهم، فهؤلاء ستة ونوح وزوجه فهم ثمانية، ومعهم اثنان وسبعون من المؤمنين وأصول الإيمان الباقي مع نوح عليه السلام.
ولما كان الحكم بغرق مَنْ كفر من أهله أمراً لا استئناف فيه، قال تعالى بعدها: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] لكن ظلموا مَنْ؟ ظلموا أنفسهم حين كفروا بالله، والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
صحيح أنت حين كفرت أخذتَ حقَّ الله في أنه واحد أحد موجود، وإله لا معبود غيره، وأعطيتَه لغيره، لكن هذا الظلم لم يضر الله تعالى في شيء إنما أضرَّ بك وظلمتَ به نفسك، ومنتهى الحُمْق والسفه أن يظلم الإنسان نفسه.
ثم يقول سبحانة: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ..}